فصل: تفسير الآيات (49- 51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (49- 51):

{لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لا يسأمُ الإِنسانُ} أي: جنسه، أو: الكافر، بدليل قوله: {وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً} [الكهف: 36]، أي: لا يملّ {من دعاءِ الخيرِ}؛ من طلب السعة في المال والنعمة، ولا يملّ عن إرادة النفع والسلامة، والتقدير: من دعائه الخير، فحذف الفاعل وأضيف إلى المفعول، {وإِن مسَّه الشرُّ}؛ الفقر والضيق، {فَيَؤُوسٌ} من الخير {قنوطٌ} من الرحمة، أي: لا يرجو زواله؛ لعدم علمه بربه، وانسداد الطريق على قلبه في الرجوع إلى ربه، بُولغ فيه من طريقين: من طريق بناء فَعول، ومن طريق التكرير؛ لأن اليأس هو القنط، والقنوط: أن يظهر أثر اليأس فيتضاءل وينكسر، ويظهرَ الجزع، وهذا صفة الكافر لقوله: {إِنَّه لاَ يَايْئَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]. وقال الإمام الفخر: اليأس على أمر الدنيا من صفة القلب، والقنوط: إظهار آثاره على الظاهر. اهـ.
{ولئن أذقناه رحمةً من بعد ضراء مَسَّتْهُ ليقولَنَّ هذا لِي} أي: وإذا فرجنا عنه بصحّة بعد مرض، أو: سعة بعد ضيق، قال: {هذا لي} أي: هذا قد وصل إليّ لأني استوجبته بما عندي من خير، وفضل، وأعمال برّ، أو: هذا لي لا يزول عني أبداً، {وما أظنُّ الساعةَ قائمةً} أي: ما أظنها تقوم فيما سيأتي، {ولئن رُّجِعْتُ إِلى ربي} كما يقول المسلمون، {إِنَّ لي عنده لَلْحُسْنَى} أي: الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة، أو: الجنة. قاس أمر الآخرة على أمر الدينا؛ لأن ما أصابه من نِعَمِ الدنيا، زعم أنه لاستحقاقه إياها، وأن نِعَم الآخرة كذلك. وهذا غرور وحمق، الرجاء ما قارنه عمل، وإلا فهو أُمنية، «الجاهل مَن أَتْبَعَ نَفْسه هواها، وتمنّى على الله، والكيِّسُ مَن دَانَ نفسه، وعَمِلَ لما بعد الموتِ».
{فلننبئَنَّ الذين كفروا بما عَمِلُوا} أي: فلنخبرنهم بحقيقة ما عملوا من الأعمال الموجبة للعذاب، {ولَنُذِيقَنَّهم من عذابٍ غليظٍ}؛ شديد، لا يفتر عنهم.
{وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعْرَضَ}، هذا ضرب آخر من طغيان الإنسان؛ إذا أصابه الله بنعمته، أبطرته النعمة، وأعجب بنفسه، فنسي المنعِّم، وأعرض عن شكره، {ونأى بجانبهِ}؛ وتباعد عن ذكر الله ودعائه وطاعته، أو: ذهب بنفسه وتكبّر وتعاظم، والتحقيق: أن المراد بالجانب النفس، فكأنه قال: وتباعد بنفسه عن شكر ربه، {وإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ}؛ الفقر والضر، {فذو دعاءٍ عريضٍ} أي: تضرُّع كثير، أي: أقبل على دوام الدعاء والابتهال. ولا منافاة بين قوله: {فَيؤوس قنوط} وبين قوله: {فذو دعاء عريض}؛ لأن الأول في قوم، والثاني في قوم، أو: قَنوط في البَر، وذو دعاء عريض في البحر، أو: قَنُوط بالقلب، وذو دعاء باللسان، أو: قَنُوط من الصنم، وذو دعاء لله تعالى.
الإشارة: اللائق بالأدب أن يكون العبد عند الشدة داعياً بلسانه، راضياً بقلبه، إن أجابه شكر، وإن منعه انتظر وصبر، ولا ييأس ولا يقنط، فإنه ضَمِنَ الإجابة فيما يريد، لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد، وإن فرّج عنك نسبتَ النعمةَ إليه، دون شيء من الوسائط العادية، هذا ما يُفهم من الآية، وتقدّم الكلام عليها في سورة هود. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (52- 54):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)}
يقول الحق جلّ جلاله: {قل أرأيتم}؛ أخبروني {إِن كان} القرآن {من عندِ اللهِ ثم كفرتُمْ به}؛ جحدتم أنه من عند الله، مع تعاضد موجبات الإيمان به، {مَنْ أَضلُّ} منكم؟ فوضع قوله: {ممن هو في شقاق بعيد} موضعه، شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم.
