فصل: خلافة الطائع وخلع المطيع

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة خمس وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم عملت الروافض بدعتهم الشنعاء وضلالتهم الصلعاء على عادتهم ببغداد‏.‏

وفيها‏:‏ أُجلي القرامطة الهجريين من عمان‏.‏

وفيها‏:‏ قصدت الروم آمد فحاصروها فلم يقدروا عليها، ولكن قتلوا من أهلها ثلاثمائة وأسروا منهم أربعمائة، ثم ساروا إلى نصيبين، وفيها سيف الدولة، فهمّ بالهرب مع العرب، ثم تأخر مجيء الروم فثبت مكانه وقد كادت تزلزل أركانه‏.‏

وفيها‏:‏ وردت طائفة من جيش خراسان - وكانوا بضعة عشر ألفاً - يظهرون أنهم يريدون غزو الروم، فأكرمهم ركن الدولة بن بويه وأمنوا إليهم فنهضوا إليهم وأخذوا الديلم على غرة فقاتلهم ركن الدولة فظفر بهم لأن البغي له مصرع وخيم، وهرب أكثرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 295‏)‏

وفيها‏:‏ خرج معز الدولة من بغداد إلى واسط لقتال عمران بن شاهين حين تفاقم الحال بشأنه، واشتهر أمره في تلك النواحي، فقوي المرض بمعز الدولة فاستناب على الحرب ورجع إلى بغداد فكانت وفاته في السنة الآتية كما سنذكره إلى حيث ألقت‏.‏

وفيها‏:‏ قوي أمر أبي عبد الله بن الداعي ببلاد الديلم، وأظهر النسك والعبادة ولبس الصوف، وكتب إلى الآفاق حتى إلى بغداد يدعو إلى الجهاد في سبيل اله من سبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي جمادى الآخرة نودي برفع المواريث الحشرية وأن ترد إلى ذوي الأرحام‏.‏

وفيها‏:‏ وقع الفداء بين سيف الدولة وبين الروم، فاستنقد منهم أسارى كثيرة، منهم ابن عمه أبو فراس بن سعيد بن حمدان، وأبو الهيثم بن حصن القاضي، وذلك في رجب منها‏.‏

وفيها‏:‏ ابتدأ معز الدولة بن بويه في بناء مارستان، وأرصد له أوقافاً جزيلة‏.‏

وفيها‏:‏ قطعت بنو سليم السابلة على الحجيج من أهل الشام ومصر والمغرب، وأخذوا منهم عشرين ألف جمل بأحمالها، وكان عليها من الأموال والأمتعة ما لا يقدر كثرة‏.‏

وكان لرجل يقال له‏:‏ ابن الخواتيمي، قاضي طرسوس مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار عيناً، وذلك أنه أراد التحول من بلاد الشام إلى العراق بعد الحج، وكذلك أراد كثير من الناس، وحين أخذوا جمالهم تركوهم على برد الديار لاشيء لهم، فقل منهم من سلم والأكثر عطب، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وحج بالناس الشريف أبو أحمد نقيب الطالبيين من جهة العراق‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن دواد

ابن علي بن عيسى بن محمد بن القاسم بن الحسن بن زيد بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو عبد الله العلوي الحسني‏.‏

قال الحاكم‏:‏ أبو عبد الله كان شيخ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره بخراسان وسيد العلوم في زمانه، وكان من أكثر الناس صلاة وصدقة ومحبة للصحابة، وصحبته مدة فما سمعته ذكر عثمان إلا قال‏:‏ الشهيد، ويبكي‏.‏

وما سمعته ذكر عائشة إلا قال‏:‏ الصدّيقة بنت الصدّيق، حبيبة حبيب الله، ويبكي‏.‏

وقد سمع الحديث من ابن خزيمة وطبقته، وكان آباؤه بخراسان وفي سائر بلدانهم سادات نجباء حيث كانوا‏:‏

من آل بيت رسول الله منهم * لهم دانت رقاب بني معد

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 296‏)‏

محمد بن الحسين بن علي بن الحسن

ابن يحيى بن حسان بن الوضاح، أبو عبد الله الأنباري الشاعر المعروف بالوضاحي، كان يذكر أنه سمع الحديث من المحاملي وابن مخلد وأبي روق‏.‏

روى عنه الحاكم شيئاً من شعره كان أشعر من في وقته، ومن شعره‏:‏

سقى الله باب الكرخ ربعاً ومنزلاً * ومن حله صوب السحاب المجلل

فلو أن باكي دمنة الدار بالكوى * وجارتها أم الرباب بمأسل

رأى عرصات الكرخ أوحل أرضها * لأمسك عن ذكر الدخول فحومل

 أبو بكر بن الجعابي

محمد بن عمر بن سلم بن البراء بن سبرة بن سيار، أبو بكر الجعابي، قاضي الموصل، ولد في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين، سمع الكثير وتخرج بأبي العباس بن عقدة، وأخذ عنه علم الحديث وشيئاً من التشيع أيضاً، وكان حافظاً مكثراً، يقال‏:‏ إنه كان يحفظ أربعمائة ألف حديث بأسانيدها ومتونها، ويذاكر بستمائة ألف حديث ويحفظ من المراسيل والمقاطيع والحكايات قريباً من ذلك، ويحفظ أسماء الرجال وجرحهم وتعديلهم، وأوقات وفياتهم ومذاهبهم، حتى تقدم على أهل زمانه، وفاق سائر أقرانه‏.‏

وكان يجلس للإملاء فيزدحم الناس عند منزله، وإنما كان يملي من حفظه إسناد الحديث ومتنه جيداً محرراً صحيحاً، وقد نسب إلى التشيع كأستاذه ابن عقدة، وكان يسكن بباب البصرة عندهم، وقد سئل عنه الدارقطني فقال‏:‏ خلط‏.‏

وقال أبو بكر البرقاني‏:‏ صاحب غرائب، ومذهبه معروف في التشيع، وقد حكى عنه قلة دين وشرب خمر فالله أعلم‏.‏

ولما احتضر أوصى أن تحرق كتبه فحرقت، وقد أحرق معها كتب كثيرة كانت عنده للناس، فبئس ما عمل‏.‏

ولما أخرجت جنازته كانت سكينة نائحة الرافضة تنوح عليه في جنازته‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وخمسين وثلاثمائة

استهلت هذه السنة والخليفة المطيع لله، والسلطان معز الدولة بن بويه الديلمي‏.‏

وفيها‏:‏ عملت الروافض في يوم عاشوراء عزاء الحسين على عادة ما ابتدعوه من النوح وغيره كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 297‏)‏

 وفاة معز الدولة بن بويه

ولما كان ثالث عشر ربيع الأول منها، توفي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الذي أظهر الرفض، ويقال له‏:‏ معز الدولة، بعلة الذرب، فصار لا يثبت في معدته شيء بالكلية، فلما أحس بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، وردّ كثيراً من المظالم، وتصدق بكثير من ماله، وأعتق طائفة كثيرة من مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عز الدولة، وقد اجتمع ببعض العلماء فكلمه في السنة وأخبره أن علياً زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب، فقال‏:‏ والله ما سمعت بهذا قط‏.‏

ورجع إلى السنة ومتابعتها، ولما حضر وقت الصلاة خرج عنه ذلك الرجل العالم فقال له معز الدولة‏:‏ إلى أين تذهب‏؟‏

فقال‏:‏ إلى الصلاة‏.‏

فقال له‏:‏ ألا تصلي ههنا‏؟‏

قال‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ ولم‏؟‏

قال‏:‏ لأن دارك مغصوبة‏.‏

فاستحسن منه ذلك‏.‏

وكان معز الدولة حليماً كريماً عاقلاً، وكانت إحدى يديه مقطوعة، وهو أول من أجرى السعاة بين يديه ليبعث بأخباره إلى أخيه ركن الدولة سريعاً إلى شيراز، وحظي عنده أهل هذه الصناعة وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهما فضل، وبرغوش، يتعصب لهذا عوام أهل السنة، ولهذا عوام أهل الشيعة، وجرت لهما مناصف ومواقف‏.‏

