فصل: ذكر دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وعشرين ومائة

استهلت هذه السنة والخليفة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك بوصية أخيه يزيد الناقص إليه، وبايعه الأمراء بذلك، وجميع أهل الشام إلا أهل حمص فلم يبايعوه‏.‏

وقد تقدم أن مروان بن محمد الملقب‏:‏ بالحمار كان نائباً بأذربيجان وأرمينية، وتلك كانت لأبيه من قبله، وكان نقم على يزيد بن الوليد في قتله الوليد بن يزيد، وأقبل في طلب دم الوليد، فلما انتهى إلى حران أناب وبايع يزيد بن الوليد، فلم يلبث إلا قليلاً حتى بلغه موته‏.‏

فأقبل في أهل الجزيرة حتى وصل قنسرين فحاصر أهلها فنزلوا على طاعته، ثم أقبل إلى حمص وعليها عبد العزيز بن الحجاج من جهة أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد فحاصرهم حتى يبايعوا لإبراهيم بن الوليد، وقد أصروا على عدم مبايعته، فلما بلغ عبد العزيز قرب مروان بن محمد ترحل عنها، وقدم مروان إليها فبايعوه وساروا معه قاصدين دمشق، ومعهم جند الجزيرة وجند قنسرين‏.‏

فتوجه مروان إلى دمشق في ثمانين ألفاً، وقد بعث إبراهيم بن الوليد بن هشام بن عبد الملك في مائة وعشرين ألفاً، فالتقى الجيشان عند عين الجر من البقاع، فدعاهم مروان إلى الكف عن القتال وأن يتخلوا عن ابني الوليد بن يزيد وهما الحكم وعثمان اللذان قد أخذ العهد لهما، وكان يزيد قد سجنهما بدمشق، فأبوا عليه ذلك، فاقتتلوا قتالاً شديداً من حين ارتفاع النهار إلى العصر، وبعث مروان سرية تأتي جيش ابن هشام من ورائهم، فتم لهم ما أرادوه، وأقبلوا من ورائهم يكبرون، وحمل الآخرون من تلقاهم عليهم‏.‏

فكانت الهزيمة في أصحاب سليمان، فقتل منهم أهل حمص خلقاً كثيراً، واستبيح عسكرهم، وكان مقدار ما قتل من أهل دمشق في ذلك اليوم قريباً من سبعة عشر ألفاً أو ثمانية عشر ألفاً وأسر منهم مثلهم، فأخذ عليهم مروان البيعة للغلامين ابني الوليد، الحكم وعثمان، وأطلقهم كلهم سوى رجلين، وهما‏:‏ يزيد بن العقار والوليد بن مصاد الكلبيان، فضربهما بين يديه بالسياط وحبسهما فماتا في السجن، لأنهما كانا ممن باشر قتل الوليد بن يزيد حين قتل‏.‏

وأما سليمان وبقية أصحابه فإنهم استمروا منهزمين، فما أصبح لهم الصبح إلا بدمشق، فأخبروا أمير المؤمنين إبراهيم بن الوليد بما وقع، فاجتمع معهم رؤس الأمراء في ذلك الوقت وهم‏:‏ عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري، وأبو علاقة السككي، والأصبغ بن ذؤالة الكلبي، ونظراؤهم، على أن يعمدوا إلى قتل ابني الوليد‏:‏ الحكم وعثمان، خشية أن يلي الخلافة فيهلكا من عاداهما وقتل أباهما‏.‏

فبعثوا إليهما يزيد بن خالد بن عبد الله القسري، فعمد إلى السجن وفيه الحكم وعثمان ابنا الوليد وقد بلغا، ويقال‏:‏ ولد لأحدهما ولد فشدخها بالعمد، وقتل يوسف بن عمر - وكان مسجوناً معهما - وكان في سجنهما أيضاً أبو محمد السفياني فهرب فدخل في بيت داخل السجن وجعل وراء الباب ردماً، فحاصروه فامتنع، فأتوا بنار ليحرقوا الباب‏.‏

ثم اشتغلوا عن ذلك بقدوم مروان بن محمد وأصحابه إلى دمشق في طلب المنهزمين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/25‏)‏

 ذكر دخول مروان الحمار دمشق وولايته الخلافة

لما أقبل مروان بمن معه من الجنود من عين الجر واقترب من دمشق وقد انهزم أهلها بين يديه بالأمس، هرب إبراهيم بن الوليد، وعمد سليمان بن هشام إلى بيت المال ففتحه وأنفق ما فيه على أصحابه ومن اتبعه من الجيوش، وسار موالي الوليد بن يزيد إلى دار عبد العزيز بن الحجاج فقتلوه فيها، وانتهبوها ونبشوا قبر يزيد بن الوليد وصلبوه على باب الجابية، ودخل مروان بن محمد دمشق فنزل في أعاليها، وأتي بالغلامين الحكم وعثمان وهما مقتولان وكذلك يوسف بن عمر فدفنوه‏.‏

وأتي بأبي محمد السفياني وهو في حبوله فسلم على مروان بالخلافة فقال مروان‏:‏ مه‏.‏

فقال‏:‏ إن هذين الغلامين جعلاها لك من بعدهما‏.‏

ثم أنشد قصيدة قالها الحكم في السجن وهي طويلة منها قوله‏:‏

ألا من مبلغ مروان عني * وعمي الغمر طال بذا حنينا

بأني قد ظلمت وصار قومي * على قتل الوليد متابعينا

فإن أهلك أنا وولي عهدي * فمروان أمير المؤمنينا

ثم قال أبو محمد السفياني لمروان‏:‏ ابسط يدك‏.‏

فكان أول من بايعه بالخلافة، فمعاوية بن يزيد بن حصين بن نمير ثم بايعه رؤس أهل الشام من أهل دمشق وحمص وغيرهم، ثم قال لهم مروان‏:‏ اختاروا أمراء نوليهم عليكم‏.‏

فاختار أهل كل بلد أميراً فولاه عليهم، فعلى دمشق‏:‏ زامل بن عمرو الجبراني، وعلى حمص‏:‏ عبد الله بن شجرة الكندي، وعلى الأردن‏:‏ الوليد بن معاوية بن مروان، وعلى فلسطين‏:‏ ثابت بن نعيم الجذامي‏.‏

ولما استوت الشام لمروان بن محمد رجع إلى حران وعند ذلك طلب منه إبراهيم بن الوليد الذي كان خليفة وابن عمه سليمان بن هشام الأمان فأمنهما، وقدم عليه سليمان بن هشام في أهل تدمر فبايعوه، ثم لما استقر مروان في حران أقام فيها ثلاثة أشهر فانتقض عليه ما كان انبرم له من مبايعة أهل الشام، فنقض أهل حمص وغيرهم، فأرسل إلى أهل حمص جيشاً فوافوهم ليلة عيد الفطر من هذه السنة، وقدم مروان إليها بعد الفطر بيومين، فنازلها مروان في جنود كثيرة، ومعه يومئذ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وهما عنده مكرمان خصيصان لا يجلس إلا بهما وقت الغداء والعشاء، فلما حاصر حمص نادوه إنا على طاعتك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/26‏)‏

فقال‏:‏ افتحوا باب البلد، ففتحوه‏.‏

ثم كان منهم بعض القتال فقتل منهم نحو الخمسمائة أو الستمائة، فأمر بهم فصلبوا حول البلد، وأمر بهدم بعض سورها‏.‏

وأما أهل دمشق فأما‏:‏ أهل الغوطة فحاصروا أميرهم زامل بن عمر، وأمَّروا عليهم يزيد بن خالد القسري، وثبت في المدينة نائبها، فبعث إليه أمير المؤمنين مروان من حمص عسكراً نحو عشرة آلاف، فلما اقتربوا من دمشق خرج النائب فيمن معه، والتقوا هم والعسكر بأهل الغوطة فهزموهم، وحرقوا المزة وقرى أخرى معها، واستجار يزيد بن خالد القسري وأبو علاقة الكلبي برجل من أهل المزة من لخم، فدل عليهم زامل بن عمرو فقتلهما وبعث برأسيهما إلى أمير المؤمنين مروان وهو بحمص‏.‏

وخرج ثابت بن نعيم في أهل فلسطين على الخليفة وأتوا طبرية فحاصروها، فبعث الخليفة إليهم جيشاً فأجلوهم عنها واستباحوا عسكرهم، وفر ثابت بن نعيم هارباً إلى فلسطين فاتبعه الأمير أبو الورد فهزمه ثانية وتفرق عنه أصحابه، وأسر أبو الورد ثلاثة من أولاده فبعث بهم إلى الخليفة وهم جرحى فأمر بمداواتهم‏.‏

ثم كتب أمير المؤمنين إلى نائب فلسطين وهو الرماحس بن عبد العزيز الكناني يأمره بطلب ثابت بن نعيم حيث كان، فما زال يتلطف به حتى أخذه أسيراً، وذلك بعد شهرين، فبعثه إلى الخليفة وأمر بقطع يديه ورجليه، وكذلك جماعة كانوا معه، وبعث بهم إلى دمشق فأقيموا على باب مسجدها، لأن أهل دمشق كانوا قد أرجفوا بأن ثابت بن نعيم ذهب إلى ديار مصر فتغلب عليها وقتل نائب مروان فيها، فأرسل إليهم مقطع اليدين والرجلين ليعرفوا بطلان ما كانوا به أرجفوا‏.‏

وأقام الخليفة مروان بدير أيوب عليه السلام مدة حتى بايع لابنه عبد الله ثم عبيد الله وزوجهما ابنتي هشام، وهما‏:‏ أم هشام وعائشة، وكان مجمعاً حافلاً وعقداً هائلاً، ومبايعةً عامةً، ولكن لم تكن في نفس الأمر تامة‏.‏

