فصل: تفسير الآية رقم (58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (58):

{أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)}
قلت: {أولئك}: مبتدأ، و{الذين}: خبره، أو {الذين}: صفته، و{إذا تتلى}: خبره. والإشارة إلى المذكورين في السورة، وما فيه من معنى البُعد؛ للإشعار بعلو رتبتهم وبُعد منزلتهم في الفضل، و{من النبيين}: بيان للموصول، و{من ذرية}: بدل منه بإعادة الجار، و{سُجدًا وبُكيًّا}: حالان من الواو، و{بكيًّا}: جمع باك، كمساجد وسجود، وأصله: بكوى، فاجتمع الواو والياء، وسُبق إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {أولئك} المذكورون في السورة الكريمة هم {الذين أنعم الله عليهم} بفنون النعم الدينية والدنيوية، {من النبيين من ذرية آدم}، وهو إدريس عليه السلام ونوح، {ومن حملنا مع نوحٍ} أي: ومن ذرية من حملناهم في السفينة، وهو إبراهيم؛ لأنه من ذرية سام بن نوح، {ومن ذرية إبراهيم}، وهم إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وقوله: {وإِسرائيلَ} أي: ومن ذرية إسرائيل، وهو يعقوب، وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى، وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية. {وممن هدينا} أي: ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم إلى النبوة من غير هؤلاء.
{إِذا تُتلى عليهم آياتُ الرحمن خَرُّوا سُجدًا وبُكيًّا}، هذا استئناف؛ لبيان خشيتهم من الله تعالى وإخباتهم له، مع ما لهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب، وكمال النفس والزلفى من الله عزّ وجلّ، أي: إذا تتلى عليهم، آيات الرحمن، إما عند نزولها عليهم، أو بسماعها من غيرهم، لحديث: «أحب أن أسمعه من غيري» ثم بكى صلى الله عليه وسلم عند قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النِّساء: 41] فكان الأنبياء عليهم السلام مثله، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا ساجدين وباكين. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اتْلُوا القُرْآنَ وابْكُوا، فَإِنْ لمْ تَبْكُوا فَتَباكَوْا» وعن عمر رضي الله عنه أنه قرأ سورة مريم، فسجد فيها، فقال: (هذا السجود، فأين البكاء)؟
قال بعضهم: ينبغي أن يدعو الساجد في سجوده بما يليق بآيتها، فهاهنا يقول: اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم، المهديين الساجدين لك، الباكين عند تلاوة آياتك. وفي الإسراء يقول: اللهم اجعلني من الخاضعين لوجهك، المسبحين بحمدك، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك، وهكذا. والذي ورد في الخبر: يقول: «سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَه وصوَّره، وشقَّ سمعَه وَبَصَرَه، بحوله وقُوته، اللهم اكتب لي بها أجرًا، وضع عني بها وزرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه السلام». والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد أثنى الله تعالى على هؤلاء السادات المُنعَم عليهم بكونهم إذا سمعوا كلام الحبيب خضعوا ورقَّت قلوبهم، وهو أول درجة المحبة، وفوقه الفرح بكلام الحبيب من مكان قريب، وفوقه الفرح بشهود المتكلم، وهنا ينقطع البكاء؛ لدخول صاحب هذا المقام جنة المعارف، وليس في الجنة بكاء.
