فصل: تفسير الآيات (27- 28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ولو بَسَطَ اللهُ الرزقَ لعباده} أي: لو أغناهم جميعاً {لَبَغوا في الأرض} أي: لتَكَبروا وأفسدوا فيها، بطراً، ولعلا بعضُهم على بعض بالاستعلاء والاستيلاء، لأن الغِنى مبطرة مفسدة، وكفى بحال قارون وفرعون عبرة. وأصل البغي: تجاوز الاقتصاد عما يجزي من حيث الكمية أو الكيفية. {ولكن يُنَزِّل بِقَدرِ} أي: بتقدير {ما يشاء} أن ينزله، مما تقضيه مشيئته. يقال: قدره وقدّره قدراً وتقديراً {إِنه بعباده خبير بصير}؛ محيط بخفايا أمورهم وجلاياها، فيقدر لكل واحد منهم ما يليق بشأنه، فيُفقر ويُغني، ويُعطى ويَمنع، ويقبض ويبسط، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية، ولو أغناهم جميعاً لَبَغوا في الأرض، ولو أفقرهم لهلكوا، وما ترى من البسط على مَن يبغي، ومِن البغي بدون البسط، فهو قليل، ولكن البغي مع الفقر أقلّ، ومع البسط أكثر وأغلب، فالحكمة لا تنافي بغي البعض بدفعه بالبعض الآخر، بخلاف بغي الجميع. {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ...} [الحج: 40] الآية.
وقال شفيق بن إبراهيم: {لو بسط الله الرزق لعباده} أي: لو رزق الله العباد من غير كسب {لبغوا}؛ طغوا وسَعَوا في الأرض بالفساد، ولكن شغلهم بالكسب والمعاش، رحمة منه. اهـ. أي: لئلا يتفرّغوا للفساد، ومثله في التنوير. وقال شيخ شيوخنا الفاسي العارف: والظاهر حمل العباد على الخصوص المصْطَفين من المؤمنين، فإنهم يحمون من الطغيان وبسط الرزق؛ لئلا يبغوا. اهـ.
وقال قتادة: كان يقال: خير الرزق: ما لا يطغيك، ولا يلهيك، فذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها». اهـ.
رُوي أن أهل الصُّفة تمنوا الغنى، فنزلت. وقيل: نزلت في العرب، كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، وإذا جدبوا انتجعوا. اهـ.
{وهو الذي يُنَزِّل الغيث} أي: المطر الذي يُغيثهم من الجدب، ولذا خصّ بالنافع منه، فلا يقال للمطر الكثير: غيث، {من بعد ما قنطوا}: يئسوا منه. وتقييد تنزيله بذلك، مع نزوله بدونه أيضاً؛ لمزيد تذكُّر كمال النعمة. {وينشُرُ رحمتَه} أي: بركات الغيث ومنافعه، وما يحصل به من الخصب في كل مكان، من السهل، والجبل، والنبات، والحيوان. أو: رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر وغيره. {وهو الوليُّ} الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة، {الحميدُ}؛ المستحق للحمد على ذلك، لا غيره.
الإشارة: عادته تعالى مع أوليائه أن يعطيهم ما يكفيهم بعد الاضطرار، ويمنعهم منه فوق الكفاية؛ لئلا يشغلهم بذلك عن حضرته، وفي الحديث: «إن الله يحمي عبده المؤمن أي: مما يضره الدنيا وغيرها كما يحمي الراعي الشفيق غنمه من مراتع الهلكة» وفي حديث آخر: «إذا أحبّ الله عبداً حماه الدنيا كما يحمي أحدكم سقيمه الماء»
ورَوى ابن المبارك، عن سعيد بن المسيب قال: جاء رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني يا رسول الله بجلساء الله يوم القيامة؟ فقال: «هم الخائفون، الخاضعون، المتواضعون، الذاكرون كثيراُ» فقال: يا رسول الله؛ فهم أول الناس يدخلون الجنة؟ قال: «لا» قال: فمَن أول الناس دخولاً الجنة؟ قال: «الفقراء يسبقون الناس إلى الجنة، فيخرج إليهم ملائكة، فيقولون: ارجعوا إلى الحساب، فيقولون: علام نحاسب؟ والله ما أفيضت علينا الأموال فنفيض فيها، وما كنا أمراء نعدل ونجور، ولكنا جاءنا أمره فعبدنا حتى أتانا اليقين». اهـ.
