فصل: تفسير الآيات (36- 41):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (36- 41):

{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
قلت: {أهذا الذي}: مقول لحال محذوفة، أي: قائلين: أهذا الذي، وحذف الحال، إذا كان قولاً، مطردٌ. {وهم بذكر الرحمن}: حال، و{بل تأتيهم}: عطف على {لا يكُفُّون} أي: لا يكفونها، بل تأتيهم.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {وإِذا رآك الذين كفروا} أي: المشركون {إِن يتخذونك}؛ ما يتخذونك {إِلا هُزُوًا}؛ مهزوءًا بك؛ على معنى قصر معاملتهم معه- عليه الصلاة والسلام- على اتخاذهم إياه هزوًا، كأنه قيل: ما يفعلون بك إلا اتخاذك هزوًا. نزلت في أبي جهل- لعنه الله-، مرّ به النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك وقال: هذا نبيُّ بني عبد مناف. قال القشيري: (لو شاهدوه على ما هو عليه من أوصاف التخصيص، وما رقَّاه الله من المنزلة، لظلوا له خاضعين، ولكنهم حُجِبُوا عن معانيه وسريرته، وعاينوا فيه جسمه وصورته). فاستهزؤوا بما لم يُحيطوا بعلمه، حَال كونهم يقولون: {أهذا الذي يَذْكُرُ} أي: يعيب {آلهتكم}، فالذكر يكون بخير وبضده، فإنْ كان الذاكر صديقًا للمذكور فهو ثناء. وإن كان عدوًا فهو ذم. {وهم بذكر الرحمن} أي: بذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية، {هم كافرون}؛ لا يصدقون به أصلاً، فهم أحق بالهزء والسخرية منك؛ لأنك مُحق وهم مُبطلون. والمعنى أنهم يعيبون- عليه الصلاة والسلام- أن يذكر آلهتهم، التي لا تضر ولا تنفع، بالسوء، والحال: أنهم بذكر الرحمن، المنعم عليهم بأنواع النعم، التي هي من مقتضيات رحمانيته، كافرون، لا يذكرونه بما يليق به من التوحيد وأوصاف الكمال، أو: بما أنزل من القرآن؛ لأنه ذكر الرحمن، {هم كافرون}؛ جاحدون، فهم أحقاء بالعيب والإنكار. وكرر لفظ {هُم} للتأكيد، أو لأن الصلة حالت بينه وبين الخبر، فأعيد المبتدأ.
ثم قال تعالى: {خُلِقَ الإنْسانُ من عَجَل}، العَجَل والعَجَلة مصدران، وهو تقديم الشيء على وقته. والمراد بالإنسان: الجنس، جُعل لفرط استعجاله، وقلة صبره، كأنه خُلق من العَجَلة، والعرب تقول لمن يكثر منه الشيء: خُلق منه، تقول لمن يكثر منه الكرم: خُلق من الكرم. ومن عجلته: مبادرته إلى الكفر واستعجاله بالوعيد. رُوي أنها نزلت في النضر بن الحارث، حين استعجل العذاب بقوله: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا...} [الأنفَال: 32] الآية، كأنه قال: ليس ببدع منه أن يستعجل، فإنه مجبول على ذلك، وطبعُه، وسجيته.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: أن المراد بالإنسان آدم عليه السلام، فإنه حين بلغ الروح صدره أراد أن يقوم. ورُوي: أنه لما دخل الروح في عينيه نظر إلى ثمار الجنة، ولمَّا وصل جوفه اشتهى الطعام، فكانت العجلة من سجيته، وسرت في أولاده. وإنما منعَ الإنسان من الاستعجال وهو مطبوع عليه، ليتكمل بعد النقص، كما أمره بقطع الشهوة وقد رَكّبها فيه؛ لأنه أعطاه القدرة التي يستطيع بها قمع الشهوة وترك العَجَلة.
قال القشيري: العَجَلةُ مذمومةٌ، والمُسَارَعَةُ محمودةٌ. والفرق بينهما: أن المسارعة: البِدارُ إلى الشيء في أول وقته، والعَجَلة: استقباله قبل وقته، والعَجَلةُ سمة وسوسة الشيطان، والمسارعةُ قضية التوفيق. اهـ.
