فصل: ترجمة الرشيد

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة تسعين ومائة من الهجرة

فيها‏:‏ خلع رافع بن ليث بن نصر بن سيار نائب سمرقند الطاعة ودعا إلى نفسه، وتابعه أهل بلده وطائفة كثيرة من تلك الناحية، واستفحل أمره، فسار إليه نائب خراسان علي بن عيسى فهزمه رافع وتفاقم الأمر به‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/220‏)‏

وفيها‏:‏ سار الرشيد لغزو بلاد الروم لعشر بقين من رجب، وقد لبس على رأسه قلنسوة، فقال فيها أبو المعلا الكلابي‏:‏

فمن يطلب لقاءك أو يرده * فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق * ومن المتخلفين على الأمور

فسار حتى وصل إلى الطوانة فعسكر بها وبعث إليه نقفور بالطاعة وحمل الخراج والجزية حتى عن رأس ولده ورأسه، وأهل مملكته، في كل سنة خمسة عشر ألف دينار، وبعث يطلب من الرشيد جارية قد أسروها وكانت ابنة ملك هرقلة، وكان قد خطبها على ولده، فبعث بها الرشيد مع هدايا وتحف وطيب بعث يطلبه من الرشيد، واشترط عليه الرشيد أن يحمل في كل سنة ثلثمائة ألف دينار، وأن لا يعمر هرقلة‏.‏

ثم انصرف الرشيد راجعاً واستناب على الغزو عقبة بن جعفر‏.‏

ونقض أهل قبرص العهد فغزاهم معيوف بن يحيى فسبى أهلها، وقتل منهم خلقاً كثيراً‏.‏

وخرج رجل من عبد القيس فبعث إليه الرشيد من قتله‏.‏

وحج بالناس فيها عيسى بن موسى الهادي‏.‏

 من توفي فيها من الأعيان والمشاهير‏:‏

أسد بن عمرو

ابن عامر، أبو المنذر البجلي الكوفي، صاحب أبي حنيفة، حكم ببغداد وبواسط، فلما انكف بصره عزل نفسه عن القضاء‏.‏

قال أحمد بن حنبل‏:‏ كان صدوقاً‏.‏

ووثقه ابن معين، وتكلم فيه علي بن المديني، والبخاري، وسعدون المجنون صام ستين سنة فخف دماغه فسماه الناس‏:‏ مجنوناً، وقف يوماً على حلقة ذي النون المصري فسمع كلامه فصرخ ثم أنشأ يقول‏:‏

ولا خير في شكوى إلى غير مشتكى * ولا بد من شكوى إذا لم يكن صبر

وقال الأصمعي‏:‏ مررت به وهو جالس عند رأس شيخ سكران يذب عنه‏.‏

فقلت له‏:‏ مالي أراك عند رأس هذا الشيخ ‏؟‏

فقال‏:‏ إنه مجنون‏.‏

فقلت‏:‏ أنت مجنون أو هو ‏؟‏

قال‏:‏ لا ‏!‏ بل هو، لأني صليت الظهر والعصر في جماعة وهو لم يصل جماعة ولا فرادى، وهو مع هذا قد شرب الخمر وأنا لم أشربها‏.‏

قلت‏:‏ فهل قلت في هذا شيئاً ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، ثم أنشأ يقول‏:‏

تركت النبيذ لأهل النبيذ * وأصبحت أشرب ماء قراحا

لأن النبيذ يذل العزيز * ويكسو السواد الوجوه الصباحا

فإن كان ذا جائزاً للشباب * فما العذر منه إذا الشيب لاحا

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/221‏)‏

قال الأصمعي‏:‏ فقلت له‏:‏ صدقت، أنت العاقل وهو المجنون‏.‏

وعبيدة بن حميد

ابن صهيب، أبو عبد الرحمن التميمي الكوفي، مؤدب الأمين‏.‏

روى عن‏:‏ الأعمش، وغيره‏.‏

وعنه‏:‏ أحمد بن حنبل، وكان يثني عليه‏.‏

وفيها توفي‏:‏

يحيى بن خالد بن برمك

أبو علي الوزير، والد جعفر البرمكي، ضم إليه المهدي ولده الرشيد فرباه، وأرضعنه امرأته مع الفضل بن يحيى، فلما ولي الرشيد عرف له حقه، وكان يقول‏:‏ قال أبي، قال أبي‏.‏

وفوض إليه أمور الخلافة وأزمتها، ولم يزل كذلك حتى نكبت البرامكة فقتل جعفر وخلد أباه يحيى في الحبس حتى مات في هذه السنة‏.‏

وكان كريماً فصيحاً، ذا رأي سديد، يظهر من أموره خير وصلاح‏.‏

قال يوماً لولده‏:‏ خذوا من كل شيء طرفاً، فإن من جهل شيئاً عاداه‏.‏

وقال لأولاده‏:‏ اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون‏.‏

وكان يقول لهم‏:‏ إذا أقبلت الدنيا فأنفقوا منها فإنها لا تبقى، وإذا أدبرت فأنفقوا منها فإنها لا تبقى‏.‏

وكان إذا سأله في الطريق وهو راكب أقل ما يأمر له بمائتي درهم، فقال رجل يوماً‏:‏

يا سميَّ الحصور يحيى * أتيحت لك من فضل ربنا جنتان

كل من مر في الطريق عليكم * فله من نوالكم مائتان

مائتا درهم لمثلي قليل * هي للفارس العجلان

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

وأمر فسبق به إلى الدار، فلما رجع سأل عنه فإذا هو قد تزوج وهو يريد أن يدخل على أهله فأعطاه صداقها أربعة آلاف، وعن دار أربعة آلاف، وعن الأمتعة أربعة آلاف‏.‏

وكلفه الدخول أربعة آلاف، وأربعة آلاف يستظهر بها‏.‏

وجاء رجل يوماً فسأله شيئاً فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ لقد جئتني في وقت لا أملك فيه مالاً، وقد بعث إلي صاحب لي يطلب مني أن يهدي إلي ما أحب، وقد بلغني أنك تريد أن تبيع جارية لك، وأنك قد أعطيت فيها ثلاثة آلاف دينار، وإني سأطلبها فلا تبعها منه بأقل من ثلاثين ألف دينار‏.‏

فجاؤوني فبلغوا معي بالمساومة إلى عشرين ألف دينار، فلما سمعتها ضعف قلبي عن ردها، وأجبت إلى بيعها، فأخذها وأخذت العشرين ألف دينار‏.‏

فأهداها إلى يحيى، فلما اجتمعت بيحيى قال‏:‏ بكم بعتها ‏؟‏

قلت‏:‏ بعشرين ألف دينار‏.‏

قال‏:‏ إنك لخسيس خذ جاريتك إليك وقد بعث إلي صاحب فارس يطلب مني أن أستهديه شيئاً، وإني سأطلبها منه فلا تبعها بأقل من خمسين ألف دينار‏.‏

فجاؤوني فوصلوا في ثمنها إلى ثلاثين ألف دينار، فبعتها منهم‏.‏

فلما جئته لامني أيضاً وردها عليَّ، فقلت‏:‏ أشهدك أنها حرة وإني قد تزوجتها‏.‏

وقلت‏:‏ جارية قد أفادتني خمسين ألف دينار لا أفرط فيها بعد اليوم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/222‏)‏

وذكر الخطيب أن الرشيد طلب من منصور بن زياد عشرة آلاف ألف درهم، ولم يكن عنده منها سوى ألف ألف درهم، فضاق ذرعاً، وقد توعده بالقتل وخراب الديار إن لم يحملها في يومه ذلك، فدخل على يحيى بن خالد وذكر أمره فأطلق له خمسة آلاف ألف، واستطلق له من ابنه الفضل ألفي ألف‏.‏

وقال لابنه‏:‏ يا بني ‏!‏ بلغني أنك تريد أن تشتري بها ضيعة، وهذه ضيعة تغل الشكر وتبقى مدى الدهر‏.‏

وأخذ له من ابنه جعفر ألف ألف، ومن جاريته دنانير عقداً اشتراه بمائة ألف دينار، وعشرون ألف دينار‏.‏

وقال للمترسم عليه‏:‏ قد حسبناه عليك بألفي ألف‏.‏

فلما عرضت الأموال على الرشيد رد العقد، وكان قد وهبه لجارية يحيى، فلم يعد فيه بعد إذ وهبه‏.‏

وقال له بعض بنيه وهم في السجن والقيود‏:‏ يا أبت ‏!‏ بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال‏.‏