وقدم الخليفة إلى دمشق، وأمر بثابت وأصحابه بعد ما كانوا تقطعوا أن يصلبوا على أبواب البلد، ولم يستبق منهم أحد إلا واحداً وهو‏:‏ عمر بن الحارث الكلبي، وكان عنده فيما زعم علم بودايع كان ثابت بن نعيم أودعها عند أقوام‏.‏

واستوسق أمر الشام لمروان ماعدا تدمر، فسار من دمشق فنزل القسطل من أرض حمص، وبلغه أن أهل تدمر قد غوروا ما بينه وبينهم من المياه، فاشتد غضبه عليهم ومعه حجافل من الجيوش، فتكلم الأبرش بن الوليد وكانوا قومه فسأل منه أن يرسل إليهم أولاً ليعذر إليهم‏.‏

فبعث عمرو بن الوليد أخا الأبرش، فلما قدم عليهم لم يلتفتوا إليه ولا سمعوا له قولاً فرجع، فهمَّ الخليفة أن يبعث الجنود فسأله الأبرش أن يذهب إليهم بنفسه فأرسله، فلما قدم عليهم الأبرش كلمهم واستمالهم إلى السمع والطاعة، فأجابه أكثرهم وامتنع بعضهم، فكتب إلى الخليفة يعلمه بما وقع، فأمره الخليفة أن يهدم بعض سورها، وأن يقبل بمن أطاعه منهم إليه، ففعل‏.‏

فلما حضروا عنده سار بمن معه من الجنود نحو الرصافة على طريق البرية، ومعه من الرؤوس‏:‏ إبراهيم بن الوليد المخلوع، وسليمان بن هشام، وجماعة من ولد الوليد، ويزيد، وسليمان، فأقام بالرصافة أياماً ثم شخص إلى البرية‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/27‏)‏

فاستأذنه سليمان بن هشام أن يقيم هناك أياماً ليستريح ويجم ظهره فأذن له، فانحدر مروان فنزل عند واسط على شط الفرات فأقام ثلاثاً، ثم مضى إلى قرقيسيا وابن هبيرة بها ليبعثه إلى العراق لمحاربة الضحاك بن قيس الشيباني الخارجي الحروري، واشتغل مروان بهذا الأمر‏.‏

وأقبل عشرة آلاف فارس ممن كان مروان قد بعثهم في بعض السرايا، فاجتازوا بالرصافة وفيها سليمان بن هشام بن عبد الملك الذي كان استأذن الخليفة في المقام هناك للراحة، فدعوه إلى البيعة له وخلع مروان بن محمد ومحاربته، فاستزله الشيطان فأجابهم إلى ذلك، وخلع مروان وسار بالجيوش إلى قنسرين، وكاتب أهل الشام فانفضوا إليه من كل وجه‏.‏

وكتب سليمان إلى ابن هبيرة الذي جهزه مروان لقتال الضحاك بن قيس الخارجي يأمره بالمسير إليه، فالتفت إليه نحو من سبعين ألفاً، وبعث مروان إليهم عيسى بن مسلم في نحو من سبعين ألفاً، فالتقوا بأرض قنسرين فاقتتلوا قتالاً شديداً، وجاء مروان والناس في الحرب فقاتلهم أشد قتال فهزمهم، وقتل يومئذ إبراهيم بن سليمان بن هشام، وكان أكبر ولده، وقتل منهم نيفاً وثلاثين ألف‏.‏

وذهب سليمان مغلوباً فأتى حمص فالتف عليه من انهزم من الجيش فعسكر بهم فيها، وبنى ما كان مروان هدم من سورها‏.‏

فجاءهم مروان فحاصرهم بها ونصب عليهم نيفاً وثمانين منجنيقاً، فمكث كذلك ثمانية أشهر يرميهم ليلاً ونهاراً، ويخرجون إليه كل يوم ويقاتلون ثم يرجعون‏.‏

هذا وقد ذهب سليمان وطائفة من الجيش معه إلى تدمر وقد اعترضوا جيش مروان في الطريق وهموا بالفتك به وأن ينتهبوه فلم يمكنهم ذلك، وتهيأ مروان فقاتلهم فقتلوا من جيشه قريباً من ستة آلاف وهم تسعمائة، انصرفوا إلى تدمر، ولزم مروان محاصرة حمص كمال عشرة أشهر‏.‏

فلما تتابع عليهم البلاء، ولزمهم الذل، سألوه أن يؤمنهم فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، ثم سألوه الأمان على أن يمكنوه من سعيد بن هشام، وابنيه مروان وعثمان ومن السكسكي الذي كان حبس معه، ومن حبشي كان يفتري عليه ويشتمه‏.‏

فأجابهم إلى ذلك فأمنهم وقتل أولئك، ثم سار إلى الضحاك، وكان عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق قد صالح الضحاك الخارجي على ما بيده من الكوفة وأعمالها‏.‏

وجاءت خيول مروان قاصدة إلى الكوفة، فتلقاهم نائبها من جهة الضحاك - ملحان الشيباني - فقاتلهم فقتل ملحان، واستناب الضحاك عليها المثنى بن عمران من بني عائذة، وسار الضحاك في ذي القعدة إلى الموصل، وسار ابن هبيرة إلى الكوفة فانتزعها من أيدي الخوارج، وأرسل الضحاك جيشاً إلى الكوفة فلم يجد شيئاً‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج الضحاك بن قيس الشيباني، وكان سبب خروجه أن رجلاً يقال له‏:‏ سعيد بن بهدل - وكان خارجياً - اغتنم غفلة الناس واشتغالهم بمقتل الوليد بن يزيد، فثار في جماعة من الخوارج بالعراق، فالتف عليه أربعة آلاف - ولم تجتمع قبلها لخارجي - فقصدتهم الجيوش فاقتتلوا معهم، فتارة يكسرون وتارة يُكسرون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/28‏)‏

ثم مات سعيد بن بهدل في طاعون أصابه، واستخلف على الخوارج من بعده الضحاك بن قيس هذا، فالتف أصحابه عليه، والتقى هو وجيش كثير فغلبت الخوارج وقتلوا خلقاً كثيراً، منهم عاصم بن عمر بن عبد العزيز - أخو أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز - فرثاه بأشعار‏.‏

ثم قصد الضحاك بطائفة من أصحابه مروان فاجتاز الكوفة، فنهض إليه أهلها فكسرهم ودخل الكوفة فاستحوذ عليها، واستناب بها رجلاً اسمه‏:‏ حسان، ثم استناب ملحان الشيباني في شعبان من هذه السنة، وسار هو في طلب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز نائب العراق، فالتقوا فجرت بينهم حروب كثيرة يطول ذكرها وتفصيلها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ اجتمعت جماعة من الدعاة إلى بني العباس عند إبراهيم بن محمد الإمام ومعهم أبو مسلم الخراساني، فدفعوا إليه نفقات كثيرة، وأعطوه خمس أموالهم، ولم ينتظم لهم أمر في هذه السنة لكثرة الشرور المنتشرة، والفتن الواقعة بين الناس‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج بالكوفة معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فدعا إلى نفسه، وخرج إلى محاربة أمير العراق عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فجرت بينهما حروب يطول ذكرها، ثم أجلاه عنها فلحق بالجبال فتغلب عليها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ خرج الحارث بن سريج الذي كان لحق ببلاد الترك ومالأهم على المسلمين فمنَّ الله عليه بالهداية ووفقه حتى خرج إلى بلاد الشام، وكان ذلك عن دعاء يزيد بن الوليد إلى الرجوع إلى الإسلام وأهله فأجابه إلى ذلك، وخرج إلى خراسان فأكرمه نصر بن سيار نائب سورة، واستمر الحارث بن سريج على الدعوة إلى الكتاب والسنة وطاعة الإمام، وعنده بعض المناوأة لنصر بن سيار‏.‏

قال الواقدي وأبو معشر‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز أمير الحجاز ومكة والمدينة والطائف، وأمير العراق نضر بن سعيد الحرشي، وقد خرج عليه الضحاك الحروري، وعبد الله بن عبد العزيز‏.‏

وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد خرج عليه الكرماني والحارث بن سريج‏.‏

وممن توفي هذه السنة‏:‏ بكر بن الأشج، وسعد بن إبراهيم، وعبد الله بن دينار، وعبد الملك بن مالك الجزري، وعمير بن هانئ، ومالك بن دينار، ووهب بن كيسان، وأبو إسحاق السبيعي‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين ومائة

فيها‏:‏ كان مقتل الحارث بن سريج، وكان سبب ذلك أن يزيد بن الوليد الناقص كان قد كتب إليه كتاب أمان، حتى خرج من بلاد الترك وصار إلى المسلمين ورجع عن موالاة المشركين إلى نصرة الإسلام وأهله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/29‏)‏

وأنه وقع بينه وبين نصر بن سيار نائب خراسان وحشة ومنافسات كثيرة يطول ذكرها، فلما صارت الخلافة إلى مروان بن محمد استوحش الحارث بن سريج من ذلك‏.‏

وتولى ابن هبيرة نيابة العراق، وجاءت البيعة لمروان، فامتنع الحارث من قبولها وتكلم في مروان، وجاءه مسلمة بن أحوز أمير الشرطة، وجماعة من رؤس الأجناد والأمراء، وطلبوا منه أن يكف لسانه ويده، وأن لا يفرق جماعة المسلمين، فأبى وبرز ناحية عن الناس، ودعا نصر بن سيار إلى ما هو عليه من الدعوة إلى الكتاب والسنة فامتنع نصر من موافقته، واستمر هو على خروجه على الإسلام‏.‏