ولما مات معز الدولة دفن بباب التبن في مقابر قريش، وجلس ابنه للعزاء‏.‏

وأصاب الناس مطر ثلاثة أيام تباعاً، وبعث عز الدولة إلى رؤوس الأمراء في هذه الأيام بمال جزيل، لئلا تجتمع الدولة على مخالفته قبل استحكام مبايعته، وهذا من دهائه، وكان عمر معز الدولة ثلاثاً وخمسين سنة، ومدة ولايته إحدى وعشرين سنة وإحدى عشر شهراً ويومين، وقد كان نادى في أيامه برد المواريث إلى ذوي الأرحام قبل بيت المال، وقد سمع بعض الناس ليلة توفي معز الدولة هاتفاً يقول‏:‏

لما بلغت أبا الحسين * مراد نفسك بالطلب

وأمنت من حدث الليا * لي واحتجبت عن النوب

مدت إليك يد الردى * وأخذت من بين الرتب

ولما مات قام بالأمر بعده ولده عز الدولة فأقبل على اللعب واللهو والاشتغال بأمر النساء فتفرق شمله واختلفت الكلمة عليه، وطمع الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان في ملك بني بويه، وأرسل الجيوش الكثيرة صحبة وشمكير، فلما علم بذلك ركن الدولة بن بويه أرسل إلى ابنه عضد الدولة وابن أخيه عز الدولة يستنجدهما، فأرسلا إليه بجنود كثيرة، فركب فيها ركن الدولة وبعث إليه وشمكير يتهدده ويتوعده، ويقول‏:‏ لئن قدرت عليك لأفعلن بك ولأفعلن‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 298‏)‏

فبعث إليه ركن الدولة يقول‏:‏ لكني إن قدرت عليك لأحسنن إليك ولأصفحن عنك‏.‏

فكانت الغلبة لهذا، فدفع الله عنه شره، وذلك أن وشمكير ركب فرساً صعباً يتصيد عليها فحمل عليه خنزير فنفرت منه الفرس فألقته على الأرض فخرج الدم من أذنيه فمات من ساعته وتفرقت العساكر‏.‏

وبعث ابن وشمكير يطلب الأمان من ركن الدولة فأرسل إليه بالمال والرجال، ووفى بما قال من الإحسان، وصرف الله عنه كيد السامانية، وذلك بصدق النية وحسن الطوية والله أعلم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان

 أبو الفرج الأصبهاني

صاحب كتاب ‏(‏الأغاني‏)‏، واسمه علي بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم بن عبد الرحمن بن مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الأموي، صاحب كتاب ‏(‏الأغاني‏)‏ وكتاب ‏(‏أيام العرب‏)‏، ذكر فيه ألفاً وسبعمائة يوم من أيامهم، وكان شاعراً أديباً كاتباً، عالماً بأخبار الناس وأيامهم، وكان فيه تشيع‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ومثله لا يوثق به، فإنه يصرح في كتبه بما يوجب العشق ويهون شرب الخمر، وربما حكى ذلك عن نفسه، ومن تأمل كتاب الأغاني رأى فيه كل قبيح ومنكر، وقد روى الحديث عن محمد بن عبد الله بن بطين وخلق، وروى عنه الدارقطني وغيره‏.‏

توفي في ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده في سنة أربع وثمانين ومائتين، التي توفي فيها البحتري الشاعر، وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات عديدة منها‏:‏ ‏(‏الأغاني‏)‏ و‏(‏المزارات‏)‏ و‏(‏أيام العرب‏)‏‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 سيف الدولة

أحد الأمراء الشجعان، والملوك الكثيري الإحسان، على ما كان فيه من تشيع، وقد ملك دمشق في بعض السنين، واتفق له أشياء غريبة منها أن خطيبه كان مصنف الخطب النباتية أحد الفصحاء البلغاء‏.‏

ومنها‏:‏ أن شاعره كان المتنبي، ومنها أن مطربه كان أبو نصر الفارابي‏.‏

وكان سيف الدولة كريماً جواداً معطياً للجزيل‏.‏

ومن شعره في أخيه ناصر الدولة صاحب الموصل‏:‏

رضيت لك العليا، وقد كنت أهلها * وقلت لهم‏:‏ بيني وبين أخي فرق

وما كان لي عنها نكول، وإنما * تجاوزت عن حقي فتم لك السبق

أما كنت ترضى أن أكون مصلياً * إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق

وله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 299‏)‏

قد جرى في دمعه دمه * قال لي كم أنت تظلمه

رد عنه الطرف منك * فقد جرحته منك أسهمه

كيف تستطيع التجلد * خطرات الوهم تؤلمه

وكان سبب موته الفالج، وقيل‏:‏ عسر البول‏.‏

توفي بحلب وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها، وعمره ثلاث وخمسون سنة، ثم أقام في ملك حلب بعده ولده سعد الدولة أبو المعالي الشريف، ثم تغلب عليه مولى أبيه قرعويه فأخرجه من حلب إلى أمه بميافارقين، ثم عاد إليها كما سيأتي‏.‏

وذكر ابن خلكان أشياء كثيرة مما قاله سيف الدولة، وقيل فيه، قال‏:‏ ولم يجتمع بباب أحد من الملوك بعد الخلفاء ما اجتمع ببابه من الشعراء، وقد أجاز لجماعة منهم، وقال‏:‏ إنه ولد سنة ثلاث، وقيل‏:‏ إحدى وثلاثمائة وأنه ملك حلب بعد الثلاثين والثلاثمائة، وقبل ذلك ملك واسطاً ونواحيها، ثم تقلبت به الأحوال حتى ملك حلب‏.‏

انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابي صاحب الأخشيد، وقد قال يوماً‏:‏ أيكم يجيز قولي وما أظن أحداً منكم يجيز ذلك‏:‏ لك جسمي تعله فدمي لم تحله‏؟‏

فقال أبو فراس أخوه بديهة‏:‏ إن كنت مالكاً الأمر كله‏.‏

وقد كان هؤلاء الملوك رفضة وهذا من أقبح القول‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 كافور الأخشيد

مولى محمد بن طغج الأخشيدي، وقد قام بالأمر بعده مولاه لصغر ولده‏.‏

تملك كافور مصر ودمشق وقاده لسيف الدولة وغيره وقد كتب على قبره‏:‏

أنظر إلى غير الأيام ما صنعت * أفنت قروناً بها كانوا وما فنيت

دنياهم ضحكت أيام دولتهم * حتى إذا فنيت ناحت لهم وبكت

 أبو علي القالي

صاحب ‏(‏الأمالي‏)‏، إسماعيل بن القاسم بن عبدون بن هارون بن عيسى بن محمد بن سليمان، أبو علي القاضي القالي اللغوي الأموي مولاهم، لأن سليمان هذا كان مولى لعبد الملك بن مروان، والقالي نسبة إلى قالي قلا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 300‏)‏

ويقال‏:‏ إنها أردن الروم فالله أعلم‏.‏

وكان مولده بميافارقين، جزء من أرض الجزيرة من ديار بكر، وسمع الحديث من أبي يعلى الموصلي وغيره، وأخذ النحو واللغة عن ابن دريد وأبي بكر الأنباري ونفطويه وغيرهم، وصنف ‏(‏الأمالي‏)‏ وهو مشهور، وله كتاب ‏(‏التاريخ على حروف المعجم‏)‏ في خمسة آلاف ورقة، وغير ذلك من المصنفات في اللغة، ودخل بغداد وسمع بها ثم ارتحل إلى قرطبة فدخلها في سنة ثلاثين وثلاثمائة واستوطنها، وصنف بها كتباً كثيرة إلى أن توفي بها في هذه السنة عن ثمان وستين سنة‏.‏

قاله ابن خلكان‏.‏

وفيها توفي‏:‏ أبو علي محمد بن إلياس صاحب بلاد كرمان ومعاملاتها، فأخذ عضد الدولة بن ركن الدولة بلاد كرمان، من أولاد محمد بن إلياس - وهم ثلاثة -اليسع، وإلياس، وسليمان، والملك الكبير وشمكير، كما قدمنا‏.‏