قوله: {وهو الذي يُنزل الغيث...} الآية، كما ينزل غيث المطر على الأرض الميتة، ينزل أمطار الواردات الإلهية على القلوب الميتة، فتحيا بالذكر والمعرفة، بعد أن أيست من الخصوصية.
قال القشيري: بعد كلام: وكذلك العبد إذا ذَبُلَ غُصْنُ وقته، وتكَدَّرَ صَفْو ودّه؛ وكسفت شمس أُنسِه، وبَعُدَ عن الحضرةِ وساحاتِ القرب عَهْدُه، فربما ينظر إليه الحقُّ نظر رحمة، فينزل على سِرِّه أمطارَ الرحمة، ويعود عودُه طريّاً، ويُنْبِتُ في مشاهد أُنْسِه ورداً جَنِياً، وأنشدوا في المعنى:
إنْ راعني منك الصُدود ** فلعلَّ أيامي تعود

ولعل عهدك باللِّوى ** يحيا فقد تحيا العهود

والغُصن ييبس تارةً ** وتراه مُخْضرّاً يميد

وقوله تعالى: {وهو الوليّ} قال القشيري في شرح الأسماء: الولي هو المتولي لأحوال عباده، وقيل معناه: المناصر، فأولياء الله أنصار دينه، وأشياع طاعته، والوليّ في صفة العبد: هو مَن يواظب على طاعة ربه، ومن علامات مَن يكون الحق سبحانه وليَّه: أن يصونه ويكفيه في جميع الأحوال، ويؤمنه، فيغار على قلبه أن يتعلق بمخلوق في دفع شر أو جلب نفع، بل يكون سبحانه هو القائم على قلبه في كل نَفَس، فيحقق آماله عند إشارته، ويجعل مآربه عند خطراته. ومن أمارات ولايته لعبده: أن يديم توفيقه، حتى لو أراد سوءاً، أو قصد محظوراً، عصمه من ارتكابه. ثم قال: ومن أمارات ولايته: أن يرزقه مودة في قلوب أوليائه. اهـ. قلت: جعل مآربه عند خطراته: ليس شرطاً؛ لأن هذا من باب الكرامة، ولا يشترط ظهورها عند المحققين. ورَوى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم عن جبريل، عن ربه عزّ وجل قال: «مَن أهان لي وليّاً فقد بارزني بالمحاربة، وإني لأسرع شيء إلى نصرة أوليائي، وإني لأغضب لهم، كما يغضب الليث الحَرِد» انظر بقية الحديث في الثعلبي.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ومن آياته} الدالة على باهر قدرته ووحدانيته {خلقُ السماواتِ والأرض} على ما هما عليه من تعاجيب الصنعة، فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه العظيمة، {وما بثَّ} أي: فرّق {فيهما من دابةٍ}؛ من حي على الإطلاق، فأطلق الدابة على مطلق الحيوان، ليدخل الملائكة. أو: ما يدب على الأرض، فإن ما يختص أحد الشيئين المجاورين يصح نسبته إليهما، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] وإنما يخرج المرجان من الملح، ولا يبعدُ أن يخلق الله في السموات حيواناً يمشون مشي الأناسيّ على الأرض، أو: يكون للملائكة مشي مع الطيران، فوصفوا بالدَّبيب لذلك. {وهو على جَمْعِهم} أي: حشرهم بعد البعث للحساب {إِذا يشاء} أي: في الوقت الذي يشاء {قديرٌ} لا يعجزه شيء.
