فصل: أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة خمسمائة من الهجرة

قال أبو داود في ‏(‏سننه‏)‏‏:‏ حدثنا حجاج بن إبراهيم، حدثنا ابن وهب، حدثني معاوية بن صالح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن أبيه، عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لن يعجز الله هذه الأمة من نصف يوم‏)‏‏)‏‏.‏

حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا أبو المغيرة، حدثني صفوان عن شريح بن عبيد، عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إني لأرجو أن لا يعجز أمتي عند ربها أن يؤخرها نصف يوم‏.‏

قيل لسعد‏:‏ وكم نصف يوم ‏؟‏

قال‏:‏ خمسمائة سنة‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا من دلائل النبوة‏.‏

وذكر هذه المدة لا ينفي زيادة عليها، كما هو الواقع، لأنه عليه السلام ذكر شيئاً من أشراط الساعة لا بد من وقوعها كما أخبر سواء بسواء‏.‏

وسيأتي ذكرها فيما بعد زماننا، وبالله المستعان‏.‏

ومما وقع في هذه السنة من الحوادث أن السلطان محمد بن ملكشاه حاصر قلاعاً كثيرة من حصون الباطنية، فافتتح منها أماكن كثيرة، وقتل خلقاً منهم، منها قلعة حصينة كان أبوه قد بناها بالقرب من أصبهان، في رأس جبل منيع هناك، وكان سبب بنائه لها أنه كان مرة في بعض صيوده فهرب منه كلب فاتبعه إلى رأس الجبل فوجده، وكان معه رجل من رسل الروم، فقال الرومي‏:‏ لو كان هذا الجبل ببلادنا لاتخذنا عليه قلعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/206‏)‏

فحدا هذا الكلام السلطان إلى أن ابتنى في رأسه قلعة أنفق عليها ألف ألف دينار، ومائتي ألف دينار، ثم استحوذ عليها بعد ذلك رجل من الباطنية يقال له‏:‏ أحمد بن عبد الله بن عطاء، فتعب المسلمون بسببها، فحاصرها ابنه السلطان محمد سنة حتى افتتحها، وسلخ هذا الرجل وحشى جلده تبناً وقطع رأسه، وطاف به في الأقاليم، ثم نقض هذه القلعة حجراً حجراً، وألقت امرأته نفسها من أعلى القلعة فتلفت، وهلك ما كان معها من الجواهر النفسية، وكان الناس يتشاءمون بهذه القلعة، يقولون‏:‏ كان دليلها كلباً، والمشير بها كافراً، والمتحصن بها زنديقاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت حروب كثيرة بين بني خفاجة وبين بني عبادة، فقهرت عبادة خفاجة وأخذت بثأرها المتقدم منها‏.‏

وفيها‏:‏ استحوذ سيف الدولة صدقة على مدينة تكريت بعد قتال كثير‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان محمد الأمير جاولي سقاوو إلى الموصل وأقطعه إياها، فذهب فانتزعها من الأمير جكرمش بعد ما قاتله وهزم أصحابه وأسره، ثم قتله بعد ذلك؛ وقد كان جكرمش من خيار الأمراء سيرة وعدلاً وإحساناً، ثم أقبل قلج أرسلان بن قتلمش فحاصر الموصل فانتزعها من جاولي، فصار جاولي إلى الرحبة، فأخذها ثم أقبل إلى قتال قلج فكسره وألقى قلج نفسه في النهر الذي للخابور فهلك‏.‏

وفيها‏:‏ نشأت حروب بين الروم والفرنج فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ولله الحمد، وقتل من الفريقين طائفة كبيرة، ثم كانت الهزيمة على الفرنج، ولله الحمد رب العالمين‏.‏

قتل فخر الملك أبو المظفر

وفي يوم عاشوراء منها قتل فخر الملك أبو المظفر بن نظام الملك، وكان أكبر أولاد أبيه، وهو وزير السلطان سنجر بنيسابور، وكان صائماً، قتله باطني، وكان قد رأى في تلك الليلة الحسين بن علي وهو يقول له‏:‏ عجل إلينا وأفطر عندنا الليلة‏.‏

فأصبح متعجباً، فنوى الصوم ذلك اليوم، وأشار إليه بعض أصحابه أن لا يخرج ذلك اليوم من المنزل، فما خرج إلا في آخر النهار فرأى شاباً يتظلم وفي يده رقعة فقال‏:‏ ما شأنك‏؟‏

فناوله الرقعة فبينما هو يقرؤها إذ ضربه بخنجر بيده فقتله، فأخذ الباطني فرفع إلى السلطان فقرره فأقر على جماعة من أصحاب الوزير أنهم أمروه بذلك، وكان كاذباً، فقتل وقتلوا أيضاً‏.‏

وفي رابع عشر صفر عزل الخليفة الوزير أبا القاسم علي بن جُهير وخرب داره التي كان قد بناها أبوه، من خراب بيوت الناس، فكان في ذلك عبرة وموعظة لذوي البصائر والنهى، واستنيب في الوزارة القاضي أبو الحسن الدامغاني، ومعه آخر‏.‏

وحج بالناس فيها الأمير تركمان واسمه أليرن، من جهة الأمير محمد بن ملكشاه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/207‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن المظفر

أبو المظفر الخوافي الفقيه الشافعي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان أنظر أهل زمانه، تفقه على إمام الحرمين، وكان أوجه تلامذته، وقد ولي القضاء بطوس ونواحيها، وكان مشهوراً بحسن المناظرة وإفحام الخصوم، قال‏:‏ والخوافي بفتح الخاء والواو نسبة إلى خواف، ناحية من نواحي نيسابور‏.‏

 جعفر بن محمد‏.‏

ابن الحسين بن أحمد بن جعفر السراج، أبو محمد القاري البغدادي، ولد سنة ست عشرة وأربعمائة، وقرأ القرآن بالروايات، وسمع الكثير من الأحاديث النبويات، من المشايخ والشيخات في بلدان متباينات، وقد خرج له الحافظ أبو بكر الخطيب أجزاء مسموعاته، وكان صحيح الثبت، جيد الذهن، أديباً شاعراً، حسن النظم، نظم كتاباً في القراءات، وكتاب ‏(‏التنبيه والخرقى‏)‏ وغير ذلك، وله كتاب ‏(‏مصارع العشاق‏)‏ وغير ذلك، ومن شعره قوله‏:‏

قتل الذين بجهلهم * أضحوا يعيبون المحابر

والحاملين لها من الـ * ـأيدي بمجتمع الأساور

لولا المحابر والمقا * لم والصحائف والدفاتر

والحافظون شريعة الـ * ـمبعوث من خير العشائر

والناقلون حديثه عن * كابر ثبت وكابر

لرأيت من بشع الضلا * ل عساكراً تتلو عساكر

كل يقول بجهله * والله للمظلوم ناصر

سميتهم أهل الحديث * أولي النهى وأولي البصائر

هم حشو جنات النعيم * على الأسرة والمنابر

رفقاء أحمد كلهم * عن حوضه ريان صادر

وذكر له ابن خلكان أشعاراً رائقة منها قوله‏:‏

ومدّع شرخ الشباب وقد * عممه الشيب على وفرته

يخضب بالوشمة عثنونه * يكفيه أن يكذب في لحيته

 عبد الوهاب بن محمد

ابن عبد الوهاب بن عبد الواحد بن محمد الشيرازي الفارسي، سمع الحديث الكثير، وتفقه وولاه نظام الملك تدريس النظامية ببغداد، في سنة ثلاث وثمانين، فدرس بها مدة، وكان يملي الأحاديث، وكان كثير التصحيف، روى مرة حديث‏:‏ ‏(‏‏(‏صلاة في إثر صلاة كتاب في عليين‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ كتاب في غلس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/208‏)‏

ثم أخذ يفسر ذلك بأنه أكثر لإضاءتها‏.‏

 محمد بن إبراهيم

ابن عبيد الأسدي الشاعر، لقي الخنيسي التهامي، وكان مغرماً بما يعارض شعره، وقد أقام باليمن وبالعراق ثم بالحجاز ثم بخراسان، ومن شعره‏:‏

قلت ثقلت إذ أتيت مراراً * قال ثقلت كاهلي بالأيادي

قلت طولت قال بل تطولت * قلت مزقت قال حبل ودادي

 يوسف بن علي

أبو القاسم الزنجاني الفقيه، كان من أهل الديانة، حكى عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي عن القاضي أبي الطيب، قال‏:‏ كنا يوماً بجامع المنصور في حلقة فجاء شاب خراساني فذكر حديث أبي هريرة في المطر فقال الشاب‏:‏ غير مقبول‏.‏

فما استتم كلامه حتى سقطت من سقف المسجد حية فنهض الناس هاربين وتبعت الحية ذلك الشاب من بينهم، فقيل له‏:‏ تب تب‏.‏

فقال‏:‏ تبت‏.‏

فذهبت فلا ندري أين ذهبت‏.‏

رواها ابن الجوزي عن شيخه أبي المعمر الأنصاري عن أبي القاسم هذا، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وخمسمائة من الهجرة

فيها‏:‏ جدد الخليفة الخلع على وزيره الجديد أبي المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب، وأكرمه وعظمه‏.‏

وفي ربيع الآخر منها دخل السلطان محمد إلى بغداد فتلقاه الوزير والأعيان، وأحسن إلى أهلها، ولم يتعرض أحد من جيشه إلى شيء‏.‏