فقال‏:‏ يا بني ‏!‏ دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

رب قوم قد غدوا في نعمة * زمناً والدهر ريان غدق

سكت الدهر زماناً عنهم * ثم أبكاهم دماً حين نطق

وقد كان يحيى بن خالد هذا يجري على سفيان بن عيينة كل شهر ألف درهم، وكان سفيان يدعو له سجوده يقول‏:‏ اللهم إنه قد كفاني المؤنة وفرغني للعبادة فاكفه أمر آخرته‏.‏

فلما مات يحيى رآه بعض أصحابه في المنام فقال‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

قال‏:‏ غفر لي بدعاء سفيان‏.‏

وقد كان وفاة يحيى بن خالد رحمه الله في الحبس في الرافقة لثلاث خلون من المحرم من هذه لسنة، عن سبعين سنة، وصلى عليه ابنه الفضل، ودفن على شط الفرات، وقد وجد في جيبه رقعة مكتوب فيها بخطه‏:‏ قد تقدم الخصم والمدعى عليه بالأثر، والحاكم الحكم العدل الذي لا يجور ولا يحتاج إلى بيِّنة‏.‏

فحملت إلى الرشيد فلما قرأها بكى يومه ذلك، وبقي أياماً يتبين الأسى في وجهه‏.‏

وقد قال بعض الشعراء في يحيى بن خالد‏:‏

سألت الندا هل أنت حر فقال لا * ولكنني عبد ليحيى بن خالد

فقلت شراء قال لا بل وراثة * توارث رقي والد بعد والد

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/223‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وتسعين ومائة

فيها‏:‏ خرج رجل بسواد العراق يقال له‏:‏ ثروان بن سيف، وجعل يتنقل فيها من بلد إلى بلد، فوجه إليه الرشيد طوق بن مالك فهزمه وجرح ثروان وقتل عامة أصحابه، وكتب بالفتح إلى الرشيد‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بالشام أبو النداء فوجه إليه الرشيد يحيى بن معاذ واستنابه على الشام‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الثلج ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ غزا بلاد الروم يزيد بن مخلد الهبيري في عشرة آلاف، فأخذت عليه الروم المضيق فقتلوه في خمسين من أصحابه على مرحلتين من طرسوس، وانهزم الباقون، وولى الرشيد غزو الصائفة لهرثمة بن أعين، وضم إليه ثلاثين ألفاً فيهم مسرور الخادم، وإليه النفقات‏.‏

وخرج الرشيد إلى الحدث ليكون قريباً منهم‏.‏

وأمر الرشيد بهدم الكنائس والديور، وألزم أهل الذمة بتمييز لباسهم وهيآتهم في بغداد وغيرها من البلاد‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الرشيد علي بن موسى عن إمرة خراسان وولاها هرثمة بن أعين‏.‏

وفيها‏:‏ فتح الرشيد هرقلة في شوال وخربها وسبى أهلها وبث الجيوش والسرايا بأرض الروم إلى عين زربة، والكنيسة السوداء‏.‏

وكان دخل هرقلة في كل يوم مائة ألف وخمسة وثلاثين ألف مرتزق‏.‏

وولى حميد بن معيوف سواحل الشام إلى مصر، ودخل جزيرة قبرص فسبى أهلها وحملهم حتى باعهم بالرافقة، فبلغ ثمن الأسقف ألفي دينار، باعهم أبو البختري القاضي‏.‏

وفيها‏:‏ أسلم الفضل بن سهل على يدي المأمون‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عباس بن محمد بن علي العباسي، وكان والي مكة ولم يكن للناس بعد هذه السنة صائفة إلى سنة خمس عشرة ومائتين‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

سلمة بن الفضل الأبرش، وعبد الرحمن بن القاسم، الفقيه، الراوي عن‏:‏ مالك بن يونس بن أبي إسحاق، قدم على الرشيد فأمر له بمال جزيل نحواً من خمسين ألفاً فلم يقبله‏.‏

والفضل بن موسى الشيباني، ومحمد بن سلمة‏.‏

ومحمد بن الحسين المصيصي

أحد الزهاد الثقات، قال‏:‏ لم أتكلم بكلمة أحتاج إلى الاعتذار منها منذ خمسين سنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏ معمر الرقي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/224‏)‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائة

فيها‏:‏ دخل هرثمة بن أعين إلى خراسان نائباً عليها، وقبض على علي بن عيسى فأخذ أمواله وحواصله، وأركبه على بعير وجهه لذنبه، ونادى عليه ببلاد خراسان، وكتب إلى الرشيد بذلك فشكره على ذلك، ثم أرسله إلى الرشيد بعد ذلك فحبس بداره ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولى الرشيد ثابت بن نصر بن مالك نيابة الثغور بلاد الروم، وفتح مطمورة‏.‏

وفيها‏:‏ كان الصلح بين المسلمين والروم على يد ثابت بن نصر‏.‏

وفيها‏:‏ خرجت الخرَّمية بالجبل وبلاد أذربيجان‏.‏

فوجه الرشيد إليهم عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي في عشرة آلاف فارس فقتل منهم خلقاً وأسر وسبى ذراريهم، وقدم بهم بغداد، فأمر له الرشيد بقتل الرجال منهم، وبالذرية فبيعوا فيها‏.‏

وكان قد غزاهم قبل ذلك خزيمة بن خازم‏.‏

وفي ربيع الأول منها‏:‏ قدم الرشيد من الرقة إلى بغداد في السفن، وقد استخلف على الرقة ابنه القاسم وبين يديه خزيمة بن خازم، ومن نية الرشيد الذهاب إلى خراسان لغزو رافع بن ليث الذي كان قد خلع الطاعة واستحوذ على بلاد كثيرة من بلاد سمرقند وغيرها‏.‏

ثم خرج الرشيد في شعبان قاصداً خراسان، واستخلف على بغداد ابنه محمداً الأمين، وسأل المأمون من أبيه أن يخرج معه خوفاً من غدر أخيه الأمين، فأذن له فسار معه، وقد شكا الرشيد في أثناء الطريق إلى بعض أمرائه جفاء بنيه الثلاثة الذين جعلهم ولاة للعهد من بعده، وأراه داء في جسده، وقال‏:‏ إن لكل واحد من‏:‏ الأمين، والمأمون، والقاسم، عندي عيناً عليَّ، و هم يعدون أنفاسي ويتمنون انقضاء أيامي، وذلك شر لهم لو كانوا يعلمون‏.‏

فدعا له ذلك الأمير، ثم أمر له الرشيد بالانصراف إلى عمله، وودعه، وكان آخر العهد به‏.‏

وفيها‏:‏ تحرك ثروان الحروري وقتل عامل السلطان بطرف البصرة‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الرشيد الهيصم اليماني‏.‏

ومات عيسى بن جعفر وهو يريد اللحاق بالرشيد فمات في الطريق‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس العباس بن عبد الله بن جعفر بن أبي جعفر المنصور‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

إسماعيل بن جامع

ابن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة، أبو القاسم، أحد المشاهير بالغناء، كان ممن يضرب به المثل، وقد كان أولاً يحفظ القرآن ثم صار إلى صناعة الغناء وترك القرآن‏.‏

وذكر عنه أبو الفرج بن علي بن الحسين صاحب الأغاني حكايات غريبة، من ذلك أنه قال‏:‏ كنت يوماً مشرفاً من غرفة بحران إذ أقبلت جارية سوداء معها قربة تستقي الماء، فجلست ووضعت قربتها واندفعت تغني‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/225‏)‏

إلى الله أشكو بخلها وسماحتي * لها عسل مني وتبذل علقما

فردِّي مصاب القلب أنت قتلته * ولا تتركيه هائم القلب مغرما

قال‏:‏ فسمعت ما لا صبر لي عنه ورجوت أن تعيده فقامت وانصرفت، فنزلت وانطلقت وراءها وسألتها أن تعيده فقالت‏:‏ إن عليَّ خراجاً كل يوم درهمين، فأعطيتها درهمين فأعادته فحفظته وسلكته يومي ذلك، فلما أصبحت أنسيته فأقبلت السوداء فسألتها أن تعيده فلم تفعل إلا بدرهمين، ثم قالت‏:‏ كأنك تستكثر أربعة دراهم، كأني بك وقد أخذت عليه أربعة آلاف دينار‏.‏

قال‏:‏ فغنيته ليلة للرشيد فأعطاني ألف دينار، ثم استعادنيه ثلاث مرات أخرى وأعطاني ثلاثة آلاف دينار، فتبسمت فقال‏:‏ ممَّ تبسمت ‏؟‏