الإشارة: مِن تعرفاته: إظهار السموات والأرض، وهذه رسوم المعاني، وما بثّ فيهما من دابة، وهذه أشكال توضح أسرار المعاني، فإذا قبضت المعاني محيت الرسول والأشكال. وقوله تعالى: {وهو على جمعهم إذا يشاء قدير}، قال القشيري: الإشارة في هذا: أنَّ الحقَّ تعالى يغار على أوليائه أن يَسْكنَ بعضُهم بقلبه إلى بعض، فأبداً يُبَدّدُ شملهم، ولا يكاد تتفق الجماعة من أهل القلوب إلا نادراً، وذلك أيضاً مدة يسيرة، كما أنشدوا:
رمى الدهرُ بالفتيان حتى كأنَّهم ** بأكنافِ أطرافِ السماء نجومُ

وقد يتفضَّل تعالى باجتماعهم في الظاهر، وذلك وقت نظر الحقّ بفضله إلى العالَم، وفي بركات اجتماعهم حياةُ العالَم، وإذ كان قادراً فهو على جمعهم إذا يشاء قدير. اهـ.
قلت: مما جرت به عادة الله تعالى في أوليائه: أنه لا يجتمع في موضع واحد منهم اثنان فأكثر إلا قام أحدهما بالآخر، ويفقد نظامهما، فلا تكاد تحد أهل النور القوي إلا متباعدي الأوطان، لئلا يطفي نور إحداهما نورَ الآخر، وقد يجتمعون نادراً في وقت مخصوص، وذلك وقت النفحات. كما تقدّم للقشيري.

.تفسير الآيات (30- 31):

{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)}
يقول الحق جلّ جلاله: {وما أصابكم من مصيبةٍ} غمّ، أو ألم، أو مكروه {بما كسبتْ أيديكم} أي: بجنايةٍ كسبتموها، عقوبةً لكم. ومَن قرأ بالفاء؛ فما شرطية. ومَن قرأ بغيرها فموصلة. وتَعَلقَ بهذه الآية من يقول بالتناسخ، ومعناه عندهم: أن أرواح المتقدمين حين تموت أشباحها تنتقل إلى أشباح أُخر، فإن كانت صالحة انتقلت إلى جسم صالح؛ وإن كانت خبيثة انتقلت إلى جسم خبيث، وهو باطل وكفر. ووجه التعلُّق: أنه لو لم يكن للأطفال حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة لما تألّموا. ويجاب: بأن تألم الأطفال إما زيارة في درجات آبائهم إن عاشوا، أو في درجاتهم إن ماتوا؛ لأنهم يلحقون بآبائهم في الدرجة، ولا عمل لهم إلا هذا التألُّم. والله أعلم.
والآية مخصوصة بالمكلّفين بدليل السياق وهو قوله: {ويعفو عن كثير} أي: من الذنوب فلا يُعاقب عليها، أو: عن كثير من الناس، فلا يعاجلُهم بالعقوبة. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: «واللهُ أكرم من أن يُثَنّي عليكم العقوبة في الآخرة، وما عفا عنه فالله أحلم من أن يعود فيه بعد عفوه» وقال ابن عطاء: مَن لم يعلم أنَّ ما وصل إليه من الفتن والمصائب باكتسابه، وأن ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربه إليه. وقال محمد بن حامد: العبدُ ملازِمٌ للجنايات في كلّ أوان، وجناياته في طاعته أكثر من جناياته في معاصيه؛ لأن جناية المعصية من وجه، وجناية الطاعة من وجوه، والله يُطهِّر العبد من جناياته بأنواع من المصائب ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، ولولا عفوه ورحمته لهلك في أول خطوة.
وعن عليّ كرّم الله وجهه: هذه أرجى آيةٍ للمؤمنين في القرآن؛ لأنّ الكريمَ إذا عاقب مرةً لا يُعاقِب ثانياً، وإذا عفا لا يعود. اهـ. وقد تقدّم حديثاً. قال في الحاشية الفاسية: قلت: وإنما يعفو في الدنيا عما يشاء، ويؤخر عقوبة مَن شاء إلى الآخرة، فلا يلزم إبطال وعيد الآخرة. ثم الآية إما خاصة بالحدود، أو بالمجرم المذنب، وأما مَن لا ذنب له فما يُصيبه من البلاء اجتباء، وتخصيص، لا تمحيص. اهـ.
