فصل: سنة ثمان وتسعين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائة

استهلت هذه السنة وقد ألح طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين ومن معهما في حصار بغداد والتضييق على الأمين، وهرب القاسم بن الرشيد وعمه منصور بن المهدي إلى المأمون فأكرمهما، وولى أخاه القاسم جرجان، واشتد حصار بغداد ونصب عليها المجانيق والعرَّادات‏.‏

وضاق الأمين بهم ذرعاً، ولم يبق معه ما ينفق في الجند، فاضطر إلى ضرب آنية الفضة والذهب دراهم ودنانير، وهرب كثير من جنده إلى طاهر، وقتل من أهل البلد خلق كثير، وأخذت أموال كثيرة منهم‏.‏

وبعث الأمين إلى قصور كثيرة ودور شهيرة مزخرفة وأماكن ومحال كثيرة فحرقها بالنار لما رأى في ذلك من المصلحة فعل كل هذا فراراً من الموت ولتدوم الخلافة له فلم تدم، وقتل وخربت دياره كما سيأتي قريباً، وفعل طاهر مثل ما فعل الأمين حتى كادت بغداد تخرب بكمالها‏.‏

فقال بعضهم في ذلك‏:‏

من ذا أصابك يا بغداد بالعين * ألم تكوني زماناً قرة العين

ألم يكن فيك قوم كان مسكنهم * وكان قربهم زيناً من الزين

صاح الغراب بهم بالبين فافترقوا * ماذا لقيت بهم من لوعة البين

استودع الله قوماً ما ذكرتهم * إلا تحدَّر ماء العين من عيني

كانوا ففرقهم دهر وصدعهم * والدهر يصدع ما بين الفريقين

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/260‏)‏

وقد أكثر الشعراء في ذلك‏.‏ وقد أورد ابن جرير من ذلك طرفاً صالحاً، وأورد في ذلك قصيدةً طويلةً جداً بها بسط ما وقع، وهي هول من الأهوال اقتصرناها بالكلية‏.‏

واستحوذ طاهر على ما في الضياع من الغلات والحواصل للأمراء وغيرهم، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون فاستجابوا جميعهم، منهم‏:‏ عبد الله بن حميد بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطوسي، وكاتبه خلق من الهاشمين والأمراء، وصارت قلوبهم معه‏.‏

واتفق في بعض الأيام أن ظفر أصحاب الأمين ببعض أصحاب طاهر فقتلوا منهم طائفة عند قصر صالح، فلما سمع الأمين بذلك بطر وأشر وأقبل على اللهو والشرب واللعب، ووكل الأمور وتدبيرها إلى محمد بن عيسى بن نهيك‏.‏

ثم قويت شوكة أصحاب طاهر وضعف جانب الأمين جداً، وانحاز الناس إلى جيش طاهر - وكان جانبه آمناً جداً لا يخاف أحد فيه من سرقة ولا نهب ولا غير ذلك - وقد أخذ طاهر أكثر محال بغداد وأرباضها، ومنع الملاحين أن يحملوا طعاماً إلى من خالفه، فغلت الأسعار جداً عند من خالفه، وندم من لم يكن خرج من بغداد قبل ذلك، ومنعت التجار من القدوم إلى بغداد بشيء من البضائع أو الدقيق، وصرفت السفن إلى البصرة وغيرها‏.‏

وجرت بين الفريقين حروب كثيرة، فمن ذلك‏:‏

وقعة درب الحجارة كانت لأصحاب الأمين، قتل فيها خلق من أصحاب طاهر، كان الرجل من العيَّارين والحرافشة من البغاددة يأتي عرياناً ومعه بارية مقيرة، وتحت كتفه مخلاة فيها حجارة، فإذا ضربه الفارس من بعيد بالسهم اتقاه بباريته فلا يؤذيه، وإذا اقترب منه رماه بحجر في المقلاع أصابه، فهزموهم لذلك‏.‏

ووقعة الشماسية أسر فيها هرثمة بن أعين، فشق ذلك على طاهر وأمر بعقد جسر على دجلة فوق الشماسية، وعبر طاهر بنفسه ومن معه إلى الجانب الآخر فقاتلهم بنفسه أشد القتال حتى أزالهم عن مواضعهم، واسترد منهم هرثمة وجماعة ممن كانوا أسروهم من أصحابه، فشق ذلك على محمد الأمين وقال في ذلك‏:‏

منيت بأشجع الثقلين قلباً * إذا ما طال ليس كما يطول

له مع كل ذي بدد رقيب * يشاهده ويعلم ما يقول

فليس بمغفل أمراً عناداً * إذا ما الأمر ضيَّعه الغفول

وضعف أمر الأمين جداً ولم يبق عنده مال ينفقه على جنده ولا على نفسه، وتفرق أكثر أصحابه عنه، وبقي مضطهداً ذليلاً‏.‏

ثم انقضت هذه السنة بكمالها والناس في بغداد في قلاقل وأهوية مختلفة، وقتال وحريق، وسرقات، وساءت بغداد فلم يبق فيها أحد يرد عن أحد كما هي عادة الفتن‏.‏

وحج بالناس فيها العباس بن موسى الهاشمي من جهة المأمون‏.‏

وفيها توفي‏:‏ شعيب بن حرب، أحد الزهاد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/261‏)‏