فذكرت له القصة فضحك وألقى إلي كيساً آخر فيه ألف دينار‏.‏

وقال‏:‏ لا أكذب السوداء‏.‏

وحكى عنه أيضاً قال‏:‏ أصبحت يوماً بالمدينة وليس معي إلا ثلاثة دراهم، فإذا جارية على رقبتها جرة تريد الركي وهي تسعى وتترنم بصوت شجي‏:‏

شكونا إلى أحبابنا طول ليلنا * فقالوا لنا ما أقصر الليل عندنا

وذاك لأن النوم يغشى عيونهم * سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا

إذا ما دنا الليل المضرُّ بذي الهوى * جزعنا وهم يستبشرون إذ دنا

فلو أنهم كانوا يلاقون مثلما * نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا

قال‏:‏ فاستعدته منها وأعطيتها الدراهم الثلاثة فقالت‏:‏ لتأخذن بدلها ألف دينار، ألف دينار، وألف دينار‏.‏

فأعطاني الرشيد ثلاثة آلاف دينار في ليلة على ذلك الصوت‏.‏

وفيها توفي‏:‏

بكر بن النطاح

أبو وائل الحنفي البصري، الشاعر المشهور، نزل بغداد زمن الرشيد، وكان يخالط أبا العتاهية‏.‏

قال أبو عفان‏:‏ أشعر أهل العدل من المحدثين أربعة‏:‏ أولهم بكر بن النطاح‏.‏

وقال المبرد‏:‏ سمعت الحسن بن رجاء يقول‏:‏ اجتمع جماعة من الشعراء ومعهم بكر بن النطاح يتناشدون، فلما فرغوا من طوالهم أنشد بكر بن النطاح لنفسه‏:‏

ما ضرَّها لو كتبت بالرضى * فجف جفن العين أو أغمضا

شفاعة مردودة عندها * في عاشق يود لو قد قضى

يا نفس صبراً واعلمي أنما * يأمل منها مثلما قد مضى

لم تمرض الأجفان من قاتل * بلحظه إلا لأن أمرضا

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/226‏)‏

قال‏:‏ فابتدروه يقلبون رأسه‏.‏

ولما مات رثاه أبو العتاهية فقال‏:‏

مات ابن نطاح أبو وائل * بكر فأمسى الشعر قد بانا

وفيها توفي‏:‏

بهلول المجنون

كان يأوي إلى مقابر الكوفة، وكان يتكلم بكلمات حسنة، وقد وعظ الرشيد وغيره كما تقدم‏.‏

وعبد الله بن إدريس

الأودي الكوفي، سمع‏:‏ الأعمش، وابن جريج، وشعبة، ومالكاً، وخلقاً سواهم‏.‏

وروى عنه جماعات من الأئمة‏.‏

وقد استدعاه الرشيد ليوليه القضاء فقال‏:‏ لا أصلح، وامتنع أشد الامتناع، وكان قد سأل قبله وكيعاً فامتنع أيضاً، فطلب حفص بن غياث فقبل‏.‏

وأطلق لكل واحد خمسة آلاف عوضاً عن كلفته التي تكلفها في السفر فلم يقبل وكيع ولا ابن إدريس، وقبل ذلك حفص، فحلف ابن إدريس لا يكلمه أبداً‏.‏

وحج الرشيد في بعض السنين فاجتاز بالكوفة ومعه القاضي أبو يوسف والأمين والمأمون، فأمر الرشيد أن يجتمع شيوخ الحديث ليسمعوا ولديه، فاجتمعوا إلا ابن إدريس هذا، وعيسى بن يونس‏.‏

فركب الأمين والمأمون بعد فراغهما من سماعهما على من اجتمع من المشايخ إلى ابن إدريس فأسمعهما مائة حديث‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ يا عم ‏!‏ إن أردت أعدتها من حفظي، فأذن له فأعادها من حفظه كما سمعها، فتعجب لحفظه‏.‏

ثم أمر له المأمون بمال فلم يقبل منه شيئاً، ثم سارا إلى عيسى بن يونس فسمعا عليه، ثم أمر له المأمون بعشرة آلاف فلم يقبلها، فظن أنه استقلها فأضعفها فقال‏:‏ والله لو ملأت لي المسجد مالاً إلى سقفه ما قبلت منه شيئاً على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما احتضر ابن إدريس بكت ابنته فقال‏:‏ علام تبكي‏؟‏ فقد ختمت في هذا البيت أربعة آلاف ختمة‏.‏

صعصعة بن سلام

ويقال‏:‏ ابن عبد الله، أبو عبد الله الدمشقي، ثم تحول إلى الأندلس فاستوطنها في زمن عبد الملك بن معاوية وابنه هشام‏.‏

وهو أول من أدخل علم الحديث ومذهب الأوزاعي إلى بلاد الأندلس، وولي الصلاة بقرطبة، وفي أيامه غرست الأشجار بالمسجد الجامع هناك كما يراه الأوزاعي والشاميون ويكرهه مالك وأصحابه‏.‏

وقد روى عن‏:‏ مالك، والأوزاعي، وسعيد بن عبد العزيز‏.‏

وروى عنه جماعة منهم‏:‏ عبد الملك بن حبيب الفقيه، وذكره في كتاب الفقهاء، وذكره ابن يونس في تاريخه - تاريخ مصر - والحميدي في تاريخ الأندلس، وحرر وفاته في هذه السنة‏.‏

وحكي عن شيخه ابن حزم أن صعصعة هذا أول من أدخل مذهب الأوزاعي إلى الأندلس‏.‏

وقال ابن يونس‏:‏ أول من أدخل علم الحديث إليها‏.‏

وذكر أنه توفي قريباً من سنة ثمانين ومائة، والذي حرره الحميدي في هذه السنة أثبت‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/227‏)‏

علي بن ظبيان

أبو الحسن العبسي، قاضي الشرقية من بغداد، ولاه الرشيد ذلك‏.‏

كان ثقةً عالماً من أصحاب أبي حنيفة، ثم ولاه الرشيد قضاء القضاة، وكان الرشيد يخرج معه إذا خرج من عنده‏.‏

مات بقوميسين في هذه السنة‏.‏

العباس بن الأحنف

ابن الأسود بن طلحة، الشاعر المشهور، كان من عرب خراسان، ونشأ ببغداد‏.‏

وكان لطيفاً ظريفاً مقبولاً حسن الشعر‏.‏

قال أبو العباس‏:‏ قال عبد الله بن المعتز‏:‏ لو قيل لي من أحسن الناس شعراً تعرفه‏؟‏ لقلت‏:‏ العباس‏:‏

قد سحب الناس أذيال الظنون بنا * وفرَّق الناس فينا قولهم فرقا

فكاذب قد رمى بالظن غيركم * وصادق ليس يدري أنه صدقا

وقد طلبه الرشيد ذات ليلة في أثناء الليل فانزعج لذلك وخاف نساؤه، فلما وقف بين يدي الرشيد قال له‏:‏ ويحك ‏!‏ إنه قد عنَّ لي بيت في جارية لي فأحببت أن تشفعه بمثله‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ما خفت أعظم من هذه الليلة‏.‏

فقال‏:‏ ولم ‏؟‏

فذكر له دخول الحرس عليه في الليل، ثم جلس حتى سكن روعه، ثم قال‏:‏ ما قلت يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏

حنان قد رأيناها فلم نر مثلها بشراً * يزيدك وجهها حسناً إذا ما زدته نظرا

فقال الرشيد‏:‏ زد‏.‏

فقال‏:‏

إذا ما الليل مال عليـ * ـك بالإظلام واعتكرا

ودجَ فلم تر فجراً * فأبرزها ترَ قمرا

فقال‏:‏ إنا قد رأيناها، وقد أمرنا لك بعشرة آلاف درهم‏.‏

ومن شعره الذي أقر له فيه بشار بن برد وأثبته في سلك الشعراء بسببه قوله‏:‏

أبكي الذين أذاقوني مودتهم * حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا

واستنهضوني فلما قمت منتصباً * بثقل ما حملوني منهم قعدوا

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/228‏)‏

وله أيضاً‏:‏

وحدثتني يا سعد عنها فزدتني * جنوناً فزدني من حديثك يا سعد

هواها هوىً لم يعرف القلب غيره * فليس له قبل وليس له بعد

قال الأصمعي‏:‏ دخلت على العباس بن الأحنف بالبصرة وهو طريح على فراشه يجود بنفسه وهو يقول‏:‏

