فصل: تفسير الآيات (6- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (6- 19):

{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}
يقول الحق جلّ جلاله: {كلاَّ}، هو ردع لمحذوف، دلّ الكلام عليه، كأنه قيل: خلقنا الإنسان من علق، وعلّمته ما لم يعلم ليشكر تلك النعمة الجليلة، فكفر وطغى، كلا لينزجر عن ذلك {إِنَّ الإِنسان ليطغى}؛ يجاوز الحد ويستكبر عن ربه. قيل: هذا إلى آخر السورة نزل في أبي جهل بعد زمان، وهو الظاهر. وقوله: {أن رآه استغنى} مفعول له، أي: ليطغى لرؤية نفسه مستغنياً، على أنَّ {استغنى} مفعول لرأى، لأنه بمعنى عَلِم، ولذلك شاع كون فاعله ومفعوله ضميريْ واحد كما في ظننتني وعَلِمتني وإن جوّزه بعضهم في الرؤية البصرية أيضاً، وجعل من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: «رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وما لنا طعام إلا الأسودان، الماء والتمر»، والمشهور أنه خاص بأفعال القلوب. وحاصل الآية: أن سبب طغيان الإنسان هو استغناؤه بالمال، وسبب تواضعه هو فقره.
ثم هدّد الإنسان وحذّره من عاقبة الطغيان، على طريق الالتفات، فقال: {إِنَّ إِلى ربك الرُّجعى} أي: الرجوع فيجازيك على طغيانك. {أرأيت الذي ينهَى عبداً إِذا صلَّى} أي: أرأيت أبا جهل ينهى محمداً صلى الله عليه وسلم عن الصلاة، وهو تشنيع بحاله، وتعجيب منها، وإيذان بأنه من البشاعة والغرابة بحيث يراها كل مَن يأتي منه الرؤية. رُوي أنَّ أبا جهل كان في ملأ من قريش، فقال: لئن رأيت محمداً لأطأنّ عنقه، فرأه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، فجاءه ثم نكص على عقبيه، فقالوا: مالك؟ فقال: حال بيني وبينه خندق من نار وهول وأجنحة، فنزلت، فقال صلى الله عليه وسلم: «لو دنا من لاختطفته الملائكة».
وتنكير العبد تفخيم لشأنه صلى الله عليه وسلم، والرؤية هنا بصرية، وأمّا في قوله: {أرأيت إن كان على الهدى أو أّمَرَ بالتقوى} وفي قوله: {أرأيتَ إِن كَذَّب وتولَّى} فعلمية، أي: أخبرني فإنَّ الرؤية لمَّا كانت سبباً للإخبار عن المرائي أجرى الاستفهام عنها مجرى الاستخبار عن متعلقها. والخطاب لكل مَن يصلح للخطاب.
قال في الكشاف: قوله تعالى: {الذي ينهى} هو المفعول الأول لقوله: {أرأيت} الأول، والجملة الشرطية بعد ذلك في موضع المفعول الثاني، وكررت {أرأيت} بعد ذلك للتأكيد، فلا تحتاج إلى مفعول. وقوله: {ألم يعلم بأنَّ الله يرى} هو جواب قوله: {إن كذَّب وتولى}، وجواب قوله: {إن كان على الهدى} محذوف، يدل عليه جواب قوله: {إن كذَّب وتولى} فهو في المعنى جواب للشرطين معاً. والضمير في قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للناهي، وهو أبو جهل، وكذا في قوله: {إن كذَّب وتولَّى}، والتقدير على هذا: أخبرني عن الذي ينهى عبداً إذا صلّى إن كان هذا الناهي على الهدى أو إن كَذّب وتولّى، ألم يعلم بأنّ الله يرى جميع أحواله، فمقصود الآية: تهديد له وزجر، وإعلام بأنّ الله يراه.