وقال الورتجبي: خلقهم من العَجَلة، وزجرَهم عن التعجيل؛ إظهارًا لقهاريته على كل مخلوق، وعجزهم عن الخروج عن ملكه وسلطانه. وحقيقة العَجَلة متولدة من الجهل بالمقادير السابقة. اهـ. قلت: ما زالت الطمأنينة والرَّزانَةُ من شأن العارفين، وبها عُرفوا، والعَجَل والقلق من شأن الجاهلين، وبها وصفوا.
وقيل: العَجَل الطين، بلغة حِمْير، ولا مناسبة له هنا.
قال تعالى، صارفًا للخطاب عن الرسول إلى المستعجلين: {سأُوريكم آياتي}: نَقَماتي، كعذاب النار وغيره، {فلا تستعجلون} بالإتيان بها، وهو نهي عما جُبلت عليه نفوسهم؛ ليقهروها عن مرادها من الاستعجال.
{ويقولون متى هذا الوعد}: إتيان العذاب، أو القيامة، {إِن كنتم صادقين} في وعدكم بأنه يأتينا، قالوه استعجالاً بطريق الاستهزاء، والإنكار، لا طلبًا لتعيين وقته، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الذين يتلون الآيات الكريمة المنبئة عن مجيء الساعة. قال تعالى: {لو يعلمُ الذين كفروا}، هذا استئناف مسوق لبيان شدة هول ما يستعجلونه، وفظاعة ما فيه من العذاب، وأنهم يستعجلونه لجهلهم بشأنه. وقوله تعالى: {حين لا يَكُفُّون عن وجوههم النارَ ولا عن ظهورهم ولا هم يُنصرون}: مفعول {يعلم}، وهو عبارة عن الوقت الموعود، الذي كانوا يستعجلونه. وقوله: {لو يعلمُ الذين كفروا} أي: حين يرون ويعلمون حقيقة الحال، وهو معاينة العذاب. وجواب {لو}: محذوف، أي: لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ وهو الوقت الذي تحيط بهم النار من ورائهم وقدامهم، فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم، لَمَا كانوا بهذه الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هوّنه عندهم.
{بل تأتيهم بغتة} أي: بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة، {فتَبهتُهُم}: فتُحيِّرهم أو تغلبهم، {فلا يستطيعون ردَّها}؛ فلا يقدرون على دفعها عنهم، أي: النار أو الساعة، {ولا هم يُنظرون}: يُمهلون؛ ليستريحوا طرفة عين.
ثم سلّى رسوله عن استهزائهم، فقال: {ولقد استُهزئ برسل من قبلك فحاقَ}: نزل أو أحاط أو حلّ {بالذين سخروا منهم} أي: من أولئك الرّسل- عليهم السلام- جزاء {ما كانوا به يستهزئون}، وهو العذاب الدائم. نسأل الله العافية.
الإشارة: كل من خرق عوائد نفسه، وخرج عن عوائد الناس، أو أمر بالخروج عن العوائد، رفضه الناس واتخذوه هُزوًا، سنة الله التي قد خلت من قبل، لم يأت أحد بذلك إلا عُودي، فإن ظهر عليه أثر الخصوصية؛ من علم لدني، أو هداية خلق على يده، استعجلوه بإظهار الكرامة، كما هو شأن الإنسان، خُلق من عَجَل، فيقول: سأوريكم آياتي، فإن الأمر إذا كان مؤسسًا على الحق لابد أن تظهر أنواره وأسراره، فلو يعلم الذين كفروا بطريق الخصوص، حين ترهقهم الحسرة، وتُحيط بهم الندامة، إذا رأوا أهل الصفاء يسرحَون في أعلى عليين حيث شاؤوا، وجوههم كالشموس الضاحية، لبادروا إلى الانقياد لهم، وتقبيل التراب تحت أقدامهم، ولكنهم اليوم في غفلة ساهون.
ويقال لمن أنكر عليه أهلُ زمانه طريقَ التجريد وخرقَ العوائد: ولقد استُهزئ بمن كان قبلك ممن سلك هذه الطريق، فأُوذوا، وضُربوا، وأُخرجوا من بلادهم، فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون، إما في الدنيا أو في الآخرة.