يا بعيد الدار عن وطنه * مفرداً يبكي على شجنه

كلما جدَّ النحيب به * زادت الأسقام في بدنه

ثم أغمي عليه ثم انتبه بصوت طائر على شجرة فقال‏:‏

ولقد زاد الفؤاد شجاً * هاتف يبكي على فننه

شاقه ما شاقني فبكى * كلنا يبكي على سكنه

قال‏:‏ ثم أغمي عليه أخرى فحركته فإذا هو قد مات‏.‏

قال الصولي‏:‏ كانت وفاته في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ بعدها‏.‏

وقيل‏:‏ قبلها في سنة ثمان وثمانين ومائة، فالله أعلم‏.‏

وزعم بعض المؤرخين أنه بقي بعد الرشيد‏.‏

عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور

أخو زبيدة، كان نائباً على البصرة في أيام الرشيد فمات في أثناء هذه السنة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الفضل بن يحيى

ابن خالد بن برمك، أخو جعفر وإخوته، كان هو والرشيد يتراضعان‏.‏

أرضعت الخيزران فضلاً، وأرضعت أم الفضل وهي‏:‏ زبيدة بنت بن بريه هارون الرشيد‏.‏

وكانت زبيدة هذه من مولدات بتبين البرية، وقد قال في ذلك بعض الشعراء‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/229‏)‏

كفى لك فضلاً أن أفضل حرة * غذتك بثدي والخليفة واحد

لقد زنت يحيى في المشاهد كلها * كما زان يحيى خالداً في المشاهد

قالوا‏:‏ وكان الفضل أكرم من أخيه جعفر، ولكن كان فيه كبر شديد، وكان عبوساً، وكان جعفر أحسن بشراً منه، وأطلق وجهاً، وأقل عطاء‏.‏

وكان الناس إليه أميل، ولكن خصلة الكرم تغطي جميع القبائح، فهي تستر تلك الخصلة التي كانت في الفضل‏.‏

وقد وهب الفضل لطباخه مائة ألف درهم فعابه أبوه على ذلك، فقال‏:‏ يا أبت ‏!‏ إن هذا كان يصحبني في العسر واليسر والعيش الخشن، واستمر معي في هذا الحال فأحسن صحبتي‏.‏

وقد قال بعض الشعراء‏:‏

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا * من كان يعتادهم في المنزل الخشن

ووهب يوماً لبعض الأدباء عشرة آلاف دينار فبكى الرجل فقال له‏:‏ مم تبكي، أستقللتها ‏؟‏

قال‏:‏ لا والله، ولكني أبكي أن الأرض تأكل مثلك، أو تواري مثلك‏.‏

وقال علي بن الجهم، عن أبيه‏:‏ أصبحت يوماً لا أملك شيئاً حتى ولا علف الدابة‏.‏

فقصدت الفضل بن يحيى، فإذا هو قد أقبل من دار الخلافة في موكب من الناس، فلما رآني رحب بي وقال‏:‏ هلم‏.‏

فسرت معه، فلما كان ببعض الطريق سمع غلاماً يدعو جارية من دار، وإذا هو يدعوها باسم جارية له يحبها، فانزعج لذلك وشكا إلي ما لقي من ذلك‏.‏

فقلت‏:‏ أصابك ما أصاب أخي بني عامر حيث يقول‏:‏

وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى * فهيج أحزان الفؤاد ولا يدري

دعا باسم ليلى غيرها وكأنما * أطار بليلى طائراً كان في صدري

فقال‏:‏ اكتب لي هذين البيتين‏.‏

قال‏:‏ فذهبت إلى بقال فرهنت عنده خاتمي على ثمن ورقة وكتبتهما له، فأخذهما وقال‏:‏ انطلق راشداً‏.‏

فرجعت إلى منزلي فقال لي غلامي‏:‏ هات خاتمك حتى نرهنه على طعام لنا وعلف للدابة، فقلت‏:‏ إني رهنته‏.‏

فما أمسينا حتى أرسل إلي الفضل بثلاثين ألفاً من الذهب، وعشرة آلاف من الورق، أجراه عليَّ كل شهر، وأسلفني شهراً‏.‏

ودخل على الفضل يوماً بعض الأكابر فأكرمه الفضل وأجلسه معه على السرير، فشكا إليه الرجل ديناً عليه وسأله أن يكلم في ذلك أمير المؤمنين‏.‏

فقال‏:‏ نعم، وكم دينك ‏؟‏

قال‏:‏ ثلاثمائة ألف درهم‏.‏

فخرج من عنده وهو مهموم لضعف رده عليه، ثم مال إلى بعض إخوانه فاستراح عنده ثم رجع إلى منزله فإذا المال قد سبقه إلى داره‏.‏

وما أحسن ما قال فيه بعض الشعراء‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/230‏)‏

لك الفضل يا فضل بن يحيى بن خالد * وما كل من يدعى بفضل له فضل

رأى الله فضلاً منك في الناس واسعاً * فسماك فضلاً فالتقى الاسم والفعل

وقد كان الفضل أكبر رتبة عند الرشيد من جعفر، وكان جعفر أحظى عند الرشيد منه وأخص‏.‏

وقد ولي الفضل أعمالاً كباراً منها نيابة خراسان وغيرها‏.‏

ولما قتل الرشيد البرامكة وحبسهم جلد الفضل هذا مائة سوط وخلَّده في الحبس حتى مات في هذه السنة، قبل الرشيد بشهور خمسة في الرقة، وصلى عليه بالقصر الذي مات فيه أصحابه، ثم أخرجت جنازته فصلى عليها الناس، ودفن هناك، وله خمس وأربعون سنة‏.‏

وكان سبب موته ثقل أصابه في لسانه اشتد به يوم الخميس ويوم الجمعة‏.‏

وتوفي قبل أذان الغداة من يوم السبت‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذلك في المحرم من سنة ثلاث وتسعين ومائة‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ في سنة ثنتين وتسعين، فالله أعلم‏.‏

وقد أطال ابن خلكان ترجمته وذكر طرفاً صالحاً من محاسنه ومكارمه، من ذلك‏:‏ أنه ورد بلخ حين كان نائباً على خراسان، وكان بها بيت النار التي كانت تعبدها المجوس، وقد كان جده برمك من خدامها، فهدم بعضه ولم يتمكن من هدمه كله، لقوة إحكامه، وبنى مكانه مسجداً لله تعالى‏.‏

وذكر أنه كان يتمثل في السجن بهذه الأبيات ويبكي‏:‏

إلى الله فيما نالنا نرفع الشكوى * ففي يده كشف المضرَّة والبلوى

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها * فلا نحن في الأموات فيها ولا الأحيا

إذا جاءنا السجان يوماً لحاجة * عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا

ومحمد بن أمية

الشاعر الكاتب، وهو من بيت كلهم شعراء، وقد اختلط أشعار بعضهم في بعض‏.‏

ومنصور بن الزبرقان

ابن سلمة، أبو الفضل النميري الشاعر، امتدح الرشيد، وأصله من الجزيرة وأقام ببغداد‏.‏

ويقال لجده‏:‏ مطعم الكبش الرخم، وذلك أنه أضاف قوماً فجعلت الرخم تحوم حولهم، فأمر بكبش يذبح للرخم حتى لا يتأذى بها ضيفانه، ففعل له ذلك‏.‏

فقال الشاعر فيه‏:‏

أبوك زعيم بني قاسط * وخالك ذو الكبش يغذي الرخم

وله أشعار حسنة، وكان يروي عن‏:‏ كلثوم بن عمرو، وكان شيخه الذي أخذ عنه الغناء‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/231‏)‏

يوسف بن القاضي أبي يوسف

سمع الحديث من‏:‏ السري بن يحيى، ويونس بن أبي إسحاق، ونظر في الرأي وتفقه، وولي قضاء الجانب الشرقي ببغداد في حياة أبيه أبي يوسف، وصلى بالناس الجمعة بجامع المنصور عن أمر الرشيد‏.‏

توفي في رجب من هذه السنة وهو قاضي ببغداد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائة

قال ابن جرير‏:‏ في المحرم منها‏:‏ توفي الفضل بن يحيى‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ توفي الفضل في سنة ثنتين وتسعين كما تقدم‏.‏

وما قاله ابن جرير أقرب‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ توفي سعيد الجوهري‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏ وافى الرشيد جرجان، وانتهت إليه خزائن علي بن عيسى تحمل على ألف وخمسمائة بعير، وذلك في صفر منها، ثم تحول منها إلى طوس وهو عليل، فلم يزل بها حتى كانت وفاته فيها‏.‏

وفيها‏:‏ تواقع هرثمة نائب العراق هو ورافع بن الليث فكسره هرثمة وافتتح بخارى وأسر أخاه بشير بن الليث، فبعثه إلى الرشيد وهو بطوس قد ثقل عن السير، فلما وقف بين يديه شرع يترقق له فلم يقبل منه، بل قال‏:‏ والله لو لم يبق من عمري إلا أن أحرك شفتي بقتلك لقتلتك‏.‏