وفيها توفي من الملوك أيضاً‏:‏ الحسن بن الفيرزان‏.‏

فكانت هذه السنة محل موت الملوك مات فيها معز الدولة، وكافور، وسيف الدولة، قال ابن الأثير‏:‏ وفيها هلك نقفور ملك الأرمن وبلاد الروم - يعني الدمستق كما تقدم -‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلاثمائة

فيها‏:‏ شاع الخبر ببغداد وغيرها من البلاد أن رجلاً ظهر يقال له‏:‏ محمد بن عبد الله، وتلقب بالمهدي وزعم أنه الموعود به، وأنه يدعو إلى الخير وينهى عن الشر، ودعا إليه ناس من الشيعة، وقالوا‏:‏ هذا علوي من شيعتنا، وكان هذا الرجل إذ ذاك مقيماً بمصر عند كافور الأخشيدي قبل أن يموت وكان يكرمه، وكان من جملة المستحسنين له سبكتكين الحاجب، وكان شيعياً فظنه علوياً، وكتب إليه أن يقدم إلى بغداد ليأخذ له البلاد، فترحل عن مصر قاصداً العراق فتلقاه سبكتكين الحاجب إلى قريب الأنبار، فلما رآه عرفه وإذا هو محمد بن المستكفي بالله العباسي، فلما تحقق أنه عباسي وليس بعلوي انثنى رأيه فيه، فتفرق شمله وتمزق أمره، وذهب أصحابه كل مذهب، وحمل إلى معز الدولة فأمنه وسلمه إلى المطيع لله فجدع أنفه واختفى أمره، فلم يظهر له خبر بالكلية بعد ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ وردت طائفة من الروم إلى بلاد إنطاكية فقتلوا خلقاً من حواضرها وسبوا اثني عشر ألفاً من أهلها ورجعوا إلى بلادهم، ولم يعرض لهم أحد‏.‏

وفيها‏:‏ عملت الروافض في يوم عاشوراء منها المأتم على الحسين، وفي يوم غدير خم الهناء والسرور‏.‏

وفيها‏:‏ في تشرين عرض للناس داء الماشري فمات به خلق كثير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 301‏)‏

وفيها‏:‏ مات أكثر جمال الحجيج في الطريق من العطش، ولم يصل منهم إلى مكة إلا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج‏.‏

وفيها‏:‏ اقتتل أبو المعالي شريف بن سيف الدولة هو وخاله وابن عم أبيه أبو فراس في المعركة‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ ولقد صدق من قال‏:‏ إن الملك عقيم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان أيضاً‏:‏

إبراهيم المتقي لله، وكان قد ولي الخلافة ثم ألجئ أن خلع من سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة إلى هذه السنة، وألزم بيته فمات في هذه السنة ودفن بداره عن ستين سنة‏.‏

 عمر بن جعفر بن عبد الله

ابن أبي السري، أبو جعفر البصري الحافظ، ولد سنة ثمانين ومائتين، حدث عن أبي الفضل ابن الحباب وغيره، وقد انتقد عليه مائة حديث وضعها‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ فنظرت فيها فإذا الصواب مع عمر بن جعفر‏.‏

 محمد بن أحمد بن علي بن مخلد

أبو عبد الله الجوهري المحتسب، ويعرف بابن المخرم، كان أحد أصحاب ابن جرير الطبري، وقد روى عن الكديمي وغيره، وقد اتفق له أنه تزوج امرأة فلما دخلت عليه جلس يكتب الحديث فجاءت أمها فأخذت الدواة فرمت بها وقالت‏:‏ هذه أضر على ابنتي من مائة ضرة‏.‏

توفي في هذه السنة عن ثلاث وتسعين سنة، وكان يضعف في الحديث‏.‏

 كافور بن عبد الله الأخشيدي

كان مولى السلطان محمد بن طغج، اشتراه من بعض أهل مصر بثمانية عشر ديناراً، ثم قرّبه وأدناه، وخصه من بين الموالي واصطفاه، ثم جعله أتابكاً حين ملك ولداه، ثم استقل بالأمور بعد موتهما في سنة خمس وخمسين، واستقرت المملكة باسمه فدعي له على المنابر بالديار المصرية والشامية والحجازية، وكان شهماً شجاعاً ذكياً جيد السيرة، مدحه الشعراء، منهم المتنبي، وحصل له منه مال، ثم غضب عليه فهجاه ورحل عنه إلى عضد الدولة، ودفن كافور بتربته المشهورة به، وقام في الملك بعده أبو الحسن علي بن الأخشيد، ومنه أخذ الفاطميون الأدعياء بلاد مصر كما سيأتي‏.‏

ملك كافور سنتين وثلاثة أشهر‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة

في عاشوراء منها عملت الروافض بدعتهم، وفي يوم خم عملوا الفرح والسرور المبتدع على عادتهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 302‏)‏

وفيها‏:‏ حصل الغلاء العظيم حتى كاد أن يعدم الخبز بالكلية، وكاد الناس أن يهلكوا‏.‏

وفيها‏:‏ عاث الروم في الأرض فساداً وحرقوا حمص وأفسدوا فيها فساداً عريضاً، وسبوا من المسلمين نحواً من مائة ألف إنسان فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ دخل أبو الحسين جوهر القائد الرومي في جيش كثيف من جهة المعز الفاطمي إلى ديار مصر يوم الثلاثاء لثلاث عشرة بقيت من شعبان، فلما كان يوم الجمعة خطبوا للمعز الفاطمي على منابر الديار المصرية وسائر أعمالها، وأمر جوهر المؤذنين بالجوامع أن يؤذنوا بحي على خير العمل، وأن يجهر الأئمة بالتسليمة الأولى، وذلك أنه لما مات كافور لم يبق بمصر من تجتمع القلوب عليه، وأصابهم غلاء شديد أضعفهم، فلما بلغ ذلك المعز بعث جوهراً هذا - وهو مولى أبيه المنصور - في جيش إلى مصر‏.‏

فلما بلغ ذلك أصحاب كافور هربوا منها قبل دخول جوهر إليها فدخلها بلا ضربة ولا طعنة ولا ممانعة، ففعل ما ذكرنا واستقرت أيدي الفاطميين على تلك البلاد‏.‏

وفيها‏:‏ شرع جوهر القائد في بناء القاهرة المعزية، وبناء القصرين عندها على ما نذكره‏.‏

وفيها‏:‏ شرع في الإمامات إلى مولاه المعز الفاطمي‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل جوهر جعفر بن فلاح في جيش كثيف إلى الشام فاقتتلوا قتالاً شديداً، وكان بدمشق الشريف أبو القاسم بن يعلى الهاشمي، وكان مطاعاً في أهل الشام فجاحف عن العباسيين مدة طويلة، ثم آل الحال إلى أن يخطبوا للمعز بدمشق، وحمل الشريف أبو القاسم هذا إلى الديار المصرية، وأسر الحسن بن طغج وجماعة من الأمراء وحملوا إلى الديار المصرية، فحملهم جوهر القائد إلى المعز بإفريقية، واستقرت يد الفاطميين على دمشق في سنة ستين كما سيأتي وأذن فيها وفي نواحيها بحي على خير العمل أكثر من مائة سنة، وكتب لعنة الشيخين على أبواب الجوامع بها، وأبواب المساجد، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ولم يزل ذلك كذلك حتى أزالت ذلك دولة الأتراك والأكراد نور الدين الشهيد وصلاح الدين بن أيوب على ما سيأتي بيانه‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت الروم إلى حمص فوجدوا أكثر أهلها قد انجلوا عنها وذهبوا، فحرقوها وأسروا ممن بقي فيها ومن حولها نحواً من مائة ألف إنسان، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفي ذي الحجة منها‏:‏ نقل عز الدولة والده معز الدولة بن بويه من داره إلى تربته بمقابر قريش‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء، فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الأسواق والتبن مدرور فيها‏.‏

وفيها‏:‏ دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحواً من عشرين ألفاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وذلك كله بتدبير ملك الأرمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد، قبحهم الله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان قد تمرد وطغا، وكان هذا الخبيث قد تزوج بامرأة الملك الذي كان قبله، ولهذا الملك المتقدم ابنان، فأراد أن يخصيهما ويجعلهما في الكنيسة لئلا يصلحا بعد ذلك للملك، فلما فهمت ذلك أمهما عملت عليه وسلطت عليه الأمراء فقتلوه وهو نائم، وملكوا عليهم أكبر ولديها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 303‏)‏