وأمر الجهم بن صفوان مولى بني راسب ويكنى‏:‏ بأبي محرز - وهو الذي نسبت إليه الفرقة الجهمية - أن يقرأ كتاباً فيه سيرة الحارث على الناس، وكان الحارث يقول‏:‏ أنا صاحب الرايات السود‏.‏

فبعث إليه نصر يقول‏:‏ لئن كنت ذاك فلعمري إنكم الذين تخربون سور دمشق وتزيلون بني أمية، فخذ مني خمسمائة رأس ومائة بعير، وإن كنت غيره فقد أهلكت عشيرتك‏.‏

فبعث إليه الحارث يقول‏:‏ لعمري إن هذا لكائن‏.‏

فقال له نصر‏:‏ فابدأ بالكرماني أولاً، ثم سر إلى الري، وأنا في طاعتك إذا وصلتها‏.‏

ثم تناظر نصر والحارث ورضيا أن يحكم بينهما مقاتل بن حيان والجهم بن صفوان، فحكما أن يعزل نصر ويكون الأمر شورى‏.‏

فامتنع نصر من قبول ذلك، ولزم الجهم بن صفوان وغيره قراءة سيرة الحارث على الناس في الجامع والطرق، فاستجاب له خلق كثير وجمع غفير، فعند ذلك انتدب لقتاله جماعات من الجيوش عن أمر نصر بن سيار، فقصدوه فحارب دونه أصحابه، فقتل منهم طائفة كثيرة منهم الجهم بن صفوان طعنه رجل في فيه فقتله، ويقال‏:‏ بل أسر الجهم فأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر بقتله، فقال‏:‏ إن لي أماناً من أبيك‏.‏

فقال‏:‏ ما كان له أن يؤمنك، ولو فعل ما أمنتك، ولو ملأت هذه الملاءة كواكب، وأنزلت عيسى بن مريم، ما نجوت، والله ولو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك‏.‏

وأمر ابن ميسر فقتله‏.‏

ثم اتفق الحارث بن سريج والكرماني على نصر ومخالفته، والدعوة إلى الكتاب والسنة واتباع أئمة الهدى وتحريم المنكرات إلى غير ذلك مما جاءت به الشريعة، ثم اختلفا فيما بينهما واقتتلا قتالاً شديداً، فغلب الكرماني وانهزم أصحاب الحارث‏.‏

وكان راكباً على بغل فتحول إلى فرس فحرنت أن تمشي، وهرب عنه أصحابه ولم يبق معه منهم سوى مائة، فأدركه أصحاب الكرماني فقتلوه تحت شجرة زيتون، وقيل‏:‏ تحت شجرة عبيرا‏.‏

وذلك يوم الأحد لست بقين من رجب من هذه السنة، وقتل معه مائة من أصحابه، واحتاط الكرماني على حواصله وأمواله، وأخذ أموال من خرج معه أيضاً، وأمر بصلب الحارث بلا رأس على باب مرو، ولما بلغ نصر بن سيار مقتل الحارث قال في ذلك‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/30‏)‏

يا مدخل الذل على قومه * بعداً وسحقاً لك من هالك

شؤمك أردى مضراً كلها * وغض من قومك بالحارك

ما كانت الأزد وأشياعها * تطمع في عمر ولا مالك

ولا بني سعد إذ ألجموا * كلَّ طمرٍّ لونه حالك

وقد أجابه عباد بن الحارث بن سريج فيما قال‏:‏

ألا يا نصر قد برح الخفاء * وقد طال التمني والرجاء

وأصبحت المزون بأرض مرو * تقضي في الحكومة ما تشاء

يجوز قضاؤها في كل حكم * على مضر وإن جار القضاء

وحمير في مجالسها قعود * ترقرق في رقابهم الدماء

فإن مضر بذا رضيت وذلت * فطال لها المذلة والشقاء

وإن هي أعتبت فيها وإلا * فخل على عساكرها العفاء

وفي هذه السنة‏:‏ بعث إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس أبا مسلم الخراساني إلى خراسان، وكتب معه كتباً إلى شيعتهم بها‏:‏ إن هذا أبا مسلم فاسمعوا له وأطيعوا، وقد وليته على ما غلب عليه من أرض خراسان‏.‏

فلما قدم أبو مسلم خراسان وقرأ على أصحابه هذا الكتاب، لم يلتفتوا إليه ولم يعملوا به وأعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم، فرجع إلى إبراهيم بن محمد أيام الموسم، فاشتكاهم إليه وأخبره بما قابلوه من المخالفة، فقال له‏:‏ يا عبد الرحمن ‏!‏ إنك رجل منا أهل البيت، ارجع إليهم وعليك بهذا الحي من اليمن فأكرمهم وانزل بين أظهرهم فإن الله لا يتمم هذا الأمر إلا بهم‏.‏

ثم حذره من بقية الأحياء وقال له‏:‏ إن استطعت أن لا تدع بتلك البلاد لساناً عربياً فافعل، ومن بلغ من أبنائهم خمسة أشبار واتهمته فاقتله، وعليك بذاك الشيخ فلا تقصه - يعني‏:‏ سليمان بن كثير -‏.‏

وسيأتي ما كان من أمر أبي مسلم الخراساني فيما بعد إن شاء الله تعالى‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ قتل الضحاك بن قيس الخارجي في قول أبي مخنف، وكان سبب ذلك أن الضحاك حاصر عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بواسط ووافقه على محاصرته منصور بن جمهور، فكتب عبد الله بن عمر بن عبد العزيز إليه‏:‏ إنه لا فائدة لك في محاصرتي ولكن عليك بمروان بن محمد فسر إليه، فإن قتلته اتبعتك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/31‏)‏

فاصطلحا على مخالفة مروان بن محمد أمير المؤمنين، فلما اجتاز الضحاك بالموصل كاتبه أهلها فمال إليهم فدخلها، وقتل نائبها واستحوذ عليها، وبلغ ذلك مروان وهو محاصر حمص، ومشغول بأهلها وعدم مبايعتهم إياه، فكتب إلى ابنه عبد الله بن مروان - وكان الضحاك قد التف عليه مائة ألف وعشرون ألفاً، فحاصروا نصيبين - وساق مروان في طلبه فالتقيا هنالك، فاقتتلا قتالاً شديداً فقتل الضحاك في المعركة وحجز الليل بين الفريقين، وفقد أصحاب الضحاك الضحاك وشكوا في أمره حتى أخبرهم من رآه قد قتل، فبكوا عليه وناحوا‏.‏

وجاء الخبر إلى مروان فبعث إلى المعركة بالمشاعل ومن يعرف مكانه بين القتلى، وجاء الخبر إلى مروان وهو مقتول، وفي رأسه ووجهه نحو عشرين ضربة، فأمروا برأسه فطيف به في مدائن الجزيرة‏.‏

واستخلف الضحاك على جيشه من بعده رجلاً يقال له‏:‏ الخبيري، فالتف عليه بقية جيش الضحاك، والتف مع الخبيري سليمان بن هشام بن عبد الملك وأهل بيته ومواليه، والجيش الذي كانوا قد بايعوه في السنة الماضية على الخلافة، وخلعوا مروان بن محمد عن الخلافة لأجله، فلما أصبحوا اقتتلوا مع مروان، فحمل الخبيري في أربعمائة من شجعان أصحابه على مروان، وهو في القلب، فكرَّ منهزماً واتبعوه حتى أخرجوه من الجيش، ودخلوا عسكره وجلس الخبيري على فرشه‏.‏

هذا وميمنة مروان ثابتة وعليها ابنه عبد الله، وميسرته أيضاً ثابتة وعليها إسحق بن مسلم العقيلي‏.‏

ولما رأى عبد الله العسكر فارِّين مع الخبيري، وأن الميمنة والميسرة من جهتهم باقيتان، طمعوا فيه فأقبلوا إليه بعمد الخيام فقتلوه بها، وبلغ قتله مروان وقد سار عن الجيش نحواً من خمسة أميال أو ستة، فرجع مسروراً وانهزم أصحاب الضحاك، وقد ولوا عليهم شيبان، فقصدهم مروان بعد ذلك بمكان يقال له‏:‏ الكراديس فهزمهم‏.‏

وفيها‏:‏ بعث مروان الحمار على إمارة العراق يزيد بن عمر بن هبيرة ليقاتل من بها من الخوارج‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ حج بالناس عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو نائب المدينة ومكة والطائف، وأمير العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار‏.‏

وممن توفي في هذه السنة‏:‏ بكرة بن سوادة، وجابر الجعفي، والجهم بن صفوان مقتولاً كما تقدم، والحارث بن سريج أحد كبراء الأمراء، وقد تقدم شيء من ترجمته، وعاصم بن عبدلة، وأبو حصين عثمان بن عاصم، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو التياح يزيد بن حميد، وأبو حمزة النعنبعي، وأبو الزبير المكي، وأبو عمران الجوني، وأبو قبيل المغافري، وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/32‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائة

فيها‏:‏ اجتمعت الخوارج بعد الخبيري على شيبان بن عبد العزيز بن الحليس اليشكري الخارجي، فأشار عليهم سليمان بن هشام أن يتحصنوا بالموصل ويجعلوها منزلاً لهم، فتحولوا إليها وتبعهم مروان بن محمد أمير المؤمنين، فعسكروا بظاهرها وخندقوا عليهم مما يلي جيش مروان‏.‏