وعبد الله بن وهب، إمام أهل الديار المصرية، وعبد الرحمن بن مسهر، أخو علي بن مسهر‏.‏

وعثمان بن سعيد، الملقب‏:‏ بورش، أحد القراء المشهورين، الرواة عن نافع بن أبي نعيم‏.‏

ووكيع بن الجراح، الرواسي، أحد أعلام المحدثين، مات عن ست وستين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائة

فيها‏:‏ خامر خزيمة بن خازم على محمد الأمين وأخذ الأمان من طاهر‏.‏

ودخل هرثمة بن أعين من الجانب الشرقي‏.‏

وفي يوم الأربعاء‏:‏ لثمان خلون من المحرم وثب خزيمة بن خازم ومحمد بن علي بن عيسى على جسر بغداد فقطعاه ونصبا رايتهما عليه‏.‏

ودعوا إلى بيعة عبد الله المأمون وخلع محمد الأمين، ودخل طاهر يوم الخميس إلى الجانب الشرقي فباشر القتال بنفسه، ونادى بالأمان لمن لزم منزله‏.‏

وجرت عند دار الرقيق والكرخ وغيرهما وقعات، وأحاطوا بمدينة أبي جعفر والخلد وقصر زبيدة، ونصب المجانيق حول السور وحذاء قصر زبيدة، ورماه بالمنجنيق‏.‏

فخرج الأمين بأمه وولده إلى مدينة أبي جعفر، وتفرق عنه عامة الناس في الطريق، لا يلوي أحد على أحد، حتى دخل قصر أبي جعفر وانتقل من الخلد لكثرة ما يأتيه فيه من رمي المنجنيق، وأمر بتحريق ما كان فيه من الأثاث والبسط والأمتعة وغير ذلك، ثم حصر حصراً شديداً‏.‏

ومع هذه الشدة والضيق وإشرافه على الهلاك خرج ذات ليلة في ضوء القمر إلى شاطئ دجلة واستدعى بنبيذ وجارية فغنته فلم ينطلق لسانها إلا بالفراقيات وذكر الموت، وهو يقول‏:‏ غير هذا، وتذكر نظيره حتى غنته آخر ما غنته‏:‏

أما وربِّ السكون والحرك * إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار ولا * دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل السلطان من ملك * قد انقضى ملكه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبداً * ليس بفان ولا بمشترك

قال‏:‏ فسبها وأقامها من عنده فعثرت في قدح كان له بلور فكسرته فتطيَّر بذلك‏.‏

ولما ذهبت الجارية سمع صارخاً يقول‏:‏ ‏{‏قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/262‏)‏

فقال لجليسه‏:‏ ويحك ‏!‏ ألا تسمع، فتسمع فلا يسمع شيئاً، ثم عاد الصوت بذلك، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى قتل في رابع صفر يوم الأحد، وقد حصل له من الجهد والضيق في حصره شيئاً كثيراً بحيث إنه لم يبق له طعام يأكله ولا شراب، بحيث إنه جاع ليلة فما أتي برغيف ودجاجة إلا بعد شدة عظيمة، ثم طلب ماء فلم يوجد له فبات عطشاناً، فلما أصبح قتل قبل أن يشرب الماء‏.‏

 كيفية مقتله

لما اشتد به الأمر اجتمع عنده من بقي معه من الأمراء والخدم والجند، فشاورهم في أمره فقالت طائفة‏:‏ تذهب بمن بقي معك إلى الجزيرة أو الشام فتتقوى بالأموال وتستخدم الرجال‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ تخرج إلى طاهر وتأخذ منه أماناً وتبايع لأخيك، فإذا فعلت ذلك فإن أخاك سيأمر لك بما يكفيك ويكفي أهلك من أمر الدنيا، وغاية مرادك الدعة والراحة، وذلك يحصل لك تاماً‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بل هرثمة أولى بأن يأخذ لك منه الأمان فإنه مولاكم وهو أحنى عليك‏.‏

فمال إلى ذلك، فلما كانت ليلة الأحد الرابع من صفر بعد عشاء الآخرة واعد هرثمة أن يخرج إليه، ثم لبس ثياب الخلافة وطيلساناً واستدعى بولديه فشمهما وضمهما إليه وقال‏:‏ أستودعكما الله، ومسح دموعه بطرف كمه، ثم ركب على فرس سوداء وبين يديه شمعة‏.‏

فلما انتهى إلى هرثمة أكرمه وعظمه وركبا في حراقة في دجلة، وبلغ هذا كله طاهراً فغضب من ذلك وقال‏:‏ أنا الذي فعلت هذا كله ويذهب لغيري، وينسب هذا كله إلى هرثمة ‏؟‏

فلحقهما وهما في الحراقة فأمالها أصحابه فغرق من فيها، غير أن الأمين سبح إلى الجانب الآخر وأسره بعض الجند‏.‏

وجاء فأعلم طاهراً فبعث إليه جنداً من العجم فجاؤوا إلى البيت الذي هو فيه وعنده بعض أصحابه وهو يقول له‏:‏ ادن مني فإني أجد وحشة شديدة‏.‏

وجعل يلتف في ثيابه شديداً، وقلبه يخفق خفقاناً عظيماً، كاد يخرج من صدره‏.‏

فلما دخل عليه أولئك قال‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

ثم دنا منه أحدهم فضربه بالسيف على مفرق رأسه فجعل يقول‏:‏ ويحكم ‏!‏ أنا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنا ابن هارون، أنا أخو المأمون، الله الله في دمي‏.‏

