فصل: الجزء الرابع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


الجزء الرابع عشر

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين وستمائة

استهلت والخليفة الحاكم العباسي وسلطان البلاد المنصور لاجين ونائبه بمصر مملوكه سيف الدين منكوتمر، وقاضي الشافعية الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد، والحنفي حسام الدين الرازي، والمالكي والحنبلي كما تقدم‏.‏

ونائب الشام سيف الدين قبجق المنصوري، وقضاة الشام هم المذكورون في التي قبلها، والوزير تقي الدين توبة، والخطيب بدر الدين بن جماعة‏.‏

ولما كان في أثناء المحرم رجعت طائفة من الجيش من بلاد سيس، بسبب المرض الذي أصاب بعضهم، فجاء كتاب السلطان بالعتب الأكيد والوعيد الشديد لهم، وأن الجيش يخرج جميعه صحبة نائب السلطنة قبجق إلى هناك، ونصب مشانق لمن تأخر بعذر أو غيره، فخرج نائب السلطنة الأمير سيف الدين قبجق وصحبته الجيوش، وخرج أهل البلد للفرجة على الأطلاب على ما جرت به العادة، فبرز نائب السلطنة في أبهة عظيمة، فدعت له العامة وكانوا يحبونه‏.‏

واستمر الجيش سائرين قاصدين بلاد سيس، فلما وصلوا إلى حمص بلغ الأمير سيف الدين قبجق، وجماعة من الأمراء، أن السلطان قد تغلّت خاطره بسبب سعي منكوتمر فيهم، وعلموا أن السلطان لا يخالفه لمحبته له، فاتفق جماعة منهم على الدخول إلى بلاد التتر والنجاة بأنفسهم، فساقوا من حمص فيمن أطاعهم، وهم قبجق وبزلي وبكتمر السلحدار والأيلي، واستمروا ذاهبين‏.‏

فرجع كثير من الجيش إلى دمشق، وتخبطت الأمور وتأسفت العوام على قبجق لحسن سيرته، وذلك في ربيع الآخر من هذه السنة، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/4‏)‏

ذكر مقتل المنصور لاجين وعود الملك إلى محمد بن قلاوون

لما كان يوم السبت التاسع عشر ربيع الآخر، وصل جماعة من البريدية، وأخبروا بقتل السلطان الملك المنصور لاجين ونائبه سيف الدين منكوتمر، وأن ذلك كان ليلة الجمعة حادي عشرة، على يد الأمير سيف الدين كرجي الأشرفي، ومن وافقه من الأمراء، وذلك بحضور القاضي حسام الدين الحنفي، وهو جالس في خدمته يتحدثان، وقبل كانا يلعبان بالشطرنج، فلم يشعرا إلا وقد دخلوا عليهم فبادروا إلى السلطان بسرعة جهرة ليلة الجمعة فقتلوه، وقتل نائبه صبراً، صبيحة يوم الجمعة، وألقى على مزبلة، واتفق الأمراء على إعادة ابن أستاذهم الملك الناصر محمد بن قلاوون‏.‏

فأرسلوا وراءه، وكان بالكرك ونادوا له بالقاهرة، وخطب له على المنابر قبل قدومه، وجاءت الكتب إلى نائب الشام قبجق فوجدوه قد فر خوفاً من غائلة لاجين، فسارت إليه البريدية فلم يدركوه إلا وقد لحق بالمغول عند رأس العين، من أعمال ماردين وتفارط الحال ولا قوة إلا بالله‏.‏

وكان الذي شمر العزم وراءهم، وساق ليردهم الأمير سيف الدين بلبان، وقام بأعباء البلد نائب القلعة علم الدين أرجواش، والأمير سيف الدين جاعان، واحتاطوا على ما كان له اختصاص بتلك الدولة، وكان منهم جمال الدين يوسف الرومي، محتسب البلد، وناظر المارستان‏.‏

ثم أطلق بعد مدة وأعيد إلى وظائفه، واحتيط أيضاً على سيف الدين جاعان، وحسام الدين لاجين، والي البر، وأدخلا القلعة، وقتل بمصر الأمير سيف الدين طغجي، وكان قد ناب عن الناصر أربعة أيام، وكرجي الذي تولى قتل لاجين فقتلا، وألقيا على المزابل‏.‏

وجعل الناس من العامة وغيرهم يتأملون صورة طغجي، وكان جميل الصورة، ثم بعد الدلال والمال والملك وارتهم هناك قبور، فدفن السلطان لاجين وعند رجليه نائبه منكوتمر، ودفن الباقون في مضاجعهم هنالك‏.‏

وجاءت البشائر بدخول الملك الناصر إلى مصر، يوم السبت رابع جمادى الأولى، وكان يوماً مشهوداً، ودقت البشائر ودخل القضاة وأكابر الدولة إلى القلعة، وبويع بحضرة علم الدين أرجواش، وخطب له على المنابر بدمشق وغيرها، بحضرة أكابر العلماء والقضاة والأمراء، وجاء الخبر بأنه قد ركب وشق القاهرة، وعليه خلعة الخليفة، والجيش معه مشاة، فضربت البشائر أيضاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/5‏)‏

وجاءت مراسيمه فقرئت على السدة، وفيها الرفق بالرعايا والأمر بالإحسان إليهم، فدعوا له، وقدم الأمير جمال الدين آقوش الأفرم، نائباً على دمشق، فدخلها يوم الأربعاء، قبل العصر ثاني عشرين جمادى الأولى، فنزل بدار السعادة على العادة، وفرح الناس بقدومه، وأشعلوا له الشموع، وكذلك يوم الجمعة أشعلوا له لما جاء إلى صلاة الجمعة بالمقصورة‏.‏

وبعد أيام أفرج عن جاعان ولاجين والي البر، وعادا إلى ما كانا عليه، واستقر الأمير حسام الدين الأستادار أتابكاً للعساكر المصرية، والأمير سيف الدين سلار نائباً بمصر، وأخرج الأعسر في رمضان من الحبس، وولي الوزارة بمصر، وأخرج قرا سنقر المنصوري من الحبس، وأعطي نيابة الصبيبة، ثم لما مات صاحب حماه الملك المظفر نقل قرا سنقر إليها‏.‏

وكان قد وقع في أواخر دولة لاجين، بعد خروج قبجق من البلد محنة للشيخ تقي الدين بن تيمية، قام عليه جماعة من الفقهاء، وأرادوا إحضاره إلى مجلس القاضي جلال الدين الحنفي، فلم يحضر، فنودي في البلد في العقيدة التي كان قد سأله عنها أهل حماه، المسماة بالحموية، فانتصر له الأمير سيف الدين جاعان، وأرسل يطلب الذين قاموا عنده، فاختفى كثير منهم، وضرب جماعة ممن نادى على العقيدة، فسكت الباقون‏.‏

فلما كان يوم الجمعة، عمل الشيخ تقي الدين الميعاد بالجامع على عادته، وفسر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 4‏]‏، ثم اجتمع بالقاضي إمام الدين يوم السبت واجتمع عنده جماعة من الفضلاء وبحثوا في الحموية، وناقشوه في أماكن فيها، فأجاب عنها بما أسكتهم بعد كلام كثير، ثم ذهب الشيخ تقي الدين وقد تمهدت الأمور، وسكنت الأحوال، وكان القاضي إمام الدين معتقده حسناً ومقصده صالحاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقف علم الدين سنجر الدويدار رواقه داخل باب الفرج مدرسة ودار حديث، وولى مشيخته الشيخ علاء الدين بن العطار، وحضر عنده القضاة والأعيان، وعمل لهم ضيافة، وأفرج عن قرا سنقر‏.‏

وفي يوم السبت حادي عشر شوال فتح مشهد عثمان الذي جدده ناصر الدين بن عبد السلام ناظر الجامع، وأضاف إليه مقصورة الخدم من شماليه، وجعل له إماماً راتباً وحاكى به مشهد علي بن الحسين زين العابدين‏.‏

وفي العشر الأولى من ذي الحجة عاد القاضي حسام الدين الرازي إلى قضاء الشام، وعزل عن قضاء مصر، وعزل ولده عن قضاء الشام‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي القعدة كثرت الأراجيف بقصد التتر بلاد الشام، وبالله المستعان‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ نظام الدين

