فصل: تفسير الآيات (57- 58):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (57- 58):

{إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِن الذين يُؤذون اللهَ ورسولَه} بارتكابهم ما يكرهانه من الكفر والمعاصي والبدع. وقال ابن عباس: هم اليهود والنصارى والمشركون. فقالت اليهود: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]، {إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181] وقالت النصارى: {الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ} [التوبة: 30]، {إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73]. وقال المشركون: الملائكة بنات الله، والأصنام شركاؤه. وقيل: يؤذونه: يُلحدون في أسمائه وصفاته. ويؤذون رسول الله، حين شُج وجهه، وكُسرت رباعيتُه، وقيل له: هو ساحر وشاعر ومجنون. أو: بترك سُنَّته ومخالفة شريعته. ويحتمل أن يكون المراد يؤذون رسولَ الله فقط بالتنقيص، أو بالتعرُّض لنسائه. وذكرُ اسم الله للتشريف. {لعنَهُم اللهُ في الدنيا والآخرة} أي: أبعدهم من رحمته في الدارين {وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً} يُهينهم ويُخزيهم في النار.
{والذين يُؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا} بغير جناية يستحقون بها الإيذاء، {فقد احتملوا بُهتاناً} كذباً {وإِثماً مبيناً} ظاهراً، وإنما أطلق في إيذاء الله ورسوله، وقيّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات؛ لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق، وأما إيذاء المؤمنين فمنه ما يكون بحق، كالحدّ والتعزير، ومنه باطل. وقيل: نزلت في ناس من المنافقين، كانوا يؤذون عليًّا رضي الله عنه، ويُسْمِعُونه، وقيل: في زُناة المدينة، كانوا يمشون في طرق المدينة، ويتبعون النساء إذا تبرزن بالليل لقضاء حوائجهن، فيغمزون المرأة، فإن سكتتْ اتبعوها، وإن زجرتهم انتهوا. وعن الفضيل: لا يحلّ أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق، فكيف بالمؤمنين؟ اهـ.
الإشارة: إذاية الله ورسوله هي إذاية أوليائه، ونقله الثعلبي عن أهل المعاني، فقال: فأراد الله تعالى المبالغة في النهي عن أذى أوليائه، فجعل أذاهم أذاه. اهـ. ويؤيده الحديث القدسي: «مَن آذى لي وليًّا فقد بارزني بالمحاربة»، أو كما سبحانه. وإذاية المؤمنين كثيرة، تكون باللسان وبغيره، وقد قالوا: البَر لا يؤذي الذر. ومن أركان التصوف: كف الأذى، وحمل الجفا، وشهود الصفا، ورمي الدنيا بالقفا. وبالله التوفيق.

.تفسير الآية رقم (59):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتِك ونساءِ المؤمنين يُدْنِينَ عليهن من جَلابِيبهن} أي: يُرخين على وجوههنّ من جلابيبهن فيغطين بها وجوهَهن. والجلباب: كل ما يستر الكل، مثل الملحفة، والمعنى: قل للحرائر يُرخين أرديتهن وملاحفَهن ويغَطين بها وجوههن ورؤوسهن، ليعلم أنهن حرائر فلا يؤذين. و{ذلك أَدْنَى} أي: أقرب وأجدر، {أن يُعْرَفْنَ} من الإماء {فلا يُؤْذَين} وذلك أن النساء في أول الإسلام كن على زيهنَّ في الجاهلية متبذّلات، تبرز المرأةُ في درج وخمار، لا فَصْل بين الحُرّة والأَمَة. وكان الفتيان يتعرّضون للإماء، إذا خرجن بالليل لقضاء حاجتهنّ في النخيل والغَيْضات، وكن يخرجن مختلطات مع الحرائر، فربما تعرّضوا للحُرّة، يحسبونها أَمَة، فأُمِرن أن يخالفن بزيهنّ عن زي الإماء بلباس الجلابيب، وستر الرؤوس والوجوه، فلا يطمع فيهنّ طامع.
قال ابن عباس رضي الله عنه: أمر الله تعالى نساء المؤمنين أن يغطين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، ويُبدين عيناً واحدة. قلت: وقد مرَّ في سورة النور أن الوجه والكفين ليس بعورة، إلا لخوف الفتنة، وأما الإماء فلا تسترن شيئاً إلا ما بين السرة والركبة، كالرجل. قال أنس: مرتْ جارية متقنعة بعمر بن الخطاب فعلاها بالدرة، وقال: يا لكاع أنت تشبهين بالحرائر، فألقِ القناع، {وكان اللهُ غفوراً} لِما سلف منهن من التفريط، {رحيماً} بتعليمهن آداب المكارم.
الإشارة: ينبغي لنساء الخواص أن يتميزن من نساء العامة؛ بزيادة الصَوْن والتحفُّظ، وقلة الخروج، فإذا لزمهنَّ الخروج، فليخرجن في لباس خشين، بحيث لا يُعرفن، أو يخرجن ليلاً. وثبت أن زوجة الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه لم تخرج من دارها إلا خرجتين؛ خرْجة حين زُفت إلى زوجها، وخرجة إلى المقابر. نفعنا الله ببركاتهم. آمين.