وقد خندق مروان على جيشه أيضاً من ناحيتهم، وأقام سنة يحاصرهم ويقتتلون في كل يوم بكرة وعشية، وظفر مروان بابن أخ لسليمان بن هشام، وهو‏:‏ أمية بن معاوية بن هشام، أسر بعض جيشه فأمر به فقطعت يداه ثم ضرب عنقه، وعمه سليمان والجيش ينظرون إليه، وكتب مروان إلى نائبه بالعراق يزيد بن عمر بن هبيرة يأمره بقتال الخوارج الذين في بلاده‏.‏

فجرت له معهم وقعات عديدة، فظفر بهم ابن هبيرة، وأباد خضراءهم، ولم يبق لهم بقية بالعراق، واستنقذ الكوفة من أيدي الخوارج وكان عليها المثنى بن عمران العائذي - عائذة قريش - في رمضان من هذه السنة، وكتب مروان إلى ابن هبيرة لما فرغ من الخوارج أن يمده بعمار بن صبارة - وكان من الشجعان - فبعثه إليه في سبعة آلاف أو ثمانية آلاف، فأرسلت إليه سرية في أربعة آلاف فاعترضوه في الطريق فهزمهم ابن صبارة وقتل أميرهم الجون بن كلاب الشيباني الخارجي، وأقبل نحو الموصل، ورجع فل الخوارج إليهم‏.‏

فأشار سليمان بن هشام عليهم أن يرتحلوا عن الموصل، فإنه لم يكن يمكنهم الإقامة بها، ومروان من أمامهم وابن صبارة من ورائهم، وقد قطع عنهم الميرة حتى يجدوا شيئاً يأكلونه، فارتحلوا عنها وساروا على حلوان إلى الأهواز، فأرسل مروان ابن صبارة في آثارهم في ثلاثة ألف، فأتبعهم يقتل من تخلف منهم ويلحقهم في مواطن فيقاتلهم، ومازال وراءهم حتى فرق شملهم شذر مذر، وهلك أميرهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري بالأهواز في السنة القابلة، قتله خالد بن مسعود بن جعفر بن خيلد الأزدي، وركب سليمان بن هشام في مواليه وأهل بيته السفن، وساروا إلى السند، ورجع مروان من الموصل فأقام بمنزله بحران وقد وجد سروراً بزوال الخوارج ولكن لم يتم سروره، بل أعقبه القدر من هو أقوى شوكة وأعظم اتباعاً، وأشد بأساً من الخوارج، وهو ظهور أبي مسلم الخرساني الداعية إلى دولة بني عباس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/33‏)‏

 أول ظهور أبي مسلم الخراساني

وفي هذه السنة‏:‏ رد كتاب إبراهيم بن محمد الإمام العباسي بطلب أبي مسلم الخراساني من خراسان، فسار إليه في سبعين من النقباء لا يمرون ببلد إلا سألوهم‏:‏ إلى أين تذهبون ‏؟‏

فيقول أبو مسلم‏:‏ نريد الحج‏.‏

وإذا توسم أبو مسلم من بعضهم ميلاً إليهم دعاهم إلى ما هم فيه فيجيبه إلى ذلك، فلما كان ببعض الطريق جاء كتاب ثان من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم‏:‏ إني بعثت إليك براية النصر فارجع إلى خراسان وأظهر الدعوة، وأمر قحطبة بن شيب أن يسير بما معه من الأموال والتحف إلى إبراهيم الإمام فيوافيه في الموسم‏.‏

فرجع أبو مسلم بالكتاب فدخل خراسان في أول يوم من رمضان فرفع الكتاب إلى سليمان بن كثير وفيه‏:‏ أن أظهر دعوتك ولا تتربص‏.‏

فقدموا عليهم أبا مسلم الخراساني داعياً إلى بني العباس، فبعث أبو مسلم دعاته في بلاد خراسان، وأمير خراسان - نصر بن سيار - مشغول بقتال الكرماني، وشيبان بن سلمة الحروري، وقد بلغ من أمره أنه كان يسلم عليه أصحابه بالخلافة في طوائف كثيرة من الخوارج، فظهر أمر أبي مسلم وقصده الناس من كل جانب، فكان ممن قصده في يوم واحد أهل ستين قرية، فأقام هناك اثنين وأربعين يوماً ففتحت على يديه أقاليم كثيرة‏.‏

ولما كان ليلة الخميس لخمس بقين من رمضان في هذه السنة‏:‏ عقد أبو مسلم اللواء الذي بعثه إليه الإمام، ويدعى‏:‏ الظل، على رمح طوله أربعة عشر ذراعاً، وعقد الراية التي بعث بها الإمام أيضاً، وتدعى‏:‏ السحاب، على رمح طوله ثلاثة عشر ذراعاً، وهما سوداوان، وهو يتلو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 39‏]‏‏.‏

ولبس أبو مسلم وسليمان بن كثير ومن أجابهم إلى الدعوة السواد، وصارت شعارهم، وأوقدوا في هذه الليلة ناراً عظيمة يدعون بها أهل تلك النواحي، وكانت علامة بينهم فتجمعوا‏.‏

ومعنى تسمية إحدى الرايتين بالسحاب‏:‏ أن السحاب كما يطبق جميع الأرض كذلك بنو العباس تطبق دعوتهم أهل الأرض، ومعنى تسمية الأخرى بالظل‏:‏ أن الأرض كما أنها لا تخلو من الظل فكذلك بنو العباس لا تخلو الأرض من قائم منهم‏.‏

وأقبل الناس إلى أبي مسلم من كل جانب، وكثر جيشه‏.‏

ولما كان يوم عيد الفطر أمر أبو مسلم سليمان بن كثير أن يصلي بالناس، ونصب له منبراً، وأن يخالف في ذلك بني أمية، ويعمل بالسنة، فنودي للصلاة‏:‏ الصلاة جامعة، ولم يؤذن ولم يقم خلافاً لهم، وبدأ بالصلاة قبل الخطبة، وكبر ستاً في الأولى قبل القراءة لا أربعاً، وخمساً في الثانية لا ثلاثاً خلافاً لهم‏.‏

وابتدأ الخطبة بالذكر والتكبير وختمها بالقراءة، وانصرف الناس من صلاة العيد وقد أعدَّ لهم أبو مسلم طعاماً فوضعه بين يدي الناس، وكتب إلى نصر بن سيار كتاباً بدأ فيه بنفسه ثم قال‏:‏

إلى نصر بن سيار‏.‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏:‏ أما بعد فإن الله عيَّر أقواماً في كتابه فقال‏:‏ ‏{‏وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ‏}‏ إلى قوله ‏{‏تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 42-43‏]‏‏.‏

فعظم على نصر أن قدَّم اسمه على اسمه، وأطال الفكر، وقال‏:‏ هذا كتاب له جواب‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/34‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ ثم بعث نصر بن سيار خيلاً عظيمةً لمحاربة أبي مسلم، وذلك بعد ظهوره بثمانية عشر شهراً، فأرسل أبو مسلم إليهم مالك بن الهيثم الخزاعي، فالتقوا فدعاهم مالك إلى الرضا عن آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا ذلك فتصافَّوا من أول النهار إلى العصر، فجاء إلى مالك مدد فقوي فظفر بهم مالك، وكان هذا أول موقف اقتتل فيه جند بني العباس وجند بني أمية‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غلب حازم بن خزيمة على مرو الروذ، وقتل عاملها من جهة نصر بن سيار، وهو‏:‏ بشر بن جعفر السعدي، وكتب بالفتح إلى أبي مسلم، وكان أبو مسلم إذ ذاك شاباً حدثاً قد اختاره إبراهيم لدعوتهم، وذلك لشهامته وصرامته وقوة فهمه وجودة ذهنه، وأصله من سواد الكوفة، وكان مولى لإدريس بن معقل العجلي، فاشتراه بعض دعاة بني العباس بأربعمائة درهم، ثم أخذه محمد بن علي ثم آل ولاؤه لآل العباس، وزوجه إبراهيم الإمام بابنة أبي النجم إسماعيل بن عمران، وأصدقها عنه، وكتب إلى دعاتهم بخراسان والعراق أن يسمعوا منه، فامتثلوا أمره، وقد كانوا في السنة الماضية قبل هذه السنة ردوا عليه أمره لصغره فيهم، فلما كانت هذه السنة أكَّد الإمام كتابه إليهم في الوصاة به وطاعته، وكان في ذلك الخير له ولهم، ‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 38‏]‏‏.‏

ولما فشا أمر أبي مسلم بخراسان تعاقدت طوائف من العرب الذين بها على حربه ومقاتلته، ولم يكره الكرماني وشيبان لأنهما خرجا على نصر وأبو مسلم مخالف لنصر كحالهما، وهو مع ذلك يدعو إلى خلع مروان الحمار، وقد طلب نصر من شيبان أن يكون معه على حرب أبي مسلم، أو يكف عنه حتى يتفرغ لحربه، فإذا قتل أبا مسلم عادا إلى عداوتهما، فأجابه إلى ذلك، فبلغ ذلك أبا مسلم فبعث إلى الكرماني يعلمه بذلك فلام الكرماني شيبان على ذلك، وثناه عن ذلك، وبعث أبو مسلم إلى هراة النضر بن نعيم، فأخذها من عاملها عيسى بن عقيل الليثي، وكتب إلى أبي مسلم بذلك، وجاء عاملها إلى نصر هارباً، ثم إن شيبان وادع نصر بن سيار سنة على ترك الحرب بينه وبينه، وذلك عن كره من الكرماني، فبعث ابن الكرماني إلى أبي مسلم‏:‏ أني معك على قتال نصر‏.‏