وأيضًا: من شأن القلب في أول أمره الرطوبة، يتأثر بالواردات والأحوال، فإذا استمر عليها اشتد وصلُب بحيث لا يؤثر فيه شيء من الواردات الإلهية. وفي هذا المعنى قال أبو بكر رضي الله عنه، حين رأى قومًا يبكون عند سماع القرآن: (كذلك كنا ثم قست القلوب)، فعبَّر عن تمكنه بالقسوة، تواضعًا واستتارًا، وإنما أثنى على هؤلاء السادات بهذه الخصلة؛ لأنها سُلّم لما فوقها. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (59- 63):

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)}
قلت: {جنات عدن}: بدل من الجنة، بدل بعض؛ لاشتمالها عليها، وما بينهما اعتراض، أو نصب على المدح. و{إلا سلامًا}: منقطع، أي: لكن يسمعون سلامًا، ويجوز اتصاله، على أن المراد بالسلام الدعاء بالسلامة، فإن أهل الجنة أغنياء عنه، فهو داخل في اللغو. و{بالغيب}: حال من عائد الموصول، أي: وعدها، أو من العباد، و{مأتِيًا}: أصله مأتوي، فأبدل وأدغم كما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {فخَلَفَ من بعدهم} أي: جاء بعد أولئك الأكابر، {خَلْفٌ} أي: عقب سوء، يقال لعقب الخير {خَلَفٌ} بفتح اللام، ولعقب الشر خلْف بسكون اللام، أي: فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء، {أضاعوا الصلاة} أي: تركوها وأخروها عن وقتها، {واتبعوا الشهواتِ}؛ من شرب الخمر، واستحلال نكاح الأخت، من الأب، والانهماك في فنون المعاصي، وعن علي رضي الله عنه: هم من بَني المُشيد، وركب المنضود، ولبس المشهور. قلت: ولعل المنضود: السُرج المرصعة بالجواهر والذهب. وقال مجاهد: هذا عند اقتراب الساعة، وذهاب صالح أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ينزو بعضهم على بعض في السكك والأزقة. اهـ. {فسوف يلقون غيًّا}: شرًا، فكل شر عند العرب غيٌ، وكل خير رشاد. قال ابن عباس: الغيُّ: واد في جهنم، وإن أودية جهنم لتستعيذ من حرِّه، أُعد للزاني المصرِّ، ولشارب الخمر المدمن، ولأهل الرياء والعقوق والزور، ولمن أدخلت على زوجها ولدًا من غيره. اهـ.
{إِلا مَن تاب وآمن وعمل صالحًا}، هذا يدل على أن الآية في الكفار. {فأولئك} المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، {يدخلون الجنة} بموجب الوعد المحتوم، أو يُدخلهم الله الجنة، {ولا يُظلمون شيئًا}: لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئًا، وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم، ولا ينقص أجورهم، إذا صححوا المعاملة مع ربهم.
{جنات عدنٍ} أي: إقامة، لإقامة داخلها فيها على الأبد، {التي وعد الرحمن عبادَه بالغيب} أي: ملتبسين بالغيب عنها لم يروها، وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار، أو ملتبسة بالغيب، أي: غائبة عنهم غير حاضرة. والتعرض لعنوان الرحمانية؛ للإيذان بأن وعده وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى، {إِنه كان وعده مَأْتِيًّا}؛ يأتيه من وعُد به لا محالة، وقيل: هو مفعول بمعنى فاعل، أي: آتيًا لا محالة، وقيل: مأتيًا: منجزًا، من أتى إليه إحسانًا، أي: فعله.
{لا يسمعون فيها لغوًا} أي: فضول كلام لا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها. وفيه تنبيه على أن اللغو ينبغي للعبد أن يجتنبه في هذه الدار ما أمكنه. وفي الحديث: «مِنْ حُسْنِ إسْلاَمِ المرْءِ تَرَكُهُ ما لا يَعْنِيهِ» وهو عَامٌّ في الكلام وغيره. {إِلا سلامًا}، أي: لا يسمعون لغوًا، لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم، أو تسليم بعضهم على بعض، {ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيًّا} أي: على قدرهما في الدنيا، إذ ليس في الجنة نهار ولا ليل، بل ضوء ونور أبدًا.
قال القرطبي: ليلهم إرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، أي: ونهارهم رفع الحجب وفتح الأبواب.
قال القشيري: الآية ضرب مثل لما عهد في الدنيا لأهل اليسار، والقصد: أنهم أغنياء مياسير في كل وقت. اهـ. وسيأتي عند قوله: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ} [الزّخرُف: 71] كيفية أرزاقهم.