وغضب السلطان على صدقة بن منصور الأسدي صاحب الحلة وتكريت بسبب أنه آوى رجلاً من أعدائه يقال له‏:‏ أبو دلف سرحان الديلمي، صاحب ساوة، وبعث إليه ليرسله إليه فلم يفعل، فأرسل إليه جيشاً فهزموا جيش صدقة‏.‏

وقد كان جيشه عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل، وقتل صدقة في المعركة، وأسر جماعة من رؤس أصحابه وأخذوا من زوجته خمسمائة ألف دينار، وجواهر نفيسة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/209‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وظهر في هذه السنة صبية عمياء تتكلم على أسرار الناس، وما في نفوسهم من الضمائر والنيات، وبالغ الناس في أنواع الحيل عليها ليعلموا حالها فلم يعلموا‏.‏

قال ابن عقيل‏:‏ وأشكل أمرها على العلماء والخواص والعوام، حتى سألوها عن نقوش الخواتم المقلوبة الصعبة، وعن أنواع الفصوص وصفات الأشخاص وما في داخل البنادق من المشمع والطين المختلف، والخرق وغير ذلك فتخبر به سواء بسواء، حتى بالغ أحدهم ووضع يده على ذكره وسألها عن ذلك فقالت‏:‏ يحمله إلى أهله وعياله‏.‏

وفيها‏:‏ قدم القاضي فخر الملك أبو عبيد علي صاحب طرابلس إلى بغداد يستنفر المسلمين على الفرنج، فأكرمه السلطان غياث الدين محمد إكراماً زائداً، وخلع عليه وبعث معه الجيوش الكثيرة لقتال الفرنج‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك حلماً وكرماً، وإحساناً، ملك ستاً وأربعين سنة، وعمر تسعاً وتسعين سنة، وترك من البنين أنهد من مائة، ومن البنات ستين بنتاً، وملك من بعده ولده يحيى، ومن أحسن ما مدح به الأمير تميم قول الشاعر‏:‏

أصح وأعلى ما سمعناه في الندا * من الخبر المرويّ منذ قديم

أحاديث ترويها السيول عن الحيا * عن البحر عن كف الأمير تميم

 صدقة بن منصور

ابن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي، الأمير سيف الدولة، صاحب الحلة وتكريت وواسط وغيرها، كان كريماً عفيفاً ذا ذمام، ملجأ لكل خائف يأمن في بلاده، وتحت جناحه، وكان يقرأ الكتب المشكلة ولا يحسن الكتابة، وقد اقتنى كتباً نفيسة جداً، وكان لا يتزوج على امرأة قط، ولا يتسرى على سرية حفظاً للذمام، ولئلا يكسر قلب أحد، وقد مدح بأوصاف جميلة كثيرة جداً‏.‏

قتل في بعض الحروب، قتله غلام اسمه برغش، وكان له من العمر تسع وخمسون سنة، رحمه الله تعالى‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/210‏)‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وخمسمائة

في يوم الجمعة الثاني والعشرين من شعبان تزوج الخليفة المستظهر بالخاتون بنت ملكشاه أخت السلطان محمد، على صداق مائة ألف دينار، ونثر الذهب، وكتب العقد بأصبهان‏.‏

وفيها‏:‏ كانت الحروب الكثيرة بين الأتابك طغتكين صاحب دمشق وبين الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ ملك سعيد بن حميد العمري الحلة السيفية‏.‏

وفيها‏:‏ زادت دجلة زيادة كثيرة فغرقت الغلات فغلت الأسعار بسبب ذلك غلاء شديداً‏.‏

وحج بالناس الأمير قيماز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن العلوي

أبو هاشم ابن رئيس همدان، وكان ذا مال جزيل، صادره السلطان في بعض الأوقات بتسعمائة ألف دينار، فوزنها ولم يبع فيها عقاراً ولا غيره‏.‏

 الحسن بن علي

أبو الفوارس بن الخازن، الكاتب المشهور بالخط المنسوب‏.‏

توفي في ذي الحجة منها‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كتب بيده خمسمائة ختمة، مات فجأة‏.‏

 الروياني صاحب البحر

عبد الواحد بن إسماعيل، أبو المحاسن الروياني، من أهل طبرستان، أحد أئمة الشافعية، ولد سنة خمس عشرة وأربعمائة، ورحل إلى الآفاق حتى بلغ ما وراء النهر، وحصل علوماً جمة وسمع الحديث الكثير، وصنف كتباً في المذهب من ذلك ‏(‏البحر‏)‏ في الفروع، وهو حافل كامل شامل للغرائب وغيرها، وفي المثل‏:‏ ‏(‏حدث عن البحر ولا حرج‏)‏‏.‏

وكان يقول‏:‏ لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي‏.‏

قتل ظلماً يوم الجمعة، وهو يوم عاشوراء في الجامع بطبرستان، قتله رجل من أهلها، رحمه الله‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ أخذ الفقه عن ناصر المروزي وعلق عنه، وكان للروياني الجاه العظيم، والحرمة الوافرة، وقد صنف كتباً في الأصول والفروع، منها ‏(‏بحر المذهب‏)‏، وكتاب ‏(‏مناصيص الإمام الشافعي‏)‏، وكتاب ‏(‏الكافي‏)‏، و‏(‏حلية المؤمن‏)‏، وله كتب في الخلاف أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/211‏)‏

 يحيى بن علي

ابن محمد بن الحسن بن بسطام، الشيباني التبريزي، أبو زكريا، أحد أئمة اللغة والنحو، قرأ على أبي العلاء وغيره، وتخرج به جماعة منهم منصور بن الجواليقي‏.‏

قال ابن ناصر‏:‏ وكان ثقة في النقل، وله المصنفات الكثيرة‏.‏

وقال ابن خيرون‏:‏ لم يكن مرضى الطريقة، توفي في جمادى الآخرة ودفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وخمسمائة

فيها‏:‏ أخذت الفرنج مدينة طرابلس وقتلوا من فيها من الرجال، وسبوا الحريم والأطفال؛ وغنموا الأمتعة والأموال، ثم أخذوا مدينة جبلة بعدها بعشر ليال، فلا حول ولا قوة إلا بالله الكبير المتعال‏.‏

وقد هرب منهم فخر الملك بن عمار، فقصد صاحب دمشق طغتكين فأكرمه وأقطعه بلاداً كثيرة‏.‏

وفيها‏:‏ وثب بعض الباطنية على الوزير أبي نصر بن نظام الملك فجرحه ثم أُخذ الباطني فسُقي الخمر فأقر على جماعة من الباطنية فأُخذوا فقتلوا‏.‏

وحج بالناس الأمير قيماز‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن علي

ابن أحمد، أبو بكر العلوي، كان يعمل في تجصيص الحيطان، ولا ينقش صورة، ولا يأخذ من أحد شيئاً، وكانت له أملاك ينتفع منها ويتقوت، وقد سمع الحديث من القاضي أبي يعلى، وتفقه عليه بشيء من الفقه، وكان إذا حج يزور القبور بمكة، فإذا وصل إلى قبر الفضيل بن عياض يخط إلى جانبه خطاً بعصاه ويقول‏:‏ يا رب ههنا‏.‏

فقيل‏:‏ إنه حج في هذه السنة فوقف بعرفات محرماً فتوفي بها من آخر ذلك اليوم، فغسل وكفن وطيف به حول البيت ثم دفن إلى جانب الفضيل بن عياض في ذلك المكان الذي كان يخطه بعصاه، وبلغ الناس وفاته ببغداد فاجتمعوا للصلاة عليه صلاة الغائب، حتى لو مات بين أظهرهم لم يكن عندهم مزيد على ذلك الجمع، رحمه الله‏.‏

 عمر بن عبد الكريم

ابن سعدويه الفتيان الدهقاني، رحل في طلب الحديث، ودار الدنيا، وخرج وانتخب، وكان له فقه في هذا الشأن، وكان ثقة، وقد صحح عليه أبو حامد الغزالي كتاب ‏(‏الصحيحين‏)‏، كانت وفاته بسرخس في هذه السنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/212‏)‏

 محمد ويعرف بأخي حماد

وكان أحد الصلحاء الكبار، كان به مرض مزمن، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فعوفي، فلزم مسجداً له أربعين سنة، لا يخرج إلا إلى الجمعة، وانقطع عن مخالطة الناس، كانت وفاته في هذه السنة، ودفن في زاوية بالقرب من قبر أبي حنيفة، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وخمسمائة

في أولها تجهز جماعة من البغاددة من الفقهاء وغيرهم، ومنهم ابن الذاغوني، للخروج إلى الشام لأجل الجهاد، وقتال الفرنج، وذلك حين بلغهم أنهم فتحوا مدائن عديدة، من ذلك مدينة صيدا في ربيع الأول، وكذا غيرها من المدائن، ثم رجع كثير منهم حين بلغهم كثرة الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت خاتون بنت ملكشاه زوجة الخليفة إلى بغداد فنزلت في دار أخيها السلطان محمد، ثم حمل جهازها على مائة واثنين وستين جملاً، وسبعة وعشرين بغلاً، وزينت بغداد لقدومها، وكان دخولها على الخليفة في الليلة العاشرة من رمضان، وكانت ليلة مشهودة‏.‏

وفيها‏:‏ درس أبو بكر الشاشي بالنظامية مع التاجية، وحضر عنده الوزير والأعيان‏.‏

وحج بالناس قيماز، ولم يتمكن الخراسانيون من الحج من العطش وقلة الماء‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إدريس بن حمزة