ثم دعا بقصاب فجزأه بين يديه أربعة عشر عضواً، ثم رفع الرشيد يديه إلى السماء يدعو الله أن يمكنه من أخيه رافع كما مكنه من أخيه بشير‏.‏

 وفاة الرشيد

كان قد رأى وهو بالكوفة رؤيا أفزعته وغمه ذلك، فدخل عليه جبريل بن بختيشوع فقال‏:‏ مالك يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ رأيت كفاً فيها تربة حمراء خرجت من تحت سريري، وقائلاً يقول‏:‏ هذه تربه هارون‏.‏

فهوَّن عليه جبريل أمرها، وقال‏:‏ هذه من أضغاث الأحلام من حديث النفس، فتناسها يا أمير المؤمنين‏.‏

فلما سار يريد خراسان ومر بطوس واعتقلته العلة بها، ذكر رؤياه فهاله ذلك وقال لجبريل‏:‏ ويحك ‏!‏ أما تذكر ما قصصته عليك من الرؤيا ‏؟‏

فقال‏:‏ بلى‏.‏

فدعا مسروراً الخادم وقال‏:‏ ائتني بشيء من تربة هذه الأرض‏.‏

فجاءه بتربة حمراء في يده، فلما رآها قال‏:‏ والله هذه الكف التي رأيت، والتربة التي كانت فيها‏.‏

قال جبريل‏:‏ فوالله ما أتت عليه ثلاث حتى توفي، وقد أمر بحفر قبره قبل موته في الدار التي كان فيها، وهي دار حميد بن أبي غانم الطائي، فجعل ينظر إلى قبره وهو يقول‏:‏ يا ابن آدم ‏!‏ تصير إلى هذا‏.‏

ثم أمر أن يقرأوا القرآن في قبره، فقرأوه حتى ختموه وهو في محفة على شفير القبر‏.‏

ولما حضرته الوفاة احتبى بملاءة وجلس يقاسي سكرات الموت، فقال له بعض من حضر‏:‏ لو اضطجعت كان أهون عليك‏.‏

فضحك ضحكاً صحيحاً ثم قال‏:‏ أما سمعت قول الشاعر‏:‏

وإني من قوم كرام يزيدهم * شماساً وصبراً شدة الحدثان

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/232‏)‏

مات ليلة السبت، وقيل‏:‏ ليلة الأحد، مستهل جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة، عن خمس، وقيل‏:‏ سبع وأربعين سنة‏.‏

وكان ملكه ثلاثاً وعشرين سنة‏.‏

 وهذه ترجمته

هو‏:‏ هارون الرشيد أمير المؤمنين ابن المهدي محمد بن المنصور، أبي جعفر، عبد الله بن محمد بن علي عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، القرشي الهاشمي، أبو محمد، ويقال‏:‏ أبو جعفر‏.‏

وأمه الخيزران أم ولد‏.‏

كان مولده في شوال سنة ست، وقيل‏:‏ سبع، وقيل‏:‏ ثمان وأربعين ومائة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه ولد سنة خمسين ومائة‏.‏

وبويع له بالخلافة بعد موت أخيه موسى الهادي في ربيع الأول سنة سبعين ومائة، بعهد من أبيه المهدي‏.‏

روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وجده‏.‏

وحدث عن المبارك بن فضالة، عن الحسن، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏(‏‏(‏اتقوا النار ولو بشق تمرة‏)‏‏)‏‏.‏

أورده وهو على المنبر وهو يخطب الناس، وقد حدث عنه ابنه وسليمان الهاشمي والد إسحاق، ونباتة بن عمرو‏.‏

وكان الرشيد أبيض طويلاً سميناً جميلاً، وقد غزا الصائفة في حياة أبيه مراراً، وعقد الهدنة بين المسلمين والروم بعد محاصرته القسطنطينية، وقد لقي المسلمون من ذلك جهداً جهيداً وخوفاً شديداً، وكان الصلح مع امرأة ليون وهي الملقبة‏:‏ بأغسطه على حمل كثير تبذله للمسلمين في كل عام، ففرح المسلمون بذلك، وكان هذا هو الذي حدا أباه على البيعة له بعد أخيه في سنة ست وستين ومائة‏.‏

ثم لما أفضت إليه الخلافة في سنة سبعين كان من أحسن الناس سيرة وأكثرهم غزواً وحجاً، ولهذا قال فيه أبو السعلي‏:‏

فمن يطلب لقاءك أو يرده * فبالحرمين أو أقصى الثغور

ففي أرض العدو على طمر * وفي أرض الترفه فوق كور

وما حاز الثغور سواك خلق * من المتخلفين على الأمور

وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم، وإذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج ثلاثمائة بالنفقة السابغة والكسوة التامة‏.‏

وكان يحب التشبه بجده أبي جعفر المنصور إلا في العطاء، فإنه كان سريع العطاء جزيله، وكان يحب الفقهاء والشعراء ويعطيهم، ولا يضيع لديه بر ومعروف، وكان نقش خاتمه لا‏:‏ إله إلا الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/233‏)‏

وكان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعاً، إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة‏.‏

وكان ابن أبي مريم هو الذي يضحكه، وكان عنده فضيلة بأخبار الحجاز وغيرها، وكان الرشيد قد أنزله في قصره وخلطه بأهله‏.‏

نبهه الرشيد يوماً إلى صلاة الصبح فقام فتوضأ ثم أدرك الرشيد وهو يقرأ‏:‏ ‏{‏وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فقال ابن أبي مريم‏:‏ لا أدري والله، فضحك الرشيد وقطع الصلاة‏.‏

ثم أقبل عليه وقال‏:‏ ويحك ‏!‏ اجتنب الصلاة والقرآن وقل فيما عدا ذلك‏.‏

ودخل يوماً العباس بن محمد على الرشيد ومعه برنية من فضة فيها غالية من أحسن الطيب، فجعل يمدحها ويزيد في شكرها، وسأل من الرشيد أن يقبلها منه فقبلها فاستوهبها منه ابن أبي مريم فوهبها له‏.‏

فقال له العباس‏:‏ ويحك ‏!‏ جئت بشيء منعته نفسي وأهلي وآثرت به أمير المؤمنين سيدي فأخذته‏.‏

فحلف ابن مريم ليطيبن به إسته، ثم أخذ منها شيئاً فطلى به إسته ودهن جوارحه كلها منها، والرشيد لا يتمالك نفسه من الضحك‏.‏

ثم قال لخادم قائم عندهم يقال له خاقان‏:‏ اطلب لي غلامي‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ ادع له غلامه‏.‏

فقال له‏:‏ خذ هذه الغالية واذهب بها إلى ستك فمرها فلتطيب منها إستها حتى أرجع إليها فأنيكها‏.‏

فذهب الضحك بالرشيد كل مذهب، ثم أقبل ابن أبي مريم على العباس بن محمد فقال له‏:‏ جئت بهذه الغالية تمدحها عند أمير المؤمنين الذي ما تمطر السماء شيئاً ولا تنبت الأرض شيئاً إلا وهو تحت تصرفه وفي يده ‏؟‏

وأعجب من هذا أن قيل لملك الموت‏:‏ ما أمرك به هذا فأنفذه‏.‏

وأنت تمدح هذه الغالية عنده كأنه بقال أو خباز أو طباخ أو تمار‏.‏

فكاد الرشيد يهلك من شدة الضحك‏.‏

ثم أمر لابن أبي مريم بمائة ألف درهم‏.‏

وقد شرب الرشيد يوماً دواء فسأله ابن أبي مريم أن يلي الحجابة في هذا اليوم، ومهما حصل له كان بينه وبين أمير المؤمنين، فولاه الحجابة، فجاءت الرسل بالهدايا من كل جانب، من عند زبيدة، والبرامكة، وكبار الأمراء، وكان حاصله في هذا اليوم ستين ألف دينار‏.‏

فسأله الرشيد في اليوم الثاني عما تحصل فأخبره بذلك، فقال له‏:‏ فأين نصيبي ‏؟‏

فقال ابن أبي مريم‏:‏ قد صالحتك عليه بعشرة آلاف تفاحة‏.‏

وقد استدعى إليه أبا معاوية الضرير محمد بن حازم ليسمع منه الحديث قال أبو معاوية‏:‏ ما ذكرت عنده حديثاً إلا قال‏:‏ صلى الله عليه وسلم على سيدي، وإذا سمع فيه موعظة بكى حتى يبل الثرى‏.‏

