فصل: تفسير الآيات (17- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (17- 19):

{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)}
يقول الحق جلّ جلاله: {اللهُ الذي أنزل الكتابَ}؛ القرآن، أو: جنس الكتاب، {بالحق}؛ ملتبساً بالحق في أحكامه وأخباره، أو: بما يحق إنزاله من العقائد والأحكام، {والميزانَ}؛ وأنزل العدل والتسوية بين الناس، أي: أنزله في كتبه المنزلة، وأمر به، أو: الشرع الذي يُوزن به الحقوق، ويساوي بين الناس. وقيل: هو عين الميزان، أي: الآلة، أنزله في زمن نوح عليه السلام. {وما يُدريكَ} أيَّ شيء يجعلك عالماً {لعلَّ الساعةَ} التي أخبر بها الكتاب الناطق بالحق {قريبٌ} مجيئها. وضمّن الساعة معنى البعث فذكر الخبر، وقيل: وجه المناسبة في ذكر الساعة مع إنزال الكتاب: أن الساعة يقع فيها الحساب ووضع الموازين بالقسط، فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية، والعمل بالشرائع، فاعملوا بالكتاب والعدل قبل أن يفاجئكم يوم حسابكم، ووزن أعمالكم.
{يستعجلُ بها الذين لا يؤمنون بها} استعجال إنكار واستهزاء، {والذين آمنوا مُشْفِقُون}؛ خائفون {منها} وجلون؛ لهولها، {ويعلمون أنها الحقُّ} الكائن لا محالة، {أَلا إِنَّ الذين يُمارون في الساعة}؛ يجادلون فيها، من: المرية، أو: المماراة والملاحاة، أو: من: مريت الناقة: إذا مسحت ضرعها بشدة للحلب؛ لأن كُلاًّ من المتجادلين يُخرج ما عند صاحبه بكلام فيه شدة. {لفي ضلالٍ بعيدٍ} عن الحق؛ لأن قيام الساعة أظهر من كل ظاهر، وقد تواترت الشرائع على وقوعها، والعقول تشهد أنه لابد من دار الجزاء، وإلا كان وجود هذا العالم عبثاً.
{اللهُ لطيف بعباده} أي: برٌّ بهم في إيصال المنافع ودفع المضار، أوصل لهم من فنون الألطاف ما لا تكاد تناله أيدي الأفكار والظنون. وقيل: هو مَن لطُف بالغوامض علمه، وعظُم عن الجرائم حلمه، أو: مَن ينشر المناقب ويستر المثالب، أو: يعفو عمَّن يهفو، أو: مَن يعطي العبد فوق الكفاية، ويكلّفه من الطاعة دون الطاقة. وقال شيخ شيوخنا، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه: الظاهر حمل العباد على ما اصطفاه، بدليل الإضافة المفيدة للتشريف، وأنه تعالى لطيف بهم رفيق، ومن ذلك: حمايتهم من الدنيا، ومما يطغى من الرزق، وعليه ينزل قوله: {يرزق مَن يشاء}. اهـ. أي: يرزق على حسب مشيئته، المبنية على الحِكَم البالغة. وفي الحديث: «إِن من عبادي مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإِنَّ من عبادي المؤمنين مَن لا يُصْلِحُ إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسده ذلك».
وأما قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] فهو وعد لجميع الخلق، وهو مبني على المشيئة المذكورة هنا، فلا منافاة بينهما، خلافاً لابن جزي؛ لأن المشيئة قاضية على ظاهر الوعد، ولا يقضي ظاهر الوعد عليها. انظر الحاشية.
{وهو القويُّ}؛ الباهر القدرة، الغالب على كل شيء، {العزيزُ} المنيع؛ الذي لا يُغْلَب.