فلم يلتفتوا إلى شيء من ذلك، بل تكاثروا عليه وذبحوه من قفاه وهو مكبوب على وجهه، وذهبوا برأسه إلى طاهر، وتركوا جثته، ثم جاؤوا بكرة إليها فلفوها في جلِّ فرس وذهبوا بها‏.‏

وذلك ليلة الأحد لأربع ليال خلت من صفر من هذه السنة‏.‏

 شيء من ترجمته

هو‏:‏ محمد الأمين بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور، أبو عبد الله، ويقال‏:‏ أبو موسى، الهاشمي العباسي، وأمه أم جعفر زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور، كان مولده بالرصافة سنة سبعين ومائة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/263‏)‏

قال أبو بكر بن أبي الدنيا‏:‏ حدثنا عياش بن هشام، عن أبيه، قال‏:‏

ولد محمد الأمين بن هارون الرشيد في شوال سنة سبعين ومائة‏.‏

وأتته الخلافة بمدينة السلام بغداد لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين‏.‏

وقيل‏:‏ ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم‏.‏

وقتل سنة ثمان وتسعين ومائة، قتله قريش الدَّنداني، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏‏.‏

وكانت ولايته أربع سنين وسبعة أشهر وثمانية أيام‏.‏

وكان طويلاً سميناً، أبيض، أقنى الأنف، صغير العينين، عظيم الكراديس، بعيداً ما بين المنكبين‏.‏

وقد رماه بعضهم بكثرة اللعب والشرب وقلة الصلاة‏.‏

وقد ذكر ابن جرير طرفاً من سيرته في إكثاره من اقتناء السودان والخصيان، وإعطائه الأموال والجواهر، وأمره بإحضار الملاهي والمغنين من سائر البلاد، وأنه أمر بعمل خمس حراقات على صورة الفيل والأسد والعقاب والحية والفرس، وأنفق على ذلك أموالاً جزيلةً جداً، وقد امتدحه أبو نواس بشعر أقبح في معناه من صنيع الأمين فإنه قال في أوله‏:‏

سخَّر الله للأمين مطايا * لم تسخر لصاحب المحراب

فإذا ما ركابه سرن براً * سار في الماء راكباً ليث غاب

ثم وصف كلاً من تلك الحراقات‏.‏

واعتنى الأمين ببنايات هائلة للنزهة وغيرها، وأنفق في ذلك أموالاً كثيرةً جداً، فكثر النكير عليه بسبب ذلك‏.‏

وذكر ابن جرير أنه جلس يوماً في مجلس أنفق عليه مالاً جزيلاً في الخلد، وقد فرش له بأنواع الحرير، ونضِّد بآنية الذهب والفضة، وأحضر ندماءه، وأمر القهرمانة أن تهيئ له مائة جارية حسناء، وأمرها أن تبعثهن إليه عشراً بعد عشر يغنينه، فلما جاءت العشر الأول اندفعن يغنين بصوت واحد‏:‏

همو قتلوه كي يكونوا مكانه * كما غدرت بكسرى مرازبه

فغضب من ذلك وتبرم وضرب رأسها بالكأس، وأمر بالقهرمانة أن تلقى إلى الأسد فأكلها‏.‏

ثم استدعى بعشرة فاندفعن يغنين‏:‏

من كان مسروراً بمقتل مالك * فليأت نسوتنا بوجه نهار

يجد النساء حواسراً يندبنه * يلطمن قبل تبلج الأسحار

فطردهن واستدعى بعشر غيرهن، فلما حضرن اندفعن يغنين بصوت واحد‏:‏

كليب لعمري كان أكثر ناصراً * وأيسر ذنباً منك ضرِّج بالدم

فطردهن وقام من فوره وأمر بتخريب ذلك المجلس وتحريق ما فيه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/264‏)‏

وذكر أنه كان كثير الأدب فصيحاً يقول الشعر ويعطي عليه الجوائز الكثيرة‏.‏

وكان شاعره أبا نواس، وقد قال فيه أبو نواس مدائح حساناً، وقد وجده مسجوناً في حبس الرشيد مع الزنادقة فأحضره وأطلقه وأطلق له مالاً وجعله من ندمائه، ثم حبسه مرة أخرى في شرب الخمر وأطال حبسه ثم أطلقه وأخذ عليه العهد أن لا يشرب الخمر ولا يأتي الذكور من المردان فامتثل ذلك، وكان لا يفعل شيئاً من ذلك بعد ما استتابه الأمين، وقد تأدب على الكسائي، وقرأ عليه القرآن‏.‏

وروى الخطيب من طريقه حديثاً أورده عنه لما عزِّي في غلام له توفي بمكة فقال‏:‏ حدثني أبي، عن أبيه، عن المنصور، عن أبيه، عن علي بن عبد الله، عن أبيه، قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏من مات محرماً حشر ملبياً‏)‏‏)‏‏.‏

