فصل: سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وسبعين وخمسمائة

استهلت وصلاح الدين مقيم بالقاهرة مواظب على سماع الحديث، وجاءه كتاب من نائبه بالشام عز الدين فروخ شاه يخبره فيه بما منّ الله به على الناس من ولادة النساء بالتوأم جبراً لما كان أصابهم من الوباء بالعام الماضي والفناء، وبأن الشام مخصبة بإذن الله لما كان أصابهم من الغلاء‏.‏

وفي شوال توجه الملك صلاح الدين إلى الإسكندرية لينظر من أمر به من تحصين سورها وعمارة أبراجها وقصورها، وسمع بها ‏(‏موطأ مالك‏)‏ على الشيخ أبي طاهر بن عوف، عن الطرطوشي، وسمع معه العماد الكاتب، وأرسل القاضي الفاضل رسالة إلى السلطان يهنئه بهذا السماع‏.‏

وفاة الملك الصالح بن نور الدين الشهيد صاحب حلب وماجرى بعده من الأمور

كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من هذه السنة بقلعة حلب، ودفن بها، وكان سبب وفاته فيما قيل‏:‏ أن الأمير علم الدين سليمان بن حيدر سقاه سماً في عنقود عنب في الصيد، وقيل‏:‏ بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب فاعتراه قولنج فما زال كذلك حتى مات وهو شاب حسن الصورة، بهي المنظر، ولم يبلغ عشرين سنة‏.‏

وكان من أعف الملوك ومن أشبه أباه فما ظلم، وصف له الأطباء في مرضه شرب الخمر فاستفتى الفقهاء في شربها تداوياً فأفتوه بذلك، فقال‏:‏ أيزيد شربها في أجلي أو ينقص منه تركها شيئاً ‏؟‏

قالوا‏:‏ لا‏.‏

قال‏:‏ فوالله لا أشربها وألقى الله وقد شربت ما حرمه عليّ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/379‏)‏

ولما يئس من نفسه استدعا الأمراء فحلفهم لابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، لقوة سلطانه وتمكنه، ليمنعها من صلاح الدين، وخشي أن يبايع لابن عمه الآخر عماد الدين زنكي، صاحب سنجار، وهو زوج أخته وتربية والده، فلا يمكنه حفظها من صلاح الدين فلما مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدين، صاحب الموصل، فجاء إليهم فدخل حلب في أبهة عظيمة، وكان يوماً مشهوداً، وذلك في العشرين من شعبان، فتسلم خزائنها وحواصلها، وما فيها من السلاح‏.‏

وكان تقي الدين عمه في مدينة منبج فهرب إلى حماه فوجد أهلها قد نادوا بشعار صاحب الموصل وأطمع الحلبيون مسعوداً بأخذ دمشق لغيبة صلاح الدين عنها، وأعلموه محبة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي نور الدين، فقال لهم‏:‏ بيننا وبين صلاح الدين أيمان وعهود، وأنا لا أغدر به‏.‏

فأقام بحلب شهوراً وتزوج بأم الملك الصالح في شوال، ثم سار إلى الرقة فنزلها وجاءه رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه من حلب إلى سنجار، وألح عليه في ذلك، وتمنع أخوه ثم فعل على كرهٍ منه، فسلم إليه حلب وتسلم عز الدين سنجار والخابور والرقة ونصيبين وسروج وغير ذلك من البلاد‏.‏

ولما سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور ركب من الديار المصرية في عساكره فسار حتى أتى الفرات فعبرها، وخامر إليه بعض أمراء صاحب الموصل، وتقهقر صاحب الموصل عن لقائه، واستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكمالها، وهم بمحاصرة الموصل فلم يتفق له ذلك، ثم جاء إلى حلب فتسلمها من عماد الدين زنكي لضعفه عن ممانعتها، ولقلة ما ترك فيها عز الدين من الأسلحة وذلك في السنة الآتية‏.‏

وفيها‏:‏ عزم البرنس صاحب الكرك على قصد تيماء من أرض الحجاز، ليتوصل منها إلى المدينة النبوية، فجهز له صلاح الدين سرية من دمشق تكون حاجزة بينه وبين الحجاز، فصده ذلك عن قصده‏.‏

وفيها‏:‏ ولي السلطان صلاح الدين أخاه سيف الإسلام ظهير الدين طغتكين بن أيوب نيابة اليمن، وأرسله إليها، وذلك لاختلاف نوابها واضطراب أصحابها، بعد وفاة المعظم أخي السلطان، فسار إليها طغتكين فوصلها في سنة ثمان وسبعين، فسار فيها أحسن سيرة، واحتاط على أموال حطان بن منقذ صاحب زبيد، وكانت تقارب ألف ألف دينار أو أكثر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/380‏)‏

وأما نائب عدن فخر الدين عثمان الزنجبيلي فإنه خرج من اليمن قبل قدوم طغتكين فسكن الشام، وله أوقاف مشهورة باليمن ومكة، وإليه تنسب المدرسة الزنجبيلة، خارج باب توما، تجاه دار المطعم، وكان قد حصل من اليمن أموالاً عظيمة جداً‏.‏

وفيها‏:‏ غدرت الفرنج ونقضت عهودها، وقطعوا السبل على المسلمين براً وبحراً وسراً وجهراً، فأمكن الله من لطيشة عظيمة فيها نحو من ألفين وخمسمائة من مقاتلتهم المعدودين، ألقاها الموج إلى ثغر دمياط قبل خروج السلطان من مصر، فأحيط بها فغرق بعضهم وحصل في الأسر نحو ألف وسبعمائة‏.‏

وفيها‏:‏ سار قراقوش إلى بلاد إفريقية ففتح بلاداً كثيرة، وقاتل عسكر ابن عبد المؤمن صاحب المغرب، واستفحل أمره هناك، وقراقوش مملوك تقي الدين عمر بن أخي السلطان صلاح الدين، ثم عاد إلى مصر فأمره صلاح الدين أن يتم السور المحيط بالقاهرة ومصر، وذلك قبل خروجه منها في هذه السنة، وكان ذلك آخر عهده بها حتى توفاه الله بعد أن أناله الله بلوغ مناه، ففتح عليه بيت المقدس وما حوله، ولما خيم بارزاً، من مصر وأولاده حوله جعل يشمهم ويقبلهم ويضمهم فأنشد بعضهم في ذلك‏:‏

تمتع من شميم عرار نجد * فما بعد العشية من عرار

وكان الأمر كما قال، لم يعد إلى مصر بعد هذا العام، بل كان مقامه بالشام‏.‏

وفيها‏:‏ ولد للسلطان ولدان أحدهما المعظم توران شاه، والملك المحسن أحمد، وكان بين ولادتهما سبعة أيام، فزينت البلاد واستمر الفرح أربعة عشر يوماً‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ كمال الدين أبو البركات

عبد الرحمن بن محمد بن أبي السعادات، عبيد الله بن محمد بن عبيد الله الأنباري النحوي الفقيه العابد الزاهد، كان خشن العيش، ولا يقبل من أحد شيئاً، ولا من الخليفة، وكان يحضر نوبة الصوفية بدار الخلافة، ولا يقبل من جوائز الخليفة ولا فلسا، وكان مثابراً على الاشتغال، وله تصانيف مفيدة، توفي في شعبان من هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ له كتاب ‏(‏أسرار العربية‏)‏ مفيد جداً، و‏(‏طبقات النحاة‏)‏ مفيد جداً، وكتاب ‏(‏الميزان في النحو‏)‏ أيضاً، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وسبعين وخمسمائة

في خامس محرمها كان بروز السلطان من مصر قاصداً دمشق لأجل الغزو والإحسان إلى الرعايا، وكان ذلك آخر عهده بمصر، وأغار بطريقه على بعض نواحي بلاد الإفرنج، وقد جعل أخاه تاج الملوك بوري بن أيوب على الميمنة، فالتقوا على الأرزق بعد سبعة أيام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/381‏)‏

وقد أغار عز الدين فروخ شاه على بلاد طبرية، وافتتح حصوناً جيدة، وأسر منهم خلقاً واغتنم عشرين ألف رأس من الأنعام، ودخل الناصر دمشق سابع صفر، ثم خرج منها في العشر الأول من ربيع الأول، فاقتتل مع الفرنج في نواحي طبرية وبيسان تحت حصن كوكب، فقتل خلق من الفريقين، وكانت النصرة للمسلمين على الفرنج‏.‏

ثم رجع إلى دمشق مؤيداً منصوراً، ثم ركب قاصداً حلب وبلاد الشرق ليأخذها، وذلك أن المواصلة والحلبيين كاتبوا الفرنج على حرب المسلمين، فغارت الفرنج على بعض أطراف البلاد ليشغلوا الناصر عنهم بنفسه، فجاء إلى حلب فحاصرها ثلاثاً، ثم رأى العدول عنها إلى غيرها أولى، فسار حتى بلغ الفرات، واستحوذ على بلاد الجزيرة والرها والرقة ونصيبين، وخضعت له الملوك، ثم عاد إلى حلب فتسلمها من صاحبها عماد الدين زنكي، فاستوثقت له الممالك شرقاً وغرباً، وتمكن حينئذ من قتال الفرنج‏.‏