وفي ربيع الأول صرف عن القضاء أبو بكر أحمد بن سيار وأعيد إليه أبو محمد بن معروف‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها نقصت دجلة حتى غارت الآبار‏.‏

وحج بالناس الشريف أبو أحمد النقيب، وانقضّ كوكب في ذي الحجة فأضاءت له الأرض حتى بقي له شعاع كالشمس، ثم سمع له صوت كالرعد‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفي المحرم منها خطب للمعز الفاطمي بدمشق عن أمر جعفر بن فلاح الذي أرسله جوهر القائد بعد أخذه مصر، فقاتله أبو محمد الحسن بن عبد الله بن طغج بالرملة، فغلبه ابن فلاح وأسره وأرسله إلى جوهر فأرسله إلى المعز وهو بإفريقية‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت المنافرة بين ناصر الدولة بن حمدان وبين ابنه أبي تغلب، وسببه أنه لما مات معز الدولة بن بويه عزم أبو تغلب ومن وافقه من أهل بيته على أخذ بغداد، فقال لهم أبوهم‏:‏ إن معز الدولة قد ترك لولده عز الدولة أموالاً جزيلة فلا تقدرون عليه ما دامت في يده، فاصبروا حتى ينفقها فإنه مبذر، فإذا أفلس فسيروا إليه فإنكم تغلبونه، فحقد عليه ولده أبو تغلب بسبب هذا القول ولم يزل بأبيه حتى سجنه بالقلعة، فاختلف أولاده بينهم وصاروا أحزاباً، وضعفوا عما في أيديهم، فبعث أبو تغلب إلى عز الدولة يضمن منه بلاد الموصل بألف ألف كل سنة، واتفق موت أبيه ناصر الدولة في هذه السنة، واستقر أبو تغلب بالموصل وملكها، إلا أنهم فيما بينهم مختلفين متحاربين‏.‏

وفيها‏:‏ دخل ملك الروم إلى طرابلس فأحرق كثيراً منها وقتل خلقاً، وكان صاحب طرابلس قد أخرجه أهلها منها لشدة ظلمه، فأسرته الروم واستحوذوا على جميع أمواله وحواصله، وكانت كثيرة جداً، ثم مالوا على السواحل فملكوا ثمانية عشر بلداً سوى القرى، وتنصر خلق كثير على أيديهم فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وجاؤوا إلى حمص فأحرقوا ونهبوا وسبوا، ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر من قدر عليه، وصارت له مهابة في قلوب الناس ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو من مائة ألف ما بين صبي وصبية، وكان سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم، وبعث سرية إلى الجزيرة فنهبوا وسبوا، وكان قرعويه غلام سيف الدولة قد استحوذ على حلب وأخرج منها ابن أستاذه شريف، فسار إلى طرف وهي تحت حكمه فأبوا أن يمكنوه من الدخول إليهم، فذهب إلى أمه بميافارقين، وهي ابنة سعيد بن حمدان فمكث عندها حيناً، ثم سار إلى حماه فملكها، ثم عاد إلى حلب بعد سنتين كما سيأتي‏.‏

ولما عاثت الروم في هذه السنة بالشام صانعهم قرعوية عن حلب، وبعث إليهم بأموال وتحف ثم عادوا إلى إنطاكية فملكوها وقتلوا خلقاً كثيراً من أهلها، وسبوا عامة أهلها وركبوا إلى حلب وأبو المعالي شريف محاصر قرعويه بها، فخافهم فهرب عنها فحاصرها الروم فأخذوا البلد، وامتنعت القلعة عليهم ثم اصطلحوا مع قرعويه على هدية ومال يحمله إليهم كل سنة، وسلموا إليه البلد ورجعوا عنه‏.‏

وفيها‏:‏ خرج على المعز الفاطمي وهو بإفريقية رجل يقال له‏:‏ أبو خزر، فنهض إليه بنفسه وجنوده، وطرده ثم عاد فاستأمنه فقبل منه وصفح عنه وجاءه الرسول من جوهر يبشره بفتح مصر وإقامة الدعوة له بها، ويطلبه إليها ففرح بذلك وامتدحه الشعراء من جملتهم شاعره محمد بن هانئ قصيدة له أولها‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 304‏)‏

يقول بنو العباس قد فتحت مصر * فقل لبني العباس قد قضي الأمر

وفيها‏:‏ رام عز الدولة صاحب بغداد محاصرة عمران بن شاهين الصياد فلم يقدر عليه، فصالحه ورجع إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح قرعويه وأبو المعالي شريف، فخطب له قرعويه بحلب وجميع معاملاتها تخطب للمعز الفاطمي، وكذلك حمص ودمشق، ويخطب بمكة للمطيع بالله وللقرامطة، وبالمدينة للمعز الفاطمي‏.‏

وخطب أبو أحمد الموسوي بظاهرها للمطيع‏.‏

وذكر ابن الأثير‏:‏ أن نقفور توفي في هذه السنة ثم صار ملك الروم إلى ابن الملك الذي قبله، قال‏:‏ وكان يقال له‏:‏ الدمستق، وكان من أبناء المسلمين كان أبوه من أهل طرسوس من خيار المسلمين يعرف بابن الفقاس، فتنصر ولده هذا وحظي عند النصارى حتى صار من أمره ما صار، وقد كان من أشد الناس على المسلمين، أخذ منهم بلاداً كثيرة عنوة، من ذلك طرسوس والأذنة وعين زربة والمصيصة وغير ذلك، وقتل من المسلمين خلقاً لا يعلمهم إلا الله، وسبى منهم ما لا يعلم عدتهم إلا الله، وتنصروا أو غالبهم، وهو الذي بعث تلك القصيدة إلى المطيع كما تقدم‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 محمد بن أحمد بن الحسين

ابن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله أبو علي الصواف، روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل وطبقته، وعنه خلق منهم الدارقطني‏.‏

وقال‏:‏ ما رأت عيناي مثله في تحريره ودينه، وقد بلغ تسعاً وثمانين سنة رحمه الله‏.‏

 محارب بن محمد بن محارب

أبو العلاء الفقيه الشافعي من ذرية محارب بن دثار، كان ثقة عالماً، روى عن جعفر الفريابي وغيره‏.‏

 أبو الحسين أحمد بن محمد

المعروف بابن القطان أحد أئمة الشافعية، تفقه على ابن سريج، ثم الشيخ أبي إسحاق الشيرازي وتفرد برياسة المذهب بعد موت أبي القاسم الداراني، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وكانت الرحلة إليه ببغداد، ودرس بها وكتب شيئاً كثيراً‏.‏

توفي في جمادى الأولى منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 305‏)‏

 ثم دخلت سنة ستين وثلاثمائة

في عاشر محرمها عملت الرافضة بدعتهم المحرمة على عادتهم المتقدمة‏.‏

وفي ذي القعدة منها‏:‏ أخذت القرامطة دمشق وقتلوا نائبها جعفر بن فلاح، وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام وقد أمده عز الدولة من بغداد بسلاح وعدد كثيرة، ثم ساروا إلى الرملة فأخذوها وتحصن بها من كان بها من المغاربة نواباً‏.‏

ثم إن القرامطة تركوا عليهم من يحاصرها ثم ساروا نحو القاهرة في جمع كثير من الأعراب والأخشيدية والكافورية، فوصلوا عين شمس فاقتتلوا هم وجنود جوهر القائد قتالاً شديداً، والظفر للقرامطة وحصروا المغاربة حصراً عظيماً‏.‏

ثم حملت المغاربة في بعض الأيام على ميمنة القرامطة فهزمتها ورجعت القرامطة إلى الشام فجدوا في حصار باقي المغاربة، فأرسل جوهر إلى أصحابه خمسة عشر مركباً ميرة لأصحابه، فأخذتها القرامطة سوى مركبين أخذتها الإفرنج‏.‏