أحمد بن الشيخ جمال الدين محمود بن أحمد بن عبد السلام الحصري الحنفي، مدرس النورية ثامن المحرم، ودفن في تاسعه يوم الجمعة في مقابر الصوفية، كان فاضلاً، ناب في الحكم في وقت، ودرّس بالنورية بعد أبيه، ثم درّس بعده الشيخ شمس الدين بن الصدر سليمان بن النقيب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/6‏)‏

المفسر الشيخ العالم الزاهد

 جمال الدين أبو عبد الله بن محمد بن سليمان بن حسن بن الحسين البلخي، ثم المقدسي، الحنفي، ولد في النصف من شعبان سنة إحدى عشرة وستمائة بالقدس، واشتغل بالقاهرة، وأقام مدة بالجامع الأزهر، ودرس في بعض المدارس هناك، ثم انتقل إلى القدس فاستوطنه إلى أن مات في المحرم منها، وكان شيخاً فاضلاً في التفسير، وله فيه مصنف حافل كبير جمع فيه خمسين مصنفاً من التفسير، وكان الناس يقصدون زيارته بالقدس الشريف ويتبركون به‏.‏

 الشيخ أبو يعقوب المغربي المقيم بالقدس

كان الناس يجتمعون به، وهو منقطع بالمسجد الأقصى، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يقول فيه‏:‏ هو على طريقة ابن عربي وابن سبعين، توفي في المحرم من هذه السنة‏.‏

 التقي توبة الوزير

تقي الدين توبة بن علي بن مهاجر بن شجاع بن توبة الربعي التكريتي، ولد سنة عشرين وستمائة يوم عرفة بعرفة، وتنقل بالخدم إلى أن صار وزيراً بدمشق مرات عديدة، حتى توفي ليلة الخميس ثاني جمادى الآخرة، وصلّي عليه غدوة بالجامع وسوق الخيل، ودفن بتربته تجاه دار الحديث الأشرفية بالسفح، وحضر جنازته القضاة والأعيان، وباشر بعده نظر الدواوين فخر الدين بن الشيرجي، وأخذ أمين الدين بن الهلال نظر الخزانة‏.‏

الأمير الكبير

 شمس الدين بيسرى، كان من أكابر الأمراء المتقدمين في خدمة الملوك، من زمن قلاوون وهلم جرا، توفي في السجن بقلعة مصر، وعمل له عزاء بالجامع الأموي، وحضره نائب السلطنة الأفرم والقضاة والأعيان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/7‏)‏

 السلطان الملك المظفر

تقي الدين محمود بن ناصر الدين محمد بن تقي الدين عمر بن شاهنشاه بن أيوب صاحب حماه، وابن ملوكها كابراً عن كابر، توفي يوم الخميس الحادي والعشرين من ذي القعدة، ودفن ليلة الجمعة‏.‏

الملك الأوحد

 نجم الدين يوسف بن الملك داود بن المعظم ناظر القدس، توفي به ليلة الثلاثاء رابع ذي القعدة، ودفن برباطه عند باب حطة عن سبعين سنة، وحضر جنازته خلق كثير، وكان من خيار أبناء الملوك ديناً وفضيلة وإحساناً إلى الضعفاء‏.‏

 القاضي شهاب الدين يوسف

ابن الصالح محب الدين بن النحاس أحد رؤساء الحنفية، ومدرّس الزنجانية والظاهرية، توفي ببستانه بالمزة ثالث عشر ذي الحجة، ودرّس بعده بالزنجانية القاضي جلال الدين بن حسام الدين‏.‏

 الصاحب نصر الدين أبو الغنائم

سالم بن محمد بن سالم بن هبة الله بن محفوظ بن صصرى التغلبي، كان أحسن حالاً من أخيه القاضي نجم الدين، وقد سمع الحديث وأسمعه، كان صدراً معظماً، ولي نظر الدواوين ونظر الخزانة‏.‏

ثم ترك المناصب وحج وجاور بمكة، ثم قدم دمشق فأقام بها دون السنة ومات، توفي يوم الجمعة ثامن وعشرين ذي الحجة، وصلّي عليه بعد الجمعة بالجامع، ودفن بتربتهم بسفح قاسيون، وعمل عزاؤه بالصاحبية‏.‏

 ياقوت بن عبد الله

أبو الدر المستعصمي الكاتب، لقبه جمال الدين، وأصله رومي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/8‏)‏

كان فاضلاً مليح الخط مشهوراً بذلك، كتب ختماً حساناً، وكتب الناس عليه ببغداد، توفي بها في هذه السنة، وله شعر رائق، فمنه ما أورده البرزالي في تاريخه عنه‏:‏

تجدد الشمس شوقي كلما طعلت * إلى محياك يا سمعي ويا بصري

وأسهر الليل في أنس بلا ونس * إذ طيب ذكراك في ظلماته يسري

وكل يوم مضى لا أراك به * فلست محتسباً ماضيه من عمري

ليلي نهار إذا ما درت في خلدي * لأن ذكرك نور القلب والبصر

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين وستمائة

وفيها‏:‏ كانت وقعة قازان، وذلك أن هذه السنة استهلت والخليفة والسلطان هما المذكوران في التي قبلها، ونائب مصر سلار، ونائب الشام آقوش الأفرم، وسائر الحكام هم المذكورون في التي قبلها، وقد تواترت الأخبار بقصد التتار بلاد الشام، وقد خاف الناس من ذلك خوفاً شديداً، وجفل الناس من بلاد حلب وحماه، وبلغ كري الخيل من حماه إلى دمشق نحو المائتي درهم‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء ثاني المحرم ضربت البشائر بسبب خروج السلطان من مصر قاصداً الشام‏.‏

فلما كان يوم الجمعة ثامن ربيع الأول دخل السلطان إلى دمشق في مطر شديد ووحل كثير، ومع هذا خرج الناس لتلقيه، وكان قد أقام بغزة قريباً من شهرين، وذلك لما بلغه قدوم التتار إلى الشام، فتهيأ لذلك وجاء فدخل دمشق فنزل بالطارمة، وزينت له البلد، وكثرت له الأدعية، وكان وقتاً شديداً، وحالاً صعباً، وامتلأ البلد من الجافلين النازحين عن بلادهم، وجلس الأعسر وزير الدولة وطالب العمال واقترضوا أموال الأيتام وأموال الأسرى لأجل تقوية الجيش‏.‏

وخرج السلطان بالجيش من دمشق يوم الأحد سابع عشر ربيع الأول ولم يتخلف أحد من الجيوش، وخرج معهم خلق كثير من المتطوعة، وأخذ الناس في الدعاء والقنوت في الصلوات بالجامع وغيره، وتضرعوا واستغاثوا وابتهلوا إلى الله بالأدعية‏.‏

 وقعة قازان

لما وصل السلطان إلى وادي الخزندار عند وادي سلمية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/9‏)‏

فالتقى التتر هناك يوم الأربعاء السابع والعشرين من ربيع الأول، فالتقوا معهم فكسروا المسلمين، وولى السلطان هارباً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقتل جماعة من الأمراء وغيرهم ومن العوام خلق كثير، وفقد في المعركة قاضي قضاة الحنفية، وقد صبروا وأبلوا بلاء حسناً، ولكن كان أمر الله قدراً مقدوراً، فولى المسلمون لا يلوى أحد على أحد، ثم كانت العاقبة بعد ذلك للمتقين، غير إنه رجعت العساكر على أعقابها للديار المصرية، واجتاز كثير منهم على دمشق، وأهل دمشق في خوف شديد على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم إنهم استكانوا واستسلموا للقضاء والقدر، وماذا يجدي الحذر إذا نزل القدر‏.‏

ورجع السلطان في طائفة من الجيش على ناحية بعلبك والبقاع، وأبواب دمشق مغلقة، والقلعة محصنة والغلاء شديد والحال ضيق وفرج الله قريب، وقد هرب جماعة من أعيان البلد وغيرهم إلى مصر، كالقاضي إمام الدين الشافعي، وقاضي المالكية الزواوي، وتاج الدين الشيرازي، وعلم الدين الصوابي والي البر، وجمال الدين بن النحاس والي المدينة، والمحتسب وغيرهم من التجار والعوام، وبقي البلد شاغراً ليس فيهم حاكم سوى نائب القلعة‏.‏