.تفسير الآيات (60- 62):

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)}
قلت: {لنُغرينك}: جواب القسم المغني عن جواب الشرط. و{ثم لا يُجاورنك}: عطف عليه؛ لأنه يصح أن يُجاب به القسم؛ لصحة قولك: لئن لم ينتهوا لا يُجاورنك، ولَمَّا كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أُصيبوا به عطف بثم، لبُعد حاله عن حال المعطوف عليه. و{ملعونين}: نصب على الشتم أو الحال، والاستثناء دخل على الظرف والحال معاً، أي: لا يُجاورنك إلا قليلاً في اللعنة والبُعد، ولا يصح نصبه بأُخذوا؛ لأن ما بعد حرف الشرط لا يعمل فيما قبله.
يقول الحق جلّ جلاله: {لئن لم ينته المنافقون} عن نفاقهم وإيذائهم، {والذين في قلوبهم مرض} فجور، وهم الزناة من قوله: {فيطمع الذي في قلبه مرض}. {والمُرجِفُون في المدينةِ} وهم أُناس كانوا يُرجفون بأخبار السوء في المدينة، من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون: هُزموا وقُتلوا، وجرى عليهم كيت وكيت، فيكسرون بذلك قلوبَ المؤمنين. يقال: رجف بكذا: إذا أخبر به على غير حقيقته؛ لكونه خبراً مزلزلاً غير ثابت، من: الرجفة، وهي الزلزلة، {لَنُغرينَّك بهم} لنأمرنك بقتالهم وإجلائهم، أو ما يضطرهم إلى طلب الجلاء، أو: لنُسلطنك عليهم، {ثم لا يُجاورونك فيها} في المدينة {إِلا} زمناً {قليلاً}.
والمعنى: لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يُلقون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل بهم الأفاعيل التي تسوؤهم، بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء من المدينة، وألاّ يُساكنوك فيها إلاّ زمناً قليلاً، ريثما يرتحلون. فسمّي ذلك إغراء، وهو التحريشُ، على سبيل المجاز. حال كونهم {ملعونين} أي: لا يجاورونك إلا ملعونين، مُبعدين عن الرحمة {أَينما ثُقِفُوا} وُجدوا {أُخذوا وقُتِّلوا تقتيلاً} والتشديد للتكثير.
{سُنَّةَ اللهِ} أي: سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة {في الذين خَلَوا من قبلُ} في المنافقين الذين كانوا يُنافقون الأنبياء من قبل، ويسعون في وهنهم بالإرجاف ونحوه أن يقتّلوا أينما وُجدوا، {ولن تجد لسُنَّة الله تبديلاً} أي: لا يُبدل الله سُنَّته ولا يقدر أحد أن يبدلها، بل يُجريها مجرىً واحداً في الأمم كلهم.
قال ابن جزي: تضمنت الآية وعيد هؤلاء الأصناف إن لم ينتهوا، ولم ينفُذ الوعيد فيهم. ففي ذلك دليل على بطلان القول بوجوب إنفاذ الوعيد في الآخرة. وقيل: إنهم انتهوا وستروا أمرهم؛ فكفّ عنهم إنفاذ الوعيد. اهـ.
الإشارة: منافقو الصوفية هم الذين ينتسبون إلى الصوفية، ويدّعون محبة القوم، وهم يعترضون على الفقراء، ويرفعون الميزان عليهم، وهم الذين في قلوبهم مرض، أي: حيرة وضيق من غم الحجاب؛ إذ لو ارتفع عنهم الحجاب لم يعترضوا على أحد، وهم المرجفون بأهل النسبة، إذ سمعوا شيئاً يسوؤهم أفشوه، وأظهروا الفرح. لئن لم ينتهوا عن ذلك ليُسلطن الله عليهم مَن يُخرجهم من النسبة بالكلية، ثم لا يبقون فيها إلا قليلاً، ممقوتين عند أهل التحقيق، أينما وُجدوا، أُخذوا بالفعل أو بالقول فيهم. وقد ألَّف بعض الفقهاء تأليفاً في الرد على الفقراء، فسلّط الله عليه من أهانه، ووَسمَه بالبلادة والجمود، ولا زال مُهاناً أينما ذُكر، والعياذ بالله.