.تفسير الآيات (42- 44):

{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قلْ} لهم يا محمد: {مَن يكلؤكُم}: يحفظكم {بالليل والنهار من} بأس {الرحمنِ} الذي تستحقونه، إذا نزل بكم ليلاً أو نهارًا. قال الواسطي: من يحفظكم بالليل والنهار من الرحمن أن يظهر عليكم ما سبق فيكم؟ وقال ابن عطاء: من يكلؤكم من أمر الرحمن سوى الرحمن، وهل يقدر أحد على الكلاءة سواه؟ وتقديم الليل؛ لأن الدواهي فيه أكثر وقوعًا وأشد وقعًا. وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كلاءتهم ليس إلا برحمته العامة. {بل هم عن ذِكْرِ ربهم معرضون} أي: بل هم معرضون عن ذكره، ولا يُخطِرونه ببالهم، فضلاً أن يخافوا بأسه، حتى إذا رزقوا الكلاءة عرفوا مَن الكالئ، وصلحوا للسؤال عنه.
والمعنى: أنه أمر رسوله- عليه الصلاة والسلام- بسؤالهم عن الكالئ، ثم أضرب عنه، وبيَّن أنهم لا يصلحون لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. هكذا للزمخشري ومن تبعه. وقال ابن جزي: والمعنى: أنه تهديد وإقامة حجة عليهم؛ لأنهم لو أجابوا عن هذا السؤال لاعترفوا بأنه ليس لهم مانع ولا حافظ غيره تعالى- يعني لِمَا جربوه في أحوال محنتهم- ثم قال: وجاء قوله: {بل هم عن ذكر ربهم معرضون}، بمعنى أنهم، إذا سُئلوا ذلك السؤال، لم يجيبوا عنه، لأنهم تقوم عليهم الحجة إن أجابوا، ولكنهم يعرضون عن ذكر الله. اهـ. أي: يعرضون عن أن يقولوا: كالأنا الله عتوًا وعنادًا. وهو معنى قوله: {بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون}، كأنه قال: لو سُئلوا، لم يجدوا جوابًا، إلا أن يقولوا: هو الله، لكنهم يعرضون عن ذكره؛ مكابرة. قلت: وما قاله ابن جزي أحسن مما قاله الزمخشري ومن تبعه، وأقرب.
ثم قال تعالى: {أم لهم آلهةٌ تمنعُهم من دوننا}، هذا انتقال من بيان جهلهم بحفظه تعالى، أو إعراضهم عن ذكره، إلى توبيخهم باعتمادهم على آلهتهم. والمعنى: ألهم آلهة تمنعهم من العذاب تجاوز منعنا وحفظنا، فهم يعولون عليها واثقون بحفظها؟ وفي توجيه الإنكار والنفي إلى وجود الآلهة بما ذكر من المنع، لا إلى نفس الصفة، بأن يقال: أم تمنعهم آلهتهم... الخ. من الدلالة على سقوطها عن مرتبة الوجود، فضلاً عن رتبة المنع، ما لا يخفى. ثم قال تعالى: {لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منّا يُصْحَبُون} أي: يُجَارون. والصاحب: المُجِير الوافي، يعني: أن الأصنام لا تُجير نفسها، ولا نُجيرهم نحن، أو لا يصحبُهم نصر من جهتنا، فهم لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم، ولا يُصحبون بالنصر والتأييد من جهتنا، فكيف يتوهم أن ينصروا غيرهم؟
{بل متّعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العُمُرُ}، إضراب عما توهموه من منع آلهتهم وحفظها لهم، أي: ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا، وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعًا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً، كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم حتى طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وظنوا أنهم دائمون على ذلك، وهو أمل كاذب.
{أفلا يَرَوْن أنَّا نأتي الأرضَ ننقُصُها من أطرافها} أي: ألا ينظرون فيرون أنَّا نأتي أرض الكفرة فننقصها من أطرافها؛ بإدخالها في أيدي المسلمين، فكيف يتوهمون أنهم ناجون من بأسنا. وهو تمثيل وتصوير لما يخربه الله من ديارهم على أيدي المسلمين، ويضيفها إلى دار الإسلام. وفي التعبير بنأتي: إشارة إلى أن الله تعالى يجريه على أيدي المسلمين، وأن عساكرهم كانت تأتيهم لغزوهم غالبة عليهم، ناقصة من أطراف أرضهم. {أفهم الغالبون} على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أي: أفكفار مكة يغلبون بعد أن نقصنا من أطراف أرضهم؟ أي: ليس كذلك، بل يغلبهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام، وقد تحقق ذلك وأنجز الله وعده، والله غالب على أمره.