قال تعالى: {تلك الجنة}: مبتدأ وخبر، جيء بهذه الجملة؛ لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد؛ للإيذان ببُعد منزلتها وعلو رتبتها، أي: تلك الجنة التي وُصفت بتلك الأوصاف العظيمة هي {التي نُورث} أي: نورثها {مِنْ عبادنا من كان تقيًّا} لله بطاعته واجتناب معاصيه، أي: نُديمها عليهم بتقواهم، ونمتعهم بها، كما يبقى عند الوارث مال مورثه يتمتع به، والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ؛ من حيث إنها لا يعقبها فسخ ولا استرجاع ولا إبطال. وقيل: يرث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار، لو آمنوا وأطاعوا، زيادة في كرامتهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف...} الآية تنسحب على من كان أسلافه صالحين، فتنكب عن طريقهم، فضيّع الدين، وتكبر على ضعفاء المسلمين، واتبع الحظوظ والشهوات، وتعاطى الأمور العلويات، فإن ضم إلى ذلك الافتخار بأسلافه، أو بالجاه والمال، كان أغرق في الغي والضلال، يصدق عليه قول القائل:
إن عاهدوك على الإحسان أو وعدُوا ** خانوا العهود ولكن بعد ما حلفوا

بل يفخرون بأجداد لهم سلفت ** نِعم الجدود ولكن بئس ما خلَّفوا

إلا من تاب ورجع إلى ما كان عليه أسلافه، من العلم النافع والعمل الصالح، والتواضع للصالح والطالح، فيرافقهم في جنة الزخارف أو المعارف، التي وعد الرحمن عباده المخصوصين بالغيب، ثم صارت عندهم شهادة، إنه كان وعده مأتيًا، لا يسمعون فيها لغوًا؛ لأن الحضرة مقدسة عن اللغو، {إلا سلامًا}؛ لسلامة صدورهم، ولهم رزقهم فيها من العلوم والأسرار والمواهب، في كل ساعة وحين، لا يرث هذه الجنة إلا من اتقى ما سوى الله، وانقطع بكليته إلى مولاه. وبالله التوفيق.
ولما أبطأ الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا جبريل ما يَمنعُكَ أن تزورنَا أكثرَ مما تَزورنا؟».

.تفسير الآيات (64- 65):

{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)}
قلت: وجه المناسبة لما قبله- والله أعلم-: أن الحق جلّ جلاله لما سرد قصص الأنبياء وما نشأ بعدهم، وكان جبريل هو صاحب وحيهم الذي ينزل به عليهم، ذكر هنا أن نزوله ليس باختياره، فقال: {وما نتنزل...} إلخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله: حاكيًا لقول جبريل عليه السلام: {وما نتنزَّلُ} عليك يا محمد {إِلا بأمرِ ربك}، وذلك حين أبطأ الوحي عنه صلى الله عليه وسلم، لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح، فلم يدر كيف يجيب، ورجا أن يوحي إليه فيه، فأبطأ عليه أربعين يومًا. قاله عكرمة. وقال مجاهد: ثنتي عشرة ليلة، أو خمس عشرة. فشقَّ على النبي صلى الله عليه وسلم مشقة شديدة. وقال: «يا جبريل قد اشتقت إليك، فقال جبريل: إني كنت أَشْوَق، ولكني عبد مأمور، إذا بُعثتُ نزلت، وإذا حُبست احتَبَستُ، فأنزل الله هذه الآية وسورة الضحى»، والتنزل: النزول على مَهَل، وقد يُطلق على مطلق النزول، والمعنى: وما نتنزل وقتًا غِبّ وقتٍ إلا بأمر الله تعالى، على ما تقتضيه حكمته.
وقيل: هو إخبار عن أهل الجنة أنهم يقولون عند دخولها مخاطبين بعضهم لبعض بطريق التبجح والابتهاج، أي: ما نتنزل هذه الجنان إلا بأمر الله تعالى ولطفه، وهو مالك المور كلها، سالفها ومُتَرَقَّبُهَا وحاضرها، فما وجدناه وما نجده هو من لطفه وفضله. اهـ. قلت: ولا يخفى حينئذ مناسبته.