 فصل

ولما عجز إبرنس الكرك عن إيصال الأذى إلى المسلمين في البر، عمل مراكب في بحر القلزم ليقطعوا الطريق على الحجاج والتجار، فوصلت أذيتهم إلى عيذاب، وخاف أهل المدينة النبوية من شرهم، فأمر الملك العادل الأمير حسام الدين لؤلؤ صاحب الأسطول أن يعمل مراكبه في بحر القلزم ليحارب أصحاب الإبرنس، ففعل ذلك فظفر بهم في كل موطن، فقتلوا منهم وحرقوا وغرقوا وسبوا في مواطن كثيرة، ومواقف هائلة، وأمن البر والبحر بإذن الله تعالى، وأرسل الناصر إلى أخيه العادل ليشكر ذلك عن مساعيه، وأرسل إلى ديوان الخليفة يعرفهم بذلك‏.‏

 فصل في وفاة المنصور عز الدين

فروخ شاه بن شاهنشاه بن أيوب صاحب بعلبك ونائب دمشق لعمه الناصر، وهو والد الأمجد بهرام شاه صاحب بعلبك بعد أبيه، وإليه تنسب المدرسة الفروخ شاهية بالشرق الشمالي بدمشق، وإلى جانبها التربة الأمجدية لولده، وهما وقف على الحنفية والشافعية‏.‏

وقد كان فروخ شاه شجاعاً شهماً عاقلاً ذكياً كريماً ممدحاً، امتدحه الشعراء لفضله وجوده، وكان من أكبر أصحاب الشيخ تاج الدين أبي اليمن الكندي، عرفه من مجلس القاضي الفاضل، فانتمى إليه، وكان يحسن إليه، وله وللعماد الكاتب فيه مدائح، وكان ابنه الأمجد شاعراً جيداً، ولاه عم أبيه صلاح الدين بعلبك بعد أبيه، واستمر فيها مدة طويلة‏.‏

ومن محاسن فروخ شاه صحبته لتاج الدين الكندي وله شعر رائق‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/382‏)‏

أنا في أسر السقام * و هو في هذا المقام

رشأ يرشق عينا * فؤادي بسهام

كلما أرشفني فا * ه على حرّ الأوام

ذقت منه الشـ * ـهد المصفى في المدام

وقد دخل يوماً الحمام فرأى رجلاً كان يعرفه من أصحاب الأموال، و قد نزل به الحال حتى إنه كان يستتر ببعض ثيابه لئلا تبدو عورته، فرق له وأمر غلامه أن ينقل بقجة وبساطاً إلى موضع الرجل، وأمره فأحضر ألف دينار وبغلة وتوقيعاً له في كل شهر بعشرين ألف دينار، فدخل الرجل الحمام فقيراً وخرج منه غنياً، فرحمة الله على الأجواد الجياد‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ أبو العباس

أحمد بن أبي الحسن علي بن أبي العباس أحمد المعروف بابن الرفاعي، شيخ الطائفة الأحمدية الرفاعية البطائحية، لسكناه أم عبيدة من قرى البطائح، وهي بين البصرة وواسط، كان أصله من العرب فسكن هذه البلاد، والتف عليه خلق كثير‏.‏

يقال‏:‏ إنه حفظ ‏(‏التنبيه في الفقه‏)‏ على مذهب الشافعي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ ولأتباعه أحوال عجيبة من أكل الحيات، وهي حية، والدخول في النار في التنانير وهي تضطرم، ويلعبون بها وهي تشتعل، ويقال‏:‏ إنهم في بلادهم يركبون الأسود‏.‏

وذكر ابن خلكان‏:‏ أنه قال‏:‏ وليس للشيخ أحمد عقب، وإنما النسل لأخيه وذريته يتوارثون المشيخة بتلك البلاد‏.‏

وقال ومن شعره على ما قيل‏:‏

إذا جن ليلي هام قلبي بذكركم * أنوح كما ناح الحمام المطوق

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى * وتحتي بحار بالأسى تتدفق

سلوا أم عمرو كيف بات أسيرها * تفك الأسارى دونه وهو موثق

فلا هو مقتول ففي القتل راحة * ولا هو ممنون عليه فيطلق

ومن شعره قوله‏:‏

أغار عليها من أبيها وأمها * ومن كل من يدنو إليها وينظر

وأحسد للمرآة أيضاً بكفها * إذا نظرت مثل الذي أنا أنظر

قال‏:‏ ولم يزل على تلك الحال إلى أن توفي يوم الخميس الثاني والعشرين من جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/383‏)‏

 خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال

أبو القاسم القرطبي الحافظ المحدث المؤرخ، صاحب التصانيف، له كتاب ‏(‏الصلة‏)‏ جعله ذيلاً على تاريخ أبي الوليد بن الفرضي، وله كتاب ‏(‏المستغيثين بالله‏)‏، وله مجلدة في تعيين الأسماء المبهمة على طريق الخطيب، وله أسماء من روى ‏(‏الموطأ‏)‏ على حروف المعجم، بلغوا ثلاثة وسبعين رجلاً، مات في رمضان عن أربع وثمانين سنة‏.‏

 العلامة قطب الدين أبو المعالي

مسعود بن محمد بن مسعود النيسابوري، تفقه على محمد بن يحيى صاحب الغزالي، قدم دمشق ودرس بالغزالية والمجاهدية، وبحلب بمدرسة نور الدين وأسد الدين، ثم بهمذان، ثم رجع إلى دمشق ودرّس بالغزالية، وانتهت إليه رياسة المذهب، ومات بها في سلخ رمضان يوم العيد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، عن ثلاث وتسعين سنة، وعنه أخذ الفخر ابن عساكر وغيره، وهو الذي صلى على الحافظ ابن عساكر، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وسبعين وخمسمائة

في رابع عشر محرمها تسلم السلطان الناصر مدينة آمد صلحاً بعد حصار طويل، من يد صاحبها ابن بيسان، بعد حمل ما أمكنه من حواصله وأمواله مدة ثلاثة أيام، ولما تسلم البلد وجد فيه شيئاً كثيراً من الحواصل وآلات الحرب، حتى إنه وجد برجاً مملوءاً بنصول النشاب، وبرجاً آخر فيه مائة ألف شمعة، وأشياء يطول شرحها، ووجد فيها خزانة كتب ألف ألف مجلد، وأربعين ألف مجلد، فوهبها كلها للقاضي الفاضل، فانتخب منها حمل سبعين حمارة‏.‏

ثم وهب السلطان البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرا أرسلان - وكان قد وعده بها - فقيل له‏:‏ إن الحواصل لم تدخل في الهبة‏.‏

فقال‏:‏ لا أبخل بها عليه‏.‏

وكان في خزانتها ثلاثة آلاف ألف دينار، فامتدحه الشعراء على هذا الصنيع‏.‏

ومن أحسن ذلك قول بعضهم‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/384‏)‏

قل للملوك تنحوا عن ممالككم * فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها

ثم سار السلطان في بقية المحرم إلى حلب فحاصرها وقاتله أهلها قتالاً شديداً، فجرح أخو السلطان تاج الملوك بوري بن أيوب جرحاً بليغاً، فمات منه بعد أيام، وكان أصغر أولاد أيوب، لم يبلغ عشرين سنة، وقيل‏:‏ إنه جاوزها بثنتين، وكان ذكياً فهماً، له ديوان شعر لطيف، فحزن عليه أخوه صلاح الدين حزناً شديداً، ودفنه بحلب، ثم نقله إلى دمشق‏.‏

ثم اتفق الحال بين الناصر وبين صاحب حلب عماد الدين زنكي بن آقنسقر على عوض أطلقه له الناصر، بأن يرد عليه سنجار ويسلمه حلب، فخرج عماد الدين من القلعة إلى خدمة الناصر وعزّاه في أخيه ونزل عنده في المخيم، ونقل أثقاله إلى سنجار، وزاده السلطان الخابور والرقة ونصيبين وسروج، واشترط عليه إرسال العسكر في الخدمة لأجل الغزاة في الفرنج، ثم سار وودعه السلطان ومكث السلطان في المخيم يرى حلب أياماً غير مكترث بحلب ولا وقعت منه موقعاً‏.‏

ثم صعد إلى قلعتها يوم الاثنين السابع والعشرين من صفر، وعمل له الأمير طهمان وليمة عظيمة، فتلا هذه الآية وهو داخل في بابها‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

ولما دخل دار الملك تلا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 27‏]‏‏.‏