وركب أبو مسلم في خدمة الكرماني، فاتفقا على حرب نصر ومخالفته‏.‏

وتحول أبو مسلم إلى موضع فسيح وكثر جنده وعظم جيشه، واستعمل على الحرس والشرط والرسائل والديوان وغير ذلك مما يحتاج إليه الملك عمالاً‏.‏

وجعل القاسم بن مجاشع التميمي - وكان أحد النقباء - على القضاء وكان يصلي بأبي مسلم الصلوات، ويقص بعض القصص فيذكر محاسن بني هاشم ويذم بني أمية، ثم تحول أبو مسلم إلى قرية يقال لها‏:‏ بالين، وكان في مكان منخفض، فخشي أن يقطع عنه نصر بن سيار الماء، وذلك في سادس ذي الحجة من هذه السنة، وصلى بهم يوم النحر القاضي القاسم بن مجاشع‏.‏

وصار نصر بن سيار في جحافل كالسحاب قاصداً قتال أبي مسلم، واستخلف على البلاد نواباً وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/35‏)‏

 مقتل ابن الكرماني

ونشبت الحرب بين نصر بن سيار وبين ابن الكرماني - وهو‏:‏ جديع بن علي الكرماني - فقتل بينهما من الفريقين خلق كثير، وجعل أبو مسلم يكاتب كلاً من الطائفتين ويستميلهم إليه، يكتب إلى نصر وإلى ابن الكرماني‏:‏ إن الإمام قد أوصاني بكم خيراً ولست أعدو رأيه فيكم‏.‏

وكتب إلى الكور يدعو إلى بني العباس فاستجاب له خلق كثير وجم غفير، وأقبل أبو مسلم فنزل بين خندق نصر وخندق ابن الكرماني، فهابه الفريقان جميعاً، وكتب نصر بن سيار إلى مروان يعلمه بأمر أبي مسلم وكثرة من معه، وأنه يدعو إلى إبراهيم بن محمد، وكتب في جملة كتابه‏:‏

أرى بين الرماد وميض جمر * وأحرى أن يكون له ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب مبدؤها الكلام

فقلت من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فكتب إليه مروان‏:‏ الشاهد يرى ما لا يراه الغائب‏.‏

فقال نصر‏:‏ إن صاحبكم قد أخبركم أن لا نصر عنده‏.‏

وبعضهم يرويها بلفظ آخر‏:‏

أرى خلل الرماد وميض نار * فيوشك أن يكون لها ضرام

فإن النار بالعيدان تذكى * وإن الحرب أولها كلام

فإن لم يطفها عقلاء قوم * يكون وقودها جثث وهام

أقول من التعجب ليت شعري * أيقاظ أمية أمْ نيام

فإن كانوا لحينهم نياماً * فقل قوموا فقد حان القيام

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/36‏)‏

قال ابن خلكان‏:‏ وهذا كما قال بعض علوية الكوفة حين خرج محمد وإبراهيم ابنا عبد الله بن الحسن على المنصور أخي السفاح‏:‏

أرى ناراً تشب على بقاع * لها في كل ناحية شعاع

وقد رقدت بنو العباس عنها * وباتت وهي آمنة رتاع

كما رقدت أمية ثم هبت * تدافع حين لا يغني الدفاع

وكتب نصر بن سيار أيضاً إلى نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة يستمده وكتب إليه‏:‏

أبلغ يزيد وخير القول أصدقه * وقد تحققت أن لا خير في الكذب

بأن أرض خراسان رأيت بها * بيضاً إذا أفرخت حُدثتَ بالعجب

فراخ عامين إلا أنها كبرت * ولم يطرن وقد سربلن بالزغب

فإن يطرن ولم يحتل لهن بها * يلهبن نيران حرب أيما لهيب

فبعث ابن هبيرة بكتاب نصر إلى مروان، واتفق في وصول الكتاب إليه، أن وجدوا رسولاً من جهة إبراهيم الإمام ومعه كتاب منه إلى أبي مسلم، وهو يشتمه فيه ويسبه، ويأمره أن يناهض نصر بن سيار وابن الكرماني، ولا يترك هناك من يحسن العربية‏.‏

فعند ذلك بعث مروان وهو مقيم بحران كتاباً إلى نائبه بدمشق وهو الوليد بن معاوية بن عبد الملك، يأمر فيه أن يذهب إلى الحميمة، وهي البلدة التي فيها إبراهيم بن محمد الإمام، فيقيده ويرسله إليه‏.‏

فبعث نائب دمشق إلى نائب البلقاء فذهب إلى مسجد البلدة المذكورة فوجد إبراهيم الإمام جالساً فقيده وأرسل به إلى دمشق، فبعثه نائب دمشق من فوره إلى مروان، فأمر به فسجن ثم قتل كما سيأتي‏.‏

وأما أبو مسلم فإنه لما توسط بين جيش نصر وابن الكرماني، كاتب ابن الكرماني‏:‏ إني معك‏.‏

فمال إليه، فكتب إليه نصر‏:‏ ويحك ‏!‏ لا تغتر فإنه إنما يريد قتلك وقتل أصحابك، فهلم حتى نكتب كتاباً بيننا بالموادعة، فدخل ابن الكرماني داره ثم خرج إلى الرحبة في مائة فارس، وبعث إلى نصر‏:‏ هلم حتى نتكاتب‏.‏

فأبصر نصر غرة من ابن الكرماني فنهض إليه في خلق كثير، فحملوا عليه فقتلوه وقتلوا من جماعته جماعة، وقتل ابن الكرماني في المعركة، طعنه رجل في خاصرته فخرَّ عن دابته، ثم أمر نصر بصلبه وصلب معه جماعة، وصلب معه سمكة، وانضاف ولده إلى أبي مسلم الخراساني ومعه طوائف من الناس من أصحاب ابن الكرماني، فصاروا كتفاً واحداً على نصر‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/37‏)‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ تغلب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر على فارس وكورها، وعلى حلوان وقومس وأصبهان والري، بعد حرب يطول ذكرها، ثم التقى عامر بن ضبارة معه باصطخر فهزمه ابن ضبارة وأسر من أصحابه أربعين ألفاً‏.‏

فكان منهم‏:‏ عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، فنسبه ابن ضبارة وقال له‏:‏ ما جاء بك مع ابن معاوية وقد علمت خلافة لأمير المؤمنين ‏؟‏

فقال‏:‏ كان عليَّ دين فأتيته فيه‏.‏

فقام إليه حرب بن قطن بن وهب الهلالي فاستوهبه منه وقال‏:‏ هو ابن أختنا فوهبه له‏.‏

وقال‏:‏ ما كنت لأقدم على رجل من قريش‏.‏

ثم استعلم ابن ضبارة منه أخبار ابن معاوية فذمه ورماه هو وأصحابه باللواط، وجيء من الأسارى بمائة غلام عليهم الثياب المصبغة، وقد كان يعمل معهم الفاحشة، وحمل ابن ضبارة عبد الله بن علي على البريد لابن هبيرة ليخبره بما أخبر به ابن ضبارة عن ابن معاوية‏.‏

وقد كتب الله عز وجل أن زوال ملك بني أمية يكون على يدي هذا الرجل، وهو‏:‏ عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا يشعر واحد منهم بذلك‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ ولي الموسم أبو حمزة الخارجي فأظهر التحكم والمخالفة لمروان، وتبرأ منه‏.‏

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو يومئذ أمير مكة والمدينة والطائف، وإليه أمر الحجيج في هذه السنة، ثم صالحهم على الأمان إلى يوم النفر، فوقفوا على حدة بين الناس بعرفات ثم تحيزوا عنهم، فلما كان يوم النفر الأول تعجل عبد الواحد وترك مكة فدخلها الخارجي بغير قتال، فقال بعض الشعراء في ذلك‏:‏

زار الحجيج عصابة قد خالفوا * دين الإله ففر عبد الواحد

ترك الحلائل والإمارة هارباً * ومضى يخبط كالبعير الشارد

لو كان والده تنصَّل عرقه * لصفت موارده بعرق الوارد

ولما رجع عبد الواحد إلى المدينة شرع في تجهيز السرايا إلى قتال الخارجي، وبذل النفقات وزاد في أعطية الأجناد، وسيرهم سريعاً‏.‏

وكان أمير العراق يزيد بن هبيرة، وأمير خراسان نصر بن سيار، وقد استحوذ على بعض بلاده أبو مسلم الخراساني‏.‏

ممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ سالم أبو النضر، وعلي بن زيد بن جدعان، في قول، ويحيى بن أبي كثير‏.‏

وقد ذكرنا تراجمهم في التكميل، ولله الحمد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/38‏)‏

 سنة ثلاثين ومائة

في يوم الخميس لتسع خلون من جمادى الأول منها‏:‏ دخل أبو مسلم الخرساني مرو ونزل دار الإمارة بها، وأنتزعها من يد نصر بن سيار، وذلك بمساعدة علي بن الكرماني، وهرب نصر بن سيار في شرذمة قليلة من الناس، نحو من ثلاثة آلاف، ومعه امرأته المرزبانة، حتى لحق سرخس وترك امرأته وراءه، ونجا بنفسه، واستفحل أمر أبي مسلم جداً، والتفت عليه العساكر‏.‏

 مقتل شيبان بن سلمة الحروري

ولما هرب نصر بن سيار بقي شيبان وكان ممالئاً له على أبي مسلم، فبعث إليه أبو مسلم رسلاً فحبسهم، فأرسل أبو مسلم إلى بسام بن إبراهيم مولى بني ليث يأمره أن يركب إلى شيبان فيقاتله، فسار إليه فاقتتلا فهزمه بسام فقتله واتبع أصحابه يقتلهم ويأسرهم، ثم قتل أبو مسلم علياً وعثمان ابني الكرماني، ثم وجه أبو مسلم أبا داود إلى بلخ فأخذها من زياد بن عبد الرحمن القشيري، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً‏.‏