أبو الحسن الشاشي الرملي العثماني، أحد فحول المناظرين عن مذهب الشافعي، تفقه أولاً على نصر بن إبراهيم، ثم ببغداد على أبي إسحاق الشيرازي، ودخل خراسان حتى وصل إلى ما وراء النهر، وأقام بسمرقند ودرّس بمدرستها إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

 علي بن محمد

ابن علي بن عماد الدين، أبو الحسن الطبري، ويعرف بالكيا الهراسي، أحد الفقهاء الكبار، من رؤس الشافعية، ولد سنة خمسين وأربعمائة، واشتغل على إمام الحرمين، وكان هو والغزالي أكبر التلامذة، وقد ولي كل منهما تدريس النظامية ببغداد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/213‏)‏

وقد كان أبو الحسن هذا فصيحاً جهوري الصوت جميلاً، وكان يكرر لعن إبليس على كل مرقاة من مراقي النظامية بنيسابور سبع مرات، وكانت المراقي سبعين مرقاة، وقد سمع الحديث الكثير، وناظر وأفتى ودرّس، وكان من أكابر الفضلاء وسادات الفقهاء، وله كتاب يرد فيه على ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل في مجلد، وله غيره من المصنفات، وقد اتهم في وقت بأنه يمالئ الباطنية، فنزع منه التدريس ثم شهد جماعة من العلماء ببراءته من ذلك منهم ابن عقيل، فأعيد إليه‏.‏

توفي في يوم الخميس مستهل محرم من هذه السنة عن أربع وخمسين سنة، دفن إلى جانب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه كان يحفظ الحديث ويناظر به، وهو القائل‏:‏ إذا جالت فرسان الأحاديث في ميادين الكفاح، طارت رؤوس المقاييس في مهاب الرياح‏.‏

وحكى السلفي عنه‏:‏ أنه استفتي في كتبة الحديث هل يدخلون في الوصية للفقهاء ‏؟‏

فأجاب‏:‏ نعم لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من حفظ على أمتي أربعين حديثاً بعثه الله عالماً‏)‏‏)‏‏.‏

واستفتي في يزيد بن معاوية فذكر عنه تلاعباً وفسقاً، وجوز شتمه، وأما الغزالي فإنه خالف في ذلك، ومنع من شتمه ولعنه، لأنه مسلم، ولم يثبت بأنه رضي بقتل الحسين، ولو ثبت لم يكن ذلك مسوغاً للعنه، لأن القاتل لا يلعن لا سيما وباب التوبة مفتوح الذي يقبل التوبة عن عباده غفور رحيم‏.‏

قال الغزالي‏:‏ وأما الترحم عليه فجائز، بل مستحب، بل نحن نترحم عليه في جملة المسلمين والمؤمنين، عموماً في الصلوات‏.‏

ذكره ابن خلكان مبسوطاً بلفظه في ترجمة الكيا هذا، قال‏:‏ والكيا كبير القدر مقدم معظم، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وخمسمائة

فيها‏:‏ بعث السلطان غياث الدين جيشاً كثيفاً، صحبة الأمير مودود بن زنكي صاحب الموصل، في جملة أمراء ونواب، منهم سكمان القطبي، صاحب تبريز، وأحمديل صاحب مراغة، والأمير إيلغازي صاحب ماردين، وعلى الجميع الأمير مودود صاحب الموصل، لقتال الفرنج بالشام، فانتزعوا من أيدي الفرنج حصوناً كثيرة، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً ولله الحمد‏.‏

ولما دخلوا دمشق دخل الأمير مودود إلى جامعها ليصلي فيه فجاءه باطني في زي سائل فطلب منه شيئاً فأعطاه، فلما اقترب منه ضربه في فؤاده فمات من ساعته، ووجد رجل أعمى في سطح الجامع ببغداد معه سكين مسموم فقيل‏:‏ إنه كان يريد قتل الخليفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/214‏)‏

وفيها‏:‏ ولد للخليفة من بنت السلطان ولد فضربت الدبادب والبوقات، ومات له ولد وهكذا الدنيا فرضي بوفاته، وجلس الوزير للهناء والعزاء‏.‏

وفي رمضان عزل الوزير أحمد بن النظام، وكانت مدة وزارته أربع سنين وإحدى عشر شهراً‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الفرنج مدينة صور، وكانت بأيدي المصريين، عليها عز الملك الأعز من جهتهم، فقاتلهم قتالاً شديداً، ومنعها منعاً جيداً، حتى فني ما عنده من النشاب والعدد، فأمده طغتكين صاحب دمشق، وأرسل إليه العدد والآلات فقوي جأشه وترحلت عنه الفرنج في شوال منها‏.‏

وحج بالناس أمير الجيوش قطز الخادم، وكانت سنة مخصبة مرخصة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أبو حامد الغزالي

محمد بن محمد بن محمد

أبو حامد الغزالي، ولد سنة خمسين وأربعمائة، وتفقه على إمام الحرمين، وبرع في علوم كثيرة، وله مصنفات منتشرة في فنون متعددة، فكان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه وساد في شبيبته حتى أنه درّس بالنظامية ببغداد، في سنة أربع وثمانين، وله أربع وثلاثون سنة، فحضر عنده رؤس العلماء، وكان ممن حضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل، وهما من رؤس الحنابلة، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكتبوا كلامه في مصنفاتهم‏.‏

ثم إنه خرج عن الدنيا بالكلية وأقبل على العبادة وأعمال الآخرة، وكان يرتزق من النسخ، ورحل إلى الشام فأقام بها بدمشق وبيت المقدس مدة، وصنف في هذه المدة كتابه ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وهو كتاب عجيب، ويشتمل على علوم كثيرة من الشرعيات، وممزوج بأشياء لطيفة من التصوف وأعمال القلوب، لكن فيه أحاديث كثيرة وغرائب ومنكرات وموضوعات، كما يوجد في غيره من كتب الفروع التي يستدل بها على الحلال والحرام، فالكتاب الموضوع للرقائق والترغيب والترهيب أسهل أمراً من غيره، وقد شنع عليه أبو الفرج بن الجوزي، ثم ابن الصلاح، في ذلك تشنيعاً كثيراً، وأراد المازري أن يحرق كتابه ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وكذلك غيره من المغاربة، وقالوا‏:‏ هذا كتاب إحياء علوم دينه، وأما ديننا فإحياء علومه كتاب الله وسنة رسوله‏.‏

كما قد حكيت ذلك في ترجمته في ‏(‏الطبقات‏)‏، وقد زيف ابن شكر مواضع ‏(‏إحياء علوم الدين‏)‏، وبيّن زيفها في مصنف مفيد، وقد كان الغزالي يقول‏:‏ أنا مزجي البضاعة في الحديث‏.‏

ويقال‏:‏ إنه مال في آخر عمره إلى سماع الحديث والتحفظ للصحيحين، وقد صنف ابن الجوزي كتاباً على الأحياء وسماه ‏(‏علوم الأحيا بأغاليط الإحيا‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/215‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ثم ألزمه بعض الوزراء بالخروج إلى نيسابور فدرس بنظاميتها، ثم عاد إلى بلده طوس فأقام بها، وابتنى رباطاً واتخذ داراً حسنة، وغرس فيها بستاناً أنيقاً، وأقبل على تلاوة القرآن وحفظ الأحاديث الصحاح، وكانت وفاته في يوم الاثنين الرابع عشر من جمادى الآخرة من هذه السنة، ودفن بطوس رحمه الله تعالى، وقد سأله بعض أصحابه وهو في السياق فقال‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ عليك بالإخلاص، ولم يزل يكررها حتى مات، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسمائة

في جمادى الآخرة منها جلس ابن الطبري مدرساً بالنظامية وعزل عنها الشاشي‏.‏

وفيها‏:‏ دخل الشيخ الصالح أحد العباد يوسف بن داود إلى بغداد، فوعظ الناس، وكان له القبول التام، وكان شافعياً تفقه بالشيخ أبي إسحاق الشيرازي، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة، وكانت له أحوال صالحة، جاراه رجل مرة يقال له‏:‏ ابن السقافي، مسألة فقال له‏:‏ اسكت فإني أجد من كلامك رائحة الكفر، ولعلك أن تموت على غير دين الإسلام‏.‏

فاتفق بعد حين أنه خرج ابن السقا إلى بلاد الروم في حاجة، فتنصر هناك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقام إليه مرة وهو يعظ الناس ابنا أبي بكر الشاشي فقالا له‏:‏ إن كنت تتكلم على مذهب الأشعري وإلا فاسكت‏.‏

فقال‏:‏ لا متعتما بشبابكما‏.‏

فماتا شابين، ولم يبلغا سن الكهولة‏.‏

وحج بالناس فيها أمير الجيوش بطز الخادم، ونالهم عطش‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 صاعد بن منصور

ابن إسماعيل بن صاعد، أبو العلاء الخطيب النيسابوري، سمع الحديث الكثير، وولي الخطابة بعد أبيه والتدريس والتذكير، وكان أبو المعالي الجويني يثني عليه، وقد ولي قضاء خوارزم‏.‏

 محمد بن موسى بن عبد الله

أبو عبد الله البلاساغوني التركي الحنفي، ويعرف باللامشي، أورد عنه الحافظ ابن عساكر حديثاً وذكر أنه ولي قضاء بيت المقدس، فشكوا منه فعزل عنها، ثم ولي قضاء دمشق، وكان غالياً في مذهب أبي حنيفة، وهو الذي رتب الإقامة مثنى، قال‏:‏ إلى أن أزال الله ذلك بدولة الملك صلاح الدين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/216‏)‏