وقد قدمنا ما وقع بينه وبين أخيه من الاختلاف والفرقة، حتى أفضى ذلك إلى خلعه وعزله، ثم إلى التضيق عليه، ثم إلى قتله، وأنه حصر في آخر أمره حتى احتاج إلى مصانعة هرثمة، وأنه ألقي في حراقة، ثم ألقي منها فسبح إلى الشط الآخر، فدخل دار بعض العامة وهو في غاية الخوف والدهش والجوع والعريِّ، فجعل الرجل يلقنه الصبر والاستغفار، فاشتغل بذلك ساعة من الليل‏.‏

ثم جاء الطلب وراءه من جهة طاهر بن الحسين بن مصعب، فدخلوا عليه وكان الباب ضيقاً فتدافعوا عليه، وقام إليهم فجعل يدافعهم عن نفسه بمخدة في يده، فما وصلوا إليه حتى عرقبوه وضربوا رأسه أو خاصرته بالسيوف، ثم ذبحوه وأخذوا رأسه وجثته فأتوا بهما طاهراً، ففرح بذلك فرحاً شديداً، وأمر بنصب الرأس فوق رمح هناك، حتى أصبح الناس فنظروا إليه فوق الرمح عند باب الأنبار، وكثر عدد الناس ينظرون إليه‏.‏

ثم بعث طاهر برأس الأمين مع ابن عمه محمد بن مصعب، وبعث معه بالبردة والقضيب والنعل - وكان من خوص مبطَّن - فسلمه إلى ذي الرياستين، فدخل به على المأمون على ترس، فلما رآه سجد وأمر لمن جاء به بألف ألف درهم‏.‏

وقد قال ذو الرياستين حين قدم الرأس يؤلب على طاهر‏:‏ أمرناه بأن يأتي به أسيراً فأرسل به إلينا عقيراً‏.‏

فقال المأمون‏:‏ مضى ما مضى‏.‏

وكتب طاهر إلى المأمون كتاباً ذكر فيه صورة ما وقع حتى آل الحال إلى ما آل إليه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/265‏)‏

ولما قتل الأمين هدأت الفتن وخمدت الشرور، وأمن الناس، وطابت النفس، ودخل طاهر بغداد يوم الجمعة وخطبهم خطبة بليغة ذكر فيها آيات كثيرة من القرآن، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأمرهم فيها بالجماعة والسمع والطاعة‏.‏

ثم خرج إلى معسكره فأقام به، وأمر بتحويل زبيدة من قصر أبي جعفر إلى قصر الخلد، فخرجت يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

وبعث بموسى وعبد الله ابني الأمين إلى عمهما المأمون بخراسان، وكان ذلك رأياً سديداً‏.‏

وقد وثب طائفة من الجند على طاهر بعد خمسة أيام من مقتل الأمين وطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده إذ ذاك مال، فتحزبوا واجتمعوا ونهبوا بعض متاعه ونادوا‏:‏ يا موسى يا منصور، واعتقدوا أن موسى بن الأمين الملقب بالناطق هناك، وإذا هو قد سيَّره إلى عمه‏.‏

وانحاز طاهر بمن معه من القواد ناحيةً وعزم على قتالهم بمن معه، ثم رجعوا إليه واعتذروا وندموا، فأمر لهم برزق أربعة أشهر بعشرين ألف دينار اقترضها من بعض الناس، فطابت الخواطر‏.‏

ثم إن إبراهيم بن المهدي قد أسف على قتل محمد الأمين بن زبيدة ورثاه بأبيات، فبلغ ذلك المأمون فبعث إليه يعنفه ويلومه على ذلك‏.‏

وقد ذكر ابن جرير مراثي كثيرة للناس في الأمين، وذكر من أشعار الذين هجوه طرفاً، وذكر من شعر طاهر بن الحسين حين قتله قوله‏:‏

ملكت الناس قسراً واقتداراً * وقتلت الجبابرة الكبارا

ووجهت الخلافة نحو مرو * إلى المأمون تبتدر ابتدارا

 خلافة عبد الله المأمون بن الرشيد هارون

لما قتل أخوه محمد في رابع صفر من سنة ثمان وتسعين ومائة، وقيل‏:‏ في المحرم، استوسقت البيعة شرقاً وغرباً للمأمون‏:‏ فولى الحسن بن سهل نيابة العراق وفارس والأهواز والكوفة والبصرة والحجاز واليمن، وبعث نوابه إلى هذه الأقاليم، وكتب إلى طاهر بن الحسين أن ينصرف إلى الرقة لحرب نصر بن شبث، وولاه نيابة الجزيرة والشام والموصل والمغرب‏.‏

وكتب إلى هرثمة بن أعين بنيابة خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس العباس بن عيسى الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

سفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى القطان، فهؤلاء الثلاثة سادة العلماء في الحديث والفقه وأسماء الرجال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/266‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائة

فيها‏:‏ قدم الحسن بن سهل بغداد نائباً عليها من جهة المأمون، ووجه نوابه إلى بقية أعماله، وتوجه طاهر إلى نيابة الجزيرة والشام ومصر وبلاد المغرب‏.‏

وسار هرثمة إلى خراسان نائباً عليها، وكان قد خرج في أواخر السنة الماضية في ذي الحجة منها الحسن الهرش يدعو إلى الرضى من آل محمد، فجبى الأموال وانتهب الأنعام وعاث في البلاد فساداً فبعث إليه المأمون جيشاً فقتلوه في المحرم من هذه السنة‏.‏