الإشارة: الميزان هو العقل؛ إذ به تعرف الأشياء ومقاديرها، نافعها وضارها. فالعقول متفاوتة كالموازين، فبعض الموازين لرقته لا يُوزن فيها إلا الشيء الرفيع، كالذهب، والإكسير، والفضة، والطيب الرفيع، وبعضها يصلح لوزن الأشياء اللطيفة، دون الخشينة، كميزان العطار وشبهه، وبعضها يصلح للأشياء الخشينة المتوسطة، كميزان الغزالين والحاكة، وبعضها لا يصلح إلا للخشين، كالفحم وشبه، وبعضها لا يصلح إلا للخشين الكثير، كالذي يُوزن به القناطير من الشيء الخشين، فالأول عقول العارفين، لا يوزن فيها إلا أنوار التوحيد وأسرار التفريد، لا يصلح لغيرها، والثاني للعباد، والزهّاد، والعلماء الصالحين، والثالث للمتجمدين من العلماء، والرابع لعامة المؤمنين، والخامس للفجار والكفار، وفيهم نزل: {يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها...} الآية، وما قبله هو قوله: {والذين آمنوا مشفقون منها}.
وقوله تعالى: {اللهُ لطيف بعباده}، اعلم أن لطفه سبحانه بعباده لا ينحصر ولا ينفك عنه مخلوق، مَن ظنَّ انفكاك لطف الله عن قدره فذلك لقصور نظره، فمِن لطفه سبحانه بخلقه: أنه أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة. ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق، فلو تفكّر الإنسان في اللقمة التي توضع بين يديه، ماذا عمل فيها من العوالم العلوية والسفلية؛ لتحقق بغاية عجزه، وتيقن بوجود لطفه، وكذا ما يحتاج إليه من مشروب، وملبوس، ومطعوم. ومن لطفه سبحانه: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات. ومن لطفه سبحانه: حفظ التوحيد في القلوب، واطلاعها على مكاشفة الغيوب، وصيانة العقائد عن الارتياب، وسلامة القلوب عن الاضطراب. ومن لطفه سبحانه: إيهام العاقبة؛ لئلا يتكلموا أو ييأسوا. ومن لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه؛ لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله. ومن لطفه سبحانه بخواصه: ستر عيوبهم، ومحو ذنوبهم، حتى وصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، فكشف لهم عن أسرار ذاته، وأنوار صفاته، فشاهدوه جهراً، وعبدوه شكراً.

.تفسير الآية رقم (20):

{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}
يقول الحق جلّ جلاله: {مَن كان يُريد حرثَ الآخرةِ}، سُمِّي ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة المستقبلة حرثاً، مجازاً؛ لأن الحرث: إلقاء البذر في الأرض لننظر نتاجه، فأطلقه على العمل، لجامع حصول النتاج، أي: مَن كان يريد بأعماله ثواب الآخرة {نَزِدْ له في حَرْثِه}؛ نضاعف له ثوابه، الواحدة بعشر إلى سبعمائة فما فوقها، أو: نَزِدْ له في توفيقه وإعانته، وتسهيل سبيل الخيرات والطاعات عليه. {ومَن كان يريد} بأعماله {حَرْثَ الدنيا} وهو متاعها وطيباتها {نُؤْتِهِ منها} أي: شيئاً منها، حسبما قسمناه له، لا ما يريده ويبتغيه، {وما لهُ في الآخرة من نصيبٍ} إذا كانت همته مقصورة على الدنيا. ولم يذكر في عامل الآخرة أن رزقه المقسوم يصل إليه، للاستهانة بذلك إلى جنب ما هو بصدده، من زكاء أعماله، وفوزه في المآب؛ لأن ما يُعطى في الآخرة يستحقر أن يُذكر معه غيره من الدنيا.
الإشارة: قد مرّ مِراراً ذم الدينا وصرف الهمة إليها، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في بعض خطبه: «أيها الناس، أَقبِلوا على ما كلفتموه من صالح آخرتكم، وأَعْرِضوا عما ضُمِنَ لكم من أمر دنياكم، ولا تشغلوا جوارحكم جوارح غذيت بنعمته في التعرُّض لخطأ بمعصيته، واجعلوا شغلكم بالتماس معرفته، واصرفوا هممكم إلى التقرُّب بطاعته، إنه مَن بدأ بنصيبه من الدنيا فاته نصيبُه من الآخرة، ولم يدرك منها ما يريد، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد».