ثم إن أبا مسلم اتفق مع أبي داود على قتل عثمان بن الكرماني في يوم كذا، وفي ذلك اليوم بعينه يقتل أبو مسلم علي بن جديع الكرماني، فوقع ذلك كذلك‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ وجه أبو مسلم قحطبة بن شبيب إلى نيسابور لقتال نصر بن سيار، ومع قحطبة جماعة من كبار الأمراء، منهم خالد بن برمك‏.‏

فالتقوا مع تميم بن نصر بن سيار وقد وجهه أبوه لقتالهم بطوس، فقتل قحطبة من أصحاب نصر نحواً من سبعة عشر ألفاً في المعركة، وقد كان أبو مسلم بعث إلى قحطبة مدداً نحو عشرة آلاف فارس، عليهم علي بن معقل، فاقتتلوا فقتلوا من أصحاب نصر خلقاً كثيراً، وقتلوا تميم بن نصر، وغنموا أموالاً جزيلةً جداً، ثم إن يزيد بن عمر بن هبيرة نائب مروان على العراق بعث سرية مدداً لنصر بن سيار، فالتقى معهم قحطبة في مستهل ذي الحجة، وذلك يوم الجمعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم جند بني أمية، وقتل من أهل الشام وغيرهم عشرة آلاف، منهم‏:‏ نباتة بن حنظلة عامل جرجان، فبعث قحطبة برأسه إلى أبي مسلم‏.‏

 ذكر دخول أبي حمزة الخارجي المدينة النبوية واستلائه عليها

قال ابن جرير‏:‏ وفي هذه السنة‏:‏ كانت وقعة بقديد بين أبي حمزة الخارجي الذي كان عام أول في أيام الموسم، فقتل من أهل المدينة من قريش خلقاً كثيراً، ثم دخل المدينة وهرب نائبها عبد الواحد بن سليمان، فقتل الخارجي من أهلها خلقاً، وذلك لتسع عشرة ليلة خلت من صفر من هذه السنة، ثم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوبخ أهل المدينة، فقال‏:‏ يا أهل المدينة إني مررت بكم أيام الأحول - يعني‏:‏ هشام بن عبد الملك - وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فكتبتم إليه تسألونه أن يضع الخرص عنكم فوضعه، فزاد غنيكم غناً وزاد فقيركم فقراً، فكتبتم إليه جزاك الله خيراً، فلا جزاه الله خيراً‏.‏ في كلام طويل‏.‏

فأقام عندهم ثلاثة أشهر بقية صفر وشهري ربيع وبعض جمادى الأول فيما قال الواقدي وغيره‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/39‏)‏

وقد روى المدائني أن أبا حمزة رقى يوماً منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ تعلمون يا أهل المدينة ‏!‏ أنا لم نخرج من بلادنا بطراً ولا أشراً، ولا لدولة نريد أن نخوض فيها النار، وإنما أخرجنا من ديارنا أنا رأينا مصابيح الحق طمست، وضعف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، فلما رأينا ذلك ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعياً يدعو إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن، فأجبنا داعي الله ‏{‏وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 32‏]‏، أقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافاً واحداً، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله وأيدنا بنصره، فأصبحنا والله بنعمة الله إخواناً، ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن، ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم بني مروان، فشتان لعمر الله بين الغي والرشد، ثم أقبلوا نحونا يهرعون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه فاتبعوه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب، بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون‏.‏

وأنتم يا أهل المدينة ‏!‏ إن تنصروا مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدنا، ويشف صدور قوم مؤمنين‏.‏

يا أهل المدينة ‏!‏ أولكم خير أول، وآخركم شر آخر‏.‏

يا أهل المدينة ‏!‏ الناس منا ونحن منهم، إلا مشركاً عابد وثن أو كافراً أهل كتاب، أو إماماً جائراً‏.‏

يا أهل المدينة ‏!‏ من زعم أن الله يكلف نفساً فوق طاقتها، أو يسألها ما لم يؤتها، فهو لله عدو، وأنا له حرب‏.‏

يا أهل المدينة ‏!‏ أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله في كتابه على القوي والضعيف، فجاء تاسع ليس له منها ولا سهم واحد، فأخذها لنفسه، مكابراً محارباً لربه‏.‏

يا أهل المدينة ‏!‏ بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم شباب أحداث، وأعراب جفاة أجلاف، ويحكم ‏!‏ فهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شباباً أحداثاً شباباً، شباباً والله مكتهلون في شبابهم، غضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن السعي في الباطل أقدامهم، قد باعوا لله أنفساً تموت بأنفس لا تموت، قد خالطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفاً من النار، وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقاً إلى الجنة‏.‏

فلما نظروا إلى السيوف قد انتضيت، وإلى الرماح قد شرعت، وإلى السهام قد فوقت، وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت، استخفوا والله وعيد الكتيبة لوعيد الله في القرآن، ولم يستخفوا وعيد الله لوعيد الكتيبة، فطوبى لهم وحسن مآب، فكم من عين في مناقير الطير طال ما فاضت في جوف الليل من خشية الله، وطال ما بكت خالية من خوف الله، وكم من يد زالت عن مفصلها طال ما ضربت في سبيل الله وجاهدت أعداء الله، وطال ما اعتمد بها صاحبها في طاعة الله، أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيري، وما توفيقي إلا بالله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/40‏)‏

ثم روى المدائني، عن العباس، عن هارون، عن جده، قال‏:‏ كان أبو حمزة الخارجي قد أحسن السيرة في أهل المدينة، فمالوا إليه حتى سمعوه يقول‏:‏ برح الخفا أين عن بابك نذهب ‏؟‏

ثم قال‏:‏ من زنا فهو كافر، ومن سرق فهو كافر‏.‏

فعند ذلك أبغضوه ورجعوا عن محبته‏.‏

وأقام بالمدينة حتى بعث مروان الحمار عبد الملك بن محمد بن عطية أحد بني سعد في خيل أهل الشام أربعة آلاف، قد أنتخبها مروان من جيشه، وأعطى كل رجل منهم مائة دينار وفرساً عربيةً، وبغلاً لثقله، وأمره أن يقاتله ولا يرجع عنه، ولو لم يلحقه إلا باليمن فليتبعه إليها، وليقاتل نائب صنعاء عبد الله بن يحيى‏.‏

فسار ابن عطية حتى بلغ وادي القرى فتلقاه أبو حمزة الخارجي قاصداً قتال مروان بالشام فاقتتلوا هنالك إلى الليل، فقال له‏:‏ ويحك يا ابن عطية ‏!‏ إن الله قد جعل الليل سكناً فأخِّر إلى غد‏.‏

فأبى عليه أن يقلع عن قتاله، فما زال يقاتلهم حتى كسرهم فولوا ورجع فلهم إلى المدينة، فنهض إليهم أهل المدينة فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ودخل ابن عطية المدينة، وقد انهزم جيش أبي حمزة عنها، فيقال‏:‏ إنه أقام بها شهراً ثم استخلف عليها، ثم استخلف على مكة وسار إلى اليمن فخرج إليه عبد الله بن يحيى نائب صنعاء، فاقتتلا فقتله ابن عطية وبعث برأسه إلى مروان‏.‏

وجاء كتاب مروان إليه يأمره بإقامة الحج للناس في هذه السنة، ويستعجله في المسير إلى مكة‏.‏

فخرج من صنعاء في اثني عشر راكباً، وترك جيشه بصنعاء، ومعه خرجٌ فيه أربعون ألف دينار، فلما كان ببعض الطريق نزل منزلاً إذ أقبل إليه أميران يقال لهما‏:‏ ابنا جمانة من سادات تلك الناحية، فقالوا‏:‏ ويحكم ‏!‏ أنتم لصوص‏.‏

فقال‏:‏ أنا ابن عطية وهذا كتاب أمير المؤمنين إلي بأمرة الحج، فنحن نعجل السير لندرك الموسم‏.‏

فقالوا‏:‏ هذا باطل‏.‏

ثم حملوا عليهم فقتلوا ابن عطية وأصحابه ولم يفلت منهم إلا رجلٌ واحدٌ، وأخذوا ما معهم من المال‏.‏

قال أبو معشر‏:‏ وحج بالناس في هذه السنة‏:‏ محمد بن عبد الملك بن مروان، وقد جعلت إليه إمرة المدينة ومكة والطائف، ونائب العراق ابن هبيرة، وإمرة خراسان إلى نصر بن سيار، غير أن أبا مسلم قد استحوذ على مدن وقرى كثيرة من خراسان، وقد أرسل نصر إلى ابن هبيرة يستمده بعشرة آلاف قبل أن لا يكفيه مائة ألف، وكتب أيضاً إلى مروان يستمده، فكتب مروان إلى ابن هبيرة يمده بما أراد‏.‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏ شعيب بن الحبحاب، وعبد العزيز بن صهيب، وعبد العزيز بن رفيع، وكعب بن علقمة، ومحمد بن المكندر، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائة

في المحرم منها‏:‏ وجَّه قحطبة بن شبيب ولده الحسن إلى قوميس لقتال نصر بن سيار، وأردفه بالأمداد ، فخامر بعضهم إلى نصر ارتحل نصر فنزل الري، فأقام بها يومين ثم مرض فسار منها إلى همدان‏.‏