ولما دخل مقام إبراهيم صلى فيه ركعتين وأطال السجود به والدعاء والتضرع إلى الله، ثم شرع في عمل وليمة، وضربت البشائر وخلع على الأمراء، وأحسن إلى الرؤساء والفقراء، ووضعت الحرب أوزارها، وقد امتحده الشعراء بمدائح حسان‏.‏

ثم إن القلعة وقعت منه بموقع عظيم، ثم قال‏:‏ ما سررت بفتح قلعة أعظم سروراً من فتح مدينة حلب، وأسقطت عنها وعن سائر بلاد الجزيرة المكوس والضرائب، وكذلك عن بلاد الشام ومصر‏.‏

وقد عاث الفرنج في غيبته في الأرض فساداً، فأرسل إلى العساكر فاجتمعوا إليه، وكان قد بشر بفتح بيت المقدس حين فتح حلب، وذلك أن الفقيه مجد الدين بن جهبل الشافعي رأى في تفسير أبي الحكم العربي عند قوله‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏:‏ 1-3‏]‏، البشارة بفتح بيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، واستدل على ذلك بأشياء، فكتب ذلك في ورقة وأعطاها للفقيه عيسى الهكاري، ليبشر بها السلطان، فلم يتجاسر على ذلك خوفاً من عدم المطابقة، فأعلم بذلك القاضي محي الدين بن الزكي، فنظم معناها في قصيدة يقول فيها‏:‏

وفتحكم حلب الشهباء في صفر * قضى لكم بافتتاح القدس في رجب

وقدمها إلى السلطان فتاقت نفسه إلى ذلك، فلما افتتحها كما سيأتي، أمر ابن الزكي فخطب يومئذ وكان يوم الجمعة، ثم، بلغه بعد ذلك أن ابن جهبل هو الذي قال ذلك أولاً، فأمره فدرس على نفس الصخرة درساً عظيماً، فأجزل له العطاء، وأحسن عليه الثناء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/385‏)‏

 فصل

ثم رحل من حلب في أواخر ربيع الآخر واستخلف على حلب ولده الظاهر غازي، وولي قضاءها لابن الزكي، فاستناب له فيها نائباً، وسار مع السلطان فدخلوا دمشق في ثالث جمادى الأولى، وكان ذلك يوماً مشهوداً، ثم برز منها خارجاً إلى قتال الفرنج في أول جمادى الآخرة قاصداً نحو بيت المقدس، فانتهى إلى بيسان فنهبها، ونزل على عين جالوت، وأرسل بين يديه سرية هائلة فيها بردويل وطائفة من النورية‏.‏

وجاء مملوك عمه أسد الدين فوجدوا جيش الفرنج قاصدين إلى أصحابهم نجدة، فالتقوا معهم فقتلوا من الفرنج خلقاً وأسروا مائة أسير، ولم يفقد من المسلمين سوى شخص واحد، ثم عاد في آخر ذلك اليوم، وبلغ السلطان أن الفرنج قد اجتمعوا لقتاله، فقصدهم وتصدى لهم لعلهم يصافونه، فالتقى معهم فقتل منهم خلقاً كثيراً، وجرح مثلهم فرجعوا ناكصين على أعقابهم خائفين منه غاية المخافة، ولا زال جيشه خلفهم يقتل ويأسر حتى غزوا في بلادهم فرجعوا عنهم‏.‏

وكتب القاضي الفاضل إلى الخليفة يعلمه بما منّ الله عليه وعلى المسلمين من نصرة الدين، وكان لا يفعل شيئاً ولا يريد أن يفعله إلا أطلع عليه الخليفة أدباً واحتراماً وطاعة واحتشاماً‏.‏

 فصل ‏(‏محاصرة السلطان للكرك‏)‏‏.‏

وفي رجب سار السلطان إلى الكرك فحاصرها، وفي صحبته تقي الدين عمر ابن أخيه، وقد كتب لأخيه العادل ليحضر عنده ليوليه حلب وأعمالها وفق ما كان طلب، واستمر الحصار على الكرك مدة شهر رجب، ولم يظفر منها بطلب، وبلغه أن الفرنج قد اجتمعوا كلهم ليمنعوا منه الكرك، فكر راجعاً إلى دمشق - وذلك من أكبر همته - وأرسل ابن أخيه تقي الدين إلى مصر نائباً، وفي صحبته القاضي الفاضل‏.‏

وبعث أخاه على مملكة حلب وأعمالها، واستقدم ولده الظاهر إليه، وكذلك نوابه ومن يعز عليه، وإنما أعطى أخاه حلب ليكون قريباً منه، فإنه كان لا يقطع أمراً دونه، واقترض السلطان من أخيه العادل مائة ألف دينار، وتألم الظاهر بن الناصر على مفارقة حلب، وكانت إقامته بها ستة أشهر، ولكن لا يقدر أن يظهر ما في نفسه لوالده، لكن ظهر ذلك عل صفحات وجهه ولفظات لسانه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/386‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ أرسل الناصر إلى العساكر الحلبية والجزيرية والمصرية والشامية أن يقدموا عليه لقتال الفرنج، فقدم عليه تقي الدين عمر من مصر ومعه الفاضل، ومن حلب العادل، وقدمت ملوك الجزيرة وسنجار وغيرها‏.‏

فأخذ الجميع وسار نحو الكرك فأحرقوا بها في رابع عشر جمادى الأولى، وركب عليها المنجنيقات، وكانت تسعة، وأخذ في حصارها، وذلك أنه رأى أن فتحها أنفع للمسلمين من غيرها، فإن أهلها يقطعون الطريق على الحجاج، فبينما هو كذلك إذ بلغه أن الفرنج قد اجتمعوا له كلهم فارسهم وراجلهم، ليمنعوا منه الكرك، فانشمر عنها وقصدهم فنزل على حسان تجاههم، ثم صار إلى ماعر، فانهزمت الفرنج قاصدين الكرك‏.‏

فأرسل وراءهم من قتل منهم مقتلة عظيمة، وأمر السلطان بالإغارة على السواحل لخلوها من المقاتلة، فنهبت نابلس وما حولها من القرى والرساتيق، ثم عاد السلطان إلى دمشق فأذن للعساكر في الانصراف إلى بلادهم، وأمر ابن أخيه عمر الملك المظفر أن يعود إلى مصر، وأقام هو بدمشق ليؤدي فرض الصيام، وليجل الخيل ويحد الحسام، وقدم على السلطان خلع الخليفة فلبسها، وألبس أخاه العادل، وابن عمه ناصر الدين محمد بن شيركوه، ثم خلع خلعته على ناصر الدين بن قرا أرسلان، صاحب حصن كيفا وآمد التي أطلقها له السلطان‏.‏

وفيها‏:‏ مات صاحب المغرب يوسف بن عبد المؤمن بن علي، وقام في الملك بعده ولده يعقوب‏.‏

وفي أواخرها بلغ صلاح الدين أن صاحب الموصل نازل أربل فبعث صاحبها يستصرخ به، فركب من فوره إليه، فسار إلى بعلبك ثم إلى حماة، فأقام بها أياماً ينتظر وصول العماد إليه، وذلك لأنه حصل له ضعف فأقام ببعلبك، وقد أرسل إليه الفاضل من دمشق طبيباً، يقال له‏:‏ أسعد بن المطران، فعالجه مداواة من طب لمن حب‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثمانين وخمسمائة

استهلت والسلطان مخيم بظاهر حماة، ثم سار إلى حلب، ثم خرج منها في صفر قاصداً الموصل فجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين، وهو أخو زين الدين صاحب إربل، ثم رضي عنه وأعاده إلى مملكته حتى يتبين خبث طويته، ثم سار إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية، وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان‏.‏

وسار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريباً من الموصل، وجاءه صاحب إربل نور الدين الذي خضعت له ملوك تلك الناحية، ثم أرسل صلاح الدين ضياء الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل، وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/387‏)‏

فحاصرها مدة ثم رحل عنها ولم يفتحها، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر، وجرت أمور استقصاها ابن الأثير في ‏(‏كامله‏)‏، وصاحب ‏(‏الروضتين‏)‏، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة، على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج، وعلى أن يخطب له وتضرب له السكة، ففعلوا ذلك في تلك البلاد كلها‏.‏

وانقطعت خطبة السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلها، ثم اتفق مرض السلطان بعد ذلك مرضاً شديداً، فكان يتجلد ولا يظهر شيئاً من الألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه، وشاع ذلك في البلاد، وخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون بموته، وقصده أخوه العادل من حلب بالأطباء والأدوية، فوجده في غاية الضعف، وأشار عليه بأن يوصي‏.‏

فقال‏:‏ ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً- يعني‏:‏ أخاه العادل وتقي الدين عمر صاحب حماه وهو إذ ذاك نائب مصر، وهو بها مقيم، وابنيه العزيز عثمان والأفضل علياً-‏.‏