وأكلت عنده يوماً ثم قمت لأغسل يدي فصب الماء عليَّ وأنا لا أراه، ثم قال‏:‏ يا أبا معاوية أتدري من يصب عليك الماء ‏؟‏

قلت‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ يصب عليك أمير المؤمنين‏.‏

قال أبو معاوية‏:‏ فدعوت له‏.‏

فقال‏:‏ إنما أردت تعظيم العلم‏.‏

وحدثه أبو معاوية يوماً، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، بحديث احتجاج آدم وموسى، فقال عم الرشيد‏:‏ أين التقيا يا أبا معاوية ‏؟‏

فغضب الرشيد من ذلك غضباً شديداً، وقال‏:‏ أتعترض على الحديث ‏؟‏

عليَّ بالنطع والسيف، فأحضر ذلك فقام الناس إليه يشفعون فيه، فقال الرشيد‏:‏ هذه زندقة‏.‏

ثم أمر بسجنه وأقسم أن لا يخرج حتى يخبرني من ألقى إليه هذا، فأقسم عمه بالأيمان المغلظة ما قال هذا له أحد، وإنما كانت هذه الكلمة بادرة مني وأنا أستغفر الله وأتوب إليه منها‏.‏ فأطلقه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/234‏)‏

وقال بعضهم‏:‏ دخلت على الرشيد وبين يديه رجل مضروب العنق والسياف يمسح سيفه في قفا الرجل المقتول، فقال الرشيد‏:‏ قتلته لأنه قال القرآن مخلوق، فقتله على ذلك قربة إلى الله عز وجل‏.‏

وقال بعض أهل العلم‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ انظر هؤلاء الذين يحبون أبا بكر وعمر ويقدمونهما فأكرمهم بعز سلطانك‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ أولست كذلك‏؟‏ أنا والله كذلك أحبهما وأحب من يحبهما وأعاقب من يبغضهما‏.‏

وقال له ابن السماك‏:‏ إن الله لم يجعل أحداً فوقك فاجتهد أن لا يكون فيهم أحد أطوع إلى الله منك‏.‏

فقال‏:‏ لئن كنت أقصرت في الكلام لقد أبلغت في الموعظة‏.‏

وقال له الفضيل بن عياض - أو غيره -‏:‏ إن الله لم يجعل أحداً من هؤلاء فوقك في الدنيا، فأجهد نفسك أن لا يكون أحد منهم فوقك في الآخرة، فاكدح لنفسك واعملها في طاعة ربك‏.‏

ودخل عليه ابن السماك يوماً فاستسقى الرشيد فأتي بقلة فيها ماء مبرد فقال لابن السماك‏:‏ عظني‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ بكم كنت مشترياً هذه الشربة لو منعتها ‏؟‏

فقال‏:‏ بنصف ملكي‏.‏

فقال‏:‏ اشرب هنيئاً‏.‏

فلما شرب قال‏:‏ أرأيت لو منعت خروجها من بدنك بكم كنت تشتري ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ بنصف ملكي الآخر‏.‏

فقال‏:‏ إن ملكاً قيمة نصفه شربه ماء، وقيمة نصفه الآخر بولة، لخليق أن لا يتنافس فيه‏.‏ فبكى هارون‏.‏

وقال ابن قتيبة‏:‏ ثنا الرياشي، سمعت الأصمعي، يقول‏:‏ دخلت على الرشيد وهو يقلم أظفاره يوم الجمعة فقلت له في ذلك، فقال‏:‏ أخذ الأظفار يوم الخميس من السنة، وبلغني أن أخذها يوم الجمعة ينفي الفقر‏.‏

فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أو تخشى الفقر ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أصمعي، وهل أحد أخشى للفقر مني ‏؟‏‏.‏

وروى ابن عساكر، عن إبراهيم المهدي، قال‏:‏ كنت يوماً عند الرشيد فدعا طباخه فقال‏:‏ أعندك في الطعام لحم جزور ‏؟‏

قال‏:‏ نعم، ألوان منه‏.‏

فقال‏:‏ أحضره مع الطعام‏.‏

فلما وضع بين يديه أخذ لقمة منه فوضعها في فيه فضحك جعفر البرمكي، فترك الرشيد مضغ اللقمة وأقبل عليه فقال‏:‏ مم تضحك ‏؟‏

قال‏:‏ لا شيء يا أمير المؤمنين، ذكرت كلاماً بيني وبين جاريتي البارحة‏.‏

فقال له‏:‏ بحقي عليك لما أخبرتني به‏.‏

قال‏:‏ حتى تأكل هذه اللقمة‏.‏

فألقاها من فيه وقال‏:‏ والله لتخبرني‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ بكم تقول إن هذا الطعام من لحم الجزور يقوم عليك ‏؟‏

قال‏:‏ بأربعة دارهم‏.‏

قال‏:‏ لا والله، يا أمير المؤمنين بل بأربعمائة ألف درهم‏.‏

قال‏:‏ وكيف ذلك ‏؟‏

قال‏:‏ إنك طلبت من طباخك لحم جزور قبل هذا اليوم بمدة طويلة فلم يوجد عنده‏.‏

فقلت‏:‏ لا يخلون المطبخ من لحم جزور فنحن ننحر كل يوم جزوراً لأجل مطبخ أمير المؤمنين، لأنا لا نشتري من السوق لحم جزور‏.‏

فصرف في لحم الجزور من ذلك اليوم إلى هذا اليوم أربعمائة ألف درهم، ولم يطلب أمير المؤمنين لحم جزور إلا هذا اليوم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/235‏)‏

قال جعفر‏:‏ فضحكت لأن أمير المؤمنين إنما ناله من ذلك هذه اللقمة‏.‏ فهي على أمير المؤمنين بأربعمائة ألف‏.‏

قال‏:‏ فبكى هارون الرشيد بكاءً شديداً وأمر برفع السماط من بين يديه، وأقبل على نفسه يوبخها ويقول‏:‏ هلكت والله يا هارون‏.‏

ولم يزل يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة الظهر، فخرج فصلى بالناس ثم رجع يبكي حتى آذنه المؤذنون بصلاة العصر، وقد أمر بألفي ألف تصرف إلى فقراء الحرمين في كل حرم ألف ألف صدقة، وأمر بألفي ألف يتصدق بها في جانبي بغداد الغربي والشرقي، وبألف ألف يتصدق بها على فقراء الكوفة والبصرة‏.‏

ثم خرج إلى صلاة العصر ثم رجع يبكي حتى صلى المغرب، ثم رجع، فدخل عليه أبو يوسف القاضي فقال‏:‏ ما شأنك يا أمير المؤمنين باكياً في هذا اليوم ‏؟‏

فذكر أمره وما صرف من المال الجزيل لأجل شهوته، وإنما ناله منها لقمة‏.‏

فقال أبو يوسف‏:‏ لجعفر هل كان ما تذبحونه من الجزور يفسد، أو يأكله الناس ‏؟‏

قال‏:‏ بل يأكله الناس‏.‏

فقال‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين بثواب الله فيما صرفته من المال الذي أكله المسلمون في الأيام الماضية، وبما يسره الله عليك من الصدقة، وبما رزقك الله من خشيته وخوفه في هذا اليوم، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 46‏]‏‏.‏

فأمر له الرشيد بأربعمائة ألف‏.‏

ثم استدعى بطعام فأكل منه فكان غداؤه في هذا اليوم عشاء‏.‏

وقال عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ اجتمع للرشيد من الجد والهزل ما لم يجتمع لغيره من بعده، كان أبو يوسف قاضيه، والبرامكة وزراءه، وحاجبه الفضل بن الربيع أنبه الناس وأشدهم تعاظماً‏.‏

ونديمه عمر بن العباس بن محمد صاحب العباسية، وشاعره مروان بن أبي حفصة، ومغنيه إبراهيم الموصلي واحد عصره في صناعته، ومضحكه ابن أبي مريم، وزامره برصوماً‏.‏

وزوجته أم جعفر - يعني‏:‏ زبيدة - وكانت أرغب الناس في كل خير، وأسرعهم إلى كل بر ومعروف، أدخلت الماء الحرم بعد امتناعه من ذلك، إلى أشياء من المعروف أجراها الله على يدها‏.‏

وروى الخطيب البغدادي أن الرشيد كان يقول‏:‏ إنا من قوم عظمت رزيتهم، وحسنت بعثتهم، ورثنا رسول الله صلى الله عليه و سلم، وبقيت فينا خلافة الله‏.‏