الإشارة: قل من يكلؤ قلوبكم وأسراركم من الرحمن، أن يذهب بما أودع فيها من المعارف وأنوار الإحسان؟ فلا أحد يحفظها إلا من رحمها بما أودع فيها، ولهذا كان العارفون لا يزول اضطرارهم، ولا يكون مع غير الله قرارهم، لا يعتمدون على عمل ولا حال، ولا على علم ولا مقال، وفي الحكم: (إلهي، حكمك النافذ، ومشيئتك القاهرة، لم يتركا لذي حال حالاً، ولا لذي مقال مقالاً). وقال أيضًا: إلهي كم من طاعة بنيتُها وحالة شيدتُها، هدم اعتمادي عليها عدلك، بل أقالني منها فضلك. وكثير من الناس غافلون عن هذا المعنى، بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون.
قال الورتجبي: قوله تعالى: {قل من يكلؤكم...} الآية، أخبر عن كمال إحاطته بكل مخلوق، وتنزيهه عن العَجَلة بمؤاخذتهم، كأنه يقول: أنا بذاتي تعاليت، أدفع بلطفي القديم عنكم قهري القديم، ولولا فضلي السابق وعنايتي القديمة بالرحمة عليكم، من يدفعه بالعلة الحدثانية؟ وهذا من كمال لطفي عليكم وأنتم بعد معرضون عني يا أهل الجفا، وذلك قوله: {بل هم عن ذكر ربهم مُعرِضون}. اهـ. بلفظه مع تصحيف في النسخة.
وقوله تعالى: {بل متعنا هؤلاء...} الآية، تمتيع العبد بطول الحياة، إن كان ذلك في طاعة الله، وازدياد في معرفته، فهو من النعم العظيمة. وفي الحديث: «خَيرُكُم مَنْ طَال عُمُرهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ» لكن عند الصوفية: أنه لا ينبغي للمريد أن ينظر إلى ما مضى من عمره في طريق القوم، فقد كان بعض الشيوخ يقول: لا يكن أحدكم عبد الدهور وعبد العدد. قال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: معنى كلامه: أنه لا ينبغي للفقير أن يعدكم له في طريق القوم، ليقول: أنا لي كذا وكذا من السنين في طريق القوم. اهـ. بالمعنى. ولعل علة النهي؛ لئلا يرى للأيام تأثيرًا في الفتح، فقد قالوا: هي لمن صدق لا لمن سبق.
وقوله تعالى: {أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها} قال القشيري: فيه إشارة إلى سقوط قوى العبد بمرور السنين، وتطاول العمر، فإن آخر الأمر كما قيل:
آخِرُ الأمر ما تَرَى ** القبرُ واللَّحدُ والثرى

وكما قيل:
طَوَى العَصْرانِ ما نَشَرَاهُ مني ** فأبلى جِدَّتِي نَشْرٌ وطيُّ

أراني كلَّ يوم في انتقاصٍ ** ولا يبقى مع النقصان شيُّ

وكأنه فسر الأرض بأرض النفوس من باب الإشارة. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (45- 47):

{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
ولمَّا بيَّن الحق تعالى غاية هول ما يستعجله المستعجلون، ونهاية سوء حالهم، عند إتيانه، ونعى عليهم جهلهم بذلك، وإعراضهم عند ذكر ربهم، الذي يكلؤهم من طوارق الليل والنهار، أمَرَ نبيه- عليه الصلاة والسلام- بأن يخبرهم أن ما ينذرهم به، مما يستعجلونه، إنما هو بالوحي، لا من عنده.
قلت: مَن قرأ: {يَسمع} بفتح الياء، فالصُّم: فاعل، والدعاء: مفعول، ومن قرأ بضم التاء، رباعي؛ فالصم: مفعول أول، والدعاء: مفعول ثان. ومن قرأ: {مثقال}؛ بضم اللام، فكان تامة، وبالنصب: خبر كان، أي: وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {قل} لهم يا محمد {إِنما أُنذِرُكُم} وأخوفكم من العذاب الذي تستعجلونه، أو بالساعة الموعودة، {بالوحي} القرآني الصادق، الناطق بإتيانه، وفظاعة شأنه، أي: إنما شأني أن أُنذركم بالإخبار به، لا بإتيانه؛ فإنه مخالف للحكمة الإلهية؛ إذ الإيمان برهاني لا عياني، فإذا أَنذرتَهم فلا يسمع إنذارك إلا من سبقت له العناية، دون من سبق له الشقاء، ولذلك قال تعالى: {ولا يسمع الصمُّ الدعاءَ} أي: الإنذار، أو لا تُسمع أنت الصمَّ الدعاءَ {إِذا ما يُنذَرُون}؛ يُخوَّفون، واللام في للعهد، وهو إشارة إلى هؤلاء المنذرين، والأصل: ولا يسمعون إنذارك إذا يُنذرون، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ إشارة إلى تصاممهم وسد أسماعهم إذا أنذروا، وتسجيلاً عليهم بذلك. وفي التعبير بالدعاء، دون الكلام في الإنذار، إشارة إلى تناهي صممهم في حال الإنذار، فإن الدعاء من شأنه أن يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئة دالة عليه، فإذا لم يسمعوا، مع هذه الحالة، يكون صممهم في غايةٍ لا غاية ورائها.