ثم نذر لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الفرنج، ولا يقاتل بعد ذلك مسلماً، وليجعل أكبر همه فتح بيت المقدس، ولو صرف في سبيل الله جميع ما يملكه من الأموال والذخائر، وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده، لأنه نقض العهد وتنقص الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أخذ قافلة ذاهبة من مصر إلى الشام، فأخذ أموالهم وضرب رقابهم، وهو يقول‏:‏ أين محمدكم‏؟‏ دعوه ينصركم‏.‏

وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل، وهو أرشده إليه وحثه عليه، حتى عقده مع الله عز وجل، فعند ذلك شفاه الله وعافاه من ذلك المرض الذي كان فيه، كفارة لذنوبه، وجاءت البشارات بذلك من كل ناحية، فدقت البشائر وزينت البلاد‏.‏

وكتب الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر عمر‏:‏ أن العافية الناصرية قد استقامت واستفاضت أخبارها، وطلعت بعد الظلمة أنوارها، وظهرت بعد الاختفاء آثارها، وولت العلة ولله الحمد والمنة، وطفئت نارها، وانجلى غبارها، وخمد شرارها، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها وشنارها، وعظمية كفى الله الإسلام عارها، وتوبة امتحن الله بها نفوسنا، فرأى أقل ما عندها صبرنا، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب، ولا تتوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب‏:‏

نعيٌ زاد فيه الدهر ميماً * فأصبح بعد بؤساه نعيما

وما صدق النذير به لأني * رأيت الشمس تطلع والنجوما

وقد استقبل مولانا السلطان الملك الناصر غضة جديدة، والعزمة ماضية حديدة، والنشاط إلى الجهاد، والتوبة لرب العباد، والجنة مبسوطة البساط، وقد انقضى الحساب وجزنا الصراط، وعرضنا نحن على الأهوال التي من خوفها كاد الجمل يلج بسم الخياط‏.‏

ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب، ثم ركب فدخل دمشق، وقد تكاملت عافيته، وقد كان يوماً مشهوداً‏.‏‏(‏ج/ص‏:‏ 12/388‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان الفقيه مهذب الدين‏:‏

 عبد الله بن أسعد الموصلي

مدرس حمص، وكان بارعاً في فنون، ولا سيما في الشعر والأدب، وقد أثنى عليه العماد، والشيخ شهاب الدين أبو شامة‏.‏

 الأمير ناصر الدين محمد بن شيركوه

صاحب حمص والرحبة، وهو ابن عم صلاح الدين، وزوج أخته ست الشام بنت أيوب، توفي بحمص فنقلته زوجته إلى تربتها بالشامية البرانية، وقبره الأوسط بينها وبين أخيها المعظم توران شاه صاحب اليمن، وقد خلف من الأموال والذخائر شيئاً كثيراً، ينيف على ألف ألف دينار‏.‏

توفي يوم عرفة فجأة، فولي بعده مملكة حمص ولده أسد الدين شيركوه بأمر صلاح الدين‏.‏

المحمودي بن محمد بن علي بن إسماعيل

ابن عبد الرحيم الشيخ جمال الدين أبو الثناء محمودي بن الصابوني، كان أحد الأئمة المشهورين، وإنما يقال له‏:‏ المحمودي، لصحبة جده السلطان محمود بن زنكي، فأكرمه ثم سار إلى مصر فنزلها، وكان صلاح الدين يكرمه، وأوقف عليه وعلى ذريته أرضاً، فهي لهم إلى الآن‏.‏

 الأمير سعد الدين مسعود

ابن معين الدين، كان من كبار الأمراء أيام نور الدين وصلاح الدين، وهو أخو الست خاتون وحين تزوجها صلاح الدين زوجه بأخته الست ربيعة خاتون بنت أيوب، التي تنسب إليها المدرسة الصاحبية بسفح قيسون على الحنابلة، وقد تأخرت مدتها فتوفيت في سنة ثلاث وأربعين وستمائة، وكانت آخر من بقي من أولاد أيوب لصلبه، وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة من جرح أصابه وهو في حصار ميافارقين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/389‏)‏

 الست خاتون عصمت الدين

بنت معين الدين، نائب دمشق، وأتابك عساكرها قبل نور الدين كما تقدم، وقد كانت زوجة نور الدين ثم خلف عليها من بعده صلاح الدين في سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة‏.‏

وكانت من أحسن النساء وأعفهن وأكبرهن صدقة، وهي واقفة الخاتونية الجوانية بمحلة حجر الذهب، وخانقات خاتون ظاهر باب النصر في أول الشرف القبلي على بانياس، ودفنت بتربتها في سفح قاسيون قريباً من قباب السركسية، وإلى جنبها دار الحديث الأشرفية والأتابكية، ولها أوقاف كثيرة غير ذلك‏.‏

وأما الخاتونية البرانية التي على القنوات بمحلة صنعاء الشام، ويعرف ذلك المكان التي هي فيه بتل الثعالب، فهي من إنشاء الست زمرد خاتون بنت جاولي، وهي أخت الملك دقماق لأمه، وكانت زوجة زنكي والد نور الدين محمود، صاحب حلب، وقد ماتت قبل هذا الحين كما تقدمت وفاتها‏.‏

 الحافظ الكبير أبو موسى المديني

محمد بن عمر بن محمد الأصبهاني الحافظ الموسوي المديني، أحد حفاظ الدنيا الرحالين الجوالين، له مصنفات عديدة، وشرح أحاديث كثيرة، رحمه الله‏.‏

 السهيلي أبو القاسم

وأبو زيد عبد الرحمن بن الخطيب أبي محمد عبد الله بن الخطيب أبي عمر أحمد بن أبي الحسن أصبغ بن حسين بن سعدون بن رضوان بن فتوح - هو الداخل إلى الأندلس - الخثعمي السهيلي‏.‏

حكى القاضي ابن خلكان‏:‏ أنه أملى عليه نسبه كذلك، قال‏:‏ والسهيلي نسبة إلى قرية بالقرب من مالقة اسمها سُهيل، لأنه لا يرى سهيل النجم في شيء من تلك البلاد إلا منها من رأس جبل شاهق عندها، وهي من قرى المغرب‏.‏

ولد السهيلي سنة ثمان وخمسمائة، وقرأ القراءات واشتغل وحصل حتى برع وساد أهل زمانه بقوة القريحة وجودة الذهن وحسن التصنيف، وذلك من فضل الله تعالى ورحمته، وكان ضريراً مع ذلك‏.‏

له ‏(‏الروض الأنف‏)‏ يذكر فيه نكتاً حسنة على السيرة لم يسبق إلى شيء منها أو إلى أكثرها، وله كتاب ‏(‏الإعلام فيما أبهم في القران من الأسماء الأعلام‏)‏، وكتاب ‏(‏نتائج الفكر‏)‏، ومسألة في الفرائض بديعة، ومسألة في سركون الدجال أعور، وأشياء فريدة كثيرة بديعة مفيدة، وله أشعار حسنة‏.‏

وكان عفيفاً فقيراً، وقد حصل له مال كثير في آخر عمره من صاحب مراكش‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/390‏)‏

مات يوم الخميس السادس والعشرين من شعبان من هذه السنة، وله قصيدة كان يدعو الله بها ويرتجي الإجابة فيها وهي‏:‏

يا من يرى ما في الضمير ويسمع * أنت المعد لكل ما يتوقع

يا من يرجى للشدائد كلها * يا من إليه المشتكى والمفزع

يا من خزائن رزقه في قول كن * امنن فإن الخير عندك أجمع

مالي سوى فقري إليك وسيلةٌ * فبالافتقار إليك فقري أدفع

مالي سوى قرعي لبابك حيلةٌ * فلئن رددت فأي باب أقرع‏؟‏

ومن الذي أرجو وأهتف باسمه * إن كان فضلك عن فقيرك يمنع‏؟‏

حاشا لمجدك أن تقنط عاصياً * الفضل أجزل والمواهب أوسع

 ثم دخلت سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة

في الثاني ربيع الأول منها كان دخول الناصر دمشق بعد عافيته، وزار القاضي الفاضل، واستشاره، وكان لا يقطع أمراً دونه، وقرر في نيابة دمشق ولده الأفضل علي، ونزل أبو بكر العادل عن حلب لصهره زوج ابنته الملك الظاهر غازي بن الناصر‏.‏

وأرسل السلطان أخاه العادل صحبة ولده عماد الدين عثمان الملك العزيز على ملك مصر، ويكون الملك العادل أتابكه، وله إقطاع كبيرة جداً، وعزل عن نيابتها تقي الدين عمر، فعزم على الدخول إلى إفريقية، فلم يزل الناصر يتلطف به ويترفق له حتى أقبل بجنوده نحوه، فأكرمه واحترمه وأقطعه حماه وبلاداً كثيرة معها، وقد كانت له قبل ذلك، وزاد له على ذلك مدينة ميافارقين، وامتدحه العماد بقصيدة ذكرها في ‏(‏الروضتين‏)‏‏.‏