قال الورتجبي: حرث الآخرة: مشاهدته ووصاله وقربه، وهذا للعارفين، وحرث الدنيا: كرامات الظاهر، ومَن شغلته الكرامات احتجب بها عن الحق. ثم قال: عن بعضهم: مَن عَمِل لله محبة له، لا طلباً للجزاء، صغر عنده كل شيء دون الله، فلا يطلب حرث الدنيا، ولا حرث الآخرة، بل يطلب الله من الدنيا والآخرة. ثم قال: حرث الدنيا: قضاء الوطر منها، والجمع منها، والافتخار بها، ومَن كان بهذه الصفة فما له في الآخرة من نصيب. اهـ. وقال بعض الشعراء في هذا المعنى:
يا مؤثرَ الدنيا على دينه ** ومشترٍ دنياه بالآخره

بعتَ الذي يبقى بما ينقضي ** تبّاً لها من صفقة خاسره

.تفسير الآيات (21- 23):

{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)}
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...}
يقول الحق جلّ جلاله: {أم لهم شركاءُ شرعوا لهم من الدين}، {أم}: منقطعة، أي: بل ألهم شركاء، أو: معادلة لمحذوف، تقديره: أقبلوا ما شرعت لهم من الدين، أم لهم آلهة شرعوا من الدين {ما لم يأذن به اللهُ} أي: لم يأمر به، {ولولا كلمةُ الفصل} أي: القضاء السابق بتأخير الجزاء، أي: ولولا العِدة بأن الفصل يكون يوم القيامة {لقُضِيَ بينهم}؛ بين الكفار والمؤمنين. أو: لعجلت لهم العقوبة. {وإِنَّ الظالمين لهم عذابٌ أليمٌ}؛ وإن المشركين لهم عذاب أليم في الآخرة، وإن أخّر عنهم في دار الدنيا.
{ترى الظالمينَ}؛ المشركين في الآخرة {مُشفقينَ}؛ خائفين {مما كسبوا}؛ من جزاء كفرهم، {وهو واقع}؛ نازل {بهم} لا محالة، أشفقوا أم لم يُشفقوا. {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجناتِ} كأنّ روضة جنة المؤمن أطيب بقعة فيها وأنزهها، فالروضات: المواضع المونقة النضرة، فهم مستقرون في أطيب بقعها وأنزهها. {لهم ما يشاؤون عند ربهم} أي: ما يشتهون من فنون المستلذات حاصل لهم عند ربهم، {ذلك هو الفضلُ الكبير} الذي لا يُقادر قدره، ولا يبلغ غايته على العمل القليل، فضلاً من الكبير الجليل.
{ذلك الذي يُبَشِّرُ اللهُ} تعالى، {عبادَه} فحذف عائد الموصول. ويقال: بشَّر وبشر، بالتشديد والتخفيف، وقرئ بهما. ثم وصف المبشرين بقوله: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} دون غيرهم.
الإشارة: كل مَن ابتدع عملاً خارجاً عن الكتاب والسنّة فقد شرع من الدين، ما لم يأذن به الله، فينسحب عليه الوعيد، لقوله صلى الله عليه وسلم: «مَن سنَّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم القيامة».
وقوله تعالى: {والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضاتِ الجنات} قال القشيري: في الدنيا جنة الوصلة، ولذاذة الطاعة والعبادة، وطيب الأُنْسِ في أوقات الخلوة، وفي الآخرة في روضات الجنات، إن أرادوا دوامَ اللطفِ دامَ لهم، وإن أرادوا تمامَ الكشف كان لهم. اهـ.
ولمَّا كان من شأن المبشر بالخير أن يلتمس الأجر، نزّه نبيه عن ذلك، فقال: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ}.
يقول الحق جلّ جلاله: {قل} يا محمد {لا أسألكم عليه}؛ على التبليغ {أجراً}. رُوي أنه اجتمع المشركون في مجمع لهم، فقال بعضهم لبعض: أترون أن محمداً يسأل على ما يتعاطاه أجراً؟ فنزلت.