وفي ليلة الأحد ثاني ربيع الأول كسر المحبوسون بحبس باب الصغير الحبس وخرجوا منه على حمية، وتفرقوا في البلد، وكانوا قريباً من مائتي رجل، فنهبوا ما قدروا عليه، وجاؤوا إلى باب الجابية فكسروا أقفال الباب البراني، وخرجوا منه إلى بر البلد، فتفرقوا حيث شاؤوا لا يقدر أحد على ردهم، وعاثت الحرافشة في ظاهر البلد فكسروا أبواب البساتين وقلعوا من الأبواب والشبابيك شيئاً كثيراً، وباعوا ذلك بأرخص الأثمان، هذا وسلطان التتار قد قصد دمشق بعد الوقعة‏.‏

فاجتمع أعيان البلد والشيخ تقي الدين بن تيمية في مشهد علي، واتفقوا على المسير إلى قازان لتلقيه، وأخذ الأمان منه لأهل دمشق، فتوجهوا يوم الاثنين ثالث ربيع الآخر فاجتمعوا به عند النبك، وكلمه الشيخ تقي الدين كلاماً قوياً شديداً فيه مصلحة عظيمة، عاد نفعها على المسلمين ولله الحمد‏.‏

ودخل المسلمون ليلتئذ من جهة قازان فنزلوا بالبدرانية، وغلقت أبواب البلد سوى باب توما، وخطب الخطيب بالجامع يوم الجمعة، ولم يذكر سلطاناً في خطبته، وبعد الصلاة قدم الأمير إسماعيل ومعه جماعة من الرسل فنزلوا ببستان الظاهر عند الطرن‏.‏

وحضر الفرمان بالأمان وطيف به في البلد، وقرئ يوم السبت ثامن الشهر بمقصورة الخطابة، ونثر شيء من الذهب والفضة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/10‏)‏

وفي ثاني يوم من المناداة بالأمان طلبت الخيول والسلاح والأموال المخبأة عند الناس من جهة الدولة، وجلس ديوان الاستخلاص إذ ذاك بالمدرسة القيمرية، وفي يوم الاثنين عاشر الشهر قدم سيف الدين قبجق المنصوري فنزل في الميدان، واقترب جيش التتر وكثر العيث في ظاهر البلد‏.‏

وقتل جماعة وغلت الأسعار بالبلد جداً، وأرسل قبجق إلى نائب القلعة ليسلمها إلى التتر فامتنع أرجواش من ذلك أشد الامتناع، فجمع له قبجق أعيان البلد فكلموه أيضاً فلم يجبهم إلى ذلك، وصمم على ترك تسليمها إليهم وبها عين تطرف‏.‏

فإن الشيخ تقي الدين بن تيمية أرسل إلى نائب القلعة يقول له ذلك، لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت، وكان في ذلك مصلحة عظيمة لأهل الشام، فإن الله حفظ لهم هذا الحصن والمعقل الذي جعله الله حرزاً لأهل الشام التي لا تزال دار إيمان وسنة، حتى ينزل بها عيسى ابن مريم‏.‏

وفي يوم دخول قبجق إلى دمشق، دخل السلطان ونائبه سلار إلى مصر، كما جاءت البطاقة بذلك إلى القلعة، ودقت البشائر بها، فقوي جأش الناس بعض قوة، ولكن الأمر كما يقال‏:‏

كيف السبيل إلى سعاد ودونها * قلل الجبال ودونهن حتوف

الرجل حافية ومالي مركب * والكف صفر والطريق مخوف

وفي يوم الجمعة رابع عشر ربيع الآخر، خطب لقازان على منبر دمشق بحضور المغول بالمقصورة، ودعي له على السدة بعد الصلاة وقرئ عليها مرسوم بنيابة قبجق على الشام، وذهب إليه الأعيان فهنؤه بذلك، فأظهر الكرامة وأنه في تعب عظيم مع التتر‏.‏

ونزل شيخ المشايخ محمود بن علي الشيباني بالمدرسة العادلية الكبيرة‏.‏

وفي يوم السبت النصف من ربيع الآخر شرعت التتار وصاحب سيس في نهب الصالحية ومسجد الأسدية ومسجد خاتون ودار الحديث الأشرفية بها، واحترق جامع التوبة بالعقيبية، وكان هذا من جهة الكرج والأرمن من النصارى الذين هم مع التتار قبحهم الله‏.‏

وسبوا من أهلها خلقاً كثيراً وجماً غفيراً، وجاء أكثر الناس إلى رباط الحنابلة فاحتاطت به التتار فحماه منهم شيخ الشيوخ المذكور، وأعطى في الساكن مال له صورة ثم أقحموا عليه فسبوا منه خلقاً كثيراً من بنات المشايخ وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولما نكب دير الحنابلة في ثاني جمادى الأولى قتلوا خلقاً من الرجال وأسروا من النساء كثيراً، ونال قاضي القضاة تقي الدين أذى كثير، ويقال إنهم قتلوا من أهل الصالحية قريباً من أربعمائة، وأسروا نحواً من أربعة آلاف أسير، ونهبت كتب كثيرة من الرباط الناصري والضيائية، وخزانة ابن البزوري، وكانت تباع وهي مكتوب عليها الوقفية، وفعلوا بالمزة مثل ما فعلوا بالصالحية‏.‏

وكذلك بداريا وبغيرها، وتحصن الناس منهم في الجامع بداريا ففتحوه قسراً وقتلوا منهم خلقاً وسبوا نساءهم وأولادهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/11‏)‏

وخرج الشيخ ابن تيمية في جماعة من أصحابه يوم الخميس، العشرين من ربيع الآخر إلى ملك التتر وعاد بعد يومين ولم يتفق اجتماعه به، حجبه عنه الوزير سعد الدين والرشيد مشير الدولة المسلماني ابن يهودي، والتزما له بقضاء الشغل، وذكرا له أن التتر لم يحصل لكثير منهم شيء إلى الآن، ولا بد لهم من شيء‏.‏

واشتهر بالبلد أن التتر يريدون دخول دمشق فانزعج الناس لذلك وخافوا خوفاً شديداً، وأرادوا الخروج منها والهرب على وجوههم، وأين الفرار ولات حين مناص، وقد أخذ من البلد فوق العشرة آلاف فرس، ثم فرضت أموال كثيرة على البلد موزعة على أهل الأسواق كل سوق بحسبه من المال، فلا قوة إلا بالله‏.‏

وشرع التتر في عمل مجانيق بالجامع ليرموا بها القلعة من صحن الجامع، وغلقت أبوابه ونزل التتار في مشاهده يحرسون أخشاب المجانيق، وينهبون ما حوله من الأسواق، وأحرق أرجوان ما حول القلعة من الأبنية، كدار الحديث الأشرفية وغير ذلك، إلى حد العادلية الكبيرة، وأحرق دار السعادة لئلا يتمكنوا من محاصرة القلعة من أعاليها، ولزم الناس منازلهم لئلا يسخروا في طم الخندق‏.‏

وكانت الطرقات لا يرى بها أحد إلا القليل، والجامع لا يصلي فيه أحد إلا اليسير، ويوم الجمعة لا يتكامل فيه الصف الأول وما بعده إلا بجهد جهيد، ومن خرج من منزله في ضرورة يخرج بثياب زيهم ثم يعود سريعاً، ويظن أنه لا يعود إلى أهله، وأهل البلد قد أذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

والمصادرات والتراسيم والعقوبات عمالة في أكابر أهل البلد ليلاً ونهاراً، حتى أخذ منهم شيء كثير من الأموال والأوقاف، كالجامع وغيره، ثم جاء مرسوم بصيانة الجامع وتوفير أوقافه وصرف ما كان يؤخذ بخزائن السلاح وإلى الحجاز، وقرئ ذلك المرسوم بعد صلاة الجمعة بالجامع في تاسع عشر جمادى الأولى‏.‏