وفيها‏:‏ خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب يوم الخميس لعشر خلون من جمادى الآخرة يدعو إلى الرضى من آل محمد، والعمل بالكتاب والسنة، وهو الذي يقال له‏:‏ ابن طباطبا‏.‏

وكان القائم بأمره وتدبير الحرب بين يديه أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، وقد اتفق أهل الكوفة على موافقته، واجتمعوا عليه من كل فج عميق، ووفدت إليه الأعراب من نواحي الكوفة، وكان النائب عليها من جهة الحسن بن سهل سليمان بن أبي جعفر المنصور‏.‏

فبعث الحسن بن سهل يلومه ويؤنبه على ذلك، وأرسل إليه بعشرة آلاف فارس صحبة زاهر بن زهير بن المسيب، فتقاتلوا خارج الكوفة فهزموا زاهراً واستباحوا جيشه ونهبوا ما كان معه‏.‏

وذلك يوم الأربعاء سلخ جمادى الآخرة، فلما كان الغد من الوقعة توفي ابن طباطبا أمير الشيعة فجأة، يقال إن أبا السرايا سمه وأقام مكانه غلاماً أمرد يقال له‏:‏ محمد بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن طالب‏.‏

وانعزل زاهر بمن بقي معه من أصحابه إلى قصر بن هبيرة، وأرسل الحسن بن سهل مع عبدوس بن محمد أربعة آلاف فارس، صورة مدد لزاهر، فالتقوا هم وأبو السرايا فهزمهم أبو السرايا ولم يفلت من أصحاب عبدوس أحد، وانتشر الطالبيون في تلك البلاد، وضرب أبو السرايا الدراهم والدنانير في الكوفة، ونقش عليه‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً‏}‏ الآية ‏[‏الصف‏:‏ 4‏]‏‏.‏

ثم بعث أبو السرايا جيوشه إلى البصرة وواسط والمدائن فهزموا من فيها من النواب ودخلوها قهراً، وقويت شوكتهم، فأهم ذلك الحسن بن سهل وكتب إلى هرثمة يستدعيه لحرب أبي السرايا فتمنع ثم قدم عليه فخرج إلى أبي السرايا فهزم أبا السرايا غير مرة وطرده حتى رده إلى الكوفة، ووثب الطالبيون على دور بني العباس بالكوفة فنهبوها وخربوا ضياعهم، وفعلوا أفعالاً قبيحةً‏.‏

وبعث أبو السرايا إلى المدائن فاستجابوا، وبعث إلى أهل مكة حسين بن حسن الأفطس ليقيم لهم الموسم فخاف أن يدخلها جهرة، ولما سمع نائب مكة - وهو‏:‏ داود بن عيسى بن موسى بن علي بن عبد الله بن عباس - هرب من مكة طالباً أرض العراق، وبقي الناس بلا إمام فسئل مؤذنها أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي أن يصلي بهم فأبى، فقيل لقاضيها محمد بن عبد الرحمن المخزومي فامتنع، وقال‏:‏ لمن أدعو وقد هرب نواب البلاد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/267‏)‏

فقدم الناس رجلاً منهم فصلى بهم الظهر والعصر، وبلغ الخبر إلى حسين الأفطس فدخل مكة في عشرة أنفس قبل الغروب فطاف بالبيت، ثم وقف بعرفة ليلاً وصلى بالناس الفجر بمزدلفة وأقام بقية المناسك في أيام منى، فدفع الناس من عرفة بغير إمام‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن سليمان، وابن نمير، وابن سابور، وعمرو العنبري، والد مطيع البلخي، ويونس بن بكير‏.‏

 ثم دخلت سنة مائتين من الهجرة

في أول يوم منها‏:‏ جلس حسين بن حسن الأفطس على طنفسة مثلثة خلف المقام وأمر بتجريد الكعبة مما عليها من كساوي بني العباس، وقال‏:‏ نطهرها من كساويهم‏.‏

وكساها ملاءتين صفراوتين عليهما اسم أبي السرايا، ثم أخذ ما في كنز الكعبة من الأموال، وتتبع ودائع بني العباس فأخذها، حتى أنه أخذ مال ذوي المال ويزعم أنه للمسودة‏.‏

وهرب منه الناس إلى الجبال، وسبك ما على رؤوس الأساطين من الذهب، وكان ينزل مقدار يسير بعد جهد، وقلعوا ما في المسجد الحرام من الشبابيك وباعوها بالبخس، وأساؤوا السيرة جداً‏.‏

فلما بلغه مقتل أبي السرايا كتم ذلك وأمر رجلاً من الطالبيين شيخاً كبيراً، واستمر على سوء السيرة، ثم هرب في سادس عشر المحرم منها، وذلك لما قهر هرثمة أبا السرايا وهزم جيشه وأخرجه ومن معه من الطالبيين من الكوفة، ودخلها هرثمة ومنصور بن المهدي فأمنوا أهلها ولم يتعرضوا لأحد‏.‏

وسار أبو السرايا بمن معه إلى القادسية، ثم سار منها فاعترضهم بعض جيوش المأمون فهزمهم أيضاً وجرح أبو السرايا جراحةً منكرةً جداً، وهربوا يريدون الجزيرة إلى منزل أبي السرايا برأس العين، فاعترضهم بعض الجيوش أيضاً فأسروهم و أتوا بهم الحسن بن سهل وهو بالنهروان حين طردته الحربية، فأمر بضرب عنق أبي السرايا فجزع من ذلك جزعاً شديداً جداً وطيف برأسه وأمر بجسده أن يقطع اثنتين وينصب على جسري بغداد، فكان بين خروجه وقتله عشرة أشهر‏.‏