وبينما الرشيد يطوف يوماً بالبيت إذ عرض له رجل فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إني أريد أن أكلمك بكلام فيه غلظة‏.‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ ولا نعمت عين قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني فأمره أن يقول له قولاً ليناً‏.‏

وعن شعيب بن حرب قال‏:‏ رأيت الرشيد في طريق مكة فقلت في نفسي‏:‏ قد وجب عليك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فخوفتني فقالت‏:‏ إنه الآن يضرب عنقك‏.‏

فقلت‏:‏ لا بد من ذلك، فناديته فقلت‏:‏ يا هارون ‏!‏ قد أتعبت الأمة والبهائم‏.‏

فقال‏:‏ خذوه‏.‏

فأدخلت عليه وفي يده لتٌّ من حديد يلعب به وهو جالس على كرسي، فقال‏:‏ ممن الرجل ‏؟‏

فقلت‏:‏ رجل من المسلمين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/236‏)‏

فقال‏:‏ ثكلتك أمك ممن أنت ‏؟‏

فقلت‏:‏ من الأنبار‏.‏

فقال‏:‏ ما حملك على أن دعوتني باسمي ‏؟‏

قال‏:‏ فخطر ببالي شيء لم يخطر قبل ذلك ‏؟‏

فقلت‏:‏ أنا أدعو الله باسمه يا الله، أفلا أدعوك باسمك‏؟‏ وهذا الله سبحانه قد دعا أحب خلقه إليه بأسمائهم‏:‏ يا آدم، يا نوح، يا هود، يا صالح، يا إبراهيم، يا موسى، يا عيسى، يا محمد، وكنى أبغض خلقه إليه فقال‏:‏ تبت يدا أبي لهب‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ أخرجوه أخرجوه‏.‏

وقال له ابن السماك يوماً‏:‏ إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتبعث منه وحدك، فاحذر المقام بين يدي الله عز وجل، والوقوف بين الجنة والنار، حين يؤخذ بالكظم وتزل القدم، ويقع الندم، فلا توبة تقبل، ولا عثرة تقال، ولا يقبل فداء بمال‏.‏

فجعل الرشيد يبكي حتى علا صوته فقال يحيى بن خالد له‏:‏ يا ابن السماك ‏!‏ لقد شققت على أمير المؤمنين الليلة‏.‏

فقام فخرج من عنده وهو يبكي‏.‏

وقال له الفضيل بن عياض - في كلام كثير ليلة وعظه بمكة -‏:‏ يا صبيح الوجه إنك مسؤول عن هؤلاء كلهم، وقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 166‏]‏‏.‏

قال‏:‏ حدثنا ليث، عن مجاهد‏:‏ الوصلات التي كانت بينهم في الدينا‏.‏

فبكى حتى جعل يشهق‏.‏

وقال الفضيل‏:‏ استدعاني الرشيد يوماً وقد زخرف منازله، وأكثر الطعام والشراب واللذات فيها، ثم استدعى أبا العتاهية فقال له‏:‏ صف لنا ما نحن فيه من العيش والنعيم، فقال‏:‏

عش ما بدا لك سالماً * في ظل شاهقة القصور

تسعى عليك بما اشتهيـ * ـت لدى الرواح إلى البكور

فإذا النفوس تقعقعت * عن ضيق حشرجة الصدور

فهناك تعلم موقناً * ما كنت إلا في غرور

قال‏:‏ فبكى الرشيد بكاءً كثيراً شديداً‏.‏

فقال له الفضل بن يحيى‏:‏ دعاك أمير المؤمنين تسره فأحزنته ‏؟‏

فقال له الرشيد‏:‏ دعه فإنه رآنا في عمى فكره أن يزيدنا عمى‏.‏

ومن وجه آخر أن الرشيد قال لأبي العتاهية‏:‏ عظني بأبيات من الشعر وأوجز فقال‏:‏

لا تأمن الموت في طرف ولا نفس * ولو تمتَّعت بالحجاب والحرس

واعلم بأن سهام الموت صائبة * لكل مدرع منها ومتَّرس

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها * إن السفينة لا تجري على اليبس

قال‏:‏ فخر الرشيد مغشياً عليه‏.‏

وقد حبس الرشيد مرة أبا العتاهية وأرصد عليه من يأتيه بما يقول، فكتب مرة على جدار الحبس‏:‏

أما والله إن الظلم شوم * وما زال المسيء هو الظلوم

إلى ديان يوم الدين نمضي * وعند الله تجتمع الخصوم

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/237‏)‏

قال‏:‏ فاستدعاه واستعجله في حل ووهبه ألف دينار وأطلقه‏.‏

وقال الحسن بن أبي الفهم‏:‏ ثنا محمد بن عباد، عن سفيان بن عيينة، قال‏:‏ دخلت على الرشيد فقال‏:‏ ما خبرك ‏؟‏

فقلت‏:‏

بعين الله ما تخفي البيوت * فقد طال التحمل والسكوت

فقال‏:‏ يا فلان مائة ألف لابن عيينة تغنيه وتغني عقبه، ولا تضر الرشيد شيئاً‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ كنت مع الرشيد في الحج فمررنا بواد فإذا على شفيره امرأة حسناء بين يديها قصعة، وهي تسأل منها، وهي تقول‏:‏

طحطحتنا طحاطح الأعوام * ورمتنا حوادث الأيام

فأتيناكم نمد أكفّاً * نائلات لزادكم والطعام

فاطلبوا الأجر والمثوبة فينا * أيها الزائرون بيت الحرام

من رآني فقد رآني ورحلي * فارحموا غربتي وذل مقامي

قال الأصمعي‏:‏ فذهبت إلى الرشيد فأخبرته بأمرها فجاء بنفسه حتى وقف عليها فسمعها فرحمها وبكى وأمر مسروراً الخادم أن يملأ قصعتها ذهباً، فملأها حتى جعلت تفيض يميناً وشمالاً‏.‏

وسمع مرة الرشيد أعرابياً يحدو إبله في طريق الحج‏:‏

أيها المجمع هماً لاتهم * أنت تقضي ولك الحمى تحم

كيف ترقيك وقد جف القلم * حطت الصحة منك والسقم

فقال الرشيد لبعض خدمه‏:‏ ما معك ‏؟‏

قال‏:‏ أربعمائة دينار‏.‏

فقال‏:‏ ادفعها إلى هذا الأعرابي‏.‏

فلما قبضها ضرب رفيقه بيده على كتفه وقال متمثلاً‏:‏

وكنت جليس قعقاع بن عمرو * ولا يشقى بقعقاع جليس

فأمر الرشيد بعض الخدم أن يعطي المتمثل ما معه من الذهب فإذا معه مائتا دينار‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ إن أصل هذا المثل أن معاوية بن أبي سفيان أهديت له هدية جامات من ذهب فرَّقها على جلسائه وإلى جانبه قعقاع بن عمرو، وإلى جانب القعقاع أعرابي لم يفضل له منها شيء‏.‏

فأطرق الأعرابي حياء فدفع إليه القعقاع الجام الذي حصل له، فنهض الأعرابي وهو يقول‏:‏ وكنت جليس قعقاع بن عمرو إلى آخره‏.‏

وخرج الرشيد يوماً من عند زبيده وهو يضحك فقيل له‏:‏ مم تضحك يا أمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ دخلت اليوم إلى هذه المرأة - يعني‏:‏ زبيدة - فأقلت عندها وبت، فما استيقظت إلا على صوت ذهب يصب‏.‏

قالوا‏:‏ هذه ثلثمائة ألف دينار قدمت من مصر‏.‏

فقالت زبيدة‏:‏ هبها لي يا ابن عم‏.‏

فقلت‏:‏ هي لك‏.‏

ثم ما خرجت حتى عربدت علي وقالت‏:‏ أي خير رأيته منك ‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/238‏)‏

وقال الرشيد مرة للمفضل الضبي‏:‏ ما أحسن ما قيل في الذئب، ولك هذا الخاتم، وشراؤه ألف وستمائة دينار، فأنشد قول الشاعر‏:‏

ينام بإحدى مقلتيه ويتقي * بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم

فقال‏:‏ ما قلت هذا إلا لتسلبنا الخاتم‏.‏

ثم ألقاه إليه فبعثت زبيدة فاشترته منه بألف وستمائة دينار، وبعثت به إلى الرشيد وقالت‏:‏ إني رأيتك معجباً به‏.‏