{ولَئِنْ مسّتْهم نفحةٌ} أي: دفعة يسيرة {من عذاب ربك} أي: كائنة منه، {ليقولنَّ يا ويلنا إِنا كنا ظالمين}، وهذا بيان لسرعة تأثيرهم من مجيء نفس العذاب، إثر بيان عدم تأثرهم من مجرد الإخبار به، لانهماكهم في الغفلة، أي: والله لئن أصابهم أدنى شيء من هذا العذاب الذي يُنذرون به، لذلوا، ودَعوا بالويل على أنفسهم، وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصامموا وأعرضوا. وقد بُولغ في الكلام، حيث عبَّر بالمس والنفح؛ لأن النفح يدل على القلة، فأصل النفح: هبوب رائحة الشيء، يُقال: نفحه بعطية، إذا أعطاه شيئًا يسيرًا، مع أن بناءها للمرة مؤكد لقلتها.
ثم بيَّن ما يقع عند إتيان ما أنذروه، فقال: {ونضع الموازينَ القِسْطَ} أي: نقيم الموازين العادلة التي تُوزن بها الأعمال، وهو جمع ميزان، وهو ما يوزن به الشيء ليُعرف كمِّيته. وعن الحسن: هو ميزان له كفتان ولسان، وإنما جمع الموازين؛ لتعظيم شأنها، والوزن لصحائف الأعمال في قول، وقيل: وضع الميزان كناية عن تحقيق العدل، والجزاء على حسب الأعمال.
وإفراد القسط؛ لأنه مصدر وصف به؛ للمبالغة، كأنها في نفسها قسط، أو على حذف مضاف، أي: ذوات القسط. وقوله: {ليوم القيامة} أي: لأهل يوم القيامة، أي: لأجلهم، أو في يوم القيامة، {فلا تُظلم نفسٌ شيئًا} من الظلم، ولا تنقص حقًا من حقوقها، بل يُؤتى كل ذي حق حقه، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشر.
{وإِن كان مثقالَ حبةٍ من خَرْدَلٍ} أي: وإن كان الشيء أو العمل مثقال حبة من خردل، {أتينا بها}: أحضرناها وجازينا عليها، وأنث ضمير المثقال؛ لإضافته إلى حبة، {وكفى بنا حاسبين}، إذ لا مزيد على علمنا وعدلنا، أو عالمين حافظين، لأن من حسب شيئًا علمه وحفظه، قاله ابن عباس- رضي الله عنهما-.
الإشارة: كان صلى الله عليه وسلم يُنذر الناس ويذكّرهم بالوحي التنزيلي، وبقي خلفاؤه يذكرون بالوحي الإلهامي، موافقُا للتنزيلي، ولا يسمع وعظهم ويحضر مجالسهم إلا من سبقت له سابقة العناية، وأما من انتكبت عنه العناية تنكب مجالسهم، وتصامم عن وعظهم وتذكيرهم، ولا يسمع الصمُّ الدعاء إذا ما ينذرون، ولا يندمون إلا حين تنزل بهم الأهوال، ولا ينفع الندم وقد جف القلم، وذلك حين تُوضع موازين الأعمال، فتثقل أعمال المخلصين، وتخف أعمال المخلَّطين، ولا تُوضع الموازين إلا لأهل النفوس الموجودة، وأما من غاب عن نفسه في شهود محبوبه، لفنائه في شهوده، وانطوائه في وجوده، فلا ينصب له ميزان؛ إذ لا يشهد لنفسه حسًا ولا فعلاً ولا تركًا، وإنما الفعل كله للواحد القهار. ويكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه. آمين.
ثم شرع في تفصيل ما أجمل في قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ}، [الأنبياء: 7] إلى قوله: {وَأَهْلَكْنَا المسرفين} [الأنبيَاء: 9].