وجرت خطوب كثيرة‏.‏

ومن شعر الحسين بن أحمد بن بهرام أمير القرامطة في ذلك‏:‏

زعمت رجال الغرب أني هبتها * فدمي إذن ما بينهم مطلول

يا مصر إن لم أسق أرضك من دم * يروي ثراك فلا سقاني النيل

وفيها‏:‏ تزوج أبو تغلب بن حمدان بنت بختيار عز الدولة وعمرها ثلاث سنين على صداق مائة ألف دينار، ووقع العقد في صفر منها‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر مؤيد الدولة بن ركن الدولة الصاحب أبا القاسم بن عباد فأصلح أموره وساس دولته جيداً‏.‏

وفيها‏:‏ أذن بدمشق وسائر الشام بحي على خير العمل‏.‏

قال ابن عساكر في ترجمته جعفر بن فلاح نائب دمشق‏:‏ وهو أول من تأمر بها عن الفاطميين، أخبرنا أبو محمد الأكفاني قال‏:‏ قال أبو بكر أحمد بن محمد بن شرام‏:‏ وفي يوم الخميس لخمس خلون من صفر من سنة ستين وثلاثمائة أعلن المؤذنون في الجامع بدمشق وسائر مآذن البلد، وسائر المساجد بحي على خير العمل بعد حي على الفلاح، أمرهم بذلك جعفر بن فلاح، ولم يقدروا على مخالفته، ولا وجدوا من المسارعة إلى طاعته بداً‏.‏

وفي يوم الجمعة الثامن من جمادى الآخرة أمر المؤذنون أن يثنوا الأذان والتكبير في الإقامة مثنى مثنى‏.‏

وأن يقولوا في الإقامة‏:‏ حي على خير العمل، فاستعظم الناس ذلك وصبروا على حكم الله تعالى‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 سليمان بن أحمد بن أيوب

أبو القاسم الطبراني الحافظ الكبير صاحب المعاجم الثلاثة‏:‏ الكبير، والأوسط، والصغير، وله كتاب ‏(‏السنة‏)‏ وكتاب ‏(‏مسند الشاميين‏)‏، وغير ذلك من المصنفات المفيدة، عمر مائة سنة‏.‏

توفي بأصبهان ودفن على بابها عند قبر حممة الصحابي‏.‏

قاله أبو فرج بن الجوزي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ سمع من ألف شيخ، قال‏:‏ وكانت وفاته في يوم السبت لليلتين بقيتا من ذي القعدة من هذه السنة، وقيل‏:‏ في شوال منها، وكان مولده في سنة ستين ومائتين فمات وله من العمر مائة سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 306‏)‏

الرفا الشاعر أحمد بن السري أبو الحسن

الكندي الرفا الشاعر الموصلي، أرخ وفاته ابن الأثير في هذه السنة، توفي في بغداد‏.‏

وذكر ابن الجوزي‏:‏ أنه توفي سنة ثنتين وستين وثلاثمائة كما سيأتي‏.‏

 محمد بن جعفر

ابن محمد بن الهيثم بن عمران بن يزيد أبو بكر بن المنذر أصله أنباري، سمع من أحمد بن الخليل بن البرجلاني، ومحمد بن العوام الرياحي، وجعفر بن محمد الصائغ، وأبي إسماعيل الترمذي‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وهو آخر من روى عنهم‏.‏

قالوا‏:‏ وكانت أصوله جياداً بخط أبيه، وسماعه صحيحاً، وقد انتقى عنه أبو عمرو البصري‏.‏

توفي فجأة يوم عاشوراء وقد جاوز التسعين‏.‏

 محمد بن الحسن بن عبد الله أبو بكر الآجري

سمع جعفر الفريابي، وأبا شعيب الحراني، وأبا مسلم الكجي وخلقاً، وكان ثقة صادقاً ديناً، وله مصنفات كثيرة مفيدة، منها ‏(‏الأربعون الآجرية‏)‏، وقد حدث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة، ثم انتقل إلى مكة فأقام بها حتى مات بعد إقامته بها ثلاثين سنة رحمه الله‏.‏

 محمد بن جعفر بن محمد

أبو عمرو الزاهد، سمع الكثير ورحل إلى الآفاق المتباعدة، وسمع منه الحفاظ الكبار، وكان فقيراً متقللاً يضرب اللبن بقبور الفقراء، ويتقوت برغيف وجزرة أو بصلة، ويقوم الليل كله‏.‏

توفي في جمادى الآخرة منها عن خمس وتسعين سنة‏.‏

 محمد بن داود أبو بكر الصوفي

ويعرف بالدقي أصله من الدينور أقام ببغداد، ثم ارتحل وانتقل إلى دمشق، وقد قرأ على ابن مجاهد وسمع الحديث من محمد بن جعفر الخرائطي، صاحب ابن الجلاء، والدقاق‏.‏

توفي في هذه السنة وقد جاوز المائة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 307‏)‏

 محمد بن الفرحاني

ابن زرويه المروزي الطبيب، دخل بغداد وحدث بها عن أبيه بأحاديث منكرة، روى عن الجنيد وابن مرزوق، قال ابن الجوزي‏:‏ وكان فيه ظرف ولباقة، غير أنهم كانوا يتهمونه بوضع الحديث‏.‏

 أحمد بن الفتح

ويقال‏:‏ ابن أبي الفتح الخاقاني، أبو العباس النجاد، إمام دمشق‏.‏

قال ابن عساكر‏:‏ كان عابداً صالحاً، وذكر أن جماعة جاؤوا لزيارته فسمعوه يتأوه من وجع كان به، فأنكروا عليه ذلك‏.‏

فلما خرج إليهم قال لهم‏:‏ إن آه اسم من تستروح إليه الأعلى، قال‏:‏ فزاد في أعينهم وعظموه‏.‏

قلت‏:‏ لكن هذا الذي قال لا يؤخذ عنه مسلماً إليه فيه، بل يحتاج إلى نقل صحيح عن المعصوم، فإن أسماء الله تعالى توقيفية على الصحيح‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وستين وثلاثمائة

في عاشر المحرم منها عملت الروافض بدعتهم كما تقدم، وفي المحرم منها أغارت الروم على الجزيرة وديار بكر فقتلوا خلقاً من أهل الرها، وساروا في البلاد كذلك يقتلون ويأسرون ويغنمون إلى أن وصلوا نصيبين ففعلوا ذلك، ولم يغن عن تلك النواحي أبو تغلب بن حمدان متوليها شيئاً، ولا دافع عنهم ولا له قوة، فعند ذلك ذهب أهل الجزيرة إلى بغداد وأرادوا أن يدخلوا على الخليفة المطيع لله وغيره يستنصرونه ويستصرخون، فرثا لهم أهل بغداد وجاؤوا معهم إلى الخليفة فلم يمكنهم ذلك، وكان بختيار بن معز الدولة مشغولاً بالصيد، فذهبت الرسل وراءه فبعث الحاجب سبكتكين يستنفر الناس، فتجهز خلق كثير من العامة، وكتب إلى تغلب أن يعد الميرة والإقامة، فأظهر السرور والفرح، ولما تجهزت العامة للغزاة وقعت بينهم فتنة شديدة بين الروافض وأهل السنة، وأحرق أهل السنة دور الروافض في الكرخ وقالوا‏:‏ الشر كله منكم‏.‏

وثار العيارون ببغداد يأخذون أموال الناس، وتناقض النقيب أبو أحمد الموسوي والوزير أبو الفضل الشيرازي، وأرسل بختيار بن معز الدولة إلى الخليفة يطلب منه أموالاً يستعين بها على هذه الغزوة، فبعث إليه يقول‏:‏ لو كان الخراج يجيء إلي لدفعت منه ما يحتاج المسلمون إليه، ولكن أنت تصرف منه في وجوه ليس بالمسلمين إليها ضرورة، وأما أنا فليس عندي شيء أرسله إليك‏.‏

فترددت الرسل بينهم وأغلظ بختيار للخليفة في الكلام وتهدده، فاحتاج الخليفة أن يحصل له شيئاً، فباع بعض ثياب بدنه وشيئاً من أثاث بيته، ونقض بعض سقوف داره وحصل له أربعمائة ألف درهم فصرفها بختيار في مصالح نفسه وأبطل تلك الغزاة، فنقم الناس للخليفة وساءهم ما فعل به ابن بويه الرافضي من أخذه مال الخليفة وتركه الجهاد، فلا جزاه الله خيراً عن المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ تسلم أبو تغلب بن حمدان قلعة ماردين فنقل حواصلها وما فيها إلى الموصل‏.‏