وفي ذلك اليوم توجه السلطان قازان وترك نوابه بالشام في ستين ألف مقاتل نحو بلاد العراق، وجاء كتابه إنا قد تركنا نوابنا بالشام في ستين ألف مقاتل، وفي عزمنا العود إليها في زمن الخريف، والدخول إلى الديار المصرية وفتحها، وقد أعجزتهم القلعة أن يصلوا إلى حجر منها‏.‏

وخرج سيف الدين قبجق لتوديع قطلوشاه نائب قازان، وسار وراءه وضربت البشائر بالقلعة فرحاً لرحيلهم، ولم تفتح القلعة، وأرسل أرجواش ثاني يوم من خروج قبجق القعلية إلى الجامع فكسروا أخشاب المنجنيقات المنصوبة به، وعادوا إلى القلعة سريعاً سالمين، واستصحبوا معهم جماعة ممن كانوا يلوذون بالتتر قهراً إلى القلعة، منهم الشريف القمي، وهو شمس الدين محمد بن محمد بن أحمد بن أبي القاسم المرتضي العلوي‏.‏

وجاءت الرسل من قبجق إلى دمشق فنادوا بها طيبوا أنفسكم وافتحوا دكاكينكم وتهيئوا غدا لتلقي سلطان الشام سيف الدين قبجق، فخرج الناس إلى أماكنهم فأشرفوا عليها فرأوا ما بها من الفساد والدمار، وانفك رؤساء البلد من التراسيم بعدما ذاقوا شيئاً كثيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/12‏)‏

قال الشيخ علم الدين البرزالي‏:‏ ذكر لي الشيخ وجيه الدين بن المنجا أنه حمل إلى خزانة قازان ثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف درهم، سوى ما تمحق من التراسيم والبراطيل، وما أخذ غيره من الأمراء والوزراء، وأن شيخ المشايخ حصل له نحو ستمائة ألف درهم، والأصيل بن النصير الطوسي مائة ألف، والصفي السخاوي ثمانون ألفاً‏.‏

وعاد سيف الدين قبجق إلى دمشق يوم الخميس بعد الظهر خامس عشرين جمادى الأولى ومعه الألبكي وجماعة، وبين يديه السيوف مسللة، وعلى رأسه عصابة، فنزل بالقصر ونودي بالبلد‏:‏ نائبكم قبجق قد جاء فافتحوا دكاكينكم واعملوا معاشكم ولا يغرر أحد بنفسه هذا الزمان والأسعار في غاية الغلاء والقلة، قد بلغت الغرارة إلى أربعمائة، واللحم بنحو العشرة، والخبز كل رطل بدرهمين ونصف، والعشرة الدقيق بنحو الأربعين، والجبن الأوقية بدرهم، والبيض كل خمسة بدرهم‏.‏

ثم فرج عنهم في أواخر الشهر، ولما كان في أواخر الشهر نادى قبجق بالبلد أن يخرج الناس إلى قراهم وأمر جماعة وانضاف إليه خلق من الأجناد، وكثرت الأراجيف على بابه، وعظم شأنه ودقت البشائر بالقلعة وعلى باب قبجق يوم الجمعة رابع جمادى الآخرة‏.‏

وركب قبجق بالعصائب في البلد والشاويشية بين يديه، وجهز نحواً من ألف فارس نحو خربة اللصوص، ومشى مشي الملوك في الولايات وتأمير الأمراء والمراسيم العالية النافذة، وصار كما قال الشاعر‏:‏

يا لك من قنبرة بمعمري * خلا لكِ الجو فبيضي واصفِري ونقِّري ماشئت أن تنقِّري

ثم إنه ضمن الخمارات ومواضع الزنا من الحانات وغيرها، وجعلت دار ابن جرادة خارج من باب توما خمارة وحانة أيضاً، وصار له على ذلك في كل يوم ألف درهم، وهي التي دمرته ومحقت آثاره، وأخذ أموالاً أخر من أوقاف المدارس وغيرها‏.‏

ورجع بولاي من جهة الأغوار، وقد عاث في الأرض فساداً، ونهب البلاد وخرب ومعه طائفة من التتر كثيرة، وقد خربوا قرى كثيرة، وقتلوا من أهلها وسبوا خلقاً من أطفالها، وجبى لبولاي من دمشق أيضاً جباية أخرى، وخرج طائفة من القلعة فقتلوا طائفة من التتر ونهبوهم، وقتل جماعة من المسلمين في غبون ذلك وأخذوا طائفة ممن كان يلوذ بالتتر‏.‏

ورسم قبجق لخطيب البلد وجماعة من الأعيان أن يدخلوا القلعة فيتكلموا مع نائبها في المصالحة فدخلوا عليه يوم الاثنين ثاني عشر جمادى الآخرة، فكلموه وبالغوا معه فلم يجب إلى ذلك، وقد أجاد وأحسن وأرجل في ذلك بيض الله وجهه‏.‏

وفي ثامن رجب طلب قبجق القضاة والأعيان فحلَّفهم على المناصحة للدولة المحمودية - يعني قازان - فحلفوا له‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/13‏)‏

وفي هذا اليوم خرج الشيخ تقي الدين بن تيمية إلى مخيم بولاي فاجتمع به في فكاك من كان معه من أسارى المسلمين، فاستنقذ كثيراً منهم من أيديهم، وأقام عنده ثلاثة أيام ثم عاد، ثم راح إليه جماعة من أعيان دمشق، ثم عادوا من عنده فشلحوا عند باب شرقي وأخذ ثيابهم وعمائمهم ورجعوا في شر حالة، ثم بعث في طلبهم فاختفى أكثرهم وتغيبوا عنه، ونودي بالجامع بعد الصلاة ثالث رجب من جهة نائب القلعة بأن العساكر المصرية قادمة إلى الشام‏.‏

وفي عشية يوم السبت رحل بولاي وأصحابه من التتر وانشمروا عن دمشق وقد أراح الله منهم، وساروا من على عقبة دمر فعاثوا في تلك النواحي فساداً، ولم يأت سابع الشهر وفي حواشي البلد منهم أحد، وقد أزاح الله عز وجل شرهم عن العباد والبلاد، ونادى قبجق في الناس قد أمنت الطرقات ولم يبق بالشام من التتر أحد، وصلى قبجق يوم الجمعة عاشر رجب بالمقصورة، ومعه جماعة عليهم لأمة الحرب من السيوف والقسي والتراكيش فيها النشاب، وأمنت البلاد‏.‏

وخرج الناس للفرجة في غيض السفرجل على عادتهم، فعاثت عليهم طائفة من التتر، فلما رأوهم رجعوا إلى البلد هاربين مسرعين، ونهب بعض الناس بعضاً، ومنهم من ألقى نفسه في النهر‏.‏

وإنما كانت هذه الطائفة مجتازين ليس لهم قرار، وتقلق قبجق من البلد، ثم أنه خرج منها في جماعة من رؤسائها وأعيانها منهم عز الدين ابن القلانسي ليتلقوا الجيش المصري، وذلك أن جيش مصر خرج إلى الشام في تاسع رجب، وجاءت البريدية بذلك‏.‏

وبقي البلد ليس به أحد، ونادى أرجواش في البلد‏:‏

احفظوا الأسوار وأخرجوا ما كان عندكم من الأسلحة، ولا تهملوا الأسوار والأبواب، ولا يبيتن أحد إلا على السور، ومن بات في داره شنق، فاجتمع الناس على الأسوار لحفظ البلاد، وكان الشيخ تقي الدين بن تيمية يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط‏.‏

وفي يوم الجمعة سابع عشر رجب أعيدت الخطبة بدمشق لصاحب مصر ففرح الناس بذلك، وكان يخطب لقازان بدمشق وغيرها من بلاد الشام مائة يوم سواء‏.‏

وفي بكرة يوم الجمعة المذكور دار الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله وأصحابه على الخمارات والحانات، فكسروا آنية الخمور وشققوا الظروف وأراقوا الخمور، وعزروا جماعة من أهل الحانات المتخذة لهذه الفواحش، ففرح الناس بذلك‏.‏