فبعث الحسن بن سهل بن محمد إلى المأمون مع رأس أبي السرايا‏.‏

وقال بعض الشعراء‏:‏

ألم تر ضربه الحسن بن سهل * بسيفك يا أمير المؤمنينا

أدارت مرو رأسَ أبي السَّرايا * وأبقيت عبرة للعالمينا

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 268‏)‏

وكان الذي في يده البصرة من الطالبيين زيد بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له‏:‏ زيد النار، لكثرة ما حرق من البيوت التي للمسودة، فأسره علي بن سعيد وأمنه وبعث به وبمن معه من القواد إلى اليمن لقتال من هناك من الطالبيين‏.‏

وفيها‏:‏ خرج باليمن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، ويقال له‏:‏ الجزار لكثرة من قتل من أهل اليمن، وأخذ من أموالهم‏.‏

وهو الذي كان بمكة وفعل فيها ما فعل كما تقدم، فلما بلغه قتل أبي السرايا هرب إلى اليمن، فلما بلغ نائب اليمن خبره ترك اليمن وسار إلى خراسان واجتاز بمكة وأخذ أمه منها‏.‏

واستحوذ إبراهيم هذا على بلاد اليمن وجرت حروب كثيرة يطول ذكرها، ورجع محمد بن جعفر العلوي عما كان يزعمه، وكان قد ادعى الخلافة بمكة‏.‏

وقال‏:‏ كنت أظن أن المأمون قد مات وقد تحققت حياته، وأنا أستغفر الله وأتوب إليه مما كنت ادعيت من ذلك، وقد رجعت إلى الطاعة وأنا رجل من المسلمين‏.‏

ولما هزم هرثمة راسل أبا السرايا وهو الذي أمره بالظهور، فاستدعاه المأمون إلى مرو فأمر به فضرب بين يديه ووطئ بطنه ثم رفع إلى الحبس ثم قتل بعد ذلك بأيام، وانطوى خبره بالكلية‏.‏

ولما وصل خبر قتله إلى بغداد عبثت العامة والحربية بالحسن بن سهل نائب العراق، وقالوا‏:‏ لا نرضى به ولا بعماله ببلادنا‏.‏

وأقاموا إسحاق بن موسى المهدي نائباً، واجتمع أهل الجانبين على ذلك، والتفت على الحسن بن سهل جماعة من الأمراء والأجناد، وأرسل من وافق العامة على ذلك من الأمراء يحرضهم على القتال، وجرت الحروب بينهم ثلاثة أيام في شعبان من هذه السنة‏.‏

ثم اتفق الحال على أن يعطيهم شيئاً من أرزاقهم ينفقونها في شهر رمضان، فما زال يمطلهم إلى ذي القعدة حتى يدرك الزرع، فخرج في ذي القعدة زيد بن موسى، الذي يقال له‏:‏ زيد النار، وهو أخو أبي السرايا، وقد كان خروجه هذه المرة بناحية الأنبار، فبعث إليه علي بن هشام نائب بغداد عن الحسن بن سهل والحسن بالمدائن إذ ذاك فأخذ وأتي به إلى علي بن هشام، و أطفأ الله ثأرته‏.‏

وبعث المأمون في هذه السنة يطلب من بقي من العباسيين، وأحصى كم العباسيون فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً، ما بين ذكور وإناث‏.‏

وفيها‏:‏ قتلت الروم ملكهم اليون، وقد ملكهم سبع سنين، وملكوا عليهم ميخائيل نائبه‏.‏

وفيها‏:‏ قتل المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، لأنه قال للمأمون‏:‏ يا أمير الكافرين‏.‏ فقتل صبراً بين يديه‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن المعتصم بن هارون الرشيد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 269‏)‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أسباط بن محمد، وأبو ضمرة، أنس بن عياض، ومسلم بن قتيبة، وعمر بن عبد الواحد، وابن أبي فديك، ومبشر بن إسماعيل، ومحمد بن جبير، ومعاذ بن هشام‏.‏

 ثم دخلت سنة إحدى ومائتين

فيها‏:‏ راود أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة فامتنع من ذلك، فراودوه على أن يكون نائباً للمأمون يدعو له في الخطبة فأجابهم إلى ذلك، وقد أخرجوا علي بن هشام نائب الحسن بن سهل من بين أظهرهم بعد أن جرت حروب كثيرة بسبب ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ عم البلاء بالعيَّارين والشطار والفساق ببغداد وما حولها من القرى، كانوا يأتون الرجل يسألونه مالاً يقرضهم أو يصلهم به فيمتنع عليهم فيأخذون جميع ما في منزله، وربما تعرضوا للغلمان والنسوان، ويأتون أهل القرية فيستاقون من الأنعام والمواشي، ويأخذون ما شاؤوا من الغلمان والنسوان، ونهبوا أهل قطر بل ولم يدعوا لهم شيئاً أصلاً‏.‏

فانتدب لهم رجل يقال له‏:‏ خالد الدريوش، وآخر يقال له‏:‏ سهل بن سلامة أبو حاتم الأنصاري من أهل خراسان‏.‏