قال‏:‏ وكان قد عزم على نصب إمام حنفي بالجامع، فامتنع أهل دمشق من ذلك، وامتنعوا من الصلاة خلفه، وصلوا بأجمعهم في دار الخيل، وهي التي قبل الجامع مكان المدرسة الأمينية، وما يجاورها وحدها الطرقات الأربعة، وكان يقول‏:‏ لو كانت لي الولاية لأخذت من أصحاب الشافعي الجزية‏.‏

وكان مبغضاً لأصحاب مالك أيضاً‏.‏

قال‏:‏ ولم تكن سيرته في القضاء محمودة‏.‏

وكانت وفاته يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة منها‏.‏

قال‏:‏ وقد شهدت جنازته وأنا صغير في الجامع‏.‏

 المعمر بن المعمر

أبو سعد بن أبي عمار الواعظ، كان فصيحاً بليغاً ماجناً ظريفاً ذكياً، له كلمات في الوعظ حسنة ورسائل مسموعة مستحسنة، توفي في ربيع الأول منها، ودفن بباب حرب‏.‏

 أبو علي المعري

كان عابداً زاهداً، يتقوت بأدنى شيء، ثم عنّ له أن يشتغل بعلم الكيمياء، فأخذ إلى دار الخلافة فلم يظهر له خبر بعد ذلك‏.‏

نزهة

أم ولد الخليفة المستظهر بالله، كانت سوداء محتشمة كريمة النفس، توفيت يوم الجمعة ثاني عشر شوال منها‏.‏

 أبو سعد السمعاني

مصنف ‏(‏الأنساب‏)‏ وغيره، وهو تاج الإسلام عبد الكريم بن محمد بن أبي المظفر المنصور عبد الجبار السمعاني، المروزي، الفقيه الشافعي، الحافظ المحدث، قوام الدين أحد الأئمة المصنفين، رحل وسمع الكثير حتى كتب عن أربعة آلاف شيخ، وصنف ‏(‏التفسير‏)‏ و‏(‏التاريخ‏)‏ و‏(‏الأنساب‏)‏ و‏(‏الذيل‏)‏ على تاريخ الخطيب البغدادي‏.‏

وذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة جداً، منها كتابه الذي جمع فيه ألف حديث عن مائة شيخ، وتكلم عليها إسناداً ومتناً، وهو مفيد جداً، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/217‏)‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين المسلمين والفرنج في أرض طبرية، كان فيها ملك دمشق الأتابك طغتكين، ومعه صاحب سنجار وصاحب ماردين، وصاحب الموصل، فهزموا الفرنج هزيمة فاضحة، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وغنموا منهم أموالاً جزيلة، وملكوا تلك النواحي كلها، ولله الحمد والمنة، ثم رجعوا إلى دمشق فذكر ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏ مقتل الملك مودود صاحب الموصل في هذه السنة، قال‏:‏ صلى هو والملك طغتكين يوم الجمعة بالجامع، ثم خرجا إلى الصحن ويد كل واحد منهما في يد الآخر فطفر باطني على مودود فقتله، رحمه الله‏.‏

فيقال‏:‏ إن طغتكين هو الذي مالأ عليه، فالله أعلم‏.‏

وجاء كتاب من الفرنج إلى المسلمين وفيه‏:‏ أن أمة قتلت عميدها في يوم عيدها في بيت معبودها لحقيق على الله أن يبيدها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك حلب ألب أرسلان بن رضوان بن تتش بعد أبيه، وقام بأمر سلطنته لؤلؤ الخادم، فلم يبق معه سوى الرسم‏.‏

وفيها‏:‏ فتح المارستان الذي أنشأه كمشتكين الخادم ببغداد‏.‏

وحج بالناس زنكي بن برشق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن الحافظ أبي بكر بن الحسين البيهقي

سمع الكثير وتنقل في البلاد، ودرس بمدينة خوارزم، وكان فاضلاً من أهل الحديث، مرضي الطريقة، وكانت وفاته ببلده بيهق في هذه السنة‏.‏

 شجاع بن أبي شجاع

فارس بن الحسين بن فارس أبو غالب الذهلي الحافظ، سمع الكثير، وكان فاضلاً في هذا الشأن، وشرع في تتميم تاريخ الخطيب ثم غسله، وكان يكثر من الاستغفار والتوبة لأنه كتب شعر ابن الحجاج سبع مرات، توفي في هذا العام عن سبع وسبعين سنة‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن أحمد بن إسحاق بن الحسين بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن معاوية بن أبي سفيان بن صخر بن حرب، الأموي أبو المظفر بن أبي العباس الأبيوردي الشاعر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/218‏)‏

كان عالماً باللغة والأنساب، سمع الكثير وصنف ‏(‏تاريخ أبي ورد‏)‏، و‏(‏أنساب العرب‏)‏، وله كتاب في المؤتلف والمختلف، وغير ذلك، وكان ينسب إلى الكبر والتيه الزائد، حتى كان يدعو في صلاته‏:‏ اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها‏.‏

وكتب مرة إلى الخليفة الخادم المعاوي، فكشط الخليفة الميم فبقت العاوي، ومن شعره قوله‏:‏

تنكر لي دهري ولم يدر أنني * أعز وأحداث الزمان تهون

وظل يريني الدهر كيف اغتراره * وبت أريه الصبر كيف يكون

 محمد بن طاهر

ابن علي بن أحمد، أبو الفضل المقدسي الحافظ، ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وأول سماعه سنة ستين، وسافر في طلب الحديث إلى بلاد كثيرة، وسمع كثيراً، وكان له معرفة جيدة بهذه الصناعة، وصنف كتباً مفيدة، غير أنه صنف كتاباً في إباحة السماع، وفي التصوف، وساق فيه أحاديث منكرة جداً، وأورد أحاديث صحيحة في غيره وقد أثنى على حفظه غير واحد من الأئمة‏.‏

وذكر ابن الجوزي في كتابه هذا الذي سماه ‏(‏صفة التصوف‏)‏ وقال عنه‏:‏ يضحك منه من رآه‏.‏

قال‏:‏ وكان داودي المذهب، فمن أثنى عليه أثنى لأجل حفظه للحديث، وإلا فما يجرح به أولى‏.‏

قال‏:‏ وذكره أبو سعد السمعاني وانتصر له بغير حجة، بعد أن قال‏:‏ سألت عنه شيخنا إسماعيل بن أحمد الطلحي فأكثر الثناء عليه، وكان سيء الرأي فيه‏.‏

قال‏:‏ وسمعنا أبا الفضل بن ناصر يقول محمد‏:‏ بن طاهر لا يحتج به، صنف في جواز النظر إلى المرد، وكان يذهب مذهب الإباحية، ثم أورد له من شعره قوله في هذه الأبيات‏:‏

دع التصوف والزهد الذي اشتغلت * به خوارج أقوام من الناس

وعج على دير داريا فإن به الرهـ * ـبان ما بين قسيس وشماس

واشرب معتقة من كف كافرة * تسقيك خمرين من لحظ ومن كاس

ثم استمع رنة الأوتار من رشأ * مهفهف طرفه أمضى من الماس

غنى بشعر امرئ في الناس مشتهر * مدون عندهم في صدر قرطاس

لولا نسيم بدا منكم يروحني * لكنت محترقاً من حر أنفاسي

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/219‏)‏

ثم قال السمعاني‏:‏ لعله قد تاب من هذا كله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا غير مرضي أن يذكر جرح الأئمة له ثم يعتذر عن ذلك باحتمال توبته‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي‏:‏ أنه لما احتضر جعل يردد هذا البيت‏:‏

وما كنتم تعرفون الجفا * فممن نرى قد تعلمتم

ثم كانت وفاته بالجانب الغربي من بغداد في ربيع الأول منها‏.‏

 أبو بكر الشاشي

صاحب ‏(‏المستظهري‏)‏، محمد بن أحمد بن الحسين الشاشي، أحد أئمة الشافعة في زمانه، ولد في المحرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث على أبي يعلى بن الفراء، وأبي بكر الخطيب، وأبي إسحاق الشيرازي، وتفقه عليه وعلى غيره، وقرأ ‏(‏الشامل‏)‏ على مصنفه ابن الصباغ، واختصره في كتابه الذي جمعه للمستظهر بالله، وسماه ‏(‏حلية العلماء بمعرفة مذاهب الفقهاء‏)‏، ويعرف ‏(‏بالمستظهري‏)‏، وقد درّس بالنظامية ببغداد ثم عزل عنها وكان ينشد‏:‏

تعلم يا فتى والعود غض * وطينك لين والطبع قابل

فحسبك يا فتى شرفاً وفخراً * سكوت الحاضرين وأنت قائل

توفي سحر يوم السبت السادس عشر من شوال منها، ودفن إلى جانب أبي إسحاق الشيرازي بباب إبرز‏.‏

 المؤتمن بن أحمد

ابن علي بن الحسين بن عبيد الله، أبو نصر الساجي المقدسي، سمع الحديث الكثير، وخرج وكان صحيح النقل، حسن الخط، مشكور السيرة لطيفاً، اشتغل في الفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي مدة، ورحل إلى أصبهان وغيرها، وهو معدود من جملة الحفاظ، لا سيما للمتون، وقد تكلم فيه ابن طاهر‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهو أحق منه بذلك، وأين الثريا من الثرى ‏؟‏