قلت: لكل مقام ذنب، حسنات الأبرار سيئات المقربين، فالتمحيص جار في كل مقام، وراجع ما تقدم عند قوله: {لَّقَد تَّابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ...} [التوبة: 117] وسيأتي عند قوله: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ...} [محمد: 19] ما يبين هذا. والله أعلم.
{وما أنتم بمعجزين في الأرض} أي: ما أنتم بفائتين ما قُضيَ عليكم من المصائب، وإن هجرتم في أقطارها كل مهرب، {وما لكم من دون الله من وليّ} متولِّ يحميكم منها {ولا نصيرٍ} يدفعها عنكم، أو يدفع عذابه إن حلّ.
الإشارة: إذا كان العبد عند الله في عين العناية أدّبه في الدنيا، ويبقى في حال قربه، وإذا كان عنده في عين الإهمال؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء، وربما استدرجه بالنعم في حال إساءته، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه في هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص؛ لم يستوحش منها، بل يفرح بها؛ إذ هي علامة العناية، وإذا كانت على أيدي الناس، لم يقابلهم بالانتصار، بل يعفو ويصفح؛ لعِلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى: {ويعفو عن كثير} هذا والله أعلم في حق العامة، وأما الخاصة؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب؛ ليرفع مقامهم، ويُكرم مثواهم.

.تفسير الآيات (32- 35):

{وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)}
يقول الحق جلّ جلاله: {ومن آياته} للدلالة على قدرته ووحدانيته {الجواري} السفن الجارية {في البحر كالأعلام}؛ كالجبال {إِن يشاء يسكن الرياح} التي تجريها. وقرئ بالإفراد. {فيَظْلَلن رواكدَ على ظهره}؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر، أي: غير جاريات لا غير متحركات أصلاً، {إِن في ذلك لآيات} عظيمة في أنفسها، كثيرة في العدد، دلالة على باهر قدرته {لكل صَبَّارٍ شكورٍ}؛ لكل مَن حبس نفسه عن الهوى، وصرف همته إلى النظر في آلائه، أو: لكل صبّار على بلائه، شكور لنعمائه، أي: لكل مؤمن كامل؛ فإن الإيمان نصفان: نصف شكر، ونصف صبر؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه، أو نفع يناله، فآداب الضر: الصبر، وآداب النفع: الشكر، وأيضاً: راكب السفن ملزوم، إما للمشقة أو السلامة، فالصبر والشكر لا زمان له. ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى؛ لأنهما لموصوف واحد.
{أو يُوبِقْهُنَّ} أي: يهلكهن، عطف على قوله: {يُسكنِ} أي: إن يشأ يُسكن الريح فيركدن، أو يعصفها فيغرقن بعصفها {بما كسبوا} من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهم مع أنه حال أهلهن؛ للمبالغة والتهويل، {ويعفُ عن كثيرٍ} منها، فلا يُجازي عليها، وإنما أدخل العفو في حكم الإيباق، حيث جُزم جزمَه؛ لأن المعنى: أو إن يشأ يُهلك ويُنج ناساً، على طريق العفو عنهم. وقرئ: {ويعفو} عن الاستئناف. {ويَعلَمَ الذين يجادلونَ في آياتنا} أي: في إبطالها وردها {ما لهم من محيصٍ}؛ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي، ومن نصب {يعلم} عطفه على عِلة محذوفة، أي: لينتقم منهم وليعلم، كما في قوله: {وَلِنَجْعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ} [مريم: 21]. وقيل غير ذلك. ومَن رفعه فعلى الاستئناف. وقرئ بالجزم، عطفاً على: {يعف}، فيكون المعنى: أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.
الإشارة: ومن آياته الأفكار الجارية في بحر التوحيد، كالأعلام، أي: أصحابها كالجبال الرواسي، لا يهزهم شيء من الواردات ولا غيرها، إن يشأ يُسكن رياح الواردات عن أسرارهم، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية، مستغرقين في شهود الذات العلية، أو يُوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب، فيغرقن في الزندقة أو الحلول والاتحاد، ويعفُ عن كثير، ويعلم الذين يطعنون في آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.