{سَنُريهِمْ آياتنا} الادلة على حقيَّتِه وكونه من عند الله، {في الآفاق} من فتح البلاد، وما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الحوادث الآتية، وآثار النوازل الماضية، وما يسَّر الله تعالى له ولخلفائه من الفتوحات، والظهور على آفاق الدنيا، والاستيلاء على بلاد المشارق والمغارب، على وجه خرق العادة، {و} نريهم {في أنفسهم}؛ ما ظهر من فتح مكة وما حلّ بهم.
وقال ابن عباس: في الآفاق: منازل الأمم الخالية وآثارهم، وفي أنفسهم: يوم بدر. وقال مجاهد وغيره: في الآفاق: ما يفتح الله من القرى على نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين، وفي أنفسهم: فتح مكة. وقيل: الآفاق: في أقطار السموات والأرض، من الشمس، والقمر، والنجوم، وما يترتب عليها من الليل، والنهار، والأضواء، والظلال، والظلمات، ومن النبات، والأشجار، والأنهار، {وفي أنفسهم}: من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، من تكوين النطفة في ظلمات الأرحام، وحدوث الأعضاء العجيبة، والتركيبات الغريبة، كقوله تعالى: {وَفِى أَنفُسِكُمْ...} [الذاريات: 21].
وعبّر بالسين مع أن إراءة تلك الآيات قد حصلت قبل ذلك، بمعنى أن الله تعالى سيُطلعهم على تلك الآيات زماناً فزماناً، ويَزيدهم وقوفاً على حقائقها يوماً فيوماً، {حتى يتبين لهم} بذلك {أنه الحقُّ} أي: القرآن، أو: الإسلام، أو: التوحيد، {أوَلَمْ يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيدٌ}، توبيخ على تردُّدهم في شأن القرآن، وعنادهم المحوج إلى إراءة الآيات، وعدم اكتفائهم بإخباره تعالى. والهمزة للإنكار، والواو للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: أَلَمْ يُغن ولم يكف ربك. والباء: مزيدة للتأكيد، ولا تكاد تزاد إلا مع كفى.
و{أنه...} الخ: بدل منه، أي: ألم يُغنهم عن إراءة الآيات المبنية لحقيّة القرآن ولم يكفهم في ذلك أنه تعالى شهيد على كل شيء، وقد أخبر أنه من عنده. وقيل: معناه: إن هذا الموعود من إظهار آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم سيرونه ويشاهدونه فيتيقنون عند ذلك أن القرآن تنزيل من عالم الغيب؛ الذي هو على كل شيء شهيدٌ.
{أَلا إِنهم في مِريةٍ}؛ شك عظيم {من لقاءِ ربهم} فلذلك أنكروا القرآن، {ألا إِنه بكل شيءٍ محيط}؛ عالم بجميع الأشياء وتفاصيلها، وظواهرها، وبواطنها، فلا يخفى عليه خافية منهم، وهو مجازيهم على كفرهم وشكهم، لا محالة.
الإشارة: قد اشتملت الآية على مقام الاستدلال في مقام الإيمان، وعلى مقام العيان في مقام الإحسان، أي: سنُريهم آياتنا الدالة على وجودنا في الآفاق، وفي أنفسهم، أي: في العوالم المنفصلة والمتصلة، حتى يتبين لهم أنه الحق، أي: وجوده حق، لأن الصنعة قطعاً تحتاج إلى صانع، ثم رقَّاهم إلى مقام المراقبة بقوله: {أوَلم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}، ثم زاد إلى المشاهدة بقوله: {ألا إِنهم} أي: أهل الجهل بالله، {في مرية من لقاء ربهم} في الدنيا، بحصول الفناء، فيفنى وجود العبد في وجود الحق، ألا إنه بكل شيء محيط، فبحر العظمة أحاط بكل شيء، وأفنى كل شيء، ولم يبقَ مع وجوده شيء.
وفي الحِكَم: ما حجبك عن الله وجود موجود معه؛ إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهُّم موجود معه وقال أيضاً: الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته، فأحدية الذات محت وجودَ الأشياء كلها، ولم يبقَ إلا القديم الأزلي.