وخالفه ابن عطية في الضمائر، فقال: إنَّ الضمير في قوله: {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} للعبد الذي صلَّى، وأنّ الضمير في قوله: {إن كذَّب وتولّى} للناهي، وخالفه في جعل {أرأيت} الثانية مكررة للتأكيد فقال: {أرأيت} في المواضع الثلاثة توقيف، وأنّ جوابها في المواضع الثلاثة: قوله: {ألم يعلم بأن الله يرى} فإنه يصلح مع كل واحدة منها، ولكنه جاء في آخر الكلام اقتصاراً. انظر ابن جزي. وما قاله ابن عطية أظهر، فكأنه تعالى حاكِمٌ قد حضره الخصمان، يُخاطب هذا مرة والآخر أخرى، وكأنه قال: يا كافر إن كانت صلاته هُدى ودعاؤه إلى الله أمراً بالتقوى، ثم أقبل على الآخر، فقال: أرأيت إن كذَّب. إلخ.
وقال الغزنوي: جواب {إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى} محذوف، تقديره: أليس هو على الحق واتباعه واجب، يعني: فكيف تنهاه يا مكذّب، متولي عن الهدى، كافر، ألم تعلم أن الله يراك. اهـ.
{كلاَّ}، ردع للناهِي عن عبادة الله {لئن لم ينتهِ} عما هو عليه {لَنَسْفعاً بالناصيةِ}؛ لنأخذن بناصية ولنسحبنّه بها إلى النار. والسفع: القبض على الشيء وجذبه بشدة. وكَتْبُها في المصحف بالألف على حكم الوقف. واكتفى بلام العهد عن الإضافة للعلم بأنها ناصية المذكور، ثم بيّنها بقوله: {ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ} فهي بدل وإنما صَحّ بدلها من المعرفة لوصفها، ووصفها بالكذب والخطأ على المجاز، وهما لصاحبهما. وفيه من الجزالة ما ليس في قوله: ناصية كاذب خاطئ.
{فَلْيَدْعُ ناديَه}، النادي: المجلس الذي يجتمع فيه القوم. رُوي أنَّ أبا جهل مرّ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يُصلّي، فقال: ألم أَنْهكَ؟ فأغلط له النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال: أتهدّدني وأنا أكثر أهل الوادي نادياً؟ فنزلت. {سَنَدْعُ الزبانية} ليجروه إلى النار. والزبانية: الشُّرَطِ، واحدة: زِبْنِيَّة أو زِبْنى، من الزبن، وهو الدفع. عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لَوْ دَعَا نَادِيهُ لأخَذَتْه الزَّبانِيةُ عِياناً».
{كلاَّ}، ردع لأبي جهل {لا تُطِعْهُ} أي: أثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} [القلم: 8] {واسجدْ}؛ واظب على سجودك وصلاتك غير مكترث {واقترب}؛ وتقرّب بذلك إلى ربك.
الإشارة: كل مَن أنكر على المتوجهين، الذين هم على صلاتهم دائمون، يُقال في حقه: أرأيت الذي يَنهى عبداً إذا صلّى.. إلى آخر الآيات. ويُقال للمتوجه: لا تُطعه واسجد بقلبك وجوارحك، وتقرّب بذلك إلى مولاك، حتى تظفر بالوصول إليه. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة القدر:

.تفسير الآيات (1- 5):

{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {إِنَّا أنزلناه في ليلة القدر}، نوّه بشأن القرآن، حيث أسند إنزاله إليه بإسناده إلى نون العظمة، المنبئ عن كمال العناية به، وجاء بضميره دون اسمه الظاهر للإيذان بغاية ظهوره، كأنه حاضر في جميع الأذهان، وقيل: يعود على المقروء المأمور به في قوله: {اقرأ} [العلق: 1] فتتصل السورة بما قبلها. وعظَّم الوقت الذي أنزله فيه بقوله: {وما أدراك ما ليلةٌ القَدْر} لِما فيه من الدلالة على أنَّ علو قدرها خارج عن دائرة دراية الخلق، لا يدريها إلاّ علاَّم الغيوب، كما يُشعر به قوله تعالى: {ليلةُ القدر خيرٌ من ألف شهرٍ} أي: ليس فيها ليلة القدر، فإنه بيان إجمالي لشأنها إثر تشويقه صلى الله عليه وسلم إلى درايتها، فإنَّ ذلك مُعْرِب عن الوعد بإدرائها على ما تقدّم. وفي إظهار ليلة القدر في الموضعين من تأكيد التفخيم ما لا يخفى.
والمراد بإنزاله: إمّا إنزاله كله إلى سماء الدنيا، كما رُوي أنه أنزل جملة واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، ثم نزل نجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنة، وإمّا ابتداء نزوله، وهو الأظهر. وسُميت ليلة القدر لتقدير الأمور فيها، وإبراز ما قضى تلك السنة، لقوله تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4]، فالقَدْر بمعنى التقدير، أو لشرفها على سائر الليالي، فالقَدْر بمعنى الشرف، وهي ليلة السابع والعشرين من رمضان على المشهورِ. لما رُوي أنَّ أُبي بن كعب كان يحلف أنها ليلة السابع والعشرين، وقيل غير ذلك ومظان التماسها في الأوتار من العشر الأواخر. ولعل السر في إخفائها تعرض مَن يريدها للثواب الكثير بإحياء الليالي في طلبها، وهذا كإخفاء الصلاة الوسطى، واسمه الأعظم، وساعة الجمعة، ورضاه في الطاعات، وغضبه في المعاصي، وولايته في خلقه ليحسن الظن بالجميع.
وتخصيص الألف بالذكر إمّا للتكثير، أو لما رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنه ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المؤمنون وتقاصرت إليهم أعمالهم، فأُعطوا ليلةَ القدر هي خيرٌ من عمل ذل الغازي. وقيل: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار الأمم كافة، فاستقصر أعمار أمته، فخاف ألاّ يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم، فأعطاه الله ليلة القدر، جعلها خيراً من ألف شهر لسائر الأمم. وقيل: كان مُلك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر، فجعل الله هذه الليلة لِمن قامها خيراً من ملكيهما.
ثم بيّن وجه فضلها، فقال: {تَنزَّلُ الملائكةُ والروحُ فيها}، والروح إمّا جبريل عليه السلام، أو خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلاّ تلك الليلة، أو الرحمة. والمراد بتنزلهم: نزولهم إلى الأرض يُسلمون على الناس ويؤمِّنون على دعائهم، كما في الأثر.
وقيل: إلى سماء الدنيا. وقوله: {بإِذنِ ربهم} يتعلق ب {تنزلُ}، أو بمحذوف هو حال من فاعله، أي: ملتبسين بأمر ربهم، أو: ينزلون بإذنه، {من كل أمرٍ} أي: من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل، رُوي أنَّ الله تعالى يُعْلِم الملائكة بكل ما يكون في ذلك العام كله، وقيل: يَبرز ذلك مِن علم الغيب ليلة النصف من شعبان، ويُعْطَى الملائكةً ليلة القدر، فلما كان أهم نزولهم هذا الأمر جعل نزولهم لأجله، فلا ينافي كون نزولهم للتسليم على الناس والتأمين، كما قال تعالى: {سلامٌ هيَ} أي: ما هي إلاَّ سلام على المؤمنين، جعلها نفس السلام لكثرة ما يُسلِّمون على الناس، فقد رُوي أنهم يُسلِّمومن على كل قائم وقاعد وقارئ ومُصَلِّ، أو: ما هي إلاِّ سلامة، أي: لا يُقَدِّر الله تعالى فيها إلاّ السلامة والخير، وأمّا في غيرها فيقضي سلامةً وبلاء وقال ابن عباس: قوله: {هي} إشارة إلى أنها ليلة سبع وعشرين؛ لأنّ هذه الكلمة هي السابعة والعشرون من كلمات السورة.
ثم ذكر غايتها، فقال: {حتى مطلَعِ الفجر} أي: تنتهي إلى طلوع الفجر، أو: تُسلِّم الملائكة إلى مطلع الفجر، أو: تنزل الملائكة فوجاً بعد فوج إلى طلوع الفجر. و{مَطْلَع} بالفتح: اسم زمان وبالكسر مصدر، أو اسم زمان على غير قياس؛ لأنّ ما يضم مضارعه أو يفتح يتحد فيه الزمان والمكان والمصدر، يعني مَفْعَل في الجميع.
الإشارة: أهل القلوب من العارفين، الأوقاتُ كلها عندهم ليلة القدر، والأماكن عندهم كلها عرفات، والأيام كلها جمعات، لأنّ المقصود من تعظيم الزمان والمكان هو باعتبار ما يقع فيه من التقريب والكشف والعيان، والأوقات والأماكن عند العارفين كلها سواء في هذا المعنى، كما قال شاعرهم:
لولا شهود جمالكم في ذاتي ** ما كنت أرضى ساعة بحياتي