فرده إلى المفضل والدنانير، وقال‏:‏ ما كنا لنهب شيئاً ونرجع فيه‏.‏

وقال الرشيد يوماً للعباس بن الأحنف‏:‏ أي بيت قالت العرب أرق ‏؟‏

فقال‏:‏ قول جميل في بثينة‏:‏

ألا ليتني أعمى أصمُّ تقودني * بثينة لا يخفى عليَّ كلامها

فقال له الرشيد‏:‏ أرق منه قولك في مثل هذا‏:‏

طاف الهوى في عباد الله كلِّهم * حتى إذا مر بي من بينهم وقفا

فقال له العباس‏:‏ فقولك يا أمير المؤمنين أرق من هذا كله‏:‏

أما يكفيك أنك تملكيني * وأن الناس كلِّهم عبيدي

وأنك لو قطعت يدي ورجلي * لقلت من الهوى أحسنت زيدي

قال‏:‏ فضحك الرشيد وأعجبه ذلك‏.‏

ومن شعر الرشيد في ثلاث حظيات كن عنده من الخواص قوله‏:‏

ملك الثلاث الناشآت عناني * وحللن من قلبي بكل مكان

مالي تطاوعني البرية كلُّها * وأطيعهن وهنَّ في عصياني

ما ذاك إلا أن سلطان الهوى * وبه قوين أعزُّ من سلطاني

ومما أورد له صاحب العقد في كتابه‏:‏

تبدي الصدود وتخفي الحب عاشقة * فالنفس راضية والطرف غضبان

وذكر ابن جرير وغيره أنه كان في دار الرشيد من الجواري والحظايا وخدمهن وخدم زوجته وأخواته أربعة آلاف جارية، وأنهن حضرن يوماً بين يديه فغنته المطربات منهن فطرب جداً، وأمر بمال فنثر عليهن‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/239‏)‏

وكان مبلغ ما حصل لكل واحدة منهن ثلاثة آلاف درهم في ذلك اليوم‏.‏ رواه ابن عساكر أيضاً‏.‏

وروي أنه اشترى جارية من المدينة فأعجب بها جداً فأمر بإحضار مواليها ومن يلوذبهم ليقضي حوائجهم، فقدموا عليه بثمانين نفساً فأمر الحاجب - وهو‏:‏ الفضل بن الربيع - أن يتلقاهم ويكتب حوائجهم، فكان فيهم رجل قد أقام بالمدينة لأنه كان يهوى تلك الجارية، فبعثت إليه فأتي به فقال له الفضل‏:‏ ما حاجتك ‏؟‏

قال‏:‏ حاجتي أن يجلسني أمير المؤمنين مع فلانة فأشرب ثلاثة أرطال من خمر، وتغنيني ثلاثة أصوات‏.‏

فقال‏:‏ أمجنون أنت ‏؟‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ ولكن أعرض حاجتي هذه على أمير المؤمنين‏.‏

فذكر للرشيد ذلك فأمر بإحضاره وأن تجلس معه الجارية بحيث ينظر إليهما ولا يريانه فجلست على كرسي والخدام بين يديها، وأجلس على كرسي فشرب رطلاً، وقال لها غنني‏:‏

خليلي عوجاً بارك الله فيكما * وإن لم تكن هند بأرضكما قصدا

وقولا لها ليس الضلال أجازنا * ولكننا جزنا لنلقاكم عمدا

غداً يكثر البادون منا ومنكم * وتزداد داري من دياركم بعدا

قال‏:‏ فغنته ثم استعجله الخدم فشرب رطلاً آخر، وقال‏:‏ غنني جعلت فداك‏:‏

تكلَّم منَّا في الوجوه عيوننا * فنحن سكوت والهوى يتكلم

ونغضب أحياناً ونرضى بطرفنا * وذلك فيما بيننا ليس يعلم

قال‏:‏ فغنته، ثم شرب رطلاً ثالثاً، وقال‏:‏ غنني جعلني الله فداك‏:‏

أحسن ما كنا تفرقنا * وخاننا الدهر وما خنَّا

فليت ذا الدهر لنا مرة * عاد لنا يوماً كما كنَّا

قال‏:‏ ثم قام الشاب إلى درجة هناك ثم ألقى نفسه من أعلاها على أم رأسه فمات‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ عجل الفتى، والله لو لم يعجل لوهبتها له‏.‏

وفضائل الرشيد ومكارمه كثيرة جداً‏.‏

قد ذكر الأئمة من ذلك شيئاً كثيراً فذكرنا منه أنموذجاً صالحاً‏.‏

وقد كان الفضيل بن عياض يقول‏:‏ ليس موت أحد أعز علينا من موت الرشيد، لما أتخوف بعده من الحوادث، وإني لأدعو الله أن يزيد في عمره من عمري‏.‏

قالوا‏:‏ فلما مات الرشيد وظهرت تلك الفتن والحوادث والاختلافات، وظهر القول بخلق القرآن، فعرفنا ما كان تخوفه الفضيل من ذلك‏.‏

وقد تقدمت رؤياه لذلك الكف وتلك التربة الحمراء وقائل يقول‏:‏ هذه تربة أمير المؤمنين‏.‏

فكان موته بطوس‏.‏

وقد روى ابن عساكر أن الرشيد رأى في منامه قائلاً يقول‏:‏ كأني بهذا القصر قد باد أهله‏.‏ الشعر إلى آخره‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/240‏)‏

وقد تقدم أن ذلك إنما رآه أخوه موسى الهادي، وأبوه محمد المهدي، فالله أعلم‏.‏

وقدمنا أنه أمر بحفر قبره في حياته، وأن تقرأ فيه ختمة تامة، وحمل حتى نظر إليه فجعل يقول‏:‏ إلى هنا تصير يا ابن آدم، ويبكي‏.‏

وأمر أن يوسع عند صدره، وأن يمد من عند رجليه، ثم جعل يقول‏:‏ ‏{‏مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 28-29‏]‏ ويبكي‏.‏

وقيل‏:‏ إنه لما احتضر قال‏:‏ اللهم انفعنا بالإحسان، واغفر لنا الإساءة، يا من لا يموت ارحم من يموت‏.‏

وكان مرضه بالدم، وقيل‏:‏ بالسل، وجبريل الطبيب يكتم ما به من العلة، فأمر الرشيد رجلاً أن يأخذ ماءه في قارورة ويذهب به إلى جبريل فيريه إياه، ولا يذكر له بول من هو، فإن سأله قال‏:‏ هو بول مريض عندنا‏.‏

فلما رآه جبريل قال لرجل عنده‏:‏ هذا مثل ماء ذلك الرجل‏.‏

ففهم صاحب القارورة من عني به، فقال له‏:‏ بالله عليك أخبرني عن حال صاحب هذا الماء فإن لي عليه مالاً، فإن كان به رجاء وإلا أخذت مالي منه‏.‏

فقال‏:‏ اذهب فتخلص منه فإنه لا يعيش إلا أياماً‏.‏

فلما جاء وأخبر الرشيد بعث إلى جبريل فتغيب حتى مات الرشيد‏.‏

وقد قال الرشيد وهو في هذه الحال‏:‏

إني بطوس مقيم * مالي بطوس حميم * أرجو إلهي لما بي * فإنه بي رحيم

لقد أتى بي طوساً * قضاؤه المحتوم * وليس إلا رضائي * والصبر والتسليم

مات بطوس يوم السبت لثلاث خلون من جمادى الآخرة، سنة ثلاث وتسعين ومائة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه توفي في جمادى الأولى، وقيل‏:‏ في ربيع الأول‏.‏

وله من العمر خمس، وقيل‏:‏ سبع، وقيل‏:‏ ثمان وأربعون سنة‏.‏

ومدة خلافته ثلاث وعشرون سنة وشهر وثمانية عشر يوماً، وقيل‏:‏ ثلاثة أشهر‏.‏

وصلى عليه ابنه صالح، ودفن بقرية من قرى طوس يقال لها‏:‏ سناباذ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ قرأت على خيام الرشيد بسناباذ والناس منصرفون من طوس من بعد موته‏:‏

منازل العسكر معمورة * والمنزل الأعظم مهجور

خليفة الله بدار البلى * تسعى على أجداثه المور

أقبلت العير تباهي به * وانصرفت تندبه العير

وقد رثاه أبو الشيص فقال‏:‏

غربت في الشرق شمس * فلها العينان تدمع

ما رأينا قط شمساً * غربت من حيث تطلع

وقد رثاه الشعراء بقصائد‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد خلف الرشيد من الميراث ما لم يخلفه أحد من الخلفاء، وخلف من الجواهر والأثاث والأمتعة سوى الضياع والدور ما قيمته مائة ألف ألف دينار، وخمسة وثلاثون ألف دينار‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وكان في بيت المال سبعمائة ألف ألف ونيف‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/241‏)‏