فلما كان بساوه قريباً من همدان توفي لمضي ثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من هذه السنة، عن خمس وثمانين سنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/41‏)‏

فلما مات نصر تمكن أبو مسلم وأصحابه من بلاد خراسان، وقويت شوكتهم جداً، وسار قحطبة من جرجان، وقدَّم أمامه زياد بن زرارة القشيري، وكان قد ندم على اتباع أبي مسلم، فترك الجيش وأخذ جماعة معه وسلك طريق أصبهان ليأتي ابن ضبارة، فبعث قحطبة وراءه جيشاً فقتلوا عامة أصحابه، وأقبل قحطبة وراءه فقدم قومس وقد افتتحها ابنه الحسن فأقام بها، وبعث ابنه بين يديه إلى الري، ثم ساق وراءه فوجده قد افتتحها، فأقام بها وكتب إلى أبي مسلم بذلك‏.‏

وارتحل أبو مسلم من مرو فنزل نيسابور واستفحل أمره، وبعث قحطبة بعد دخوله الري ابنه الحسن بين يديه إلى همدان، فلما اقترب منها خرج منها مالك بن أدهم وجماعة من أجناد الشام وخراسان، فنزلوا نهاوند، فافتتح الحسن همدان ثم سار وراءهم إلى نهاوند، وبعث إليه أبوه بالأمداد فحاصرهم حتى افتتحها‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ مات عامر بن ضبارة، وكان سبب ذلك أن ابن هبيرة كتب إليه أن يسير إلى قحطبة وأمده بالعساكر، فسار ابن ضبارة حتى التقى مع قحطبة في عشرين ألفاً، فلما تواجه الفريقان رفع قحطبة وأصحابه المصاحف ونادى المنادي‏:‏ يا أهل الشام ‏!‏ إنا ندعوكم إلى ما في هذا المصحف‏.‏

فشتموا المنادي وشتموا قحطبة، فأمر قحطبة أصحابه أن يحملوا عليهم، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انهزم أصحاب ابن ضبارة، واتبعهم أصحاب قحطبة فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقتلوا ابن ضبارة في العسكر لشجاعته فإنه لم يولي، وأخذوا من عسكرهم ما لا يحد ولا يوصف‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر قحطبة نهاوند حصاراً شديداً حتى سأله أهل الشام الذين بها أن يمهل أهلها حتى يفتحوا له الباب، ففتحوا له الباب وأخذوا لهم منه أماناً، فقال لهم من بها من أهل خراسان‏:‏ ما فعلتم ‏؟‏

فقالوا‏:‏ أخذنا لنا ولكم أماناً‏.‏

فخرجوا ظانين أنهم في أمان، فقال قحطبة للأمراء الذين معه‏:‏ كل من حصل عنده أسير من الخراسانين فليضرب عنقه وليأتنا برأسه‏.‏

ففعلوا ذلك ولم يبق ممن كان هرب من أبي مسلم أحد، وأطلق الشاميين وأوفى لهم عهدهم وأخذ عليهم الميثاق أن لا يمالئوا عليه عدواً‏.‏

ثم بعث قحطبة أبا عون إلى شهر زور، عن أمر أبي مسلم في ثلاثين ألفاً فافتتحها، وقتل نائبها عثمان بن سفيان‏.‏

وقيل‏:‏ لم يقتل بل تحول إلى الموصل والجزيرة وبعث إلى قحطبة بذلك‏.‏

ولما بلغ مروان خبر قحطبة وأبي مسلم وما وقع من أمرهما، تحول مروان من حرَّان فنزل بمكان يقال له‏:‏ الزاب الأكبر‏.‏

وفيها‏:‏ قصد قحطبة في جيش كثيف نائب العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فلما اقترب منه تقهقر ابن هبيرة إلى ورائه، وما زال يتقهقر إلى أن جاوز الفرات، وجاء قحطبة فجازها وراءه، وكان من أمرهما ما سنذكره في السنة الآتية إن شاء الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائة

في المحرم منها‏:‏ جاز قحطبة بن شبيب الفرات ومعه الجنود والفرسان، وابن هبيرة مخيم على فم الفرات مما يلي الفلوجة، في خلقٍ كثيرٍ وجمٍ غفيرٍ، وقد أمده مروان بجنودٍ كثيرةٍ، وانضاف إليه كل من انهزم من جيش ابن ضبارة‏.‏

ثم إن قحطبة عدل إلى الكوفة ليأخذها، فاتبعه ابن هبيرة‏.‏

فلما كانت ليلة الأربعاء لثمان مضين من المحرم‏:‏ اقتتلوا قتالاً شديداً وكثر القتل في الفريقين، ثم ولى أهل الشام منهزمين واتبعهم أهل خراسان، وفقد قحطبة من الناس فأخبرهم رجل أنه قتل وأوصى أن يكون أمير الناس من بعده ولده الحسن، ولم يكن الحسن حاضراً، فبايعوا حميد بن قحطبة لأخيه الحسن وذهب البريد إلى الحسن ليحضر‏.‏

وقتل في هذه الليلة‏:‏ جماعة من الأمراء‏.‏

والذي قتل قحطبة معن بن زائدة، ويحيى بن حصين‏.‏

وقيل‏:‏ بل قتله رجل ممن كان معه آخذاً بثائر ابني نصر بن سيار، فالله أعلم‏.‏

ووجد قحطبة في القتلى فدفن هنالك، وجاء الحسن بن قحطبة فسار نحو الكوفة، وقد خرج بها محمد بن خالد بن عبد الله القسري، ودعا إلى بني العباس وسوَّد، وكان خروجه ليلة عاشوارء لمحرم من هذه السنة، وأخرج عاملها من جهة ابن هبيرة، وهو‏:‏ زياد بن صالح الحارثي، وتحول محمد بن خالد إلى قصر الإمارة فقصد حوثرة في عشرين ألفاً من جهة ابن هبيرة، فلما اقترب من الكوفة أصحاب حوثرة يذهبون إلى محمد بن خالد فيبايعونه لبني العباس، فلما رأى حوثرة ذلك ارتحل إلى واسط‏.‏

ويقال‏:‏ بل دخل الحسن بن قحطبة الكوفة، وكان قحطبة قد جعل في وصيته أن تكون وزارة الخلافة إلى أبي سلمة حفص بن سليمان مولى السبيع الكوفي الخلال، وهو بالكوفة، فلما قدموا عليه أشار أن يذهب الحسن بن قحطبة في جماعة من الأمراء إلى قتال ابن هبيرة بواسط، وأن يذهب أخوه حميد إلى المدائن، وبعث البعوث إلى كل جانب يفتحونها، وفتحوا البصرة، افتتحها مسلم بن قتيبة لابن هبيرة، فلما قتل ابن هبيرة جاء أبو مالك عبد الله بن أسيد الخزاعي فأخذ البصرة لأبي مسلم الخراساني‏.‏

وفي هذه السنة ليلة الجمعة لثلاث عشرة حلت من ربيع الآخر‏:‏ أخذت البيعة لأبي العباس السفاح، وهو‏:‏ عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب‏.‏ قاله‏:‏ أبو معشر وهشام الكلبي‏.‏

وقال الواقدي‏:‏ في جمادى الأولى من هذه السنة، فالله أعلم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/43‏)‏

 ذكر مقتل إبراهيم بن محمد الإمام

قد ذكرنا في سنة تسع وعشرين ومائة أن مروان اطلع على كتاب من إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم الخرساني، يأمر فيه بأن لا يبقي أحداً بأرض خراسان ممن يتكلم بالعربية إلا أباده، فلما وقف مروان على ذلك سأل عن إبراهيم، فقيل له‏:‏ هو في بالبلقاء‏.‏

فكتب إلى نائب دمشق أن يحضره فبعث نائب دمشق بريداً ومعه صفته ونعته، فذهب الرسول فوجد أخاه أبا العباس السفاح، فاعتقد أنه هو فأخذه فقيل له‏:‏ إنه ليس به، إنما أخوه‏.‏

فدل على إبراهيم فأخذه وذهب معه بأم ولد كان يحبها، وأوصى إلى أهله أن يكون الخليفة من بعده أخوه أبو العباس السفاح، وأمرهم بالمسير إلى الكوفة، فارتحلوا من يومهم إليها، منهم أعمامه الستة وهم‏:‏ عبد الله، وداود، وعيسى، وصالح، وإسماعيل، وعبد الصمد، بنوا علي، وأخواه‏:‏ أبو العباس السفاح، ومحمد، ابنا محمد بن علي، وابناه‏:‏ محمد، وعبد الوهاب، ابنا إبراهيم الإمام الممسوك، وخلق سواهم‏.‏

فلما دخلوا الكوفة أنزلهم أبو سلمة الخلال دار الوليد بن سعد، مولى بني هاشم، وكتم أمرهم نحواً من أربعين ليلة من القواد والأمراء، ثم ارتحل بهم إلى موضع آخر، ثم لم يزل ينقلهم من مكان إلى مكان حتى فتحت البلاد، ثم بويع للسفاح‏.‏

أما إبراهيم بن محمد الإمام فإنه سير به إلى أمير المؤمنين في ذلك الزمان مروان بن محمد وهو بحرَّان فحبسه، وما زال في السجن إلى هذه السنة، فمات في صفر منها في السجن، عن ثمان وأربعين سنة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه غمّ بمرققة وضعت على وجهه حتى مات عن إحدى وخمسين سنة، وصلى عليه رجل يقال له‏:‏ بهلول بن صفوان‏.‏