ونودي يوم السبت ثامن عشر رجب بأن تزين البلد لقدوم العساكر المصرية، وفتح باب الفرج مضافاً إلى باب النصر يوم الأحد تاسع عشر رجب، ففرح الناس بذلك وانفرجوا لأنهم لم يكونوا يدخلون إلا من باب النصر، وقدم الجيش الشامي صحبة نائب دمشق جمال الدين آقوش الأفرم يوم السبت عاشر شعبان، وثاني يوم دخل بقية العساكر وفيهم الأميران‏:‏ شمس الدين قراسنقر المنصوري، وسيف الدين قطلبك في تجمل‏.‏

وفي هذا اليوم فتح باب العريش، وفيه درّس القاضي جلال الدين القزويني بالأمينية عوضاً عن أخيه قاضي القضاة إمام الدين توفي بمصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/14‏)‏

وفي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء تكامل دخول العساكر صحبة نائب مصر سيف الدين سلار، وفي خدمته الملك العادل كتبغا، وسيف الدين الطراخي في تجمل باهر، ونزلوا في المرج، وكان السلطان قد خرج عازماً على المجيء فوصل إلى الصالحية، ثم عاد إلى مصر‏.‏

وفي يوم الخميس النصف من شعبان أعيد القاضي بدر الدين بن جماعة إلى قضاة القضاة بدمشق مع الخطابة بعد إمام الدين، ولبس معه في هذا اليوم أمين الدين العجمي خلعة الحسبة، وفي يوم سابع عشرة لبس خلعة نظر الدواوين تاج الدين الشيرازي عوضاً عن فخر الدين بن الشيرجي، ولبس أقبجاشد الدواوين في باب الوزير شمس الدين سنقر الأعسر‏.‏

وباشر الأمير عز الدين أيبك الدويدار النجيبي ولاية البر، بعد ما جعل من أمراء الطبلخانة، ودرّس الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني بأم الصالح عوضاً عن جلال الدين القزويني، يوم الأحد الحادي والعشرين من شعبان‏.‏

وفي هذا اليوم ولي قضاء الحنفية شمس الدين بن الصفي الحريري عوضاً عن حسام الدين الرومي، فقد يوم المعركة في ثاني رمضان ورفعت الستائر عن القلعة في ثالث رمضان‏.‏

وفي مستهل رمضان جلس الأمير سيف الدين سلار بدار العدل في الميدان الأخضر وعنده القضاة والأمراء يوم السبت، وفي السبت الآخر خلع على عز الدين القلانسي خلعة سنية، وجعل ولده عماد الدين شاهداً في الخزانة، وفي هذا اليوم رجع سلار بالعساكر إلى مصر، وانصرفت العساكر الشامية إلى مواضعها وبلدانها‏.‏

وفي يوم الاثنين عاشر رمضان درس علي بن الصفي بن أبي القاسم البصراوي الحنفي بالمدينة المقدمية‏.‏

وفي شوال فيها‏:‏ عرفت جماعة ممن كان يلوذ بالتتر ويؤذي المسلمين، وشنق منهم طائفة وسمر آخرون وكحل بعضه وقطعت ألسن وجرت أمور كثيرة‏.‏

وفي منتصف شوال درس بالدولعية قاضي القضاة جمال الدين الزرعي نائب الحكم عوضاً عن جمال الدين بن الباجريقي‏.‏

وفي يوم الجمعة العشرين منه ركب نائب السلطنة جمال الدين آقوش الأفرم في جيش دمشق إلى جبال الجرد وكسروان، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية ومعه خلق كثير من المتطوعة والحوارنة لقتال أهل تلك الناحية، بسب فساد نيتهم وعقائدهم وكفرهم وضلالهم، وما كانوا عاملوا به العساكر لما كسرهم التتر، وهربوا حين اجتازوا ببلادهم وثبوا عليهم ونهبوهم، وأخذوا أسلحتهم وخيولهم وقتلوا كثيراً منهم‏.‏

فلما وصلوا إلى بلادهم جاء رؤساؤهم إلى الشيخ تقي الدين بن تيمية فاستتابهم، وبين للكثير منهم الصواب، وحصل بذلك خير كثير، وانتصار كبير على أولئك المفسدين، والتزموا برد ما كانوا أخذوه من أموال الجيش، وقرر عليهم أموالاً كثيرة يحملونها إلى بيت المال، وأقطعت أراضيهم وضياعهم، ولم يكونوا قبل ذلك يدخلون في طاعة الجند ولا يلتزمون أحكام الملة، ولا يدينون دين الحق، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/15‏)‏

وعاد نائب السلطنة يوم الأحد ثالث عشر ذي القعدة، وتلقاه الناس بالشموع إلى طريق بعلبك وسط النهار‏.‏

وفي يوم الأربعاء سادس عشرة نودي في البلد أن يعلق الناس الأسلحة بالدكاكين، وأن يتعلم الناس الرمي فعملت الإماجات في أماكن كثيرة من البلد، وعلقت الأسلحة بالأسواق، ورسم قاضي القضاة بعمل الإماجات في المدارس، وأن يتعلم الفقهاء الرمي ويستعدوا لقتال العدو إن حضر، وبالله المستعان‏.‏

وفي الحادي والعشرين من ذي القعدة استعرض نائب السلطنة أهل الأسواق بين يديه، وجعل على كل سوق مقدماً وحوله أهل سوقه‏.‏

وفي الخميس رابع عشرينه عرضت الأشراف مع نقيبهم نظام الملك الحسيني بالعدد والتجمل الحسن، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

ومما كان من الحوادث في هذه السنة أن جدد إمام راتب عند رأس قبر زكريا، وهو الفقيه شرف الدين أبو بكر الحموي، وحضر عنده يوم عاشوراء القاضي إمام الدين الشافعي، وحسام الدين الحنفي وجماعة، ولم تطل مدته إلا شهوراً، ثم عاد الحموي إلى بلده وبطلت هذه الوظيفة إلى الآن ولله الحمد‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 القاضي حسام الدين أبو الفضائل

الحسن بن القاضي تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن الحسن أنوشروان الرازي الحنفي، ولي قضاء ملطية مدة عشرين سنة، ثم قدم دمشق فوليها مدة، ثم انتقل إلى مصر فوليها مدة، وولده جلال الدين بالشام، ثم صار إلى الشام فعاد إلى الحكم بها، ثم لما خرج الجيش إلى لقاء قازان بوادي الخزندار عند وادي سلمية خرج معهم ففقد من الصف ولم يدر ما خبره، وقد قارب السبعين‏.‏

وكان فاضلاً بارعاً رئيساً، له نظم حسن، ومولده بإقسيس من بلاد الروم في المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، فقد يوم الأربعاء الرابع والعشرين من ربيع الأول منها، وقد قتل يومئذ عدة من مشاهير الأمراء، ثم ولي بعده القضاء شمس الدين الحريري‏.‏

 القاضي الإمام العالي

إمام الدين أبو المعالي عمر بن القاضي سعد الدين أبي القاسم عبد الرحمن بن الشيخ إمام الدين أبي حفص عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/16‏)‏

قدم دمشق هو وأخوه جلال الدين فقررا في مدارس، ثم انتزع إمام الدين قضاء القضاة بدمشق من بدر الدين بن جماعة كما تقدم في سنة سبع وسبعين، وناب عنه أخوه، وكان جميل الأخلاق كثير الإحسان رئيساً، قليل الأذى، ولما أزف قدوم التتار سافر إلى مصر، فلما وصل إليها لم يقم بها سوى أسبوع وتوفي ودفن بالقرب من قبة الشافعي عن ست وأربعين سنة، وصار المنصب إلى بدر الدين بن جماعة، مضافاً إلى ما بيده من الخطابة وغيرها، ودرس أخوه بعده بالأمينية‏.‏

 المسند المعمر الرحلة

شرف الدين أحمد بن هبة الله بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن عساكر الدمشقي، ولد سنة أربع عشرة وستمائة، وسمع الحديث وروى، توفي خامس عشر جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة‏.‏

الخطيب الإمام العالم

 موفق الدين أبو المعالي محمد بن محمد بن الفضل النهرواني القضاعي الحموي، خطيب حماه، ثم خطب بدمشق عوضاً عن الفاروثي، ودرّس بالغزالية ثم عزل بابن جماعة، وعاد إلى بلده، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها‏.‏