.تفسير الآيات (63- 68):

{يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يسألُكَ الناسُ عن الساعةِ} كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة، استعجالاً واستهزاءً، واليهود يسألون امتحاناً؛ لأن الله تعالى أخْفى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسولَه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بيّن لرسوله عليه الصلاة والسلام أنها قريبة الوقوع، تهديداً للمستعجلين، وإسكاتاً للممْتحنين فقال: {قُلْ إِنما عِلْمُها عند الله} لم يُطلع عليها ملكاً ولا نبيًّا. {وما يُدريكَ لعل الساعة تكونُ قريباً} أي: شيئاً قريباً، أو: في زمان قريب، فتنصب على الظرفية، ويجوز أن يكون التذكير؛ لأن الساعة في معنى اليوم أو الزمان.
{إِنَّ الله لعنَ الكافرين} أبعدهم عن رحمته، {وأعدَّ لهم سعيراً} ناراً شديدة التسعير، أي: الإيقاد، {خالدين فيها أبداً} وهذا يرد مذهبَ الجهمية في زعمهم أن النار تفنى، و{خالدين}: حال مقدرة من ضمير لهم. {لا يجدون وليًّا} يحفظهم، {ولا نصيراً} يمنعهم ويدفع العذاب عنهم، وذلك {يومَ تُقَلَّبُ} أو: واذكر {يومَ تُقَلَّبُ وجوهُهُم في النار} تطوف من جهة إلى جهة، كما ترى البضعة من اللحم تدُور في القِدْرِ إذا غلت. وخصّت الوجوه؛ لأنها أكرم موضع على الإنسان من جسده. أو: يكون الوجه كناية عن الجملة. حال كونهم {يقولون يا ليتنا أطعنا اللهَ وأطعنا الرسولا} في الدنيا، فنتخلص من هذا العذاب، فندّموا حيث لم ينفع الندم.
{وقالوا ربنا إِنا أطعنا سادتَنا وكبراءَنا} والمراد: رؤساء الكُفر، الذين لقنوهم الكفر، وزيّنوه لهم. وقرأ ابن عامر ويعقوب {ساداتنا} بالجمع، جمع: سادة، وسادة: جمع سيد، فهو جمع الجمع، {فأضلونا السبيلا} أي: أتلفونا عن طريق الرشد. يقال: ضلّ السبيلَ وأضلّه إياه، وزيادة الألف للإطلاق. {بنا آتهم ضِعفين من العذاب} أي: مثلي ما آتيتنا منه للضلال والإضلال، {والعنْهُم لعناً كثيراً} كثير العدد، تكثيراً لأعداد اللاعنين، أو: العنهم المرة بعد المرة. وقرأ عاصم بالباء، أي: لعناً هو أشد اللعن وأعظمه. وهو يدلّ على تعدُّد الأجزاء والأفراد.
الإشارة: مذهب العباد والزهّاد والصالحين: جعل الساعة نُصب أعينهم، لا يغيبون عنها، فهم يجتهدون في التأهُّب لها ليلاً ونهاراً. ومذهب العارفين الموحّدين: الغيبة عنها، بالاستغراق في شهود الحق، فلا يشغلهم الحق، دنيا ولا آخرة، ولا جنة ولا نار؛ لما دخلوا جنة المعارف، غابوا عن كل شيء، فانخلعوا عن الكونين بشهود المكوِّن، وجعلوا الوجود وجوداً واحداً؛ إذ المتجلي هنا وثَم واحد. وإذا كان كُبراء الضلال يُضاعَف عذابهم، وكان كبراء الهداية يُضاعف ثوابهم، يأخذون ثواب الاهتداء والإرشاد، فمَن دلّ على هُدىً كان له أجره وأجر مَن اتبعه إلى يوم القيامة، ومَن اهتدى على يديه أحد جرى عليه أجره، وكان في ميزانه كل مَن تبعه كذلك، وفي ذلك يقول القائل:
والمرْءُ في مِيزانه اتباعُهُ ** فاقْدِرْ إذنْ قدر النبي مُحَمد