وفيها‏:‏ اصطلح الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خراسان وركن الدولة بن بويه وابنه عضد الدولة على أن يحملا إليه في كل سنة مائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وتزوج بابنة ركن الدولة، فحمل إليه من الهدايا والتحف ما لا يعد ولا يحصى‏.‏

وفي شوال منها خرج المعز الفاطمي بأهله وحاشيته وجنوده من المدينة المنصورة من بلاد المغرب قاصداً البلاد المصرية، بعد ما مهد له مولاه جوهر أمرها وبنى له بها القصرين، واستخلف المعز على بلاد المغرب ونواحيها وصقلية وأعمالها نواباً من جهته وحزبه وأنصاره من أهل تلك البلاد، واستصحب معه شاعره محمد بن هانئ الأندلسي، فتوفي في أثناء الطريق، وكان قدوم المعز إلى القاهرة في رمضان من السنة الآتية على ما سيأتي‏.‏

وفيها حج بالناس الشريف أبو أحمد الموسوي النقيب على الطالبيين كلهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 سعيد بن أبي سعيد الجنابي

أبو القاسم القرمطي الهجري، وقام بالأمر من بعده أخوه أبو يعقوب يوسف، ولم يبق من سلالة أبي سعيد سواه‏.‏

 عثمان بن عمر بن خفيف

أبو عمر المقري المعروف بالدراج، روى عن أبي بكر بن أبي داود وعنه ابن زرقويه، وكان من أهل القراءات والفقه والدراية والديانة والسيرة الجميلة، وكان يعد من الأبدال‏.‏

توفي يوم الجمعة في رمضان منها‏.‏

 علي بن إسحاق بن خلف

أبو الحسين القطان الشاعر المعروف بالزاهي‏.‏

ومن شعره‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 309‏)‏

قم فهن عاشقين * أصبحا مصطحبين

جمعا بعد فراق * فجعا منه ببين

تم عادا في سرور * من صدود آمنين

بهما روح ولكن * ركبت في بدنين

 أحمد بن سهل

ابن شداد أبو بكر المخرمي، سمع أبا خليفة وجعفر الفريابي، وابن أبي الفوارس وابن جرير وغيرهم، وعنه الدارقطني وابن زرقويه وأبو نعيم‏.‏

وقد ضعفه البرقاني وابن الجوزي وغيرهم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستين وثلاثمائة

في عاشر محرمها عملت الروافض من النياحة وتعليق المسوح وغلق الأسواق ما تقدم قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمع الفقيه أبو بكر الرازي الحنفي وأبو الحسن علي بن عيسى الرماني وابن الدقاق الحنبلي بعز الدولة بختيار بن بويه وحرضوه على غزو الروم، فبعث جيشاً لقتالهم فأظفره الله بهم، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً وبعثوا برؤوسهم إلى بغداد فسكنت أنفس الناس‏.‏

وفيها‏:‏ سارت الروم مع ملكهم لحصار آمد، وعليها هزرمرد غلام أبي الهيجاء بن حمدان، فكتب إلى أبي تغلب يستنصره فبعث إليه أخاه أبا القاسم هبة الله ناصر الدولة بن حمدان، فاجتمعا لقتاله فلقياه في آخر يوم من رمضان في مكان ضيق لا مجال للخيل فيه، فاقتتلوا مع الروم قتالاً شديداً، فعزمت الروم على الفرار فلم يقدروا فاستحر فيهم القتل وأخذ الدمستق أسيراً، فأودع السجن فلم يزل فيه حتى مرض ومات في السنة القابلة، وقد جمع أبو تغلب الأطباء فلم ينفعه شيء‏.‏

وفيها‏:‏ أحرق الكرخ ببغداد، وكان سببه أن صاحب المعونة ضرب رجلاً من العامة فمات فثارت عليه العامة وجماعة من الأتراك، فهرب منهم فدخل داراً فأخرجوه مسجوناً وقتلوه وحرقوه، فركب الوزير أبو الفضل الشيرازي - وكان شديد التعصب للسنة - وبعث حاجبه إلى أهل الكرخ فألقى في دورهم النار فاحترقت طائفة كثيرة من الدور والأموال من ذلك ثلاثمائة دكان وثلاثة وثلاثون مسجداً، وسبعة عشر ألف إنسان‏.‏

فعند ذلك عزله بختيار عن الوزارة وولاها محمد بن بقية، فتعجب الناس من ذلك، وذلك أن هذا الرجل كان وضيعاً عند الناس لا حرمة له، كان أبوه فلاحاً بقرية كوثا، وكان هو ممن يخدم عز الدولة، كان يقدم له الطعام ويحمل منديل الزفر على كتفه، إلى أن ولي الوزارة، ومع هذا كان أشد ظلماً للرعية من الذي قبله، وكثر في زمانه العيّارون ببغداد، وفسدت الأمور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 310‏)‏

وفيها‏:‏ وقع الخلاف بين عز الدولة وبين حاجبه سبكتكين ثم اصطلحا على دخن‏.‏

وفيها‏:‏ كان دخول المعز الفاطمي الديار المصرية، وصحبته توابيت آبائه، فوصل إلى إسكندرية في شعبان، وقد تلقاه أعيان مصر إليها، فخطب الناس هنالك خطبة بليغة ارتجالاً، ذكر فيها فضلهم وشرفهم، وقد كذب فقال فيها‏:‏ إن الله أغاث الرعايا بهم وبدولتهم‏.‏

وحكى قاضي بلاد مصر وكان جالساً إلى جنبه فسأله‏:‏ هل رأيت خليفة أفضل مني‏؟‏

فقال له‏:‏ لم أر أحداً من الخلفاء سوى أمير المؤمنين‏.‏

فقال له‏:‏ أحججت‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وزرت قبر الرسول‏؟‏

قال‏:‏ نعم‏.‏

قال‏:‏ وقبر أبي بكر وعمر‏؟‏

قال‏:‏ فتحيرت ما أقول، فإذا ابنه العزيز مع كبار الأمراء، فقلت‏:‏ شغلني عنهما رسول الله كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد من بعده، ونهضت إليه وسلمت عليه ورجعت فانفسح المجلس إلى غيره‏.‏

ثم سار من الإسكندرية إلى مصر، فدخلها في الخامس من رمضان من هذه السنة فنزل القصرين، فقيل‏:‏ إنه أول ما دخل إلى محل ملكه خر ساجداً شكراً لله عز وجل‏.‏

ثم كان أول حكومة انتهت إليه أن امرأة كافور الأخشيدي ذكرت‏:‏ أنها كانت أودعت رجلاً من اليهود الصواغ قباء من لؤلؤ منسوخ بالذهب، وأنه جحدها ذلك، فاستحضره وقرره، فجحد ذلك وأنكره‏.‏

فأمر أن تحفر داره ويستخرج منها ما فيها، فوجدوا القباء بعينة قد جعله في جرة ودفنه في بعض المواضع من داره، فسلمه المعز إليها ووفره عليها، ولم يتعرض إلى القباء فقدمته إليه فأبى أن يقبله منها، فاستحسن الناس منه ذلك‏.‏

وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر‏)‏‏)‏‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 السري بن أحمد بن أبي السري

أبو الحسن الكندي الموصلي الرفا الشاعر، له مدائح في سيف الدولة بن حمدان، وغيره من الملوك والأمراء، وقد قدم بغداد فمات بها في هذه السنة‏.‏

وقيل‏:‏ في سنة أربع‏.‏

وقيل‏:‏ خمس‏.‏

وقيل‏:‏ ست وأربعين‏.‏

وقد كان بينه وبين محمد بن سعيد معاداة وادعى عليه أنه سرق شعره، وكان مغنياً ينسج على ديوان كشاجم الشاعر، وربما زاد فيه من شعر الخالديين ليكثر حجمه‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وللسري الرفا هذا ديوان كبير جداً وأنشد من شعره‏:‏

يلقى الندى برقيقِ وجهٍ مسفر * فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا

رحب المنازل ما أقام فإن سرى * في جحفل ترك الفضاء مضيقا

 محمد بن هاني

الأندلسي، الشاعر، استصحبه المعز الفاطمي من بلاد القيروان حين توجه إلى مصر، فمات ببعض الطريق، وجد مقتولاً على حافة البحر في رجب منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 311‏)‏

وقد كان قوي النظم إلا أنه كفره غير واحد من العلماء في مبالغته في مدحه الخلق، فمن ذلك قوله يمدح المعز‏:‏

ما شئت لا ما شاءت الأقدار * فاحكم فأنت الواحد القهار

وهذا من أكبر الكفر‏.‏

وقال أيضاً قبحه الله وأخزاه‏:‏

ولطالما زاحمت تحت ركابه جبريلا

ومن ذلك قوله - قال ابن الأثير ولم أرها في شعره ولا في ديوانه‏:‏

جل بزيادة جل المسيح * بها وجل آدم ونوح

جل بها الله ذو المعالي * فكل شيء سواه ريح

وقد اعتذر عنه بعض المتعصبين له‏.‏

قلت‏:‏ هذا الكلام إن صح عنه فليس عنه اعتذار، لا في الدار الآخرة ولا في هذه الدار‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 إبراهيم بن محمد

ابن شجنونة بن عبد الله المزكي أحد الحفاظ، أنفق على الحديث وأهله أموالاً جزيلة، وأسمع الناس بتخريجه، وعقد له مجلس للإملاء بنيسابور، ورحل وسمع من المشايخ غرباً وشرقاً‏.‏

ومن مشايخه‏:‏ ابن جرير وابن أبي حاتم، وكان يحضر مجلسه خلقٌ كثير من كبار المحدثين، منهم‏:‏ أبو العباس الأصم وأضرابه، توفي عن سبع وستين سنة‏.‏

 سعيد بن القاسم بن خالد

أبو عمرو البردعي أحد الحفاظ، روى عنه الدارقطني وغيره‏.‏

 محمد بن الحسن بن كوثر بن علي

أبو بحر البربهاري، روى عن إبراهيم الحربي وتمام والباغندي، والكديمي، وغيرهم، وقد روى عنه ابن زرقويه وأبو نعيم، وانتخب عليه الدارقطني، وقال‏:‏ اقتصروا على ما خرجته له، فقد اختلظ صحيح سماعه بفاسده‏.‏

وقد تكلم فيه غير واحد من حفاظ زمانه بسبب تخليطه وغفلته، واتهمه بعضهم بالكذب أيضاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 312‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وثلاثمائة

فيها‏:‏ في عاشوراء عملت البدعة الشنعاء على عادة الروافض، ووقعت فتنة عظيمة ببغداد، بين أهل السنة والرافضة، وكلا الفريقين قليل عقل أو عديمه، بعيد عن السداد، وذلك‏:‏ أن جماعة من أهل السنة أركبوا امرأة وسموها عائشة، وتسمى بعضهم بطلحة، وبعضهم بالزبير، وقال‏:‏ نقاتل أصحاب علي، فقتل بسبب ذلك من الفريقين خلقٌ كثير، وعاث العيارون في البلد فساداً، ونهبت الأموال، ثم أخذ جماعة منهم فقتلوا وصلبوا، فسكنت الفتنة‏.‏

وفيها‏:‏ أخذ بختيار بن معز الدولة الموصل، وزوج ابنته بابن أبي تغلب بن حمدان‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفتنة بالبصرة بين الديالم والأتراك، فقويت الديلم على الترك، بسبب أن الملك فيهم، فقتلوا خلقاً كثيراً، وحبسوا رؤوسهم، ونهبوا كثيراً من أموالهم‏.‏

وكتب عز الدولة إلى أهله‏:‏

إني سأكتب إليكم أني قدمت، فإذا وصل إليكم الكتاب فأظهروا النوح، واجلسوا للعزاء، فإذا جاء سبكتكين للعزاء فاقبضوا عليه فإنه ركن الأتراك ورأسهم‏.‏

فلما جاء الكتاب إلى بغداد بذلك أظهروا النوح، وجلسوا للعزاء، ففهم سبكتكين أن هذه مكيدة فلم يقربهم، وتحقق العدواة بينه وبين عز الدولة، وركب من فوره في الأتراك فحاصر دار عز الدولة يومين، ثم أنزل أهله منها ونهب ما فيها، وأحدرهم إلى دجلة وإلى واسط منفيين‏.‏

وكان قد عزم على إرسال الخليفة المطيع معهم فتوسل إليه الخليفة، فعفا عنه، وأقره بداره، وقويت شوكة سبكتكين والأتراك ببغداد، ونهبت الأتراك دور الديلم، وخلع سبكتكين على رؤوس العامة، لأنهم كانوا معه على الديلم، وقويت السنة على الشيعة وأحرقوا الكرخ - لأنه محل الرافضة - ثانياً، وظهرت السنة على يدي الأتراك، وخلع المطيع وولي ولده على ما سنذكر إن شاء الله تعالى‏.‏

 خلافة الطائع وخلع المطيع

ذكر ابن الأثير‏:‏ أنه لما كان الثالث عشر من ذي القعدة‏.‏

وقال ابن الجوزي‏:‏ كان ذلك يوم الثلاثاء التاسع عشر من ذي القعدة من هذه السنة، خلع المطيع لله وذلك لفالج أصابه فثقل لسانه، فسأله سبكتكين أن يخلع نفسه، ويولي من بعده ولده الطائع، فأجاب إلى ذلك، فعقدت البيعة للطائع بدار الخلافة على يدي الحاجب سبكتكين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 313‏)‏

وخلع أبوه المطيع بعد تسع وعشرين سنة كانت له في الخلافة، ولكن تعوض بولاية ولده‏.‏

واسم الطائع‏:‏ أبو بكر عبد الكريم بن المطيع أبي القاسم، ولم يل الخلافة من اسمه عبد الكريم سواه، ولا من أبوه حي سواه، ولا من كنيته أبو بكر سواه، وسوى أبي بكر الصديق رضي الله عنه‏.‏

ولم يل الخلافة من بني العباس أسن منه، كان عمره لما تولى ثمانياً وأربعين سنة، وكانت أمه أم ولد اسمها غيث تعيش يوم ولي، ولما بويع ركب وعليه البردة وبين يديه سبكتكين والجيش، ثم خلع من الغد على سبكتكين خلع الملوك، ولقبه ناصر الدولة، وعقد له الإمارة‏.‏

ولما كان يوم الأضحى ركب الطائع وعليه السواد، فخطب الناس بعد الصلاة خطبة خفيفة حسنة‏.‏

وحكى ابن الجوزي في ‏(‏منتظمه‏)‏‏:‏ أن المطيع لله كان يسمى بعد خلعه‏:‏ بالشيخ الفاضل‏.‏

الحرب بين المعز الفاطمي والحسين

لما استقر المعز الفاطمي بالديار المصرية، وابتنى فيها القاهرة والقصرين، وتأكد ملكه، سار إليه الحسين بن أحمد القرمطي من الأحساء في جمع كثيف من أصحابه، والتف معه أمير العرب ببلاد الشام وهو حسان بن الجراح الطائي في، عرب الشام بكمالهم‏.‏

فلما سمع بهم المعز الفاطمي أسقط في يده لكثرتهم، وكتب إلى القرمطي يستميله ويقول‏:‏ إنما دعوة آبائك كانت إلى آبائي قديماً، فدعوتنا واحدة، ويذكر فيه فضله وفضل آبائه‏.‏

فرد عليه الجواب‏:‏ وصل كتابك الذي كثر تفضيله، وقل تحصيله، ونحن سائرون إليك على إثره والسلام‏.‏

فلما انتهوا إلى ديار مصر، عاثوا فيها قتلاً ونهباً وفساداً، وحار المعز فيما يصنع، وضعف جيشه عن مقاومتهم، فعدل إلى المكيدة والخديعة، فراسل حسان بن الجراح أمير العرب، ووعده بمائة ألف دينار إن هو خذل بين الناس، فبعث إليه حسان يقول‏:‏ أن ابعث إليَّ بما التزمت وتعال بمن معك، فإذا لقيتنا انهزمت بمن معي، فلا يبقى للقرمطي قوة فتأخذه كيف شئت‏.‏