 الصدر شمس الدين

محمد بن سليمان بن حمايل بن علي المقدسي المعروف بابن غانم، وكان من أعيان الناس وأكثرهم مروءة، ودرس بالعصرونية، توفي وقد جاوز الثمانين، كان من الكتاب المشهورين المشكورين، وهو والد الصدر علاء الدين بن غانم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/17‏)‏

 الشيخ جمال الدين أبو محمد

عبد الرحيم بن عمر بن عثمان الباجريقي الشافعي، أقام مدة بالموصل يشتغل ويفتي، ثم قدم دمشق عام قازان فمات بها، وكان قد أقام بها مدة كذلك، ودرس بالقليجية والدولعية، وناب في الخطابة ودرّس بالغزالية نيابة عن الشمس الأيكي، وكان قليل الكلام مجموعاً عن الناس‏.‏

وهو والد الشمس محمد المنسوب إلى الزندقة والانحلال، وله أتباع ينسبون إلى ما ينسب إليه، ويعكفون على ما كان يعكف عليه، وقد حدث جمال الدين المذكور بجامع الأصول عن بعض أصحاب مصنفات ابن الأثير، وله نظم ونثر حسن، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعمائة من الهجرة النبوية

استهلت والخليفة والسلطان ونواب البلاد والحكام بها هم المذكورون في التي قبلها، غير الشافعي والحنفي، ولما كان ثالث المحرم جلس المستخرج لاستخلاص أجرة أربعة أشهر عن جميع أملاك الناس وأوقافهم بدمشق، فهرب أكثر الناس من البلد، وجرت خبطة قوية وشق ذلك على الناس جداً‏.‏

وفي مستهل صفر وردت الأخبار بقصد التتر بلاد الشام، وأنهم عازمون على دخول مصر، فانزعج الناس لذلك وازدادوا ضعفاً على ضعفهم، وطاشت عقولهم وألبابهم، وشرع الناس في الهرب إلى بلاد مصر والكرك والشوبك والحصون المنيعة، فبلغت الحمارة إلى مصر خمسمائة وبيع الجمل بألف والحمار بخمسمائة، وبيعت الأمتعة والثياب والغلات بأرخص الأثمان، وجلس الشيخ تقي الدين بن تيمية في ثاني صفر بمجلسه في الجامع، وحرض الناس على القتال، وساق لهم الآيات والأحاديث الواردة في ذلك، ونهى عن الإسراع في الفرار، ورغب في إنفاق الأموال في الذب عن المسلمين وبلادهم وأموالهم‏.‏

وأن ما ينفق في أجرة الهرب إذا أنفق في سبيل الله كان خيراً، وأوجب جهاد التتر حتماً في هذه الكرة، وتابع المجالس في ذلك، ونودي في البلاد لا يسافر أحد إلا بمرسوم وورقة فتوقف الناس عن السير وسكن جأشهم، وتحدث الناس بخروج السلطان من القاهرة بالعساكر ودقت البشائر لخروجه، لكن كان قد خرج جماعة من بيوتات دمشق كبيت ابن صصرى، وبيت ابن فضل الله، وابن منجا، وابن سويد، وابن الزملكاني، وابن جماعة‏.‏

وفي أول ربيع الآخر قوي الأرجاف بأمر التتر، وجاء الخبر بأنهم قد وصلوا إلى البيرة ونودي في البلد أن تخرج العامة مع العسكر، وجاء مرسوم النائب من المرج بذلك، فاستعرضوا في أثناء الشهر فعرض نحو خمسة آلاف من العامة بالعدة والأسلحة على قدر طاقتهم، وقنت الخطيب ابن جماعة في الصلوات كلها، واتبعه أئمة المساجد، وأشاع المرجفون بأن التتر قد وصلوا إلى حلب‏.‏

وأن نائب حلب تقهقر إلى حماه، ونودي في البلد يتطييب قلوب الناس وإقبالهم على معايشهم، وأن السلطان والعساكر واصلة، وأبطل ديوان المستخرج وأقيموا، ولكن كانوا قد استخرجوا أكثر مما أمروا به وبقيت بواقي على الناس الذين قد اختفوا فعفى عما بقي، ولم يرد ما سلف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/18‏)‏

لا جرم أن عواقب هذه الأفعال خسر ونكر، وأن أصحابها لا يفلحون، ثم جاءت الأخبار بأن سلطان مصر رجع عائداً إلى مصر بعد أن خرج منها قاصداً الشام، فكثر الخوف واشتد الحال، وكثرت الأمطار جداً، وصار بالطرقات من الأوحال والسيول ما يحول بين المرء وبين ما يريده من الانتشار في الأرض والذهاب فيها، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وخرج كثير من الناس خفافاً وثقالاً يتحملون بأهليهم وأولادهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، وجعلوا يحملون الصغار في الوحل الشديد والمشقة على الدواب والرقاب، وقد ضعفت الدواب من قلة العلف مع كثرة الأمطار والزلق والبرد الشديد والجوع وقلة الشيء فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏

واستهل جمادى الأولى والناس على خطة صعبة من الخوف، وتأخر السلطان واقترب العدو، وخرج الشيخ تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى في مستهل هذا الشهر وكان يوم السبت إلى نائب الشام في المرج فثبتهم وقوى جأشهم وطيب قلوبهم، ووعدهم النصر والظفر على الأعداء، وتلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏.‏‏.‏وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 60‏]‏‏.‏

وبات عند العسكر ليلة الأحد، ثم عاد إلى دمشق، وقد سأله النائب والأمراء أن يركب على البريد إلى مصر يستحث السلطان على المجيء، فساق وراء السلطان، وكان السلطان قد وصل إلى الساحل فلم يدركه إلا وقد دخل القاهرة وتفارط الحال، ولكنه استحثهم على تجهيز العساكر إلى الشام إن كان لهم به حاجة‏.‏

وقال لهم فيما قال‏:‏ إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن، ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام‏.‏

ثم قال لهم‏:‏ لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم، وقوّى جأشهم وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر إلى الشام فرح الناس فرحاً شديداً بعد أن كانوا قد يئسوا من أنفسهم وأهليهم وأموالهم، ثم قويت الأراجيف بوصول التتر، وتحقق عود السلطان إلى مصر‏.‏

ونادى ابن النحاس متولي البلد في الناس من قدر على السفر فلا يقعد بدمشق، فتصايح النساء والولدان، ورهق الناس ذلة عظيمة وخمدة، وزلزلوا زلزالاً شديداً، وغلقت الأسواق وتيقنوا أن لا ناصر لهم إلا الله عز وجل، وأن نائب الشام لما كان فيه قوة مع السلطان عام أول لم يقو على التقاء جيش التتر، فكيف به الآن وقد عزم على الهرب‏؟‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/19‏)‏

ويقولون‏:‏ ما بقي أهل دمشق إلا طعمة العدو، ودخل كثير من الناس إلى البراري والقفار والمغر بأهليهم من الكبار والصغار، ونودي في الناس من كانت نيته الجهاد فليلحق بالجيش فقد اقترب وصول التتر، ولم يبق بدمشق من أكابرها إلا القليل‏.‏

وسافر ابن جماعة والحريري وابن صصرى وابن منجا، وقد سبقهم بيوتهم إلى مصر، وجاءت الأخبار بوصول التتر إلى سرقين وخرج الشيخ زين الدين الفارقي، والشيخ إبراهيم الرقي، وابن قوام، وشرف الدين بن تيمية، وابن خبارة إلى نائب السلطنة الأفرم فقووا عزمه على ملاقاة العدو، واجتمعوا بمهنا أمير العرب فحرضوه على قتال العدو فأجابهم بالسمع والطاعة، وقويت نياتهم على ذلك، وخرج طلب سلار من دمشق إلى ناحية المرج، واستعدوا للحرب والقتال بنيات صادقة‏.‏