.تفسير الآيات (69- 71):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}
يقول الحق جلّ جلاله: {يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذَوْا موسى} من بني إسرائيل {فبرأه اللهُ مما قالوا} وذلك أن بني إسرائيل كانوا يغتسلون عرايا، ينظر بعضهم إلى بعض، وكان موسى عليه السلام يستتر لشدة حيائه، فقالوا: ما يمنع موسى من الاغتسال معنا إلا أنه آدر والأدْرَة: انتفاخ الأنثيين أو: به عيب من برص أو غيره، فذهب يغتسل وحده، فوضع ثوبه على حجر، ففرّ الحجر بثوبه، فلجّ في أثره يقول: ثَوْبي حَجَر، ثوبي حجر! حتى نظروا إلى سوأته، فقالوا: والله ما بموسى من بأس، فقام الحجر من بعد ما نظروا إليه، وأخذ ثوبه، فطفق بالحجر ضرباً، ثلاثاً أو أربعاً.
وقيل: كان أذاهم: ادعاءهم عليه قتل أخيه. قال عليّ رضي الله عنه: صعد موسى وهارون الجبل، فمات هارون، فقالت بنو إسرائيل: أنت قتلته. وكان أشدَّ لنا حبًّا، وألين منك، فآذوه بذلك، فأمر الله تعالى الملائكة فحملته، حتى مرت به على بني إسرائيل، وتكلمت الملائكة بمماته، حتى تحققت بنو إسرائيل أنه قد مات، فبرّأ الله موسى من ذلك، ثم دفنوه. فلم يطلع على قبره إلا الرَّخَم من الطير، وإن الله جعله أصم أبكم، وقيل: إنه على سرير في كهف الجبل. وقيل: إن قارون استأجر امرأة مومسة، لتقذف موسى بنفسها على رأس الملأ، فعصمها الله، وبرأ موسى، وأهلك قارون. وقد تقدّم.
{وكان عند الله وجيهاً} ذا جاه ومنزلة رفيعة، مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش «وكان عبداً لله وجيهاً».
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله} في ارتكاب ما يكرهه، فضلاً عما يؤذي رسوله، {وقولوا قولاً سديداً} صدقاً وصواباً، أو: قاصداً إلى الحق. والسدادُ: القصدُ إلى الحق والقول بالعدل. والمراد: نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول. والحثُّ على أن يُسددوا قولهم في كل باب؛ لأن حفظ اللسان، وسداد القول رأس كل خير، ولذلك قال: {يُصلحْ لكم أعمالَكم} أي: يوفقكم لصالح الأعمال، أو: يقبل طاعتكم، ويثيبكم عليها، {ويغفرْ لكم ذنوبَكم} أي: يمحها.
والمعنى: راقبوا الله في حفظ ألسنتكم، وتسديد قولكم، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غايةُ الطُلبة؛ من تقبل حسنَاتكم، ومن مغفرة سيئاتكم. وهذه الآية مقررة للتي قبلها، فدلت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان، ليترادف عليها النهي والأمر، مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام، واتباع الأمر الوعد البليغ بتقوى الله الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه.
ثم وعدهم بالفوز العظيم بقوله: {ومن يُطع اللهَ ورسولَه} في الأوامر والنواهي {فقد فاز فوزاً عظيماً} يعيش في الدنيا حميداً، وفي الآخرة سعيداً.
جعلنا الله منهم، آمين.
الإشارة: في الآية تسلية لمَن أوذي من الأولياء بالتأسي بالأنبياء. رُوي أن موسى عليه السلام قال: يا رب احبس عليّ ألسنة الناس، فقال له: هذا شيء لم أصنعه لنفسي، فكيف أفعله بك. وأوحى تبارك وتعالى إلى عزير: إن لم تطِبْ نفساً بأن أجعلك علكاً في أفواه الماضغين، لم أثبتك عندي من المتواضعين. اهـ.
واعلم أن تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو سبب السعادة والفوز الكبير، وتعظيم أولياء الله وخدمتهم هو سبب الوصول إلى الله العلي الكبير، وتقوى الله أساس الطريق، وحفظ اللسان وتحرِّي القول السديد هو سبب الوصول إلى عين التحقيق. قال الشيخ زروق رضي الله عنه في بعض وصاياه بعد كلام: ولكن قد تصعب التقوى على النفس؛ لاتساع أمرها، فتوجّهْ لترك العظائم والقواعد المقدور عليها، تُعَنْ على ما بعدها، وأعظم ذلك معصية: الغيبة قولاً وسماعاً، فإنها خفيفة على النفوس؛ لإِلْفها، مستسهلة؛ لاعتيادها، مع أنها صاعقة الدين، وآفة المذنبين، مَن اتقاها أفلح في بقية أمره، ومَن وقع فيها خسر فيما وراءها. قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يُصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم...} الآية، فجعل صلاحَ العمل متوقفاً على سداد القول، وكذلك ورد: أن الجوارح تُصبح تشتكي اللسان، وتقول: اتق الله فينا، فإنك إن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا. فلا تهمل يا أخي لسانك، وخصوصاً في هذه الخصلة، فتورع فيها أكثر ما تورعُ في مأكلك ومشربك، فإذا فعلت طابت حياتك، وكفيت الشواغب، ظاهراً وباطناً. اهـ.
فإذا تحققت بالتقوى، وحصّنت لسانك بالقول السديد، كنت أهلاً لحمل الأمانة.