والتف عليهم جماعة من العامة فكفوا شرهم وقاتلوهم، ومنعوهم من الفساد في الأرض، واستقرت الأمور كما كانت، وذلك في شعبان ورمضان‏.‏

وفي شوال منها‏:‏ رجع الحسن بن سهل إلى بغداد وصالح الجند، وانفصل منصور بن المهدي ومن وافقه من الأمراء‏.‏

وفيها‏:‏ بايع المأمون لعلي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب أن يكون ولي العهد من بعده، وسماه‏:‏ الرضى من آل محمد، وطرح لبس السواد وأمر بلبس الخضرة، فلبسها هو وجنده، وكتب بذلك إلى الآفاق والأقاليم، وكانت مبايعته له يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين‏.‏

وذلك أن المأمون رأى أن علياً الرضى خير أهل البيت وليس في بني العباس مثله في عمله ودينه، فجعله ولي عهده من بعده‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 270‏)‏

 بيعة أهل بغداد لإبراهيم بن المهدي

لما جاء الخبر أن المأمون بايع لعلي الرضى بالولاية من بعده اختلفوا فيما بينهم، فمن مجيب مبايع ومن آب ممانع، وجمهور العباسيين على الامتناع من ذلك، وقام في ذلك ابنا المهدي إبراهيم ومنصور‏.‏

فلما كان يوم الثلاثاء لخمس بقين من ذي الحجة أظهر العباسيون البيعة لإبراهيم بن المهدي ولقبوه‏:‏ المبارك - وكان أسود اللون - ومن بعده لابن أخيه إسحاق بن موسى بن المهدي، وخلعوا المأمون‏.‏

فلما كان يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة أرادوا أن يدعوا للمأمون ثم من بعده لإبراهيم فقالت العامة‏:‏ لا تدعوا إلا إلى إبراهيم فقط، واختلفوا واضطربوا فيما بينهم، ولم يصلوا الجمعة، وصلى الناس فرادى أربع ركعات‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح نائب طبرستان جبالها وبلاد اللارز والشيرز‏.‏

وذكر ابن حزم أن سلماً الخاسر قال في ذلك شعراً‏.‏

وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن سلماً توفي قبل ذلك بسنتين، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ أصاب أهل خراسان والري وأصبهان مجاعة شديدة وغلا الطعام جداً‏.‏

وفيها‏:‏ تحرك بابك الخرَّمي واتبعه طوائف من السفلة والجهلة وكان يقول بالتناسخ‏.‏ وسيأتي ما آل أمره إليه‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أبو أسامة حماد بن أسامة، وحماد بن مسعدة، وحرسي بن عمارة، وعلي بن عاصم، ومحمد بن محمد، صاحب أبي السرايا، الذي قد كان بايعه أهل الكوفة بعد ابن طباطبا‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث ومائتين

فيها‏:‏ وصل المأمون العراق ومر بطوس فنزل بها وأقام عند قبر أبيه أياماً من شهر صفر، فلما كان في آخر الشهر أكل علي بن موسى الرضى عنباً فمات فجأة فصلى عليه المأمون ودفنه إلى جانب أبيه الرشيد، وأسف عليه أسفاً كثيراً فيما ظهر، وكتب إلى الحسن بن سهل يعزيه فيه ويخبره بما حصل له من الحزن عليه‏.‏

وكتب إلى بني العباس يقول لهم‏:‏ إنكم إنما نقمتم عليَّ بسبب توليتي العهد من بعدي لعلي بن موسى الرضى، وهاهو قد مات فارجعوا إلى السمع والطاعة‏.‏

فأجابوه بأغلظ جواب كتب به إلى أحد‏.‏

وفيها‏:‏ تغلبت الثوار على الحسن بن سهل حتى قيد بالحديد وأودع في بيت، فكتب الأمراء بذلك إلى المأمون، فكتب إليهم إني واصل على إثر كتابي هذا‏.‏

ثم جرت حروب كثيرة بين إبراهيم وأهل بغداد، وتنكروا عليه وأبغضوه‏.‏

وظهرت الفتن والشطار والفساق ببغداد وتفاقم الحال، وصلوا يوم الجمعة ظهراً، أمَّهم المؤذنون فيها من غير خطبة، صلوا أربع ركعات، واشتد الأمر واختلف الناس فيما بينهم في إبراهيم والمأمون، ثم غلبت المأمونية عليهم‏.‏

خلع أهل بغداد إبراهيم بن المهدي

لما كان يوم الجمعة المقبلة دعا الناس للمأمون وخلعوا إبراهيم، وأقبل حميد بن عبد الحميد في جيش من جهة المأمون فحاصر بغداد‏.‏

وطمَّع جندها في العطاء إذا قدم فطاوعوه على السمع والطاعة للمأمون‏.‏

وقد قاتل عيسى بن محمد بن أبي خالد في جماعة من جهة إبراهيم بن المهدي، ثم احتال عيسى حتى صار في أيدي المأمونية أسيراً، ثم آل الحال إلى اختفاء إبراهيم بن المهدي في آخر هذه السنة‏.‏

وكانت أيامه سنة وإحدى عشر شهراً واثني عشر يوماً‏.‏

وقدم المأمون في هذا الوقت إلى همذان وجيوشه قد استنقذوا بغداد إلى طاعته‏.‏

وحج بالناس في هذه السنة سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 273‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