ورجع الشيخ تقي الدين بن تيمية من الديار المصرية في السابع والعشرين من جمادى الأولى على البريد، وأقام بقلعة مصر ثمانية أيام يحثهم على الجهاد والخروج إلى العدو، وقد اجتمع بالسلطان والوزير وأعيان الدولة فأجبروه إلى الخروج، وقد غلت الأسعار بدمشق جداً، حتى بيع خاروفان بخمسمائة درهم، واشتد الحال‏.‏

ثم جاءت الأخبار بأن ملك التتار قد خاض الفرات راجعاً عامه ذلك لضعف جيشه وقلة عددهم، فطابت النفوس لذلك، وسكن الناس وعادوا إلى منازلهم منشرحين آمنين مستبشرين‏.‏

ولما جاءت الأخبار بعدم وصول التتار إلى الشام في جمادى الآخرة تراجعت أنفس الناس إليهم وعاد نائب السلطنة إلى دمشق، وكان مخيماً في المرج من مدة أربعة أشهر متتابعة، وهو من أعظم الرباط، وتراجع الناس إلى أوطانهم‏:‏

وكان الشيخ زين الدين الفارقي قد درّس بالناصرية لغيبة مدرسها كمال الدين بن الشريشني بالكرك هارباً، ثم عاد إليها في رمضان، وفي أواخر الشهر درس ابن الزكي بالدولعية عوضاً عن جمال الدين الزرعي لغيبته‏.‏

وفي يوم الاثنين قرئت شروط الذمة على أهل الذمة وألزموا بها واتفقت الكلمة على عزلهم عن الجهات، وأخذوا بالصغار، ونودي بذلك في البلد وألزم النصارى بالعمائم الزرق، واليهود بالصفر، والسامرة بالحمر، فحصل بذلك خير كثير وتميزوا عن المسلمين‏.‏

وفي عاشر رمضان جاء المرسوم بالمشاركة بين أرجواش والأمير سيف الدين أقبجا في نيابة القلعة، وأن يركب كل واحد منهما يوماً، ويكون الآخر بالقلعة يوماً، فامتنع أرجواش من ذلك‏.‏

وفي شوال درّس بالإقبالية الشيخ شهاب الدين بن المجد عوضاً عن علاء الدين القونوي بحكم إقامته بالقاهرة، وفي يوم الجمعة الثالث عشر من ذي القعدة، عزل شمس الدين بن الحريري عن قضاء الحنفية، بالقاضي جلال الدين بن حسام الدين على قاعدته وقاعدة أبيه، وذلك باتفاق من الوزير شمس الدين سنقر الأعسر ونائب السلطان الأفرم‏.‏

وفيها‏:‏ وصلت رسل ملك التتار إلى دمشق فأنزلوا بالقلعة، ثم ساروا إلى مصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/20‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 الشيخ حسن الكردي

المقيم بالشاغور في بستان له يأكل من غلته ويطعم من ورد عليه، وكان يزار فلما احتضر اغتسل وأخذ من شعره واستقبل القبلة وركع ركعات، ثم توفي رحمه الله يوم الاثنين الرابع جمادى الأولى، وقد جاوز المائة سنة‏.‏

 الطواشي صفي الدين جوهر التفليسي

المحدث، اعتنى بسماع الحديث وتحصيل الأجزاء، وكان حسن الخلق صالحاً لين الجانب رجلاً حامياً زكياً، ووقف أجزاءه التي ملكها على المحدثين‏.‏

 الأمير عز الدين

محمد بن أبي الهيجاء بن محمد الهيدباني الأربلي متولي دمشق، كان لديه فضائل كثيرة في التواريخ والشعر وربما جمع شيئاً في ذلك، وكان يسكن بدرب سعور فعرف به، فيقال درب ابن أبي الهيجاء‏.‏

وهو أول منزل نزلناه حين قدمنا دمشق في سنة ست وسبعمائة، ختم الله لي بخير في عافية آمين، توفي ابن أبي الهيجاء في طريق مصر وله ثمانون سنة، وكان مشكور السيرة حسن المحاضرة‏.‏

 الأمير جمال الدين آقوش الشريفي

والي الولاة بالبلاد القبلية، توفي في شوال وكانت له هيبة وسطوة وحرمة‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعمائة

استهلت والحكام هم المذكورون في التي قبلها، والأمير سيف الدين سلار بالشام، ونائب دمشق الأفرم، وفي أولها عزل الأمير قطلبك عن نيابة البلاد الساحلية وتولاها الأمير سيف الدين استدمر، وعزل عن وزارة مصر شمس الدين الأعسر، وتولي سيف الدين أقجبا المنصوري نيابة غزة، وجعل عوضه بالقلعة الأمير سيف الدين بهادر السيجري، وهو من الرحبة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/21‏)‏

وفي صفر رجعت رسل ملك التتر من مصر إلى دمشق فتلقاهم نائب السلطنة والجيش والعامة، وفي نصف صفر ولي تدريس النورية الشيخ صدر الدين علي البصراوي الحنفي، عوضاً عن الشيخ ولي الدين السمرقندي وإنما كان وليها ستة أيام ودرّس بها أربعة دروس بعد بني الصدر سليمان، توفي وكان من كبار الصالحين يصلي كل يوم مائة ركعة، وفي يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الأول جلس قاضي القضاة وخطيب الخطباء بدر الدين بن جماعة بالخانقاه الشمساطية شيخ الشيوخ بها عن طلب الصوفية له بذلك‏.‏

ورغبتهم فيه، وذلك بعد وفاة الشيخ يوسف بن حمويه الحموي، وفرحت الصوفية به، وجلس حوله ولم تجتمع هذه المناصب لغيره قبله، ولا بلغنا أنها اجتمعت إلى أحد بعده إلى زماننا هذا‏:‏ القضاء والخطابة ومشيخة الشيوخ‏.‏

وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من ربيع الأول قتل الفتح أحمد بن الثقفي بالديار المصرية، حكم فيه القاضي زين الدين بن مخلوف المالكي بما ثبت عنده من تنقيصه للشريعة واستهزائه بالآيات المحكمات، ومعارضة المشتبهات بعضها ببعض، يذكر عنه أنه كان يحل المحرمات من اللواط والخمر وغير ذلك، لمن كان يجتمع فيه من الفسقة من الترك وغيرهم من الجهلة، هذا وقد كان له فضيلة وله اشتغال وهيئة جميلة في الظاهر، وبزته ولبسته جيدة‏.‏

ولما أوقف عند شباك دار الحديث الكاملية بين القصرين استغاث بالقاضي تقي الدين بن دقيق العيد فقال‏:‏ ما تعرف مني‏؟‏ فقال‏:‏ أعرف منك الفضيلة، ولكن حكمك إلى القاضي زين الدين، فأمر القاضي للوالي أن يضرب عنقه، فضرب عنقه وطيف برأسه في البلد، ونودي عليه هذا جزاء من طعن في الله ورسوله‏.‏

قال البرزالي في تاريخه‏:‏ وفي وسط شهر ربيع الأول ورد كتاب من بلاد حماه من جهة قاضيها يخبر فيه أنه وقع في هذه الأيام ببارين من عمل حماه برد كبار على صور حيوانات مختلفة شتى، سباع وحيات وعقارب وطيور ومعز ونساء، ورجال في أوساطهم حوائص، وأن ذلك ثبت بمحضر عند قاضي الناحية، ثم نقل ثبوته إلى قاضي حماه‏.‏

وفي يوم الثلاثاء عاشر ربيع الآخر شنق الشيخ علي الحويرالي بواب الظاهرية على بابها، وذلك أنه اعترف بقتل الشيخ زين الدين السمرقندي‏.‏

وفي النصف منه حضر القاضي بدر الدين بن جماعة تدريس الناصرية الجوانية عوضاً عن كمال الدين بن الشريشي، وذلك أنه ثبت محضر أنها لقاضي الشافعية بدمشق، فانتزعها من يد ابن الشريشي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/22‏)‏

وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من جمادى الأولى قدم الصدر علاء الدين بن شرف الدين بن القلانسي على أهله من التتر بعد أسر سنتين وأياماً، وقد حبس مدة ثم لطف الله به وتلطف حتى تخلص منهم ورجع إلى أهله، ففرحوا به‏.‏