توفي المؤتمن يوم السبت ثاني عشر صفر منها، ودفن بباب حرب، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع حريق عظيم ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة هائلة بأرض الجزيرة، هدمت منها ثلاثة عشر برجاً، ومن الرها بيوتاً كثيرة، وبعض دور خراسان، ودوراً كثيرة في بلاد شتى، فهلك من أهلها نحو من مائة ألف، وخسف بنصف قلعة حران وسلم نصفها، وخسف بمدينة سميساط، وهلك تحت الردم خلق كثير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/220‏)‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب حلب تاج الدولة ألب أرسلان بن رضوان بن تتش، قتله غلمانه، وقام من بعده أخوه السلطان شاه بن رضوان‏.‏

وفيها‏:‏ ملك السلطان سنجر بن ملكشاه بلاد غزنة، وخطب له بها بعد مقاتلة عظيمة، وأخذ منها أموالاً كثيرة لم يرى مثلها، من ذلك خمس تيجان قيمة كل تاج منها ألف ألف دينار، وسبعة عشر سريراً من ذهب وفضة، وألف وثلاثمائة قطعة مصاغ مرصعة، فأقام بها أربعين يوماً، وقرر في ملكها بهرام شاه، رجل من بيت سبكتكين، ولم يخطب بها لأحد من السلجوقية غير سنجر هذا، وإنما كان لها ملوك سادة أهل جهاد وسنة، لا يجسر أحد من الملوك عليهم، ولا يطيق أحد مقاومتهم، وهم بنو سبكتكين‏.‏

وفيها‏:‏ ولى السلطان محمد الأمير آقسنقر البرسقي الموصل وأعمالها، وأمره بمقاتلة الفرنج، فقاتلهم في أواخر هذه السنة فأخذ منهم الرها وحريمها وبروج وسميساط، ونهب ماردين وأسر ابن ملكها إياز إيلغازي، فأرسل السلطان محمد إليه من يتهدده ففر منه إلى طغتكين صاحب دمشق، فاتفقا على عصيان السلطان محمد، فجرت بينهما وبين نائب حمص قرجان بن قراجة حروب كثيرة، ثم اصطلحوا‏.‏

وفيها‏:‏ ملكت زوجة مرعش الإفرنجية بعد وفاة زوجها لعنهما الله‏.‏

وحج بالناس فيها أمير الجيوش أبو الخير يمن الخادم، وشكر الناس حجهم معه‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسمائة

فيها‏:‏ جهز السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه صاحب العراق جيشاً كثيفاً مع الأمير برشق بن إيلغازي صاحب ماردين إلى صاحب دمشق طغتكين، وإلى آقسنقر البرشقي ليقاتلهما، لأجل عصيانهما عليه، وقطع خطبته، وإذا فرغ منهما عمد لقتال الفرنج‏.‏

فلما اقترب الجيش من بلاد الشام هربا منه وتحيزا إلى الفرنج، وجاء الأمير برشق إلى كفرطاب ففتحها عنوة، وأخذ ما كان فيها من النساء والذرية، وجاء صاحب إنطاكية روجيل في خمسمائة فارس وألفي راجل، فكبس المسلمين فقتل منهم خلقاً كثيراً، وأخذ أموالاً جزيلة، وهرب برشق في طائفة قليلة، وتمزق الجيش الذي كان معه شذر مذر، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/221‏)‏

وفي ذي القعدة منها قدم السلطان محمد إلى بغداد، وجاء إلى طغتكين صاحب دمشق معتذراً إليه، فخلع عليه، ورضي عنه ورده إلى عمله‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 إسماعيل بن محمد

ابن أحمد بن علي أبو عثمان الأصبهاني أحد الرحالين في طلب الحديث، وقد وعظ في جامع المنصور ثلاثين مجلساً، واستملى عليه محمد بن ناصر، وتوفي بأصبهان‏.‏

 منجب بن عبد الله المستظهري

أبو الحسن الخادم، كان كثير العبادة، وقد أثنى عليه محمد بن ناصر، قال‏:‏ وقف على أصحاب الحديث وقفاً‏.‏

 عبد الله بن المبارك

ابن موسى، أبو البركات السقطي، سمع الكثير ورحل فيه، وكان فاضلاً عارفاً باللغة، ودفن بباب حرب‏.‏

 يحيى بن تميم بن المعز بن باديس

صاحب إفريقية، كان من خيار الملوك، عارفاً حسن السيرة، محباً للفقراء والعلماء، وله عليهم أرزاق، مات وله اثنتان وخمسون سنة، وترك ثلاثين ولداً، وقام بالأمر من بعده ولده علي‏.‏

 ثم دخلت سنة عشر وخمسمائة

فيها‏:‏ وقع حريق ببغداد احترقت فيه دور كثيرة، منها دار نور الهدى الزينبي، ورباط نهر زور، ودار كتب النظامية، وسلمت الكتب لأن الفقهاء نقلوها‏.‏

وفيها‏:‏ قتل صاحب مراغة في مجلس السلطان محمد، قتله الباطنية‏.‏

وفي يوم عاشوراء وقعت فتنة عظيمة بين الروافض والسنة بمشهد علي بن موسى الرضا بمدينة طوس، فقتل فيها خلق كثير‏.‏

وفيها‏:‏ سار السلطان إلى فارس بعد موت نائبها خوفاً عليها من صاحب كرمان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/222‏)‏

وحج بالناس بطز الخادم، وكانت سنة مخصبة آمنة، ولله الحمد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عقيل بن الإمام أبي الوفا

علي بن عقيل الحنبلي، كان شاباً قد برع وحفظ القرآن وكتب وفهم المعاني جيداً، ولما توفي صبر أبوه وشكر وأظهر التجلد، فقرأ قارئ في العزاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏:‏ 78‏]‏، فبكى ابن عقيل بكاء شديداً‏.‏

 علي بن أحمد بن محمد

ابن الرزاز، آخر من حدث عن ابن مخلد بجزء الحسن بن عرفة، وتفرد بأشياء غيره، توفي فيها عن سبع وتسعين سنة‏.‏

 محمد بن منصور

ابن محمد بن عبد الجبار، أبو بكر السمعاني، سمع الكثير وحدث ووعظ بالنظامية ببغداد، وأملى بمرو مائة وأربعين مجلساً، وكانت له معرفة تامة بالحديث، وكان أديباً شاعراً فاضلاً، له قبول عظيم في القلوب، توفي بمرو عن ثلاث وأربعين سنة‏.‏

 محمد بن أحمد بن طاهر

ابن أحمد بن منصور الخازن، فقيه الإمامية ومفتيهم بالكرخ، وقد سمع الحديث من التنوخي وابن غيلان، توفي في رمضان منها‏.‏

 محمد بن علي بن محمد

أبو بكر النسوي، الفقيه الشافعي، سمع الحديث، وكانت إليه تزكية الشهود ببغداد، وكان فاضلاً أديباً ورعاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/223‏)‏

 محفوظ بن أحمد

ابن الحسن، أبو الخطاب الكلوذاني، أحد أئمة الحنابلة ومصنفيهم، سمع الكثير وتفقه بالقاضي أبي يعلى، وقرأ الفرائض على الوني، ودرس وأفتى وناظر وصنف في الأصول والفروع، وله شعر حسن، وجمع قصيدة يذكر فيها اعتقاده ومذهبه يقول فيها‏:‏

دع عنك تذكار الخليط المتحد * والشوق نحو الآنسات الخرد

والنوح في تذكار سعدى إنما * تذكار سعدى شغل من لم يسعد

واسمع معاني إن أردت تخلصاً * يوم الحساب وخذ بقولي تهتدي

وذكر تمامها وهي طويلة، كانت وفاته في جمادى الآخرة من هذه السنة عن ثمان وسبعين سنة، وصلي عليه بجامع القصر، وجامع المنصور، ودفن بالقرب من الإمام أحمد‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى عشرة وخمسمائة

في رابع صفر منها انكسف القمر كسوفاً كلياً، وفي تلك الليلة هجم الفرنج على ربض حماه فقتلوا خلقاً كثيراً، ورجعوا إلى بلادهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببغداد سقط منها دور كثيرة بالجانب الغربي، وغلت الغلات بها جداً‏.‏

وفيها‏:‏ قتل لؤلؤ الخادم الذي كان استحوذ على مملكة حلب بعد موت أستاذه رضوان بن تتش، قتله جماعة من الأتراك، وكان قد خرج من حلب متوجهاً إلى جعبر، فنادى جماعة من مماليكه وغيرهم‏:‏ أرنب، أرنب‏.‏

فرموه بالنشاب موهمين أنهم يصيدون أرنباً فقتلوه‏.‏

وفيها‏:‏ كان وفاة غياث الدين السلطان محمد بن ملكشاه بن ألب أرسلان بن داود بن ميكائيل بن سلجوق، سلطان بلاد العراق وخراسان وغير ذلك من البلاد الشاسعة، والأقاليم الواسعة‏.‏