وفيها‏:‏ هادن قومس طرابلس السلطان وصالحه وصافاه، حتى كان يقاتل ملوك الفرنج أشد القتال وسبى منهم النساء والصبيان، وكاد أن يسلم ولكن صده السلطان فمات على الكفر والطغيان، وكانت مصالحته من أقوى أسباب النصر على الفرنج، وأشد ما دخل عليهم في دينهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/391‏)‏

قال العماد الكاتب‏:‏ وأجمع المنجمون على خراب العالم في شعبان، لأن الكواكب الستة تجتمع فيه في الميزان، فيكون طوفان الريح في سائر البلدان، وذكر أن ناساً من الجهلة تأهبوا لذلك بحفر مغارات في الجبال ومدّخلات وأسراب في الأرض خوفاً من ذلك‏.‏

قال‏:‏ فلما كانت تلك الليلة التي أشاروا إليها وأجمعوا عليها لم ير ليلة مثلها في سكونها وركودها وهدوئها‏.‏

وقد ذكر ذلك غير واحد من الناس في سائر أقطار الأرض، وقد نظم الشعراء في تكذيب المنجمين في هذه الواقعة وغريبها أشعاراً كثيرة حسنة منها‏:‏

مزق التقويم والزيج فقد بان الخطا * إنما التقويم والزيج هباء وهوا

قلت للسبعة إبرامٌ ومنعٌ وعطا * ومتى ينزلن في الميزان يستولي الهوا

ويثور الرمل حتى يمتلي منه الصفا * ويعم الأرض رجفٌ وخرابٌ وبلى

ويصير القاع كالقف وكالطود العدا * وحكمتم فأبى الحاكم إلا ما يشا

ما أتى الشرع ولا جاءت بهذا الأنبيا * فبقيتم ضحكةً يضحك منها العلما

حسبكم خزياً وعاراً ما يقول الشعرا * ما أطمعكم في الحكم إلا الأمرا

ليت إذ لم يحسنوا في الدين طغاما أسا * فعلى اصطرلاب بطليموس والزيج العفا

وعليه الخزي ما جادت على الأرض السما

 من الأعيان‏:‏

 أبو محمد عبد الله بن أبي الوحش

بري بن عبد الجبار بن بري المقدسي ثم المصري، أحد أئمة اللغة والنحو في زمانه، وكان عليه تعرض الرسائل بعد ابن بابشاد، وكان كثير الاطلاع عالماً بهذا الشأن، ومطرحاً للتكليف في كلامه، لا يلتفت ولا يعرج على الإعراب فيه إذا خاطب الناس، وله التصانيف المفيدة، توفي وقد جاوز الثمانين بثلاث سنين رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وقعة حطين التي كانت أمارة وتقدمة وإشارة لفتح بيت المقدس، واستنقاذه من أيدي الكفرة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/392‏)‏

قال ابن الأثير‏:‏ كان أول يوم منها يوم السبت، وكان يوم النيروز، وذلك أول سنة الفرس، واتفق أن ذلك كان أول سنة الروم، و هو اليوم الذي نزلت فيه الشمس برج الحمل، وكذلك كان القمر في برج الحمل أيضاً، وهذا شيء يبعد وقوع مثله‏.‏

وبرز السلطان من دمشق يوم السبت مستهل محرم في جيشه، فسار إلى رأس الماء فنزل ولده الأفضل هناك في طائفة من الجيش، وتقدم السلطان ببقية الجيش إلى بصرى، فخيم على قصر أبي سلام، ينتظر قدوم الحجاج، وفيهم أخته ست الشام وابنها حسام الدين محمد بن عمر بن لاشين، ليسلموا من معرة برنس الكرك‏.‏

فلما جاز الحجيج سالمين سار السلطان فنزل على الكرك وقطع ما حوله من الأشجار، ورعى الزرع وأكلوا الثمار، وجاءت العساكر المصرية وتوافت الجيوش المشرقية، فنزلوا عند ابن السلطان على رأس الماء، وبعث الأفضل سرية نحو بلاد الفرنج فقتلت وغنمت وسلمت ورجعت، فبشر بمقدمات الفتح والنصر‏.‏

وجاء السلطان بجحافله فالتفت عليه جميع العساكر، فرتب الجيوش وسار قاصداً بلاد الساحل، وكان جملة من معه من المقاتلة اثني عشر ألفاً غير المتطوعة، فتسامعت الفرنج بقدومه فاجتمعوا كلهم وتصالحوا فيما بينهم، وصالح قومس طرابلس وبرنس الكرك الفاجر، وجاؤوا بحدهم وحديدهم، واستصحبوا معهم صليب الصلبوت يحمله منهم عباد الطاغوت، وضلال الناسوت، في خلق لا يعلم عدتهم إلا الله عز وجل‏.‏

يقال‏:‏ كانوا خمسين ألفاً، وقيل‏:‏ ثلاثاً وستين ألفاً، وقد خوفهم صاحب طرابلس من المسلمين، فاعترض عليه البرنس صاحب الكرك، فقال له‏:‏ لا أشك أنك تحب المسلمين وتخوفنا كثرتهم، وسترى غب ما أقول لك‏.‏

فتقدموا نحو المسلمين وأقبل السلطان ففتح طبرية وتقوى بما فيها من الأطعمة والأمتعة وغير ذلك، وتحصنت منه القلعة فلم يعبأ بها، وحاز البحيرة في حوزته، ومنع الله الكفرة أن يصلوا منها إلى قطرة، حتى صاروا في عطش عظيم، فبرز السلطان إلى سطح الجبل الغربي من طبرية عند قرية يقال لها‏:‏ حطين، التي يقال‏:‏ إن فيها قبر شعيب عليه الصلاة والسلام، وجاء العدو المخذول، وكان فيهم صاحب عكا وكفرنكا وصاحب الناصرة وصاحب صور، وغير ذلك من جميع ملوكهم‏.‏

فتواجه الفريقان وتقابل الجيشان، وأسفر وجه الإيمان واغبر وأقتم وأظلم وجه الكفر والطغيان، ودارت دائرة السوء على عبدة الصلبان، وذلك عشية يوم الجمعة، فبات الناس على مصافهم، وأصبح صباح يوم السبت الذي كان يوماً عسيراً على أهل الأحد وذلك لخمس بقين من ربيع الآخر‏.‏

فطلعت الشمس على وجوه الفرنج واشتد الحر وقوي بهم العطش، وكان تحت أقدام خيولهم حشيش قد صار هشيماً، وكان ذلك عليهم مشؤوماً، فأمر السلطان النفاطة أن يرموه بالنفط، فرموه فتأجج ناراً تحت سنابك خيولهم، فاجتمع عليهم حر الشمس وحر العطش وحر النار وحر السلاح وحر رشق النبال، وتبارز الشجعان‏.‏

ثم أمر السلطان بالتكبير والحملة الصادقة فحملوا وكان النصر من الله عز وجل، فمنحهم الله أكتافهم فقتل منهم ثلاثون ألفاً في ذلك اليوم، وأسر ثلاثون ألفاً من شجعانهم وفرسانهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/393‏)‏

وكان في جملة من أسر جميع ملوكهم سوى قومس طرابلس، فإنه انهزم في أول المعركة، واستلبهم السلطان صليبهم الأعظم، وهو الذين يزعمون أنه صلب عليه المصلوب، وقد غلفوه بالذهب واللآلئ والجواهر النفسية، ولم يسمع بمثل هذا اليوم في عز الإسلام وأهله، ودمغ الباطل وأهله، حتى ذكر أن بعض الفلاحين رآه بعضهم يقود نيفاً وثلاثين أسيراً من الفرنج قد ربطهم بطنب خيمة، وباع بعضهم أسيراً بنعل ليلبسها في رجله، وجرت أمور لم يسمع بمثلها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فلله الحمد دائماً كثيراً طيباً مباركاً‏.‏

فلما تمت هذه الوقعة، ووضعت الحرب أوزارها أمر السلطان بضرب مخيم عظيم، وجلس فيه على سرير المملكة وعن يمينه أسرة وعن يساره مثلها، وجيء بالأسارى تتهادى بقيودهم، فأمر بضرب أعناق جماعة من مقدمي الداوية - والأسارى بين يديه - صبراً، ولم يترك أحداً منهم ممن كان يذكر الناس عنه شراً‏.‏

ثم جيء بملوكهم فأجلسوا عن يمينه ويساره على مراتبهم، فأجلس ملكهم الكبير عن يمينه، وأجلس أرياط برنس الكرك وبقيتهم عن شماله، ثم جيء إلى السلطان بشراب من الجلاب مثلوجاً، فشرب ثم ناول الملك فشرب، ثم ناول أرياط صاحب الكرك فغضب السلطان، وقال له‏:‏ إنما ناولتك ولم آذن لك أن تسقيه، هذا لا عهد له عندي‏.‏