وقال القطب ابن مشيش لأبي الحسن رضي الله عنه: يا أبا الحسن، حدّد بصر الإيمان تجد الله في كل شيء، وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وفوق كل شيء، وتحت كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقُرب هو وصفه، وبحيطة هي نعته، وعَد عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة والقرب في المسافات، وعن الدور بالمخلوقات، وأمحق الكل بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو هو هو، كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان. اهـ.
وقوله: وعد عن الحجهات، جاوز عن اعتقادها؛ إذ لا ظرف، ولا حد، ولا مكان، ولا جهة، إذ الكل عظمة ذاته، وأنوار صفاته، والحد إنما يتصور في المحدود، ولا حد لعظمة ذاته ولا نهاية، ولا يحصرها مكان، ولا جهة؛ إذ الكل منه وإليه. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، عين بحر التحقيق، وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليماً.

.سورة الشورى:

.تفسير الآيات (1- 5):

{حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {حم. عسق} يُشير والله أعلم بكل حرف إلى وصف يدلّ على تعظيم قدر حبيبه صلى الله عليه وسلم، فالحاء: أحبَبْنَاك، أو: حبيْناك، أي: أَعطيناك الملك والملكوت، والميم: ملَّكناك، والعين: عَلَّمناك ما لم تكن تعلم، أو: عيّناك للرسالة، والسين: سيّدناك، والقاف: قرّبناك. {كذلك يُوحِي إِليك} أي: كما خصصناك بهذه الخصائص العظام أوحينا إليك {وإِلى الذين مِن قبلك}، فقد خصصناهم ببعض ذلك، وأوحينا إليهم، وفي ابن عطية: عن ابن عباس: أن هذه الحروف بأعيانها نزلت في كل كتب الله، المنزلة على كل نبيّ أُنزل عليه كتاب، ولذلك قال تعالى: {كذلك يُوحي إليك وإلى الذين من قبلك}. وقال القشيري: الحاء: مفتاح اسمه حكيم وحفيظ، والميم: مفتاح اسمه مالك وماجد ومؤمن ومهيمن، والعين: مفتاح اسمه عليم وعليّ، والسين: مفتاح اسمه سيد وسميع وسريع الحساب، والقاف: مفتاح اسمه قادر وقاهر وقريب وقدوس، أقسم الله تعالى بهذه الحروف أنه كذلك يُوحي إليك يا محمد. اهـ.
وقال ابن عطية: وإنما فصلت {حم عسق}، ولم يفعل ذلك ب {كهيعص}؛ لتجري هذه مجرى الحواميم أخواتها. اهـ. زاد النسفي: وأيضاً: هذه آيتان، و{كهيعص} آية واحدة. اهـ. فانظره.
{اللهُ} أي: يوحي الله {العزيزُ الحكيمُ}: فاعل {يُوحي}، وقرأ ابن كثير بالبناء للمفعول. و{الله}: فاعل بمحذوف، كأن قائلاً قال: مَن المُوحِي؟ فقال: {الله العزيز الحكيم} أي: الغالب بقهره، الحكيم في صنعه وتدبيره.
{له ما في السماوات وما في الأرض} مُلكاً وملِكاً، {وهو العليُّ} شأنه {العظيمُ} سلطانه وبرهانه.
ثم بيّن عظمته، فقال: {يكادُ السماواتُ يتفطَّرْنَ من فوقهن}؛ تتشققن من عظمة الله تعالى وعلو شأنه، يدلّ عليه مجيئه بعد قوله: {وهو العلي العظيم}. وقيلَ: من دعائهم له ولداً، كقوله: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ} [مريم: 90] إلخ، ويؤيده: مجيء قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} [الشورى: 6]. وقرأ البصريّ وشبعة: {ينفطرن}، والأول أبلغ. ومعنى: {من فوقهن} أي: يبتدين بالانفطار من جهتهنّ الفوقانية. وتخصيصها على التفسير الأول؛ لأن أعظم الآيات وأدلها على العظمة والجلال من تلك الجهة، وأيضاً: استقرار الملائكة إنما هو من فوق، فكادت تنشق من كثرة الثِقل، كما في الحديث: «أطَّت السماء، وحُقّ لها أن تَئطَّ، ما فيها موضع قدم إلا وفيها ملك راكع أو ساجد».
وعلى الثاني للدلالة على التفطُّر من تحتهن بالطريق الأولى؛ لأن تلك الكلمة الشنعاء، الواقعة في الأرض حين أثرت في جهة الفوق فلأن تؤثر في جهة التحت أولى. وقيل: {من فوقهن}: من فوق الأرض، فالكناية راجعة إلى الأرض، من قوله: {له ما في السماوات وما في الأرض} لأنه بمعنى الأرضين.