فأرسل إليه بمائة ألف دينار في أكياسها، ولكن أكثرها زغل ضرب النحاس، وألبسه ذهباً، وجعله في أسفل الأكياس، وجعل في رؤوسها الدنانير الخالصة، ولما بعثها إليه ركب في إثرها في جيشه، فالتقى الناس فانهزم حسان بمن معه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 314‏)‏

فضعف جانب القرمطي، وقوي عليه الفاطمي فكسره، وانهزمت القرامطة ورجعوا إلى أذرعات في أذل حال وأرذله، وبعث المعز في آثارهم القائد أبا محمود بن إبراهيم في عشرة آلاف فارس، ليحسم مادة القرامطة ويطفئ نارهم عنه‏.‏

 المعز الفاطمي ينتزع دمشق من القرامطة

لما انهزم القرمطي بعث المعز سرية، وأمر عليهم ظالم بن موهوب العقيلي، فجاؤوا إلى دمشق فتسلمها من القرامطة بعد حصار شديد، واعتقل متوليها أبا الهيجاء القرمطي وابنه، واعتقل رجلاً يقال له‏:‏ أبو بكر من أهل نابلس، كان يتكلم في الفاطميين ويقول‏:‏ لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بواحد و رميت الفاطميين بتسعة‏.‏

فأمر به فسلخ بين يدي المعز وحشي جلده تبناً، وصلب بعد ذلك‏.‏

ولما تفرغ أبو محمود القائد من قتال القرامطة، أقبل نحو دمشق فخرج إليه ظالم بن موهوب، فتلقاه إلى ظاهر البلد وأكرمه، وأنزله ظاهر دمشق، فأفسد أصحابه في الغوطة ونهبوا الفلاحين، وقطعوا الطرقات، فتحول أهل الغوطة إلى البلد من كثرة النهب، وجيء بجماعة من القتلى فألقوا فكثر الضجيج، وغلقت الأسواق، واجتمعت العامة للقتال، والتقوا مع المغاربة، فقتل من الفريقين جماعة، وانهزمت العامة غير مرة‏.‏

وأحرقت المغاربة ناحية باب الفراديس، فاحترق شيءٌ كثير من الأموال والدور، وطال القتال بينهم إلى سنة أربع وستين وأحرقت البلد مرة أخرى بعد عزل ظالم بن موهوب، وتولية جيش بن صمصامة بن أخت أبي محمود قبحه الله‏.‏

وقطعت القنوات وسائر المياه عن البلد، ومات كثيرٌ من الفقراء في الطرقات من الجوع والعطش، ولم يزل الحال كذلك حتى ولي عليهم الطواشي ريان الخادم من جهة المعز الفاطمي، فسكنت النفوس ولله الحمد‏.‏

ولما قويت الأتراك ببغداد، تحير بختيار بن معز الدولة في أمره وهو مقيم بالأهواز لا يستطيع الدخول إلى بغداد، فأرسل إلى عمه ركن الدولة يستنجده، فأرسل إليه بعسكر مع وزيره أبي الفتح ابن العميد، وأرسل إلى ابن عمه عضد الدولة ابن ركن الدولة، فأبطأ عليه، وأرسل إلى عمران بن شاهين فلم يجبه، وأرسل إلى أبي تغلب ابن حمدان فأظهر نصره، وإنما يريد في الباطن أخذ بغداد، وخرجت الأتراك من بغداد في جحفل عظيم ومعهم الخليفة المطيع وأبوه‏.‏

فصل

فلما انتهوا إلى واسط، توفي المطيع، وبعد أيام توفي سبكتكين، فحملا إلى بغداد، والتف الأتراك على أمير يقال له‏:‏ أفتكين، فاجتمع شملهم، والتقوا مع بختيار، فضعف أمره جداً، وقوي عليه ابن عمه عضد الدولة، فأخذ منه ملك العراق، وتمزق شمله، وتفرق أمره‏.‏

وفيها‏:‏ خطب للمعز الفاطمي بالحرمين مكة والمدينة النبوية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 315‏)‏

وفيها‏:‏ خرج طائفة من بني هلال وطائفة من العرب على الحجاج، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وعطلوا على من بقي منهم الحج في هذا العام‏.‏

وفيها‏:‏ انتهى تاريخ ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة، وأوله من سنة خمس وتسعين ومائتين، وهي أول دولة المقتدر‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة شديدة بواسط، وحج بالناس فيها الشريف أبو أحمد الموسوي، ولم يحصل لأحد حج في هذه السنة سوى من كان معه على درب العراق‏.‏

وقد أخذ بالناس على طريق المدينة، فتم حجهم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 العباس بن الحسين

أبو الفضل السراجي، الوزير لعز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه، وكان من الناصرين للسنة المتعصبين لها، عكس مخدومه، فعزله وولى محمد بن بقية البابا، كما تقدم، وحبس هذا، فقتل في محبسه في ربيع الآخر منها، عن تسع وخمسين سنة، وكان فيه ظلم وحيف فالله أعلم‏.‏

وأبو بكر عبد العزيز بن جعفر

الفقيه الحنبلي، المعروف‏:‏ بغلام، أحد مشاهر الحنابلة الأعيان، وممن صنف وجمع وناظر، وسمع الحديث من أبي القاسم البغوي وطبقته، ومات وقد عدا الثمانين‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وله ‏(‏المقنع‏)‏ في مائة جزء، و ‏(‏الشافي‏)‏ في ثمانين جزء، و‏(‏زاد المسافر‏)‏، و‏(‏الخلاف مع الشافعي‏)‏، و‏(‏كتاب القولين‏)‏، و‏(‏مختصر السنة‏)‏، وغير ذلك في التفسير والأصول‏.‏

 علي بن محمد

أبو الفتح البستي، الشاعر المشهور، له ديوان جيد قوي، وله في المطابقة والمجانسة اليد الطولى، ومبتكرات أولى‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي له في ‏(‏منتظمه‏)‏‏:‏ من ذلك قطعة كبيرة مرتبة على حروف المعجم، من ذلك قوله‏:‏

إذا قنعت بميسور من القوت * بقيت في الناس حراً غير ممقوت

يا قوت يومي إذا مادر خلفك لي * فلست آسي على در وياقوت

وقوله‏:‏

يا أيها السائل عن مذهبي * ليقتدي فيه بمنهاجي

منهاجي الحق وقمع الهوى * فهل لمنهاجي من هاجي

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/316‏)‏

وقوله‏:‏

أفد طبعك المكدود بالجد راحة * تجم وعلله بشيء من المزح

ولكن إذا أعطيت ذلك فليكن * بمقدار ما تعطي الطعام من الملح

أبو فراس بن حمدان الشاعر

له ديوان مشهور‏.‏

استنابه أخوه سيف الدولة على حران ومنبج، فقاتل مرة الروم فأسروه ثم استنقذه سيف الدولة، واتفق موته في هذه السنة عن ثمان وأربعين سنة، وله شعر رائق ومعاني حسنة‏.‏

وقد رثاه أخوه سيف الدولة فقال‏:‏

المرء رهن مصائب لا تنقضي * حتى يوارى جسمه في رمسه

فمؤجل يلقى الردى في أهله * ومعجل يلقى الأذى في نفسه

فلما قالهما كان عنده رجل من العرب فقال‏:‏ قل في معناهما، فقال الأعرابي‏:‏

من يتمنى العمر فليتخذ * صبراً على فقد أحبابه

ومن يعمر يلق في نفسه * ما يتمناه لأعدائه

كذا ذكر ابن الساعي هذين البيتين من شعر سيف الدولة في أخيه أبي فراس‏.‏

وذكرها ابن الجوزي‏:‏ من شعر أبي فراس نفسه، وأن الأعرابي أجازهما بالبيتين المذكورين بعدهما‏.‏

ومن شعر أبي فراس‏:‏

سيفقدني قومي إذا جد جدهم * وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

ولو سد غيري ما سددت اكتفوا * به وما فعل النسر الرفيق مع الصقر

وقوله من قصيدة‏:‏

إلى الله أشكو إننا بمنازل * تحكم في آسادهن كلاب

فليتك تحلو والحياة مريرة * وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر * وبيني وبين العالمين خراب