ثم قال: {له ما بين أيدينا وما خَلْفَنا وما بين ذلك} أي: وما نحن فيه من الأماكن والأزمنة، فلا ننتقل من مكان إلى مكان، ولا ننزل في زمان دون زمان، إلا بأمره ومشيئته، وعن مقاتل: {له ما بين أيدينا} من أمر الدنيا {وما خلفنا} من أمر الآخرة، {وما بين ذلك} مما بين النفختين، وهو أربعين سنة. أو ما بين أيدينا بعد الموت، وما خلفنا قبل أن يخلقنا، وما بين ذلك مدة حياتنا، أي: له علم ذلك كلها {وما كان ربك نَسِيًّا}: تاركًا لك ومهملاً شأنك، أو: ذَاهِلاً عنك حتى ينسى أمر الوحي إليك؛ لأنه مُحال، يعني: أن عدم نزول جبريل لم يكن إلا لعدم الأمر به؛ لحكمة بالغة فيه، ولم يكن تركه تعالى لك إهمالاً وتوديعًا، كما زعمت الكفرة. وفي إعادة اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه والإشعار بعلية الحكم ما لا يخفى.
وقوله تعالى: {ربُّ السماوات والأرض وما بينهما} بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى؛ فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحته الغفلة والنسيان. والفاء في قوله: {فاعبُده واصطَبِرْ لعبادته} لترتيب ما بعدها على ما قبلها، من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما.
أو من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام، أو غير ناسٍ لأعمال العاملين، والمعنى على الأول: فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده، أو حين عرفته تعالى لا ينساك، أو: ينسى أعمال العاملين فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها، ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزْءِ الكفرة، فإنه يراقبك ويلطف بك في الدنيا والآخرة، {هل تعلم له سَمِيًّا} أي: شبيهًا ونظيرًا، أو هل تعلم أحدًا تسمى بهذا الاسم غير الله العالي، والتسمية تقتضي التسوية بين المتشابهين، ولا مثل له، لا موجودًا ولا موهومًا، مع أن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلاً، ولم يتجاسر أحد أن يسمي بهذا الاسم، ولو تجاسر أحدٌ لهلك.
وقيل: إن أحدًا من الجبابرة أراد أن يسمي ولده بهذا الاسم، فخف به وبتلك البلدة. ذكره القشيري في التحبير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما قاله جبريل عليه السلام من كونه لا ينزل إلا بأمر ربه ليس خاصًا به؛ بل كل أحد لا حركة له ولا سكون إلا بالله وبمشيئته، فلا يصدر عن أحد من عبيده قول ولا فعل، ولا حركة ولا سكون، إلا وقد سبق في علمه وقضائه كيف يكون، فلا انتقال ولا نزول إلا بقدر سابق وتحريك لاحق؛ «ما من نفَس تبديه إلا وله قدر فيك يمضيه». وقال الشاعر:
مشيناها خطى كُتبت علينا ** ومن كُتبت عليه خطى مشاها

ومن قسمت منيته بأرض ** فليس يموت في أرض سواها

فراحة الإنسان أن يكون ابن وقته، كل وقت ينظر ما يفعل الله به، فبهذا ينجو من التعب، ويتحقق له الأدب. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (66- 72):

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)}
قلت: {أئذا}: ظرف، والعامل فيه محذوف، أي: أأُخرج إذا مت، لا المتأخر عن اللام لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، إلا أن يرخص في الظروف. واللام في {لَسَوْفَ} ليست للتأكيد، فإنه مُنْكِرٌ، وكيف يحقق ما ينكر، وإنما كلامه حكاية لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، كأنه الذي قال: والله إن الإنسان إذا مات لسوف يُخرج حيًّا، فأنكر الكافر ذلك وحكى قوله، فنُزلت الآية على ذلك، قاله الجرجاني: و{الشياطين}: عطف على ضمير المنصوب، أو مفعول معه. و{جثيًّا}: حال من ضمير {لنحضرنهم} البارز، أي: لنحضرنهم جاثين، جمع جاث، من جثى إذا قعد على ركبتيه، وأصله: جثوو بواوين، فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين، فكسرت الثاء تخفيفًا، وانقلبت الواو الأولى ياء؛ لانكسار ما قبلها، فاجتمعت واو وياء، وسبقت إحداهما بسكون، فقُلبت الواو ياء، وأدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ بكسر الجيم: فعلى الإتْبَاعِ.