وفي سادس جمادى الآخرة قدم البريد من القاهرة، وأخبر بوفاة أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وأن ولده ولي الخلافة من بعده، وهو أبو الربيع سليمان، ولقب بالمستكفي بالله، وأنه حضر جنازته الناس كلهم مشاة، ودفن بالقرب من الست نفيسة، وله أربعون سنة في الخلافة، وقدم مع البريد تقليد بالقضاء لشمس الدين الحريري الحنفي، ونظر الدواوين لشرف الدين بن مزهر، واستمرت الخاتونية الجوانية بيد القاضي جلال الدين بن حسام الدين بإذن نائب السلطنة‏.‏

وفي يوم الجمعة تاسع جمادى الآخرة خطب للخليفة المستكفي بالله وترحم على والده بجامع دمشق وأعيدت الناصرية إلى ابن الشريشي، وعزل عنها ابن جماعة ودرّس بها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة‏.‏

وفي شوال قدم إلى الشام جراد عظيم أكل الزرع والثمار وجرد الأشجار حتى صارت مثل العصى، ولم يعهد مثل هذا، وفي هذا الشهر عقد مجلس لليهود الخيابرة وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجزية عنهم‏.‏

فلما وقف عليه الفقهاء تبينوا أنه مكذوب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة، والتواريخ المحبطة، واللحن الفاحش، وحاققهم عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وبين لهم خطأهم وكذبهم، وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية، وخافوا من أن تستعاد منهم الشؤون الماضية‏.‏

قلت‏:‏ وقد وقفت أنا على هذا الكتاب فرأيت فيها شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي سعد قبل ذلك بنحو من سنتين، وفيه‏:‏ وكتب علي بن طالب وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين علي، لأن علم النحو إنما أسند إليه من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءاً مفرداً، وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي المارودي، وكتاب أصحابنا في ذلك العصر، وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد، وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة‏.‏

وفي هذا الشهر ثار جماعة من الحسدة على الشيخ تقي الدين بن تيمية وشكوا منه أنه يقيم الحدود ويعزر ويحلق رؤوس الصبيان، وتكلم هو أيضاً فيمن يشكو منه ذلك، وبّين خطأهم، ثم سكنت الأمور‏.‏

وفي ذي القعدة ضربت البشائر بقلعة دمشق أياماً بسبب فتح أماكن من بلاد سيس عنوة، ففتحها المسلمون ولله الحمد‏.‏

وفيه قدم عز الدين بن ميسر على نظر الدواوين عوضاً عن ابن مزهر‏.‏

وفي يوم الثلاثاء رابع ذي الحجة حضر عبد السيد بن المهذب ديّان اليهود إلى دار العدل ومعه أولاده فأسلموا كلهم، فأكرمهم نائب السلطنة وأمر أن يركب بخلعة وخلفه الدبادب تضرب والبوقات إلى داره، وعمل ليلتئذ ختمة عظيمة حضرها القضاة والعلماء، وأسلم على يديه جماعة كبيرة من اليهود، وخرجوا يوم العيد كلهم يكبرون مع المسلمين، وأكرمهم الناس إكراماً زائداً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/23‏)‏

وقدمت رسل ملك التتار في سابع عشر ذي الحجة فنزلوا بالقلعة، وسافروا إلى القاهرة بعد ثلاثة أيام وبعد مسيرهم بيومين مات أرجواس، وبعد موته بيومين قدم الجيش من بلاد سيس، وقد فتحوا جانباً منها، فخرج نائب السلطنة والجيش لتلقيهم، وخرج الناس للفرجة على العادة وفرحوا، بقدومهم ونصرهم‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أمير المؤمنين الخليفة الحاكم بأمر الله

أبو العباس أحمد بن المسترشد بالله الهاشمي العباسي البغدادي المصري، بويع بالخلافة بالدولة الظاهرية في أول سنة إحدى وستين وستمائة، فاستكمل أربعين سنة في الخلافة، وتوفي ليلة الجمعة ثامن عشر جمادى الأولى، وصلّي عليه وقت صلاة العصر بسوق الخيل، وحضر جنازته الأعيان والدولة كلهم مشاة‏.‏

وكان قد عهد بالخلافة إلى ولده المذكور أبي الربيع سليمان‏.‏

خلافة المستكفي بالله أمير المؤمنين ابن الحاكم بأمر الله العباسي

لما عهد إليه كتب تقليده بذلك وقرئ بحضرة السلطان والدولة يوم الأحد العشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وخطب له على المنابر بالبلاد المصرية والشامية، وسارت بذلك البريدية إلى جميع البلاد الإسلامية‏.‏

وتوفي فيها‏:‏

 الأمير عز الدين

أيبك بن عبد الله النجيبي الدويدار والي دمشق، واحد أمراء الطبلخانة بها، وكان مشكور السيرة، ولم تطل مدته، ودفن بقاسيون، توفي يوم الثلاثاء سادس عشر ربيع الأول‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 14/24‏)‏

 الشيخ الإمام العالم شرف الدين أبو الحسن

علي بن الشيخ الإمام العالم العلامة الحافظ الفقيه تقي الدين أبي عبد الله محمد بن الشيخ أبي الحسن أحمد بن عبد الله بن عيسى بن أحمد بن محمد اليونيني البعلبكي، وكان أكبر من أخيه الشيخ قطب الدين بن الشيخ الفقيه، ولد شرف الدين سنة إحدى وعشرين وستمائة، فأسمعه أبوه الكثير واشتغل وتفقه، وكان عابداً عاملاً كثير الخشوع‏.‏

دخل عليه إنسان وهو بخزانة الكتب فجعل يضربه بعصا في رأسه ثم بسكين فبقي متمرضاً أياماً، ثم توفي إلى رحمة الله يوم الخميس حادي عشر رمضان ببعلبك، ودفن بباب بطحا، وتأسف الناس عليه لعلمه وعمله وحفظه الأحاديث، وتودده إلى الناس وتواضعه وحسن سمته ومرؤءته تغمده الله برحمته‏.‏

 الصدر ضياء الدين

أحمد بن الحسين بن شيخ السلامية والد القاضي قطب الدين موسى الذي تولى فيها بعد نظر الجيش بالشام وبمصر أيضاً، توفي يوم الثلاثاء عشرين ذي القعدة ودفن بقاسيون، وعمل عزاؤه بالرواحية‏.‏

 الأمير الكبير المرابط المجاهد

علم الدين أرجواش بن عبد الله المنصوري، نائب القلعة بالشام كان ذا هيبة وهمة وشهامة وقصد صالح، قدر الله على يديه حفظ معقل المسلمين لما ملكت التتار الشام أيام قازان، وعصت عليهم القلعة ومنعها الله منهم على يدي هذا الرجل، فإنه التزم أن لا يسلمها إليهم ما دام بها عين تطرف، واقتدت بها بقية القلاع الشامية، وكانت وفاته بالقلعة ليلة السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة، وأخرج منها ضحوة يوم السبت فصلّي عليه وحضر نائب السلطنة فمن دونه جنازته، ثم حمل إلى سفح قاسيون ودفن بتربته رحمه الله‏.‏

 الأبرقوهي المسند المعمر المصري

هو الشيخ الجليل المسند الرحلة، بقية السلف شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن إسحاق بن محمد بن المؤيد بن علي بن إسماعيل بن أبي طالب، الأبرقوهي الهمداني ثم المصري، ولد بأبرقوه من بلاد شيراز في رجب أو شعبان سنة خمس عشرة وستمائة، وسمع الكثير من الحديث على المشايخ المكثرين، وخرجت له مشيخات، وكان شيخاً حسناً لطيفاً مطيقاً، توفي بمكة بعد خروج الحجيج بأربعة أيام رحمه الله‏.‏وفيها توفي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 14/25‏)‏

 صاحب مكة

الشريف أبو نمى محمد بن الأمير أبي سعد حسن بن علي بن قتادة الحسني صاحب مكة منذ أربعين سنة، وكان حليماً وقوراً ذا رأي وسياسة وعقل ومروءة‏.‏

وفيها‏:‏ ولد كاتبه إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي المصري الشافعي عفا الله عنه، والله سبحانه أعلم‏.‏