أي: لا أسألكم على التبليغ والبشارة أجراً، أي: نفعاً {إِلا المودَة في القربى}؛ إلا أن تودوا أهل قرابتي، ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعاً، أي: لا أسألكم أجراً قط، ولكن أسألُكم أن تودُّوا قرابتي التي هم قرابتكم، ولا تؤذوهم. ولم يقل: إلا مودّة القربى، أو: المودة للقربى؛ لأنهم جُعلوا مكاناً للمودة، ومقرّاً لها، مبالغة، كقولك: لي في مال فلان مودة، ولي فيهم حبّ شديد، تريد: أحبهم، وهم مكان حبي ومحله. وليست {في} بصلة للمودة كاللام، إذا قلت: إلا المودة للقربى، وإنما هي متعلقة بمحذوف، تعلُّق الظرف. به والتقدير: إلا المودة ثابتة في القربى، ومتمكنة فيها. والقربى: مصدر، كالزلفى والبشرى، بمعنى القرابة. والمراد: في أهل القربى.
رُوي أنه لما نزلت قيل: يا رسول الله! مَن أهل قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة وابناهما» وقيل: معناه: إلا أن تودّوني لقرابتي فيكم، ولا تؤذوني، إذ لم يكن بطن من بطون قريش إلا وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم قرابة. وقيل: القربى: التقرُّب إلى الله تعالى، أي: إلا أن تحبُّوا الله ورسوله في تقرُّبكم إليه بالطاعة والعمل الصالح.
{ومن يقترفْ} أي: يكتسب {حسنةً} أيّ حسنة كانت، فيتناول مودة ذي القربى تناولاً أولياً. وعن السدي: أنها المرادة، قيل: نزلت في الصدّيق رضي الله عنه ومودته فيهم، والظاهر: العموم، {نزدْ له فيها حُسْناً} أي: نضاعفها له في الجنة. {إِن الله غفور} لمَن أذنب بِطَوْلِه {شَكورٌ} لمَن أطاع بفضله، بتوفية الثواب والزيادة، أو: غفور: قابل التوبة، شكور: حامل عليها.
الإشارة: محبة أهل البيت واجبة على البشر، حرمةً وتعظيماً لسيد البشر، وقد قال: «مَن أَحبهم فبحبي أُحبهم، ومَن أبغضهم فببغضي أبغضهم» فمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الإيمان، وعقد من عقوده، لا يتم الإيمان إلا بها، وكذلك محبة أهل بيته. وفي الحديث صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحبني، ولا يحبني حتى يحب ذوي قرابتي، أنا حرْب لمَن حاربهم. وسلْم لمَن سالمهم، وعدوٌّ لمَن عاداهم، ألا مَن آذى قرابتي فقد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله تعالى» وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام: «إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلُّوا، كتابُ الله تعالى وعترتي»، فانظر كيف قرنهم بالقرآن في كون التمسُّك بهم يمنع الضلال.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومَن مات على حب آل محمد بدّل الله له زوار قبره ملائكة الرحمة، ألا ومَن مات على حب آل محمد مات على السنّة والجماعة، ألا ومَن مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينية: آيس من رحة الله»
انظر الثعلبي. زاد بعضهم: ولو عصوا وغيّروا في المذهب؛ فنكره فعلَهم ونحب ذاتهم. قال الشيخ زروق في نصيحته: وما ينزل بنا من ناحيتهم نعدّه من القضاء النازل. اهـ.
وفي همزية البوصيري رحمه الله:
آلَ بيتِ النبيِّ إِنَّ فؤادِي ** ليسَ يُسْلِيهِ عَنكم التَّأسَاء

وقال آخر:
آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبَّكُمُ ** فَرْضٌ من الله في القرآنِ أَنْزَلَهُ

يَكْفِيكُمُ من عظيمِ المجدِ أَنَّكُم ** مَنْ لَم يُصَلِّ عليكم لا صَلاَةَ لَهُ

وقوله تعالى: {ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناً}، الزيادة في الدنيا بالهداية والتوفيق، وفي الآخرة بتضعيف الثواب وحسن الرفيق. قال القشيري: إذا أتانا بالمجاهدة زدناه بفضلنا تحقيق المشاهدة. ويقال: مَن يقترفْ حسنةَ الوظائف نَزِدْ له حُسْنَ اللطائف. ويقال: الزيادة ما لا يصل إليه العبد بوسيلة، مما لا يدخل تحت طَوْقِ البشر. اهـ.