ثم تحول السلطان إلى خيمة داخل تلك الخيمة واستدعى بأرياط صاحب الكلرك، فلما أوقف بين يديه قام إليه بالسيف ودعاه إلى الإسلام فامتنع‏.‏

فقال له‏:‏ نعم أنا أنوب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتصار لأمته، ثم قتله وأرسل برأسه إلى الملوك وهم في الخيمة‏.‏

وقال‏:‏ إن هذا تعرض لسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ثم قتل السلطان جميع من كان من الأسارى من الداوية والاسبتارية صبراً وأراح المسلمين من هذين الجنسين الخبيثين، ولم يسلم ممن عرض عليه الإسلام إلا القليل، فيقال‏:‏ إنه بلغت القتلى ثلاثين ألفاً، والأسارى كذلك كانوا ثلاثين ألفاً، وكان جملة جيشهم ثلاثة وستين ألفاً، وكان من سلم مع قلتهم وهرب أكثرهم جرحى فماتوا ببلادهم‏.‏

وممن مات كذلك قومس طرابلس، فإنه انهزم جريحاً فمات بها بعد مرجعه، ثم أرسل السلطان برؤوس أعيان الفرنج ومن لم يقتل من رؤوسهم، وبصليب الصلبوت صحبة القاضي ابن أبي عصرون إلى دمشق ليودعوا في قلعتها، فدخل بالصليب منكوساً وكان يوماً مشهوداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/394‏)‏

ثم سار السلطان إلى قلعة طبرية فأخذها، وقد كانت طبرية تقاسم بلاد حوران والبلقاء وما حولها من الجولان وتلك الأراضي كلها بالنصف، فأراح الله المسلمين من تلك المقاسمة‏.‏

ثم سار السلطان إلى حطين فزار قبر شعيب، ثم ارتفع منه إلى إقليم الأردن، فتسلم تلك البلاد كلها، وهي قرى كثيرة كبار وصغار، ثم سار إلى عكا فنزل عليه يوم الأربعاء سلخ ربيع الآخر، فافتتحها صلحاً يوم الجمعة، وأخذ ما كان بها من حواصل الملوك وأموالهم وذخائرهم ومتاجر وغيرها‏.‏

واستنقذ من كان بها من أسرى المسلمين، فوجد فيها أربعة آلاف أسير، ففرج الله عنهم، وأمر بإقامة الجمعة بها، وكانت أول جمعة أقيمت بالساحل بعد أخذه الفرنج، نحواً من سبعين سنة‏.‏

ثم سار منها إلى صيدا وبيروت وتلك النواحي من السواحل يأخذها بلداً بلداً، لخلوها من المقاتلة والملوك، ثم رجع سائراً نحو غزة وعسقلان ونابلس وبيسان وأراضي الغور، فملك ذلك كله، واستناب على نابلس ابن أخيه حسام الدين عمر بن محمد بن لاشين، وهو الذي افتتحها‏.‏

وكان جملة ما افتتحه السلطان في هذه المدة القريبة خمسين بلداً كباراً، كل بلد له مقاتلة وقلعة ومنعة، وغنم الجيش والمسلمون من هذه الأماكن شيئاً كثيراً، وسبوا خلقاً‏.‏

ثم إن السلطان أمر جيوشه أن ترتع في هذه الأماكن مدة شهور ليستريحوا وتحمو أنفسهم وخيولهم لفتح بيت المقدس، وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس، فقصده العلماء والصالحون تطوعاً، وجاؤوا إليه، ووصل أخاه العادل بعد وقعة حطين وفتح عكا، ففتح بنفسه حصوناً كثيرة، فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش شيء كثير جداً، فعند ذلك قصد السلطان القدس بمن معه كما سيأتي‏.‏

وقد امتدحه الشعراء بسبب وقعة حطين فقالوا وأكثروا، وكتب إليه القاضي الفاضل من دمشق - وهو مقيم بها لمرض اعتراه -‏:‏ ليهن المولى أن الله أقام به الدين، وكتب المملوك هذه الخدمة والرؤوس لم ترفع من سجودها، والدموع لم تمسح من خدودها، وكلما ذكر المملوك أن البِيَع تعود مساجد، والمكان الذي كان يقال فيه‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة، يقال فيه اليوم‏:‏ إنه الواحد، جدد لله شكراً تارة يفيض من لسانه، وتارة يفيض من جفنه سروراً بتوحيد الله، تعالى الملك الحق المبين‏.‏

وأن يقال‏:‏ محمد رسول الله الصادق الأمين، وجزى الله يوسف خيراً عن إخراجه من سجنه، والمماليك ينتظرون المولى وكل من أراد أن يدخل الحمام بدمشق قد عزم على دخول حمام طبرية‏:‏

تلك المكارم لا قعبان من لبن * وذلك السيف لا سيف ابن ذي يزن

ثم قال‏:‏ وللألسنة بعد في هذا الفتح تسبيح طويل وقول جميل جليل‏.‏

 فتح بيت المقدس في هذه السنة

واستنقاذه من أيدي النصارى بعد أن استحوذوا عليه مدة ثنتين وتسعين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/395‏)‏

لما افتتح السلطان تلك الأماكن المذكورة فيما تقدم، أمر العساكر فاجتمعت ثم سار نحو بيت المقدس، فنزل بيت غربي المقدس في الخامس عشر من رجب من هذه السنة - أعني سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة - فوجد البلد قد حصنت غاية التحصين، وكانوا ستين ألف مقاتل، دون بيت المقدس أو يزيدون، وكان صاحب القدس يومئذ رجلاً يقال له‏:‏ بالبان بن بازران، ومعه من سلم من وقعة حطين يوم التقى الجمعان، من الداوية والاسبتارية أتباع الشيطان، وعبدة الصلبان‏.‏

فأقام السلطان بمنزله المذكور خمسة أيام، وسلم إلى كل طائفة من الجيش ناحية من السور وأبراجه، ثم تحول السلطان إلى ناحية الشام لأنه رآها أوسع للمجال، والجلاد والنزال، وقاتل الفرنج دون البلد قتالاً هائلاً، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في نصرة دينهم وقمامتهم، واستشهد في الحصار بعض أمراء المسلمين، فحنق عند ذلك كثير من الأمراء والصالحين، واجتهدوا في القتال ونصب المناجنيق والعرادات على البلد، وغنت السيوف والرماح الخطيات، والعيون تنظر إلى الصلبان منصوبة فوق الجدران، وفوق قبة الصخرة صليب كبير، فزاد ذلك أهل الإيمان حنقاً وشدة التشمير، وكان ذلك يوماً عسيراً على الكافرين غير يسير‏.‏

فبادر السلطان بأصحابه إلى الزاوية الشرقية الشمالية من السور فنقبها وعلقها وحشاها وأحرقها، فسقط ذلك الجانب وخر البرج برمته فإذا هو واجب‏.‏

فلما شاهد الفرنج ذلك الحادث الفظيع، والخطب المؤلم الوجيع، قصد أكابرهم السلطان وتشفعوا إليه أن يعطيهم الأمان، فامتنع من ذلك وقال‏:‏ لا أفتحها إلا عنوة، كما افتتحتموها أنتم عنوة، ولا أترك بها أحداً من النصارى إلا قتلته كما قتلتم أنتم من كان بها من المسلمين‏.‏

فطلب صاحبها بالبان بن بازران الأمان ليحضر عنده فأمنه، فلما حضر ترقق للسلطان وذل ذلاً عظيماً، وتشفع إليه بكل ما أمكنه فلم يجبه إلى الأمان لهم‏.‏

فقالوا‏:‏ إن لم تعطنا الأمان رجعنا فقتلنا كل أسير بأيدينا - وكانوا قريباً من أربعة آلاف - وقتلنا ذرارينا وأولادنا ونساءنا وخربنا الدور والأماكن الحسنة، وأحرقنا المتاع وأتلفنا ما بأيدينا من الأموال، وهدمنا قبة الصخرة وحرقنا ما نقدر عليه، ولا نبقي ممكناً في إتلاف ما نقدر عليه، وبعد ذلك نخرج فنقاتل قتال الموت، ولا خير في حياتنا بعد ذلك، فلا يقتل واحد منا حتى يقتل أعداداً منكم، فماذا ترتجي بعد هذا من الخير ‏؟‏‏(‏ج/ص‏:‏ 12/396‏)‏

فلما سمع السلطان ذلك أجاب إلى الصلح وأناب، على أن يبذل كل رجل منهم عن نفسه عشرة دنانير، وعن المرأة خمسة دنانير، وعن كل صغير وصغيرة دينارين، ومن عجز عن ذلك كان أسيراً للمسلمين، وأن تكون الغلات والأسلحة والدور للمسلمين، وأنهم يتحولون منها إلى مأمنهم وهي مدينة صور‏.‏