ما ليلةُ القدر المعظَّم شأنها ** إلاَّ إذا عمرَتْ بكم أوقاتي

إنَّ المحب إذا تمكّن في الهوى ** والحب لم يحتج إلى ميقات

وقال آخر:
وكل الليالي ليلةُ القدر إن بدا ** كما كلُّ أيام اللقا يومُ جمعةِ

وسعيٌ له حجٌّ به كلُّ وقفةٍ ** على بابه قد عادلت ألف وقفةِ

وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه: نحن والحمد الله أوقاتنا كلها ليلة القدر. اهـ. لأنَّ عبادتهم كلها قلبية، بين فكرة واعتبار، وشهود واستبصار، و«فكرة ساعة أفضل من عبادة سبعين سنة»، كما في الأثر، بل فكرة العيان تزيد على ذلك، كما قال الشاعر:
كلُّ وقت من حبيبي ** قَدْرُه كألف حجه

وقد يقال: ثواب هذه العبادة كشف الحجاب وشهود الذات الأقدسن هو لا يقاس بمقياس. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله.

.سورة البينة:

.تفسير الآيات (1- 5):

{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)}
يقول الحق جلّ جلاله: {لم يكن الذين كفروا} أي: بالرسول وبما أنزل عليه {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى، {والمشركين}؛ عبَدة الأصنام {منفكِّين} منفصلين عن الكفر، وحذف لأنَّ صلة {الذين} يدل عليه، {حتى تأتِيَهم البَيِّنَةُ} الحجة الواضحة، وهو النبيُّ صلى الله عليه وسلم. يقول: لم يتركوا كفرهم حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم، فلمّا بُعِثَ أسلم بعض وثبت على الكفر بعض. أو: لم يكونوا منفكين، أي: زائلين عن دينهم حتى تأتيَهم البَينة ببطلان ما هم عليه، فتقوم الحجة عليهم. أو: لم يكونوا لينفصلوا عن الدنيا حتى بَعَثَ اللهُ محمداً فقامت عليهم الحجة، وإلاّ لقالوا: {لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً...} [طه: 134] الآية.
وتلك البينة هي {رسولٌ من الله} أي: محمد صلى الله عليه وسلم وهو بدل من {البينة} {يتلو} يقرأ عليهم {صُحفاً} كتباً {مُطَهَّرةً} من الباطل والزور والكذب، والمراد: يتلو ما يتضمنه المكتوب في الصحف، وهو القرآن، يدل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن عن ظهر قلبه، ولم يكن يقرأ مكتوباً؛ لأنه كان أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ الصحف، ولكنه لَمَّا كان تالياً معنى ما في الصُحف فكأنه قد تلى الصُحف. ثم بيّن ما في الصُحف، فقال: {فيها} أي: في الصُحف {كُتب قَيِّمةٌ} مستقيمة ناطقةٌ بالحق والعدل. ولَمّا كان القرآن جامعاً لِما في الكتب المتقدمة صدق أنَّ فيه كُتباً قيمة.
{وما تَفَرَّقَ الذين أُوتوا الكتاب إِلاَّ مِن بعد ما جاءتهم البينةٌ} أي: وما اختلفوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلاَّ مِن بعد ما عَلِموا أنه حق، فمنهم مَن أنكر حسداً، ومنهم مَن آمن. وإنّما أفرد أهل الكتاب بعدما جمع إولاً بينهم وبين المشركين؛ لأنهم كانوا على علمٍ به؛ لوجوده في كتبهم، فإذا وُصفوا بالتفرُّق عنه كان مَن لا كتاب له أدخل في هذا. وقيل: المعنى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، أي: منفصلين عن معرفة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام حتى بعثه الله.