.تفسير الآيات (24- 26):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26)}
يقول الحق جلّ جلاله: {أم يقولون} أي: بل أيقولون {افْتَرى} محمد {على اللهِ كذباً} في دعوة النبوة، أو القرآن؟ والهمزة للإنكار التوبيخي، كأنه قيل: أيمكن أن ينسبوا مثله عليه الصلاة والسلام للافتراء، لاسيما لعظم الافتراء، وهو الافتراء على الله، فإن الافتراء إنما يُسام به أبعد خلق الله، ومَن هو عرضة للختم والطبع، فالعجب ممن يفوه به في جانب أكرم الخلق على الله.
{فإِن يشإِ يختمْ على قلبك}، هذا استبعاد للافتراء على مثله؛ لأنه إنما يجترئ على الله مَن كان مختوماً على قلبه، جاهلاً بربه، أمَّا مَن كان على بصيرة ومعرفة بربه، فلا، وكأنه قال: إن يشأ الله خذلانك يختم على قلبك، لتجترئ بالافتراء عليه، لكنه لم يفعل فلم تفتر. أو: فإن يشأ الله عدم صدور القرآن عنك يختم على قلبك، فلم تقدر أن تنطق بحرف واحد منه، وحيث لم يكن كذلك، بل تواتر الوحي عليك حيناً فحيناً؛ تبين أنه من عند الله تعالى. وهذا أظهر.
وقال مجاهد: إن يشأ يربط على قلبك بالصبر على أذاهم، وعلى قولهم: افترى على الله كذباً؛ لئلا تدخله مشقة بتكذيبهم. اهـ.
{ويَمْحُ اللهُ الباطلَ ويُحِقُّ الحقَّ بكلماته}، استئناف مقرر لنفي الافتراء، غير معطوف على {يختم} كما ينبئ عنه إظهار الاسم الجليل، وإنما سقطت الواو كما في بعض المصاحف لاتباع اللفظ، كقوله تعالى: {وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ...} [الإسراء: 11] مع أنها ثابتة في مصحف نافع. قاله النسفي. أي: ومن شأنه تعالى أن يمحق الباطل، ويثبت الحق بوحيه، أو بقضائه، كقوله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} [الأنبياء: 18]، فلو كان افتراء كما زعموا لمحقه ودمغه. أو: يكون عِدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه تعالى يمحو الباطل الذي هم عليه، ويثبت الحق الذي هو عليه صلى الله عليه وسلم بالقرآن، أو بقضائه الذي لا مرد له بنصره عليهم، وقد فعل ذلك، فمحا باطلهم، وأظهر الإسلام. {إِنه عليم بذاتِ الصدور} أي: عليم بما في صدرك وصدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك من المحو والإثبات.
{وهو الذي يقبل التوبةَ عن عباده}. يقال: قبلت الشيء منه: إذا أخذته منه، وجعلته مبدأ قبولك، وقبلتَه عنه، أي: عزلته وأبنته عنه. والتوبة: الرجوع عن القبيح بالندم، والعزم ألا يعود، ورد المظالم واجب غير شرط.
قال ابن عباس: لما نزل. {قل لا اسألكم عليه أجراً...} الآية. قال قوم في نفوسهم: ما يريد إلا أن يحثنا على أقاربه من بعده، فأخبر جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أنهم قد اتهموه، وأنزل: {أم يقولون افترى على الله كذباً...} الآية، فقال القوم: يا رسول الله؛ فإنا نشهد أنك صادق.
فنزل: {وهو الذي يقبل التوبة...}. اهـ.
قال أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أفرح بتوبة عبده المؤمن من الضال الواجد، ومن العقيم الوالد، ومن الظمآن الوارد، فمَن تاب إلى الله توبة نصوحاً أنسى الله حافظيه، ولو كانت بقاعُ الأرض خطاياه وذنوبه».