.تفسير الآيات (36- 43):

{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)}
يقول الحق جلّ جلاله: {فما أُوتيتم من شيءٍ} مما ترجون وتتنافسون فيه {فمتاعُ الحياةِ الدنيا} أي: فهو متاعها، تتمتعون به مدة حياتكم، ثم يفنى، {وما عند الله} من ثواب الآخرة {خيرٌ} ذاتاً؛ لخلوص نفعه، {وأبقى} زماناً؛ لدوام بقائه. {للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون}، وما الأولى ضُمّنت معنى الشرط، فدخلت في جوابها الفاء، بخلاف الثانية. وعن عليّ رضي الله عنه: أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله، فلامه الناس، فنزلت الآية.
ثم قال تعالى: {والذين يجتنبون كبائر الإثم} أي: الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان: {كبير الإثم}. قال ابن عباس: هو الشرك، {و} يجتنبون {الفواحِشَ} وهي ما عظم قُبحها، كالزنى ونحوه، {وإِذا ما غَضِبوا} من أمر دنياهم {هم يغفرون} أي: هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب، فيحملون، ويتجاوزون. وفي الحديث: «مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة».
{والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة}؛ أتقنوا الصلوات الخمس، {وأمرُهُم شُورى بينهم} أي: ذو شورى، يعني: لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن: ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم. والشورى: مصدر، كالفتيا، بمعنى التشاور. {ومما رزقناهم يُنفقون}؛ يتصدقون.
{والذين إذا أصابهم البغيُ}؛ الظلم {هم ينتصرون}؛ ينتقمون ممن ظلمهم، أي: يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم، ولا يعتدون، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترئ عليهم الفسّاق، فإذا قدروا عفوا، وإنما حُمدوا على الانتصار؛ لأن من انتصر، وأخذ حقه، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله، فلم يسرف في القتل، إن كان وليّ دم، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي: قوله: {والذين إذا أصابهم البغي...} الآية ذكر الانتصار في معرض المدح، ثم ذكر العفو في معرض المدح، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين، أحَدُهُما: أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور، ومؤذياً للصغير والكبير، فيكون الانتقامُ منه أفضل، وفي مثله قال إبراهيم النخعي: يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفُسّاق. وإما أن تكون الفَلتة، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة، ويسأل المغفرة، فالعفو ها هنا أفضل، وفي مثله نزل: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 277]، {وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ} [النور: 22] الآية. اهـ.
ثم بيّن حدّ الانتصار، فقال: {وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها}؛ فالأولى سيئة حقيقة، والثانية مجازاً للمشاكلة، وفي تسميتها سيئة نكتة، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو، ولذلك عقبه بقوله: {فمَن عَفَا وأصلحَ} بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء {فأجره على الله}، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها، {إِنه لا يحب الظالمين} الذين يبدؤون بالظلم، أو: يتجاوزون حدّ الانتصار.
وفي الحديث: «ينادي منادٍ يوم القيامة: مَن كان له أجر على الله فليقم، فلا يقوم إلا مَن عفا».
{ولمَن انتصرَ بعد ظلمه} أي: أخذ حقه بعدما ظُلم على إضافة المصدر إلى المفعول {فأولئك} جمع الإشارة مراعاة لمعنى مَن {ما عليهم من سبيلٍ} للمعاقب ولا للمعاتب {إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ}؛ يبتدئونهم بالظلم، {ويبغون في الأرض}؛ يتكبّرون فيها، ويعْلون، ويفسدون {بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ} بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.
{ولَمَن صَبَرَ} على الظلم والأذى، {وغَفَرَ} ولم ينتصر، أو: وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى، وغفر بالتجاوز عن الخصم، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا، والعقبى، {إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور} أي: إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور، أي: من الأمور التي ندب إليها، وعزم على فعلها، أو: مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه، ولا يترخّص في تركه. وحذف الراجع أي: منه كما حذف في قولهم: السمن مَنْوَانِ بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي: الصبر على المكاره من علامات الانتباه، فمَن صبر على مكروه أصابه، ولم يجزع، أورثه الله تعالى حال الرضا، وهو أصل الأحوال؛ ومَن جزع من المصيبات، وشَكى، وكَلَه إلى نفسه، ثم لم تنفعه شكواه. اهـ. وانظر تحصيل الآية في الإشارة، إن شاء الله.