{وما أُمروا إِلاَّ ليعبدوا اللهَ} أي: ما أُمروا في التوراة والإنجيل إلاّ لأجل أن يعبدوا الله وحده من غير شرك ولا نفاق، ولكنهم حرّفوا وبدّلوا. وقيل: اللام بمعنى {أن} أي: إلاّ بأن يعبدوا الله {مخلصين له الدينَ} أي: جاعلين دينَهم خالصاً له تعالى، أو: جاعلين أنفسهم خالصة له في الدين. قال ابن جُزي: استدل المالكية بهذا على وجوب النية في الوضوء، وهو بعيد؛ لأنَّ الإخلاص هنا يُراد به التوحيد وترك الشرك، أو ترك الرياء. انظر كلامه، وسيأتي بعضه في الإشارة. {حنفاءَ} مائلين عن جميع العقائد الزائغة إلى الإسلام، {ويُقيموا الصلاةَ ويُؤتوا الزكاةَ} إن أريد بهما ما في شريعتهم من الصلاة والزكاة، فالأمر ظاهر، وإن أريد ما في شريعتنا فمعنى أمرهم بهما في الكتابين أمرهم بالدخول في شريعتنا، {وذلك دِينُ القيِّمة} أي: الملة المستقيمة.
والإشارة إلى ما ذكر من عبادة الله وحده وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وما فيه من معنى البُعد للإشعار بعُلو رتبته وبُعد منزلته.
الإشارة: لم يكن الذين جحدوا وجودَ أهل الخصوصية من العلماء والجهّال منفكين عن ذلك حتى جاءتهم الحُجة القائمة عليهم، وهو ظهور شيخ التربية خليفة الرسول، يتلو كتابَ الله العزيز على ما ينبغي وما تَفَرَّقوا في التصديق إلاّ بعد ظهوره. وما أُمروا إلاّ بالإخلاص وتطهير سرائرهم، وهو لا يتأتى إلاّ بصُحبته. وتكلم ابنُ جزي هنا على الإخلاص، فقال: اعلم أنَّ الأعمال على ثلاثة أنواع: مأمورات ومنهيات ومباحات؛ فأمّا المأمورات فالإخلاص فيها عبارة عن: خلوص النية لوجه الله، بحيث لا يشوبها أُخرى، فإن كانت كذلك فالعمل خالص، وإن كانت لغير وجه الله من طلب منفعة دنيوية أو مدح أو غير ذلك، فالعمل رياء محض مردود، وإن كانت النية مشتركة؛ ففي ذلك تفصيل، فيه نظر واحتمال. قلت: وقد تقدّم كلام الغزالي في سورة البقرة عند قوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198]، وحاصله: أنَّ الحكم للغالب وقوة الباعث. انظر لفظه.
ثم قال ابن جزي: وأمَّا المنهيات فإنْ تَرَكها دون نية خرج عن عهدتها ولم يكن له أجر في تركها، وإن تركها بنية وجه الله خرج عن عهدتها وأُجر. وأمَّا المباحات، كلأكل والشرب، والنوم والجماع وغير ذلك، فإن فَعَلَها بغير نية لم يكن له فيها أجر، وإن فَعَلَها بنية وجه الله فله فيها أجر، فإنَّ كُلَّ مباح يمكن أن يصير قُربة إذا قصد به وجه الله، مثل أن يقصد بالأكل القوة على العبادة، ويقصد بالجِمَاع التعفُّف عن الحرام، وشبه ذلك. اهـ.
ودرجات الإخلاص ثلاث: الأولى: أن يعبد الله لطلب غرض دنيوي أو أخروي من غير ملاحظة أحد من الخلق، والثانية: أن يعبد الله لطلب الآخرة فقط، والثالثة: أن يعبد الله عبودية ومحبة.