واختلف العلماء في حقيقة التوبة وشرائطها، فقال جابر بن عبد الله: دخل أعرابي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اللهم إني أستعيذك وأتوب إليك، سريعاً، وكبّر، فلما فرغ من صلاته، قال له عليّ: ما هذا؟ إن سرعة الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال: يا أمير المؤمنين، وما التوبة؟ قال: أسم يقع على ستة معانٍ: على الماضي من الذنوب الندامة، ولتضييع الفرائض الإعادة، ورد المظالم، وإذابة النفس في الطاعة، كما أذبتها في المعصية، وإذاقة النفس مرارة الطاعة، كما أذقتها حلاوة المعصية، والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
وعن السدي: هي صدقُ العزيمة على ترك الذنوب، والإنابة بالقلب إلى علاّم الغيوب. وعن سهل: هي الانتقالُ من الأحوال المذمومة إلى الأحوال المحمودة. وعن الجنيد: هي الإعراض عما سوى الله.
قال الله تعالى: {ويعفو عن السيئاتِ} وهو ما دون الشرك، يعفو لمَن يشاء بلا توبة، {ويعلم ما تفعلون} كائناً ما كان، من خير أو شر، حسبما تقتضيه مشيئته.
{ويستجيبُ الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: يستجيب لهم فحذف اللام كما في قوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ} [المطففين: 3] أي: يجيب دعوتهم، ويثيبهم على طاعتهم، أو: يستجيبون له بالطاعة إذا دعاهم إليها. قيل لإبراهيم بن أدهم: ما لنا ندعو فلا نُجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تُجيبوا. {ويَزِيدُهُمْ من فضله} على ما سألوه، واستحقوه بموجب الوعد. {والكافرون لهم عذابٌ شديد} بدل ما للمؤمنين من الفضل العظيم والمزيد.
الإشارة: قال الورتجبي: {أم يقولون افترى على الله كذباً} فيه تقديس كلامه، وطهارة نبيه صلى الله عليه وسلم عن الافتراء، وكيف يفتري وهو مصون من طريان الشك والريب والوساوس والهواجس على قلبه؟ وقال أيضاً: عن الواسطي: إن يشأ الله يختم على قلبك لكن ما يشاء، ويمح الله الباطل بنفسه ونعته، حتى يعلم أنه لا حاجة له إلى أحد من خلقه، ثم يحقق الحق في قلوب أنشأها للحقيقة.
قلت: في الآية تهديد لأهل الدعوى؛ لأنهم إن داموا على دعواهم الخصوصية بلا خصوصية؛ ختم الله على قلوبهم بالنفاق، ثم يمحو الله الباطل بأهل الحق والتحقيق، فتُشرق حقائقهم على ما يقابلها من البال فتدمغه بإذن الله وقضائه وكلماته.
وقوله تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عباده...} إلخ، لكل مقام توبة، ولكل رجال سيئات، فتَوبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من العيوب، وتوبة خواص الخواص من الغيبة عن شهود علاّم الغيوب.
وقوله تعالى: {ويعلم ما تفعلون} يشير إلى الحلم بعد العلم.
وقوله تعالى: {ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي: في كل ما يتمنون، {ويزيدهم من فضله} النظر إلى وجهه، ويتفاوتون فيه على قدر توجههم، ومعرفتهم في الدنيا. وذكر في القوت حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: {ويزيدهم من فضله} قال: «يُشفعهم في إخوانهم، فيدخلهم الجنة». اهـ. قال القشيري: ويقال: لمَّا ذكر أن التائبين يقبل توبتهم، ومَنْ لم يَتُبْ يعفو عن زلَّته، والمطيع يدخله الجنة، فلعله خطر ببال أحد: فهذه النار لمَن هي؟ فقال: {والكافرون لهم عذاب شديد}، ولعله يخطر بالبال أن العصاة لا عذاب لهم، فقال: {شديد} بدليل الخطاب أنه ليس بشديد. اهـ.