كان من خيار الملوك وأحسنهم سيرة، عادلاً رحيماً، سهل الأخلاق، محمود العشرة، ولما حضرته الوفاة استدعى ولده محموداً وضمه إليه وبكى كل منهما، ثم أمره بالجلوس على سرير المملكة، وعمره إذ ذاك أربعة عشر سنة، فجلس وعليه التاج والسواران وحكم، ولما توفي أبوه صرف الخزائن إلى العساكر، وكان فيها إحدى عشر ألف ألف دينار، واستقر الملك له، وخطب له ببغداد وغيرها من البلاد، ومات السلطان محمد عن تسع وثلاثين سنة وأربعة أشهر وأياماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن آقسنقر، صاحب حلب بدمشق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/224‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي المرتضى

أبو محمد عبد الله بن القاسم بن ا المظفر بن علي بن القاسم الشهرزوري، والد القاضي جمال الدين عبد الله الشهرزوري، قاضي دمشق في أيام نور الدين، اشتغل ببغداد وتفقه بها، وكان شافعي المذهب، بارعاً ديناً، حسن النظم، وله قصيدة في علم التصوف، وكان يتكلم على القلوب، أورد قصيدته بتمامها ابن خلكان لحسنها وفصاحتها وأولها‏:‏

لمعت نارهم وقد عسعس الليـ * ـل وملّ الحادي وحار الدليل

فتأملتها وفكري من البيـ * ـن عليل ولحظ عيني كليل

وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى * وغرامي ذاك الغرام الدخيل

وله‏:‏

يا ليل ما جئتكم زائراً * إلا وجدت الأرض تطوى لي

ولا ثنيت العزم عن بابكم * إلا تعثرت بأذيالي

وله‏:‏

يا قلب إلى متى لا يفيد النصح * دع مزحك كم جنى عليك المزح

ما جارحة منك غذاها جرح * ما تشعر بالخمار حتى تصحو

توفي في هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وزعم عماد الدين في ‏(‏الخريدة‏)‏‏:‏ أنه توفي بعد العشرين وخمسمائة، فالله أعلم‏.‏

 محمد بن سعد

ابن نبهان، أبو علي الكاتب، سمع الحديث وروى وعمر مائة سنة وتغير قبل موته، وله شعر حسن، فمنه قوله في قصيدة له‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/225‏)‏

لي رزق قدره الله * نعم ورزق أتوقاه

حتى إذا استوفيت منه * الذي قدر لي لا أتعداه

قال كرام كنت أغشاهم * في مجلس كنت أغشاه

صار ابن نبهان إلى ربه * يرحمنا الله وإياه

 أمير الحاج

يمن بن عبد الله أبو الخير المستظهري، كان جواداً كريماً ممدحاً ذا رأي وفطنة ثاقبة، وقد سمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن طلحة النعالي بإفادة أبي نصر الأصبهاني، وكان يؤم به في الصلوات، ولما قدم رسولاً إلى أصبهان حدث بها‏.‏

توفي في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بأصبهان‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتي عشرة وخمسمائة

فيها‏:‏ خطب للسلطان محمد بن ملكشاه بأمر الخليفة المستظهر بالله‏.‏

وفيها‏:‏ سأل دبيس بن صدقة الأسدي من السلطان محمود أن يرده إلى الحلة وغيرها، مما كان أبوه يتولاه من الأعمال، فأجابه إلى ذلك، فعظم وارتفع شأنه‏.‏

 وفاة الخليفة المستظهر بالله

هو أبو العباس أحمد بن المقتدي، كان خيراً فاضلاً ذكياً بارعاً، كتب الخط المنسوب، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راغباً في البر والخير، مسارعاً إلى ذلك، لا يرد سائلاً، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيداً، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير، وله شعر حسن قد ذكرناه أولاً عند ذكر خلافته‏.‏

وقد ولي غسله ابن عقيل وابن السني، وصلى عليه ولده أبو منصور الفضل وكبر أربعاً، ودفن في حجرة كان يسكنها، ومن العجب أنه لما مات السلطان ألب أرسلان مات بعده الخليفة القائم، ثم لما مات السلطان ملكشاة مات بعده المقتدي، ثم لما مات السلطان محمد مات بعده المستظهر هذا، في سادس عشر ربيع الآخر، وله من العمر إحدى وأربعون سنة، وثلاثة أشهر وإحدى عشر يوماً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/226‏)‏

 خلافة المسترشد أمير المؤمنين

أبو منصور الفضل بن المستظهر‏:‏ لما توفي أبوه كما ذكرنا بويع له بالخلافة، وخطب له على المنابر، وقد كان ولي العهد من بعده مدة ثلاث وعشرين سنة، وكان الذي أخذ البيعة له قاضي القضاة أبو الحسن الدامغاني، ولما استقرت البيعة له هرب أخوه أبو الحسن في سفينة ومعه ثلاثة نفر، وقصد دبيس بن صدقة بن منصور بن دبيس بن علي بن مزيد الأسدي بالحلة، فأكرمه وأحسن إليه، فقلق أخوه الخليفة المسترشد من ذلك، فراسل دبيساً في ذلك مع نقيب النقباء الزينبي، فهرب أخو الخليفة من دبيس فأرسل إليه جيشاً فألجأوه إلى البرية، فلحقه عطش شديد، فلقيه بدويان فسقياه ماء وحملاه إلى بغداد، فأحضره أخوه إليه فاعتنقا وتباكيا، وأنزله الخليفة داراً كان يسكنها قبل الخلافة، وأحسن إليه، وطيب نفسه، وكانت مدة غيبته عن بغداد إحدى عشر شهراً، واستقرت الخلافة بلا منازعة للمسترشد‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد ببغداد وانقطع الغيث وعدمت الأقوات، وتفاقم أمر العيارين ببغداد، ونهبوا الدور نهاراً جهاراً، ولم يستطع الشرط دفع ذلك‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة الخادم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخليفة المستظهر

كما تقدم‏.‏

ثم توفيت بعده جدته أم أبيه المقتدي‏.‏

 أرجوان الأرمنية

وتدعى قرة العين، كان لها بر كثير ومعروف، وقد حجت ثلاث حجات، وأدركت خلافة ابنها المقتدي، وخلافة ابنه المستظهر، وخلافة ابنه المسترشد، ورأت للمسترشد ولداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/227‏)‏

 بكر بن محمد بن علي

ابن الفضل أبو الفضل الأنصاري، روى الحديث، وكان يضرب به المثل في مذهب أبي حنيفة، وتفقه على عبد العزيز بن محمد الحلواني، وكان يذكر الدروس من أي موضع سئل من غير مطالعة ولا مراجعة، وربما كان في ابتداء طلبه يكرر المسألة أربعمائة مرة، توفي في شعبان منها‏.‏

 الحسين بن محمد بن عبد الوهاب

الزينبي، قرأ القرآن، وسمع الحديث، وتفقه على أبي عبد الله الدامغاني، فبرع وأفتى ودرس بمشهد أبي حنيفة، ونظر في أوقافها، وانتهت إليه رياسة مذهب أبي حنيفة، ولقب نور الهدى، وسار في الرسلية إلى الملوك، وولي نقابة الطالبيين والعباسيين، ثم استعفى بعد شهور فتولاها أخوه طراد‏.‏

توفي يوم الاثنين الحادي عشر من صفر، وله من العمر ثنتان وتسعون سنة، وصلى عليه ابنه أبو القاسم علي، وحضرت جنازته الأعيان والعلماء، ودفن عند قبر أبي حنيفة داخل القبة‏.‏

 يوسف بن أحمد أبو طاهر

ويعرف بابن الجزري، صاحب المخزن في أيام المستظهر، وكان لا يوفي المسترشد حقه من التعظيم وهو ولي العهد، فلما صارت إليه الخلافة صادره بمائة ألف دينار، ثم استقر غلاماً له فأومأ إلى بيت فوجد فيه أربعمائة ألف دينار، فأخذها الخليفة ثم كانت وفاته بعد هذا بقليل بهذا العام‏.‏

 أبو الفضل بن الخازن

كان أديباً لطيفاً شاعراً فاضلاً، فمن شعره قوله‏:‏

وافيت منزله فلم أر صاحباً * إلا تلقاني بوجه ضاحك

والبشر في وجه الغلام نتيجة * لمقدمات ضياء وجه المالك

ودخلت جنته وزرت جحيمه * فشكرت رضواناً ورأفة مالك

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/228‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث عشرة وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت الحروب الشديدة بين السلطان محمود بن محمد وبين عمه السلطان سنجر بن ملكشاه، وكان النصر فيها لسنجر، فخطب له ببغداد في سادس عشر جمادى الأولى من هذه السنة، وقطعت خطبة ابن أخيه في سائر أعماله‏.‏

وفيها‏:‏ سارت الفرنج إلى مدينة حلب ففتحوها عنوة وملكوها، وقتلوا من أهلها خلقاً، فسار إليهم صاحب ماردين إيلغازي بن أرتق في جيش كثيف، فهزمهم ولحقهم إلى جبل قد تحصنوا به، فقتل منهم هنالك مقتلة عظيمة، ولله الحمد‏.‏

ولم يفلت منهم إلا اليسير، وأسر من مقدميهم نيفاً وتسعين رجلاً، وقتل فيمن قتل سيرجال صاحب إنطاكية، وحمل رأسه إلى بغداد، فقال بعض الشعراء في ذلك وقد بالغ مبالغة فاحشة‏:‏

قل ما تشاء فقولك المقبول * وعليك بعد الخالق التعويل

واستبشر القرآن حين نصرته * وبكى لفقد رجاله الإنجيل

وفيها‏:‏ قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وكان ظالماً غاشماً سيء السيرة، قتله السلطان محمود بن محمد صبراً بين يديه لأمور، منها‏:‏ أنه تزوج سرية أبيه قبل انقضاء عدتها، ونعم ما فعل وقد أراح الله المسلمين منه ما كان أظلمه وأغشمه‏.‏