{والملائكةُ يُسبِّحون بحمدِ ربهم} خضوعاً؛ لِمَا يرون من عظمته، {ويستغفرون لمَن في الأرض} أي: للمؤمنين منهم، خوفاً عليهم من سطواته، ويُوحدون اللهَ وينزهونه عما لا يليق به من الصفات، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه، متعجبين لما رأوا من تعرُّض الكفرة لسخط الله تعالى. ويستغفرون لمؤمني أهل الأرض، الذين تبرؤوا من تلك الكلمات، {ألا إِنَّ اللهَ هو الغفورُ الرحيمُ} حيث لا يعاجلهم بالعقوبة على ما وصفوه به مما لا يجوز عليه.
الإشارة: حم عسق، الحاء تُشير إلى حمده لأوليائه، وتنويهه بقدرهم، والميم إلى تمليكهم التصرُّف في حس المُلك، وأسرار الملكوت، والعين إلى علو رتبتهم، أو إلى علومهم اللدنية، والسين إلى سيادتهم وسَنَا نورهم وسرهم، والقاف إلى قُربهم وتقريبهم حتى يمتحق وجودهم في وجود محبوبهم، فيمتحي القرب من شدة القرب، وبذلك صاروا مقربين. والوحي ينقسم إلى أربعة أقسام؛ وحي أحكام، ووحي منام، ووحي إلهام، ووحي إعلام، فاختصت الأنبياء بالأول، وشاركتهم الأولياء في الثلاثة. ووحي إعلام هو إطّلاعهم على بعض المغيبات.
وقوله تعالى: {يكاد السماوات يَتَفَطَّرن} أي: يتشققن من هيبته تعالى وكبريائه. وذلك لما لطُف حسها أدركت هيبة معاني أسرار الذات، وكذلك الأرواح؛ إذا لطفت ورقّ حسن بشريتها أدركت عظمة الحق وجلاله وجماله، وإذا كثفت بشريتها، بمباشرة الحس واتباع الهوى، غلظ حجابها، فبعدت عن حضرة الحق في حال قربها. وقوله تعالى: {ويستغفرون لمَن في الأرض}، انظر جلالة قدر هذا الآدمي، حتى سخَّر الله له الملائكة الكرام يستغفرون له، ويسعون في مصالحه، فاستحِي من الله أيها العبد، إن كان لك عقل وتمييز.

.تفسير الآيات (6- 9):

{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)}
قلت: {وكذلك}: الكاف في محل النصب على المصدر، و{قرآناً}: مفعول {أوحينا}.
يقول الحق جلّ جلاله: {والذين اتخذوا من دونه أولياء}؛ شركاء، يُوالونهم بالعبادة والمحبة {اللهُ حفيظ عليهم}: رقيب على أحوالهم وأعمالهم، فيجازيهم بها، {وما أنت عليهم بوكيلٍ}؛ بموكّل عليهم، تجبرهم على الإيمان، ثم نسخ بالجهاد. أو: ما أنت بموكول إليك أمرهم، وإنما وظيفتك الإنذار بما أوحينا إليك.
{وكذلك أوحينا إِليك قرآناً عربيّاً} أي: ومثل ذلك الإيحاء البديع الواضح أوحينا إليك قرآناً عربيّاً، لا لبس فيه عليك ولا على قومك، {لِتُنذِر أُمَّ الْقُرَى} أي: أهلها، وهي مكة؛ لأن الأرض دحيت من تحتها، أو: لأنها أشرف البقع، {و} تُنذر {مَنْ حولها} من العرب أو من سائر البلاد. قال القشيري: وجميعُ العالَم مُحْدِقٌ بالكعبة؛ لأنها سُرَّةُ الأرضِ. اهـ.
{وتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ}؛ يوم القيامة؛ لأنه تجمع فيه الخلائق، وفيه تجمع الأرواح والأشباح. وحذف المفعول الثاني من {تُنذر} الأول للتهويل، أي: لتنذر الناس أمراً فظيعاً تضيق عنه العبارة، {لا ريبَ فيه}؛ لا شك في وقوع ذلك اليوم، {فريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير} أي: بعد جمعهم في الموقف يفترقون، فريق يُصرف إلى الجنة، وفريق إلى السعير بعد الحساب، والتقدير: فريق منهم في الجنة. والجملة: حال، أي: وتنذر يوم الجمع متفرقين.