و{أَيُّهُم}: مبني على الضم عند سيبويه، لأنه موصول، فحقه البناء كسائر الموصولات، لكنه أعرب في بعض التراكيب للزوم الإضافة، فإذا حذف صَدْرُ صِلَتِهِ زاد نقصُه فقوي شبه الحرف فيه، وهو منصوب المحل بلننزعن، وقرئ منصوبًا على الإعراب، ومرفوعًا عند الخليل وغيره بالابتداء، وخبره: {أشد}، والجملة محكية، والتقدير: لننزعن من كل شيعة الذين يُقال لهم أيهم أشد... الخ. وقال يونس: علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء، و{عتيًّا} و{صليًّا} أصلهما: عتوى وصلوى، من عتى وصلى، بالكسر والفتح، فاعلاً بما تقدم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ويقول الإِنسانُ} أي: جنس الإنسان، والمراد الكفرة، وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم، وإن لم يقله الجميع، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلانًا، وإنما القاتل واحد، وقيل: القائل: أُبيُّ بن خَلَف، فإنه أخذ عظامًا بالية، ففتتها، وقال: يزعم محمد أنا نُبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذا الحال، فنزلت. أي: يقول بطريق الإنكار والاستبعاد: {أئذا ما متُّ لسوف أُخرج حيًّا} أي: أأبعث من الأرض بعد ما مِتُّ وأُخرج حيًا؟ قال تعالى: {أولا يَذكُرُ الإِنسانُ}، من الذِّكر الذي يُراد به التفكر، ولذلك قُرئ بالتشديد من التذكير. والإظهارُ في موضع الإضمار؛ لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليها من شؤون التكوين، فإذا ترك التفكر التحق بالبهائم، فهلاّ يذكر أصله! وهو {أنا خلقناه من قبلُ} أي: من قبل الحالة التي فيها، وهي حالة حياته، {ولم يكُ شيئًا} أي: والحال أنه لم يك شيئًا أصلاً، وحيث خلقناه وهو في تلك الحال فلأن نبعث الجمع بتفرقاته أولى وأظهر؛ لأن الإعادة أسهل من البدء.
قال تعالى: {فوربّك لنحشرنهم} أي: لنجمعنهم بالسّوق إلى المحشر بعدما أخرجتهم من الأرض.
وإقسامه سبحانه بربوبيته مضافة إلى ضميره- عليه الصلاة والسلام-؛ لتحقيق الأمر، والإشعار بِعِلِّيَّتِهِ، وتفخيم شأنه، ورفع منزلته صلى الله عليه وسلم، وفيه إثبات البعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده، كأنه أمر واضح غني عن التصريح به، وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال، أي: حيث ذكر الحشر وما بعده. ولم يصرح بنفس البعث؛ لتحقق وضوحه، وإنما قال: {فوربّك لنحشرنهم} أي: نجمعهم {والشياطينَ} المغوين لهم، إلى المحشر، وقيل: إن الكفرة يُحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم، كل منهم مع شيطانه في سلسلة، {ثم لنحضِرَنَّهم حول جهنم جثيًّا}: باركين على ركَبِهم؛ لما يدهمُهم من هول المطلع، والجثو: جلسة الذليل الخائف.
والآية كما ترى، صريحة في الكفرة، فهم الذين يُساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم، جُثاة؛ إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من شدة الخوف. وأما قوله تعالى: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجَاثيَة: 28] فهي عامة للناس في حال الموقف قبل التواصل إلى الثواب والعقاب، فإن أهل الموقف جاثون على الرُّكب، كما هو المعتاد في مقام التفاؤل والخصام، قلت: ولعل هذا فيمن يُناقش الحساب، وأما غيرهم فيلقى عليهم سحابة كنفه، ثم يقررهم بذنوبهم ويسترهم، كما في الحديث.