قال ابن جزي: ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق، ثم صفات عُمَر، ثم صفات عثمان، ثم صفات عليّ بن أبي طالب، فأما صفات أبي بكر، فقوله: {الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون} وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر، وإن كان جميعهم متصفاً بها، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح» وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة الإيمان، وأبو بكر بابها» وقال أبو بكر: «لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً». والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان.
وأما صفات عمر: فقوله: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش}؛ لأن ذلك هو التقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها»، وقوله: {وإذا ما غَضبوا هم يغفرون}، وقوله: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله} نزلت في عمر. وأما صفات عثمان؛ فقوله: {والذين استجابوا لربهم}؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل، وفيه نزلت: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً...} [الزمر: 9] الآية.
ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله: {وأمرهم شورى بينهم}؛ لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى، وقوله: {ومما رزقناهم يُنفقون}؛ لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة.
وأما صفات عليّ؛ فقوله: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}؛ لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها، انتصاراً للحق، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية، حسبما ورد في الحديث الصحيح، أنه قال لعمّار: «ويْحَ عمّارٍ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ» وذلك هو البغي الذي أصابه، وقوله: {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله} إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ، حين بايع معاوية، وأسقط حق نفسه، ليصلح أحوال المسلمين، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن: «إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» وقوله: {ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه، وطلبه للخلافة، وانتصاره من بني أمية. وقوله: {إنما السبيل على الذين يظلمون الناس} إشارة إلى بني أمية، فإنهم استطالوا على الناس، كما في الحديث: «إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً، ومال الله دُولاً»، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم، وقوله: {ولمَن صبر وغفر} إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل، طول مدة بني أمية. اهـ.
الإشارة: قوله تعالى: {فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا} أي: وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به، كما في الخبر، ولذلك زهَّد فيه بقوله: {وما عند الله خيرٌ وأبقى...} الآية، أي: وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. {والذين يجتنبون كبائر الإثم} هي أمراض القلوب، كالحسد والكبر والرياء وغيرها، {والفواحش} هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى: {وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون} لم يقل الحق تعالى: والذين لم يغضبوا؛ لأن الغضب وصف بشري، لا ينفك عنه مخلوق، فالمطلوب المجاهدة في دفعه، وردّ ما ينشأ عنه، لا زواله من أصله، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه: مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار فالشرف هو كظمه بعد ظهوره، لا زواله بالكلية.
وقوله تعالى: {والذين استجابوا لربهم} قال القشيري: المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه، ولا يبقى لهم منه بقية، {وأمرهم شورى بينهم} أي: لا يستبدُّ أحدهم برأي، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله. اهـ.
وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب: أربع مقامات:
الأول: قوم من شأنهم الغفران مطلقاً، قدروا أو عجزوا، لا يتحركون في الانتصار قط، وهو قوله تعالى: {وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون}.
والثاني: قوم قادرون على إنفاذ الغضب، فتحركوا في الانتصار، ثم عفوا بعد الاقتدار، وهذا قوله: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}، ثم قال: {فمَن عفا وأصلح فأجره على الله}.
والثالث: قوم قدروا وانتصروا، وأخذوا حقهم، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم، وهو قوله: {ولمَن انتصر بعد ظلمه...} الآية.
والرابع: قوم ظُلِموا، فعفوا، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم، والدعاء له بالمغفرة، حتى يصير مرحوماً بهم، وهي رتبة الصدّيقية، أن ينتفع بهم أعداؤهم، وهو قوله تعالى: {ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور}، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.
وعند الصوفية: ثلاث طبقات: العامة ينتصرون، والخاصة لا ينتصرون، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم، كما تقدّم. وقال القشيري: {والذين إذا أصابهم البغي} وهو الظلم، ينتصرون؛ لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم، فينتصرون من الظالم، وهو النفس، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة. ثم قال: قوله: {ولمَن انتصر...} الآية، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس، ولا يستمكن من محاسن الخُلق، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو. اهـ.