وفيها‏:‏ تولى قضاء قضاة بغداد الأكمل أبو القاسم بن علي بن أبي طالب بن محمد الزينبي، وخلع عليه بعد موت أبي الحسن الدامغاني‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر قبر إبراهيم الخليل عليه السلام وقبر ولديه إسحاق ويعقوب، وشاهد ذلك الناس، ولم تبلَ أجسادهم، وعندهم قناديل من ذهب وفضة، ذكر ذلك ابن الخازن في ‏(‏تاريخه‏)‏، وأطال نقله من ‏(‏المنتظم‏)‏ لابن الجوزي، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/229‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 ابن عقيل

علي بن عقيل بن محمد، أبو الوفا شيخ الحنابلة ببغداد، وصاحب ‏(‏الفنون‏)‏ وغيرها من التصانيف المفيدة، ولد سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وقرأ القرآن على ابن سبطا، وسمع الحديث الكثير، وتفقه بالقاضي أبي يعلى بن الفراء، وقرأ الأدب على ابن برهان، والفرائض على عبد الملك الهمداني، والوعظ على أبي طاهر بن العلاف، صاحب ابن سمعون، والأصول على أبي الوليد المعتزلي، وكان يجتمع بجميع العلماء من كل مذهب، فربما لامه بعض أصحابه فلا يلوي عليهم، فلهذا برز على أقرانه وساد أهل زمانه في فنون كثيرة، مع صيانة وديانة وحسن صورة وكثرة اشتغال، وقد وعظ في بعض الأحيان فوقعت فتنة فترك ذلك، وقد متعه الله بجميع حواسه إلى حين موته‏.‏

توفي بكرة الجمعة ثاني جمادى الأولى من هذه السنة، وقد جاوز الثمانين، وكانت جنازته حافلة جداً، ودفن قريباً من قبر الإمام أحمد، إلى جانب الخادم مخلص، رحمه الله‏.‏

 أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني

قاضي القضاة ابن قاضي القضاة، ولد في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد وله من العمر ست وعشرون سنة، ولا يعرف حاكم قضى لأربعة من الخلفاء غيره إلا شريح، ثم ذكر إمامته وديانته وصيانته مما يدل على نخوته، وتفوقه وقوته، تولى الحكم أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر، وقبره عند مشهد أبي حنيفة‏.‏

 المبارك بن علي

ابن الحسين أبو سعد المخرمي، سمع الحديث وتفقه على مذهب أحمد، وناظر وأفتى ودرس، وجمع كتباً كثيرة لم يسبق إلى مثلها، وناب في القضاء وكان حسن السيرة جميل الطريق، سديد الأقضية، وقد بنى مدرسة بباب الأزج وهي المنسوبة إلى الشيخ عبد القادر الجيلي الحنبلي، ثم عزل عن القضاء وصودر بأموال جزيلة، وذلك في سنة إحدى عشرة وخمسمائة، وتوفي في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب أبي بكر الخلال عند قبر أحمد‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة

في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطان محمود ومسعود ابني محمد بن ملكشاه عند عقبة أسداباذ، فانهزم عسكر مسعود وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل وجماعة من أمرائه، فأمر السلطان محمود بقتل الوزير أبي إسماعيل، فقتل وله نيف وستون سنة، وله تصانيف في صناعة الكيمياء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/230‏)‏

ثم أرسل إلى أخيه مسعود الأمان واستقدمه عليه، فلما التقيا بكيا واصطلحا‏.‏

وفيها‏:‏ نهب دبيس صاحب الحلة البلاد، وركب بنفسه إلى بغداد، ونصب خيمته بإزاء دار الخلافة، وأظهر ما في نفسه من الضغائن، وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد، وتهدد المسترشد، فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود، فلما قدم السلطان محمود بغداد أرسل دبيس يستأمن فأمنه وأجراه على عادته، ثم إنه نهب جسر السلطان فركب بنفسه السلطان لقتاله واستصحب معه ألف سفينة ليعبر فيها، فهرب دبيس والتجأ إلى إيلغازي فأقام عنده سنة، ثم عاد إلى الحلة وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما مما كان منه، فلم يقبلا منه، وجهز إليه السلطان جيشاً فحاصروه وضيقوا عليه قريباً من سنة، وهو ممتنع في بلاده لا يقدر الجيش على الوصول إليه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة بين الكُرج والمسلمين بالقرب من تفليس، ومع الكرج كفار الفقجاق فقتلوا من المسلمين خلقاً كثيراً، وغنموا أموالاً جزيلة، وأسروا نحواً من أربعة آلاف أسير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ونهب الكُرج تلك النواحي وفعلوا أشياء منكرة، وحاصروا تفليس مدة ثم ملكوها عنوة، بعد ما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون منهم الأمان، وقتلوا عامة أهلها، وسبوا الذرية واستحوذوا على الأموال، فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

وفيها‏:‏ أغار جوسكين الفرنجي على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وأخذ أموالهم، وهذا هو صاحب الرها‏.‏

وفيها‏:‏ تمردت العيارون ببغداد وأخذوا الدور جهاراً ليلاً ونهاراً، فحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏

وفيها‏:‏ كان ابتداء ملك محمد بن تومرت ببلاد المغرب، كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب فسكن النظامية ببغداد، واشتغل بالعلم فحصل منه جانباً جيداً من الفروع والأصول، على الغزالي وغيره، وكان يظهر التعبد والورع، وربما كان ينكر على الغزالي حسن ملابسه، ولا سيما لما لبس خلع التدريس بالنظامية أظهر الإنكار عليه جداً، وكذلك على غيره، ثم إنه حج وعاد إلى بلاده، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ويشغلهم في الفقه، فطار ذكره في الناس، واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية، فعظمه وأكرمه، وسأله الدعاء، فاشتهر أيضاً بذلك، وبعد صيته، وليس معه إلا ركوة وعصا، ولا يسكن إلا المساجد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/131‏)‏

ثم جعل ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ومعه تلميذه عبد المؤمن بن علي، وقد كان توسم النجابة والشهامة فيه، فرأى في مراكش من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها، من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن، فأخذ في إنكار ذلك حتى أنه اجتازت به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين يوسف ملك مراكش وما حولها، ومعها نساء مثلها راكبات حاسرات عن وجوههن، فشرع هو وأصحابه في الإنكار عليهن، وجعلوا يضربون وجوه الدواب فسقطت أخت الملك عن دابتها، فأحضره الملك وأحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة، وأخذ يعظ الملك في خاصة نفسه، حتى أبكاه ومع هذا نفاه الملك عن بلده فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله، فاتبعه على ذلك خلق كثير‏.‏

فجهز إليه الملك جيشاً كثيفاً فهزمهم ابن تومرت، فعظم شأنه وارتفع أمره، وقويت شوكته، وتسمى بالمهدي، وسمى جيشه جيش الموحدين وألف كتاباً في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة، ثم كانت له وقعات مع جيوش صاحب مراكش، فقتل منهم في بعض الأيام نحواً من سبعين ألفاً، وذلك بإشارة أبي عبد الله التومرتي، وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن والموطأ، وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه، فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالاً، فلما سألهم عن ذلك والناس حضور معه على ذلك البئر شهدوا له بذلك، فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم، ولهذا يقال‏:‏ من أعان ظالماً سلط عليه‏.‏

ثم جهز ابن تومرت الذي لقب نفسه بالمهدي جيشاً عليهم أبو عبد الله التومرتي، وعبد المؤمن، لمحاصرة مراكش، فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان في جملة من قتل أبو عبد الله التومرتي هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه، ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه، فقالوا إن الملائكة رفعته‏.‏

وقد كان عبد المؤمن دفنه والناس في المعركة، وقتل ممن معه من أصحاب المهدي خلق كثير، وقد كان حين جهز الجيش مريضاً مدنفاً، فلما جاءه الخبر ازداد مرضاً إلى مرضه، وساءه قتل أبي عبد الله التومرتي، وجعل الأمر من بعده لعبد المؤمن بن علي ولقبه أمير المؤمنين‏.‏

وقد كان شاباً حسناً حازماً عاقلاً، ثم مات ابن تومرت وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة، ومدة ملكه عشر سنين، وحين صار إلى عبد المؤمن بن علي الملك أحسن إلى الرعايا، وظهرت له سيرة جيدة فأحبه الناس، واتسعت ممالكه، وكثرت جيوشه ورعيته، ونصب العداوة إلى تاشفين صاحب مراكش، ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين، فمات تاشفين فقام ولده من بعده، فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/232‏)‏

فتولى أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين، فسار إليه عبد المؤمن فملك تلك النواحي، وفتح مدينة مراكش، وقتل هنالك أمماً لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل، قتل ملكها إسحاق وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين، وكان إسحاق هذا آخر ملوك المرابطين، وكان ملكهم سبعين سنة‏.‏

والذين ملكوا منهم أربعة‏:‏ علي وولده يوسف، وولداه أبو سفيان وإسحاق ابنا علي المذكور، فاستوطن عبد المؤمن مدينة مراكش، واستقر ملكه بتلك الناحية، وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل، وهم من الشجعان الأبطال، فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجماً غفيراً، وسبى ذراريهم، وغنم أموالهم حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة، وقد رأيت لبعضهم في سيرة ابن تومرت هذا مجلداً في أحكامه وإمامته، وما كان في أيامه، وكيف تملك بلاد المغرب، وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة، وهي محالات لا تصدر إلا عن فجرة، وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن عبد الوهاب بن السني