{ثم لنَنْزِعَنَّ من كل شيعةٍ} أي: من كل أمة تشيعت دينًا من الأديان، {أيُهم أشدُّ على الرحمن عِتيًّا} أي: من كان منهم أعصى وأعتى، فيطرحهم فيها. قال ابن عباس: أي: أيهم أشد جرأة، وقال مجاهد: فجورًا وكذبًا، وقال مقاتل: علوًا، أو غلوًا في الكفر، أو كبرًا، وقال الكلبي: قائدهم ورأسهم، أي: فيبدأ بالأكابر فالأكابر بالعذاب، ثم الذي يليهم جرمًا. وفي ذكر الأشدية تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض أهل العصيان من غير الكفرة، إذا قلنا بعموم الآية، وأما إذا خصصناها بالكفرة، فالأشدية باعتبار التقديم للعذاب.
قال تعالى: {ثم لنَحنُ أعلمُ بالذين هم أولى بها صِليًّا} أي: أولى بصليها وأحق بدخولها، وهم المنتزعون الذين هم أشدهم عتوًا، أو رؤوسهم، فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم.
{وإِن منكم إِلا وارِدُها}، فيه التفات لإظهار مزيد الاعتناء، وقرئ: {وإن منهم}. ويحتمل أن يكون الخطاب لجميع الخلق، أي: وإن منكم أيها الناس {إلا واردها} أي: واصلها وحاضرها، يمرُ بها المؤمنون وهي خامدة، وتنهار بغيرهم. وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن ذلك فقال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلَ الجَنَّة قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَليْسَ قَدْ وعدنَا ربُّنا أَنْ نَرِدَ النَّارَ؟ فَيُقالُ لَهُمْ: قَدْ وَرَدْتُمُوهَا وَهِيَ خَامِدَةٌ» وأما قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} فالمراد به الإبعاد عن عذابها، وقيل: ورودها: الجواز على الصراط بالمرور عليها.
وعن ابن مسعود: الضمير في {واردها} للقيامة، وحينئذ فلا يعارض: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102]، ولا ما جاء فيمن يدخل الجنة بغير حساب، ولا مرور على الصراط، فضلاً عن الدخول فيها، على أنه اختلف في الورود، فقيل: الدخول وتكون بردًا وسلامًا على المؤمن.
وقيل: المرور كما تقدم، وقيل: الإشراف عليها والاطّلاع. قال القشيري: كلٌّ يَرِدُ النارَ، ولكن لا ضيْرَ منها ولا إحساس لأحدٍ إلا بمقدار ما عليه من السيئات، والزلل، فأشدُّهم فيها انهماكًا: أشدهم فيها بالنار اشتعالاً واحتراقًا، وأما بريء الساحة، نقي الجانب بعيد الذنوب، فكما في الخبر: «إن النار عند مرورهم ربوة كربوة اللَّبَن- أي: جامدة كجمود اللبن حين يسخن- فيدخلونها ولا يحسون بها، فإذا عبروها قالوا: أليس قد وعدنا جهنم على الطريق؟ فيقال لهم: عبرتم وما شعرتم». اهـ.
{كان على ربك حتمًا مقضيًّا} أي: كان وُرودهم إياها أمرًا محتومًا أوجبه الله تعالى على ذاته، وقضى أنه لابد من وقوعه. وقيل: أقسم عليه، ويشهد له: «إلا تحلة القسم».
{ثم نُنَجِّي الذين اتقوا} الكفرَ والمعاصي، بأن تكون النار عليهم بردًا وسلامًا، على تفسير الورود بالدخول، وعن جابر أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الوُرودُ الدُّخولُ، لا يَبْقَى بَرٌّ ولا فَاجِرٌ إِلاَّ دخَلَهَا، فَتَكُونُ عَلَى المُؤْمِنِينَ بَرْدًا وسَلاَمًا، كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيم، حَتَّى إنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مِنْ بَرْدِهِمْ» وإن فسرنا الورود بالمرور، فنجاتهم بالمرور عليها والسلامة من الوقوع فيها، {ونذَرُ الظالمين فيها جِثيًّا}: باركين على ركبهم، قال ابن زيد: الجثي شر الجلوس، لا يجلس الرجل جاثيًا إلا عند كرب ينزل به. اهـ.