وقيل‏:‏ إنه هدم عليه بيت حتى مات‏.‏

وقيل‏:‏ بل سقي لبناً مسموماً فمات‏.‏

وقيل‏:‏ إن إبراهيم الإمام شهد الموسم عام إحدى وثلاثين، واشتهر أمره هنالك لأنه وقف في أبهة عظيمة، ونجائب كثيرة، وحرمة وافرة، فأنهى أمره إلى مروان وقيل له‏:‏ إن أبا مسلم يدعو الناس إلى هذا ويسمونه الخليفة‏.‏

فبعث إليه في المحرم من سنة ثنتين وثلاثين وقتله في صفر من هذه السنة، وهذا أصح مما تقدم‏.‏

وقيل‏:‏ إنما أخذه من الكوفة لا من حميمة البلقاء، فالله أعلم‏.‏

وقد كان إبراهيم هذا كريماً وجواداً له فضائل وفواضل‏.‏

وروى الحديث عن‏:‏ أبيه، عن جده، وأبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة‏.‏

وعنه‏:‏ أخواه عبد الله السفاح، وأبو جعفر عبد الله المنصور، وأبو سلمة عبد الرحمن بن مسلم الخراساني، ومالك بن هاشم‏.‏

ومن كلامه الحسن‏:‏ الكامل المروءة من أحرز دينه، ووصل رحمه، واجتنب ما يلام عليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/44‏)‏

 خلافة أبي العباس السفاح

لما بلغ أهل الكوفة مقتل إبراهيم بن محمد، أراد أبو سلمة الخلال أن يحول الخلافة إلى آل علي بن أبي طالب، فغلبه بقية النقباء والأمراء، وأحضروا أبا العباس السفاح وسلموا عليه بالخلافة، وذلك بالكوفة، وكان عمره إذ ذاك ستاً وعشرين سنة‏.‏

وكان أول من سلم عليه بالخلافة‏:‏ أبو سلمة الخلال، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر من هذه السنة، فلما كان وقت صلاة الجمعة خرج السفاح على برذون أبلق، والجنود ملبسة معه، حتى دخل دار الإمارة، ثم خرج إلى المسجد الجامع وصلى بالناس، ثم صعد المنبر وبايعه الناس وهو على المنبر في أعلاه، وعمه داود بن علي واقف دونه بثلاث درج‏.‏

وتكلم السفاح، وكان أول ما نطق به أن قال‏:‏ الحمد لله الذي اصطفى الإسلام لنفسه ديناً، وكرمه وشرفه وعظمه، واختاره لنا، وأيده بنا، وجعلنا أهله وكهفه والقوام به والذابين عنه والناصرين له، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها، خصنا برحم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابته، ووضعنا بالإسلام وأهله في الموضع الرفيع، وأنزل بذلك على أهل الإسلام كتاباً يتلى عليهم فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 23‏]‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 214‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ الآية‏.‏

فأعلمهم عز وجل فضلنا وأوجب عليهم حقنا ومودتنا، وأجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا، وتفضلة علينا، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

وزعمت السبابية الضلال أن غيرنا أحق بالرياسة والسياسة والخلافة منا، فشاهت وجوههم‏.‏

أيها الناس ‏!‏ بنا هدى الله الناس بعد ضلالتهم، ونصرهم بعد جهالتهم، وأنقذهم بعد هلكتهم، وأظهر بنا الحق وأدحض بنا الباطل، وأصلح بنا منهم ما كان فاسداً، ورفع بنا الخسيسة، وأتم النقيصة وجمع الفرقة، حتى عاد الناس بعد العداوة أهل تعاطف وبر ومواساة في دنياهم، وإخواناً على سرر متقابلين في أخراهم، فتح الله علينا ذلك منَّة ومنحة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما قبضه إليه قام بذلك الأمر بعده أصحابه، وأمرهم شورى بينهم، فحووا مواريث الأمم فعدلوا فيها، ووضعوها مواضعها، وأعطوها أهلها، وخرجوا خماصاً منها‏.‏

ثم وثب بنو حرب ومروان فابتزوها لأنفسهم، وتداولوها‏.‏

فجاروا فيها واستأثروا بها، وظلموا أهلها، فأملى الله لهم حيناً ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 55‏]‏، فانتزع منهم ما بأيديهم بأيدينا، ورد الله علينا حقنا، وتدارك بنا أمتنا، وتولى أمرنا والقيام بنصرنا ليمنَّ بنا على الذين استضعفوا في الأرض، وختم بنا كما افتتح بنا، وإني لأرجو أن لا يأتيكم الجور من حيث جاءكم الخير، ولا الفساد من حيث جاءكم الصلاح، وما توفيقنا أهل البيت إلا بالله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/45‏)‏

يا أهل الكوفة ‏!‏ أنتم محل محبتنا ومنزل مودتنا، وأنتم أسعد الناس بنا وأكرمهم علينا، وقد زدتكم في أعطياتكم مائة درهم، فاستعدوا فأنا السفاح الهائج والثائر المبير‏.‏

وكان به وعك فاشتد عليه حتى جلس على المنبر، ونهض عمه داود فقال‏:‏ الحمد لله شكراً الذي أهلك عدونا، وأصار إلينا ميراثنا من بيتنا‏.‏

أيها الناس ‏!‏ الآن انقشعت حنادس الظلمات وانكشف غطاؤها، وأشرقت أرضها وسماؤها، فطلعت شمس الخلافة من مطلعها، ورجع الحق إلى نصابه، إلى أهل نبيكم أهل الرأفة والرحمة والعطف عليكم‏.‏

أيها الناس ‏!‏ إنا والله ما خرجنا لهذا الأمر لنكنز لجيناً ولا عقياناً، ولا لنحفر نهراً ولا لنبني قصراً، ولا لنجمع ذهباً ولا فضة، وإنما أخرجتنا الأنفة من انتزاع حقنا والغضب لبني عمنا، ولسوء سيرة بني أمية فيكم، واستذلالهم لكم، واستئثاركم بفيئكم وصدقاتكم، فلكم علينا ذمة الله وذمة رسوله وذمة العباس، أن نحكم فيكم بما أنزل الله، ونعمل بكتاب الله، ونسير في العامة والخاصة بسيرة رسول الله‏.‏

تباً تباً لبني أمية وبني مروان، آثروا العاجلة على الآجلة، والدار الفانية على الدار الباقية، فركبوا الآثام وظلموا الأنام، وارتكبوا المحارم، وغشوا الجرائم، وجاروا في سيرتهم في العباد، وسنتهم في البلاد التي بها استلذوا تسربل الأوزار، وتجلبب الآصار، ومرحوا في أعنة المعاصي، وركضوا في ميادين الغي، جهلاً منهم باستدراج الله، وعمياً عن أخذ الله، وأمناً لمكر الله، فأتاهم بأس الله بياتاً وهم نائمون، فأصبحوا أحاديث ومزقوا كل ممزق، فبعداً للقوم الظالمين‏.‏

وأدان الله من مروان، وقد غره بالله الغرور، أرسل عدو الله في عنانه حتى عثر جواده في فضل خطامه، أظنَّ عدو الله أن لن يقدر عليه أحد‏؟‏ فنادى حزبه وجمع جنده، ورمى بكتائبه، فوجد أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته من مكر الله وبأسه ونقمته ما أمات باطله، ومحق ضلاله، وأحل دائرة السوء به، وأحاط به خطيئته، ورد إلينا حقنا وآوانا‏.‏

أيها الناس ‏!‏ إن أمير المؤمنين نصره الله نصراً عزيزاً، إنما عاد إلى المنبر بعد صلاة الجمعة لأنه كره أن يخلط بكلام الجمعة غيره، وإنما قطعه عن استتمام الكلام شدة الوعك، فادعوا الله لأمير المؤمنين بالعافية، فقد أبدلكم الله بمروان عدو الرحمن، وخليفة الشيطان، المتبع للسفلة الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، المتوكل على الله، المقتدي بالأبرار الأخيار الذين أصلحوا الأرض بعد فسادها بمعالم الهدى، ومناهج التقى‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/46‏)‏

قال‏:‏ فعج الناس له بالدعاء، ثم قال‏:‏ واعلموا يا أهل الكوفة ‏!‏ أنه لم يصعد منبركم هذا خليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأمير المؤمنين هذا - وأشار بيده إلى السفاح - واعلموا أن هذا الأمر فينا ليس بخارج عنا، حتى نسلمه إلى عيسى بن مريم عليه السلام، والحمد لله رب العالمين على ما أبلانا وأولانا‏.‏

ثم نزل أبو العباس وداود حتى دخلا القصر، ثم دخل الناس يبايعون إلى العصر، ثم من بعد العصر إلى الليل‏.‏

ثم إن أبا العباس خرج فعسكر بظاهر الكوفة واستخلف عليها عمه داود، وبعث عمه عبد الله بن علي إلى أبي عون بن أبي يزيد، وبعث ابن أخيه عيسى بن موسى إلى الحسن بن قحطبة، وهو يومئذ بواسط يحاصر ابن هبيرة، وبعث يحيى بن جعفر بن تمام بن العباس إلى حميد بن قحطبة بالمدائن، وبعث أبا اليقظان عثمان بن عروة بن محمد بن عمار بن ياسر إلى بسام بن إبراهيم بن بسام بالأهواز، وبعث سلمة بن عمرو بن عثمان إلى مالك بن الطواف‏.‏

وأقام هو بالعسكر أشهراً، ثم ارتحل فنزل المدينة الهاشمية في قصر الإمارة، وقد تنكر لأبي سلمة الخلال، وذلك لما كان بلغه عنه من العدول بالخلافة عن ابن العباس إلى آل علي بن أبي طالب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