{ولو شاء اللهُ لجعلهم} في الدنيا {أمة واحدة} إما مهتدين كلّهم، أو ضالين، {ولكن يُدْخِلُ مَن يشاء في رحمته} أي: ويُدخل مَن يشاء في عذابه، يدلّ عليه ما بعده، ومن ضرورة اختلاف الرحمة والعذاب: اختلاف الداخلين فيهما، فلم يشأ جعل الكل أمة واحدة، بل جعلهم فريقين، فيسَّر كلاًّ لمَن خُلق له. {والظالمون ما لهم من وَليٍّ ولا نصير}؛ والكافرون ما لهم من شافع ولا دافع.
قال أبو السعود: والذي يقتضيه سياق النظم أن يُراد بقوله: {أمة واحدة} الاتحاد في الكفر، كما في قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً...} [البقرة: 213] الآية، على أحد الوجهين، بأن يُراد بهم الذين هم في فترة إدريس، أو فترة نوح. ولو شاء لجعلهم أمة واحدة متفقة على الكفر، بأن لا يُرسل إليهم رسولاً ليُنذرهم ما ذكر من يوم الجمع، وما فيه من ألوان الأهوال، فيبقوا على ما هم عليه من الكفر، ولكن يُدخل مَن يشاء في رحمته إن شاء ذلك، فيُرسل إلى الكل مَن ينذرهم، فيتأثر بعضهم بالإنذار؛ فيعرفون الحق؛ فيوفقهم الله تعالى للإيمان والطاعة، ويُدخلهم في رحمته، ولا يتأثر به الآخرون، ويتمادى في غيهم، وهم الظالمون، فيبقون في الدنيا على ما هم عليه، ويصيرون في الآخرة إلى السعير، من غير وليٍّ يلي أمرهم، ولا نصيرٍ يُخلصهم من العذاب. اهـ.
{أَم اتخذوا من دونه أولياءَ}، هذه جملة مقررة لِما قبلها، من انتفاء أن يكون للظالمين وَليّ ولا نصير. و{أم}: منقطعة، وما فيها من الإضراب للانتقال من بيان ما قبلها إلى بيان ما بعدها. والهمزة لإنكار الوقوع ونفيه على أبلغ وجه، أي: ليس المتخَذون أولياء، ولا ينبغي اتخاذ وليّ سواه. وقوله: {فالله هو الوليُّ}: جواب عن شرط مقدّر، كأنه قيل بعد إبطال ما اتخذوه أولياء من الأصنام: إن إرادوا ولياً في الحقيقة فالله هو الوليّ، لا وليّ سواه. {وهو يُحيي الموتى} أي: ومن شأنه إحياء الأموات، {وهو على كل شيءٍ قديرٌ} فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً، فليخصُّوه بالاتخاذ، دون مَن لا يقدر على شيء. وبالله التوفيق.
الإشارة: قال القشيري: كلُّ مَن تبع هواه، وترك لله حدّاً، أو نقض له عهداً؛ فهو ممن اتخذ الشيطانَ وليّاً، فالله يَعلمه، لا يخفى عليه أمره، وعلى الله حسابه، ثم إن شاء عَذَّبه، وإن شاء غَفَرَ له. اهـ. فيقال للواعظ أو الداعي إلى الله: لا تأسَ عليهم إن أدبروا، الله حفيظ عليهم، وما أنت عليهم بوكيل. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الله، يُنذر الناس بالقرآن، فمَن تبعه كان من أهل الجنة، ومَن خالفه كان من أهل السعير، وبقي خلفاؤه من بعده، العلماء بالله، الذين يُذكِّرون الناس، ويدلونهم على الله، فمَن صَحِبَهم وتبعهم كان من أهل الجنة؛ جنة المعارف، أو الزخارف، أو هما، ومَن انحرف عنهم كان من أهل السعير، نار القطيعة أو الهاوية.
قال القشيري: كما أنهم اليومَ فريقان؛ فريق في درجات الطاعات وحلاوة العبادات أو المشاهدات، وفريق في ظلمات الشِّركِ وعقوبات الجحد، فكذلك غداً، فريقٌ هم أهل اللقاء، وفريق هم أهل الشقاء. {ولو شاء الله} أي: أراد أن يجمعهم كلهم على الرشاد لم يكن مانع. اهـ.
وقوله تعالى: {فاللهُ هو الوليُّ} تحويش إلى التوجُّه إلى الله، ورفض كل ما سواه، كما قال بعضهم: اتخذ الله صاحباً، ودع الناس جانباً، فكل مَن والى غيرَ الله تعالى خذله، ومن حُبه أبعده.