الإشارة: من أراد كرامة الآخرة فَلْيُرَبِّ يقينه فيها، حتى تكون نصب عينيه، فإنه يرد على الله كريمًا. ومن أراد السلامة من أهوالها فليخفف من أوساخها وأشغالها، ويلازم طاعة الله واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن أراد سرعة المرور على الصراط، فليلزم اليوم اتباع الصراطِ المستقيم، فبقدر ما يستقيم عليها تستقيم أقدامه على الصراط، وبقدر ما يزل عنها يزلُّ عن الصراط.
قال في الإحياء، لما تكلم على العدل في الكيل والوزن، قال بعد كلامه: وكل مكلف فهو صاحب موازين في أفعاله وأقواله وخطراته، فالويل له إن عدل عن العدل، ومال عن الاستقامة، ولولا تعذُّر هذا واستحالته لما ورد قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها...} الآية، فلا ينفك عبدٌ ليس معصومًا عن الميل عن الاستقامة، إلا أن درجات الميل تتفاوت تفاوتًا عظيمًا، فبذلك تتفاوت مدة إقامتهم في النار إلى أوان الخلاص، حتى لا يبقى بعضُهم إلا بقدر تحلة القسم، ويبقى بعضهم ألفًا وألوف سنين، نسأل الله تعالى أن يقربنا من الاستقامة والعدل، فإن الاستداد على متن الصراط المستقيم من غير ميل عنه غير مطموع فيه؛ فإنه أدق من الشعرة، وأحدّ من السيف، ولولاه لكان المستقيم عليه لا يقدر على جواز الصراط الممدود على متن النار، الذي من صفته أنه أدق من الشعر، وأحدّ من السيف، وبقدر الاستقامة على الصراط المستقيم يخِف مرور العبد يوم القيامة على الصراط. اهـ.
وقال الترمذي الحكيم: يجوز الأولياء والصديقون وهم لا يشعرون بالنار، قال الله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وإنما بَعُدوا عنها لأن النور احتملهم واحتوشهم، فهم يمضون في النار، حتى إذا خرجوا منها قال بعضهم لبعض: أليس قد وُعدنا النار، فذكر ما تقدم. ثم قال: فأما ضجة النار فمن بردهم، وذلك أن الرحمة باردة تطفئ غضب الرب، فبالرحمة نالوا النور، حتى أشرق في قلوبهم وصدورهم، فكان نوره في قلوبهم، والرحمة مظلة عليهم، فخمدت النار من بردهم عندما لقُوهَا، فضجت من أجل أنها خلقت منتقمة، فخافت أن تضعف عن الانتقام. ولذلك رُوي أنها تقول: جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورُك لهبي. اهـ.
وقال الورتجبي: إذا كان جمال الحق مصحوبهم، فلا بأس بالوقوف في النيران، فإن هناك أهل الجنان.
إذا نزلت سلمى بواد فماؤها ** زلال وسَلسال وسيحانها وِرْدُ

.. اهـ.
وقال جعفر الصادق: لولا مقاربة النفوس ما دخل أحد النار، فلما فارقتهم نفوسهم أوردهم النار بأجمعهم، فمَنْ كان أشد إعراضًا عن خبث النفس كان أسرع نجاة من النار، ألا ترى الله يقول: {ثم نُنجي الذين اتقوا}. اهـ. قلت: وقد تقدم أن من لا حساب عليهم- وهم المقربون- يمرون على الصراط ولا يحسون به، وهم الذين يمرون عليه كالطير أو كالبرق، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه، وبجاه خير الخلق مولانا محمد نبيه وحبه، آمين.