أبو البركات، أسند الحديث وكان يعلم أولاد الخليفة المستظهر، فلما صارت الخلافة إلى المسترشد ولاه المخزن، وكان كثير الأموال والصدقات، يتعاهد أهل العلم، وخلف مالاً كثيراً حزر بمائتي ألف دينار، أوصى منه بثلاثين ألف دينار لمكة والمدينة، توفي فيها عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر، وصلى عليه الوزير أبو علي بن صدقة، ودفن بباب حرب‏.‏

 عبد الرحيم بن عبد الكبير

ابن هوازن، أبو نصر القشيري، قرأ على أبيه وإمام الحرمين، وروى الحديث عن جماعة، وكان ذا ذكاء وفطنة، وله خاطر حاضر جريء، ولسان ماهر فصيح، وقد دخل بغداد فوعظ بها فوقع بسببه فتنة بين الحنابلة والشافعية، فحبس بسببها الشريف أبو جعفر بن أبي موسى، وأخرج ابن القشيري من بغداد لإطفاء الفتنة فعاد إلى بلده، توفي في هذه السنة‏.‏

 عبد العزيز بن علي

ابن حامد أبو حامد الدينوري، كان كثير المال والصدقات، ذا حشمة وثروة وجاهة عند الخليفة، وقد روى الحديث ووعظ، وكان مليح الإيراد حلو المنطق، توفي بالري، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/233‏)‏

 ثم دخلت سنة خمس عشر وخمسمائة

فيها‏:‏ أقطع السلطان محمود الأمير إيلغازي مدينة ميا فارقين، فبقيت في يد أولاده إلى أن أخذها صلاح الدين يوسف بن أيوب، في سنة ثمانين وخمسمائة‏.‏

وفيها‏:‏ أقطع آقسنقر البرشقي مدينة الموصل لقتال الفرنج‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر ملك بن بهرام وهو ابن أخي إيلغازي مدينة الرها فأسر ملكلها جوسكين الإفرنجي وجماعة من رؤس أصحابه وسجنهم بقلعة خرتبرت‏.‏

وفيها‏:‏ هبت ريح سوداء فاستمرت ثلاثة أيام فأهلكت خلقاً كثيراً من الناس والدواب‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالحجاز فتضعضع بسببها الركن اليماني، وتهدم بعضه، وتهدم شيء من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر رجل علوي بمكة كان قد اشتغل بالنظامية في الفقه وغيره، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فاتبعه ناس كثير فنفاه صاحبها ابن أبي هاشم إلى البحرين‏.‏

وفيها‏:‏ احترقت دار السلطان بأصبهان، فلم يبق فيها شيء من الآثار والقماش والجواهر والذهب والفضة سوى الياقوت الأحمر، وقبل ذلك بأسبوع احترق جامع أصبهان، وكان جامعاً عظيماً، فيه من الأخشاب ما يساوي ألف دينار، ومن جملة ما احترق فيه خمسمائة مصحف، من جملتها مصحف بخط أبي بن كعب، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي شعبان منها جلس الخليفة المسترشد في دار الخلافة في أبهة الخلافة وجاء الأخوان السلطان محمود ومسعود فقبلا الأرض ووقفا بين يديه، فخلع على محمود سبع خلع وطوقاً وسوارين وتاجاً، وأجلس على كرسي ووعظه الخليفة، وتلا عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7-8‏]‏ وأمره بالإحسان إلى الرعايا، وعقد له لواءين بيده، وقلده الملك، وخرجا من بين يديه مطاعين معظمين، والجيش بين أيديهما في أبهة عظيمة جداً‏.‏

وحج بالناس قطز الخادم‏.‏

 وممن توفي فيها‏:‏

 ابن القطاع اللغوي أبو القاسم علي بن جعفر بن محمد

ابن الحسين بن أحمد بن محمد بن زيادة الله بن محمد بن الأغلب السعدي الصقلي، ثم المصري اللغوي المصنف كتاب ‏(‏الأفعال‏)‏، الذي برز فيه على ابن القوطية، وله مصنفات كثيرة، قدم مصر في حدود سنة خمسمائة لما أشرفت الفرنج على أخذ صقلية، فأكرمه المصريون وبالغوا في إكرامه، وكان ينسب إلى التساهل في الدين، وله شعر جيد قوي، مات وقد جاوز الثمانين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/234‏)‏

 أبو القاسم شاهنشاه

الأفضل بن أمير الجيوش بمصر، مدبر دولة الفاطميين، وإليه تنسب قيسيرية أمير الجيوش بمصر، والعامة تقول مرجوش، وأبوه باني الجامع الذي بثغر الإسكندرية بسوق العطارين، ومشهد الرأس بعسقلان أيضاً، وكان أبوه نائب المستنصر على مدينة صور، وقيل‏:‏ على عكا، ثم استدعاه إليه في فصل الشتاء فركب البحر فاستنابه على ديار مصر، فسدد الأمور بعد فسادها، ومات في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وقام في الوزارة ولده الأفضل هذا، وكان كأبيه في الشهامة والصرامة، ولما مات المستنصر أقام المستعلي واستمرت الأمور على يديه، وكان عادلاً حسن السيرة، موصوفاً بجودة السريرة، فالله أعلم، ضربه فداوى وهو راكب فقتله في رمضان من هذه السنة، عن سبع وخمسين سنة‏.‏

وكانت إمارته من ذلك بعد أبيه ثمان وعشرين سنة، وكانت داره دار الوكالة اليوم بمصر، وقد وجد له أموال عديدة جداً تفوق العد والإحصاء، من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث، والجواهر النفائس، فانتقل ذلك كله إلى الخليفة الفاطمي فجعل في خزانته، وذهب جامعه إلى سواء الحساب على الفتيل من ذلك والنقير والقطمير، واعتاض عنه الخليفة بأبي عبد الله البطائحي، ولقبه المأمون‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ترك الأفضل من الذهب العين ستمائة ألف ألف دينار مكررة، ومن الدراهم مائتين وخمسين أردباً، وسبعين ثوب ديباج أطلس، وثلاثين راحلة أحقاق ذهب عراقي، ودواة ذهب فيها جوهرة باثني عشر ألف دينار، ومائة مسمار ذهب زنة كل مسمار مائة مثقال، في عشرة مجالس كان يجلس فيها، على كل مسمار منديل مشدود بذهب، كل منديل على لون من الألوان من ملابسه، وخمسمائة صندوق كسوة للبس بدنه‏.‏

قال‏:‏ وخلف من الرقيق والخيل والبغال والمراكب والمسك والطيب والحلي ما لا يعلم قدره إلا الله عز وجل، وخلف من البقر والجواميس والغنم ما يستحيي الإنسان من ذكره، وبلغ ضمان ألبانها في سنة وفاته ثلاثين ألف دينار، وترك صندوقين كبيرين مملوءين إبر ذهب برسم النساء‏.‏

 عبد الرزاق بن عبد الله

ابن علي بن إسحاق الطوسي، ابن أخي نظام الملك، تفقه بإمام الحرمين، وأفتى ودرّس وناظر، ووزر للملك سنجر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/235‏)‏

 خاتون السفريه

حظية السلطان ملكشاه، وهي أم السلطانين محمد وسنجر، كانت كثيرة الصدقة والإحسان إلى الناس، لها في كل سنة سبيل يخرج مع الحجاج‏.‏

وفيها دين وخير، ولم تزل تبحث حتى عرفت مكان أمها وأهلها، فبعثت الأموال الجزيلة حتى استحضرتهم، ولما قدمت عليها أمها كان لها عنها أربعين سنة لم ترها، فأحبت أن تستعلم فهمها فجلست بين جواريها، فلما سمعت أمها كلامها عرفتها فقامت إليها فاعتنقا وبكيا، ثم أسلمت أمها على يديها جزاها الله خيراً‏.‏

وقد تفردت بولادة ملكين من ملوك المسلمين، في دولة الأتراك والعجم، ولا يعرف لها نظير في ذلك إلا اليسير من ذلك وهي ولادة بنت العباس، ولدت لعبد الملك الوليد وسليمان، وشاهوند ولدت للوليد يزيد وإبراهيم، وقد وليا الخلافة أيضاً، والخيزران ولدت للمهدي الهادي والرشيد‏.‏

 الطغرائي

صاحب لامية العجم، الحسين بن علي بن عبد الصمد، مؤيد الدين الأصبهاني، العميد فخر الكتاب الليثي الشاعر، المعروف بالطغرائي، ولي الوزارة بأربل مدة، أورد له ابن خلكان قصيدته اللامية التي ألفها في سنة خمس وخمسمائة، في بغداد، يشرح فيها أحواله وأموره، وتعرف بلامية العجم أولها‏:‏

أصالة الرأي صانتني عن الخطل * وحلية الفضل زانتني لدى العطل

مجدي أخيراً ومجدي أولاً شرع * والشمس رأد الضحى كالشمس في الطفل

فيم الإقامة بالزوراء‏؟‏ لا سكني * بها ولا ناقتي فيها ولا جملي

وقد سردها ابن خلكان بكمالها، وأورد له غير ذلك من الشعر، والله أعلم‏.‏