فكتب الصلح بذلك، وأن من لم يبذل ما شرط عليه إلى أربعين يوماً فهو أسير، فكان جملة من أسر بهذا الشرط ستة عشر ألف أسير من رجال ونساء وولدان، ودخل السلطان والمسلمون البلد يوم الجمعة قبل وقت الصلاة بقليل، وذلك يوم السابع والعشرين من رجب‏.‏

قال العماد‏:‏ وهي ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهو أحد الأقوال في الإسراء، ولم يتفق للمسلمين صلاة الجمعة يومئذ خلافاً لمن زعم أنها أقيمت يومئذ، وأن السلطان خطب بنفسه بالسواد، والصحيح أن الجمعة لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محي الدين بن محمد بن علي القرشي ابن الزكي كما سيأتي قريباً‏.‏

ولكن نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، ووضع الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها‏.‏

وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها‏.‏

ثم قبض من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتني ويدخر، وكان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً‏.‏

أول جمعة أقيمت ببيت المقدس بعد فتحه

لما تطهر بيت المقدس مما كان فيه من الصلبان والنواقيس والرهبان والقساقس، ودخله أهل الإيمان، ونودي بالأذان وقرئ القرآن، ووحد الرحمن، كان أول جمعة أقيمت في اليوم الرابع من شعبان، بعد يوم الفتح بثمان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/397‏)‏

فنصب المنبر إلى جانب المحراب، وبسطت البسط وعلقت القناديل وتُلي التنزيل، وجاء الحق وبطلت الأباطيل، وصفت السجادات وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وارتفعت الدعوات، ونزلت البركات، وانجلت الكربات، وأقيمت الصلوات، وأذن المؤذنون، وخرس القسيسون، وزال البوس وطابت النفوس، وأقبلت السعود وأدبرت النحوس، وعُبد الله الأحد الصمد الذي ‏{‏يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ‏}‏‏[‏الإخلاص‏:‏ 3-4‏]‏‏.‏

وكبره الراكع والساجد، والقائم والقاعد، وامتلأ الجامع وسالت لرقة القلوب المدامع‏.‏

ولما أذن المؤذنون للصلاة قبل الزوال كادت القلوب تطير من الفرح في ذلك الحال، ولم يكن عين خطيب فبرز من السلطان المرسوم الصلاحي وهو في قبة الصخرة أن يكون القاضي محيي الدين بن الزكي اليوم خطيباً، فلبس الخلعة السوداء وخطب للناس خطبة سنية فصيحة بليغة، ذكر فيها شرف البيت المقدس، وما ورد فيه من الفضائل والترغيبات، وما فيه من الدلائل والأمارات‏.‏

وقد أورد الشيخ أبو شامة الخطبة في ‏(‏الروضتين‏)‏ بطولها وكان أول ما قال‏:‏ ‏{‏فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 45‏]‏‏.‏

ثم أورد تحميدات القرآن كلها، ثم قال‏:‏ الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذل الشرك بقهره، ومصرف الأمور بأمره، ومزيد النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره، الذي قدر الأيام دولاً بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأفاض على العباد من طله وهطله، وأظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يراجع، والحاكم بما يريد فلا يدافع‏.‏

أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه ونصرة أنصاره، ومطهر بيت المقدس من أدناس الشرك وأوضاره، حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر أجهاره‏.‏

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله رافع الشكر وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أسري به من المسجد الحرام إلى هذا المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السموات العلى، إلى سدرة المنتهى عندها جنة المأوى، ما زاغ البصر وما طغى‏.‏

صلى الله عليه وسلم وعلى خليفته الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك، ومكسر الأصنام، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/398‏)‏

ثم ذكر الموعظة وهي مشتملة على تغبيط الحاضرين بما يسّره الله على أيديهم من فتح بيت المقدس، الذي من شأنه كذا وكذا، فذكر فضائله ومآثره، وأنه أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين‏.‏

لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، وإليه أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام، وصلى فيه بالأنبياء والرسل الكرام، ومنه كان المعراج إلى السموات، ثم عاد إليه ثم سار منه إلى المسجد الحرام على البراق، وهو أرض المحشر والمنشر يوم التلاق، وهو مقر الأنبياء ومقصد الأولياء، وقد أسس على التقوى من أول يوم‏.‏

قلت‏:‏ ويقال‏:‏ إن أول من أسسه يعقوب عليه السلام بعد أن بنى الخليل المسجد الحرام بأربعين سنة، كما جاء في ‏(‏الصحيحين‏)‏ ثم جدد بناءه سليمان بن داود عليهما السلام، كما ثبت فيه الحديث بالمسند والسنن وصحيح ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم‏.‏

وسأل سليمان عليه السلام الله عند فراغه منه خلالاً ثلاثاً، حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وأنه لا يأتي أحدٌ هذا المسجد لا ينهزه إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه‏.‏

ثم ذكر تمام الخطبتين، ثم دعا للخليفة الناصر العباسي، ثم دعا للسلطان الناصر صلاح الدين‏.‏

وبعد الصلاة جلس الشيخ زين الدين أبو الحسن بن علي نجا المصري على كرسي الوعظ بإذن السلطان، فوعظ الناس، واستمر القاضي ابن الزكي يخطب بالناس في أيام الجمع أربع جمعات‏.‏

ثم قرر السلطان للقدس خطيباً مستقراً، وأرسل إلى حلب فاستحضر المنبر الذي كان الملك العادل نور الدين الشهيد قد استعمله لبيت المقدس، وقد كان يؤمل أن يكون فتحه على يديه، فما كان إلا على يدي بعض أتباعه صلاح الدين بعد وفاته‏.‏

 نكتة غريبة

قال أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏‏:‏ وقد تكلم شيخنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي في تفسيره الأول فقال‏:‏ وقع في تفسير أبي الحكم الأندلسي - يعني ابن برجان - في أول سورة الروم أخبار عن فتح بيت المقدس، وأنه ينزع من أيدي النصارى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة‏.‏

قال السخاوي‏:‏ ولم أره أخذ ذلك من علم الحروف، وإنما أخذه فيما زعم من قوله‏:‏ ‏{‏الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 1-4‏]‏ فبنى الأمر على التاريخ كما يفعل المنجمون، فذكر أنهم يَغلبون في سنة كذا وكذا، ويُغلبون في سنة كذا وكذا، على ما تقتضيه دوائر التقدير‏.‏

ثم قال‏:‏ وهذه نجابة وافقت إصابة، إن صح، قال ذلك قبل وقوعه، وكان في كتابه قبل حدوثه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/399‏)‏

قال‏:‏ وليس هذا من قبيل علم الحروف، ولا من باب الكرامات والمكاشفات، ولا ينال في حساب‏.‏

قال‏:‏ وقد ذكر في تفسير سورة القدر أنه لو علم الوقت الذي نزل فيه القرآن لعلم الوقت الذي يرفع فيه‏.‏

قلت‏:‏ ابن برجان ذكر هذا في تفسيره في حدود سنة ثنتين وعشرين وخمسمائة‏.‏

ويقال‏:‏ إن الملك نور الدين أوقف على ذلك فطمع أن يعيش إلى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، لأن مولده في سنة إحدى عشر وخمسمائة، فتهيأ لأسباب ذلك حتى إنه أعد منبراً عظيماً لبيت المقدس إذا فتحه والله أعلم‏.‏

وأما الصخرة المعظمة فإن السلطان أزال ما حولها من المنكرات والصور والصلبان، وطهرها بعد ما كانت جيفة، وأظهرها بعد ما كانت خفية مستورة غير مرئية، وأمر الفقيه عيسى الهكاري أن يعمل حولها شبابيك من حديد، ورتب لها إماماً راتباً، وقف عليه رزقاً جيداً‏.‏

وكذلك إمام الأقصى، عمل للشافعية مدرسة يقال لها‏:‏ الصلاحية والناصرية أيضاً، وكان موضعها كنيسة على قبر حنة أم مريم، ووقف على الصوفية رباطاً كان للتبرك إلى جنب القمامة، وأجرى على الفقهاء والفقراء الجوامك، وأرصد الختم والربعات في أرجاء المسجد الأقصى والصخرة، ليقرأ فيها المقيمون والزائرون وتنافس بنو أيوب فيما يفعلونه ببيت المقدس وغيره من الخيرات إلى كل أحد‏.‏

وعزم السلطان على هدم القمامة وأن يجعلها دكاً لتنحسم مادة النصارى من بيت المقدس‏.‏

فقيل له‏:‏ إنهم لا يتركون الحج إلى هذه البقعة، ولو كانت قاعاً صفصفاً، وقد فتح هذه البلد قبلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وترك هذه الكنيسة بأيديهم، ولك في ذلك أسوة‏.‏

فأعرض عنها وتركها على حالتها تأسياً بعمر رضي الله عنه، ولم يترك من النصارى فيها سوى أربعة يخدمونها، وحال بين النصارى وبينها، وهدم المقابر التي كانت لهم عند باب الرحمة، وعفا آثارها، وهدم ما كان هناك من القباب‏.‏

وأما أسارى المسلمين الذين كانوا بالقدس فإنه أطلقهم جميعهم، وأحسن إليهم، وأطلق لهم إعطاءات سنية، وكساهم وانطلق كل منهم إلى وطنه، وعاد إلى أهله ومسكنه، فلله الحمد على نعمه ومننه‏.‏

 فصل

فلما فرغ السلطان صلاح الدين من القدس الشريف انفصل عنها في الخامس والعشرين من شعبان قاصداً مدينة صور بالساحل، وكان فتحها قد تأخر، وقد استحوذ عليها بعد وقعة حطين رجل من تجار الفرنج يقال له‏:‏ المركيس، فحصنها وضبط أمرها وحفر حولها خندقاً من البحر إلى البحر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/400‏)‏

فجاء السلطان فحاصرها مدة، ودعا بالأسطول من الديار المصرية في البحر، فأحاط بها براً وبحراً، فعدت الفرنج في بعض الليالي على خمس شواني من أسطول المسلمين فملكتها، فأصبح المسلمون واجمين حزناً وتأسفاً، وقد دخل عليهم فصل البرد وقلّت الأزواد، وكثرت الجراحات وكلَّ الأمراء من المحاصرات‏.‏

فسألوا السلطان أن ينصرف بهم إلى دمشق حتى يستريحوا ثم يعودوا إليها بعد هذا الحين، فأجابهم إلى ذلك على تمنع منه، ثم توجه بهم نحو دمشق واجتاز في طريقه على عكا، وتفرقت العساكر إلى بلادها‏.‏

وأما السلطان فإنه لما وصل إلى عكا نزل بقلعتها وأسكن ولده الأفضل برج الداوية، وولى نيابتها عز الدين حردبيل، وقد أشار بعضهم على السلطان بتخريب مدينة عكا خوفاً من عود الفرنج إليها، فكاد ولم يفعل وليته فعل، بل وكل بعمارتها وتجديد محاسنها بهاء الدين قراقوش التقوي‏.‏

ووقف دار الاسبتارية بصفين على الفقهاء والفقراء، وجعل دار الأسقف مارستاناً ووقف على ذلك كله أوقافاً دارة، وولى نظر ذلك إلى قاضيها جمال الدين ابن الشيخ أبي النجيب‏.‏

ولما فرغ من هذه الأشياء عاد إلى دمشق مؤيداً منصوراً، وأرسل إليه الملوك بالتهاني والتحف والهدايا من سائر الأقطار والأمصار، وكتب الخليفة إلى السلطان يعتب عليه في أشياء، منها أنه بعث إليه في بشارة الفتح بوقعة حطين شاباً بغدادياً كان وضيعاً عندهم، لا قدر له ولا قيمة، وأرسل بفتح القدس مع نجاب، ولقب نفسه بالناصر مضاهاة للخليفة‏.‏

فتلقى ذلك بالبشر واللطف والسمع والطاعة، وأرسل يعتذر مما وقع‏.‏

وقال‏:‏ الحرب كانت شغلته عن التروي في كثير من ذلك، وأما لقبه بالناصر فهو من أيام الخليفة المستضيء، ومع هذا فمهما لقبني أمير المؤمنين فلا أعدل عنه، وتأدب مع الخليفة غاية الأدب مع غناه عنه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وقعة عظيمة ببلاد الهند بين الملك شهاب الدين الغوري صاحب غزنة، وبين ملك الهند الكبير، فأقبلت الهنود في عدد كثير من الجنود، ومعهم أربعة عشر فيلاً، فالتقوا واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزمت ميمنة المسلمين وميسرتهم، وقيل للملك‏:‏ انج بنفسك‏.‏

فما زاده ذلك إلا إقداماً، فحمل على الفيلة فجرح بعضها - وجرح الفيل لا يندمل - فرماه بعض الفيالة بحربة في ساعده فخرجت من الجانب الآخر فخر صريعاً، فحملت عليه الهنود ليأخذوه فجاحف عنه أصحابه فاقتتلوا عنده قتالاً شديداً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/401‏)‏

وجرت حرب عظيمة لم يسمع بمثلها بموقف، فغلب المسلمون الهنود وخلصوا صاحبهم وحملوه على كواهلهم في محفة عشرين فرسخاً، وقد نزفه الدم‏.‏

فلما تراجع إليه جيشه أخذ في تأنيب الأمراء، وحلف ليأكلن كل أمير عليق فرسه، وما أدخلهم غزنة إلا مشاة‏.‏

وفيها‏:‏ ولدت امرأة من سواد بغداد بنتاً لها أسنان‏.‏

وفيها‏:‏ قتل الخليفة الناصر أستاذ داره أبا الفضل بن الصاحب، وكان قد استحوذ على الأمور ولم يبق للخليفة معه كلمة تطاع، ومع هذا كان عفيفاً عن الأموال، جيد السيرة، فأخذ الخليفة منه شيئاً كثيراً من الحواصل والأموال‏.‏

وفيها‏:‏ استوزر الخليفة أبا المظفر جلال الدين، ومشى أهل الدولة في ركابه حتى قاضي القضاة ابن الدامغاني، وقد كان ابن يونس هذا شاهداً عند القاضي، وكان يقول وهو يمشي في ركابه‏:‏ لعن الله طول العمر، فمات القاضي في آخر هذه السنة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الشيخ عبد المغيث بن زهير الحربي

كان من صلحاء الحنابلة، وكان يزار، وله مصنف في فضل يزيد بن معاوية، أتى فيه بالغرائب والعجائب، وقد رد عليه أبو الفرج بن الجوزي فأجاد وأصاب، ومن أحسن ما اتفق لعبد المغيث هذا أن بعض الخلفاء - وأظنه الناصر - جاءه زائراً مستخفياً، فعرفه الشيخ عبد المغيث ولم يعلمه بأنه قد عرفه، فسأله الخليفة عن يزيد أيلعن أم لا ‏؟‏

فقال‏:‏ لا أسوغ لعنه لأني لو فتحت هذا الباب لأفضى الناس إلى لعن خليفتنا‏.‏

فقال الخليفة‏:‏ ولِمَ ‏؟‏

قال‏:‏ لأنه يفعل أشياء منكرة كثيرة، منها كذا وكذا، ثم شرع يعدد على الخليفة أفعاله القبيحة، وما يقع منه من المنكر لينزجر عنها، فتركه الخليفة وخرج من عنده وقد أثر كلامه فيه، وانتفع به‏.‏

مات في المحرم من هذه السنة‏.‏

وفيها توفي الشيخ‏:‏

 علي بن خطاب بن خلف

العابد الناسك، أحد الزهاد، وذوي الكرامات، وكان مقامه بجزيرة ابن عمر‏.‏

قال ابن الأثير في ‏(‏الكامل‏)‏‏:‏ ولم أر مثله في حسن خلقه وسمته وكراماته وعبادته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/402‏)‏

 الأمير شمس الدين محمد بن عبد الملك بن مقدم

أحد نواب صلاح الدين، ولما افتتح الناصر بيت المقدس أحرم جماعة في زمن الحج منه إلى المسجد الحرام، وكان ابن المقدم أمير الحاج في تلك السنة، فلما توقف بعرفة ضرب الدبادب ونشر الألوية، وأظهر عز السلطان صلاح الدين وعظمته، فغضب طاشتكين أمير الحاج من جهة الخليفة، فزجره عن ذلك فلم يسمع‏.‏

فاقتتلا فجرح ابن مقدم ومات في اليوم الثاني بمنى، ودفن هنالك، وجرت خطوب كثيرة، وليم طاشتكين على ما فعل، وخاف معرة ذلك من جهة صلاح الدين والخليفة، وعزله الخليفة عن منصبه‏.‏

 محمد بن عبيد الله

ابن عبد الله سبط بن التعاويذي الشاعر، ثم أضر في آخر عمره وجاز الستين، توفي في شوال‏.‏

 نصر بن فتيان بن مطر

الفقيه الحنبلي المعروف بابن المنى، كان زاهداً عابداً، مولده سنة إحدى وخمسمائة، وممن تفقه عليه من المشاهير الشيخ موفق الدين بن قدامة، والحافظ عبد الغني، ومحمد بن خلف بن راجح، والناصر عبد الرحمن بن المنجم بن عبد الوهاب، وعبد الرزاق بن الشيخ عبد القادر الجيلي وغيرهم، توفي خامس رمضان‏.‏

وفيها توفي قاضي القضاة‏:‏

 أبو الحسن الدامغاني

وقد حكم في أيام المقتفي ثم المستنجد ثم عزل وأعيد في أيام المستضيء، وحكم للناصر حتى توفي في هذه السنة‏.‏