علي بن موسى

ابن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي الهاشمي العلوي، الملقب‏:‏ بالرضى، كان المأمون قد همَّ أن ينزل له عن الخلافة فأبى عليه ذلك، فجعله ولي العهد من بعده كما قدمنا ذلك‏.‏

توفي في صفر من هذه السنة بطوس‏.‏

وقد روى الحديث عن‏:‏ أبيه، وغيره‏.‏

وعنه جماعة، منهم‏:‏ المأمون، وأبو السلط الهروي، وأبو عثمان المازني النحوي‏.‏

وقال‏:‏ سمعته يقول‏:‏ الله أعدل من أن يكلف العباد ما لا يطيقون، وهم أعجز من أن يفعلوا ما يريدون‏.‏

ومن شعره‏:‏

كلنا يأمل مدَّاً في الأجل * والمنايا هن آفات الأمل

لا تغرنَّك أباطيل المنى * والزم القصد ودع عنك العلل

إنما الدنيا كظل زائل * حلَّ فيه راكب ثم ارتحل

 ثم دخلت سنة أربع ومائتين

فيها‏:‏ كان قدوم المأمون أرض العراق، وذلك أنه مرَّ بجرجان فأقام بها شهراً، ثم سار منها وكان ينزل في المنزل يوماً أو يومين، ثم جاء إلى النهروان فأقام بها ثمانية أيام، وقد كتب إلى طاهر بن الحسين وهو بالرقة أن يوافيه إلى النهروان فوافاه بها وتلقاه رؤوس أهل بيته والقواد وجمهور الجيش‏.‏

فلما كان يوم السبت الآخر دخل بغداد حين ارتفع النهار لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، في أبهة عظيمة وجيش عظيم، وعليه وعلى جميع أصحابه وفتيانه الخضرة، فلبس أهل بغداد وجميع بني هاشم الخضرة، ونزل المأمون بالرصافة ثم تحول إلى قصر على دجلة، وجعل الأمراء ووجوه الدولة يترددون إلى منزله على العادة، وقد تحول لباس البغاددة إلى الخضرة، وجعلوا يحرقون كل ما يجدونه من السواد، فمكثوا كذلك ثمانية أيام‏.‏

ثم استعرض حوائج طاهر بن الحسين فكان أول حاجة سألها أن يرجع إلى لباس السواد، فإنه لباس آبائه من دولة ورثة الأنبياء‏.‏

فلما كان السبت الآخر وهو الثامن والعشرين من صفر جلس المأمون للناس وعليه الخضرة، ثم إنه أمر بخلعة سوداء فألبسها طاهراً، ثم ألبس بعده جماعة من الأمراء السواد، فلبس الناس السواد وعادوا إلى ذلك، فعلم منهم بذلك الطاعة والموافقة‏.‏

وقيل‏:‏ إنه مكث يلبس الخضرة بعد قدومه بغداد سبعاً وعشرين يوماً، فالله أعلم‏.‏

ولما جاء إليه عمه إبراهيم بن المهدي بعد اختفائه ست سنين وشهوراً قال له المأمون‏:‏ أنت الخليفة الأسود‏.‏

فأخذ في الاعتذار والاستغفار‏.‏

ثم قال‏:‏ أنا الذي مننت عليه يا أمير المؤمنين بالعفو، وأنشد المأمون عند ذلك‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 274‏)‏

ليس يزري السواد بالرجل الشهم * ولا بالفتى الأديب الأريب

إن يكن للسواد منك نصيب * فبياض الأخلاق منك نصيبي

قال ابن خلكان‏:‏ وقد نظم هذا المعنى بعض المتأخرين وهو نصر الله بن قلانس الإسكندري فقال‏:‏

رب سوداء وهي بيضاء فعل * حسد المسك عندها الكافور

مثل حبِّ العيون يحسبه الناس * سواداً وإنما هو نور

وكان المأمون قد شاور في قتل عمه إبراهيم بن المهدي بعض أصحابه فقال له أحمد بن خالد الوزير الأحول‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن قتلته فلك نظراء في ذلك، وإن عفوت عنه فما لك نظير‏.‏

ثم شرع المأمون في بناء قصور على دجلة إلى جانب قصره، وسكنت الفتن وانزاحت الشرور، وأمر بمقاسمة أهل السواد على الخمسين، وكانوا يقاسمون على النصف‏.‏

واتخذ القفيز الملحم وهو‏:‏ عشرة مكاكي بالمكوك الأهوازي، ووضع شيئاً كثيراً من خراجات بلاد شتى، ورفق بالناس في مواضع كثيرة‏.‏

وولى أخاه أبا عيسى بن الرشيد الكوفة، وولى أخاه صالحاً البصرة، وولى عبيد الله بن الحسين بن عبد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب نيابة الحرمين، وهو الذي حج بالناس فيها‏.‏

وواقع يحيى بن معاذ بابك الخرَّمي فلم يظفر به‏.‏

وفيها توفي من الأعيان جماعة منهم‏:‏

 أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي

وقد أفردنا له ترجمة مطولة في أول كتابنا طبقات الشافعيين، ولنذكر ههنا ملخصاً من ذلك وبالله المستعان‏.‏

هو‏:‏ محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، القرشي المطلبي‏.‏

والسائب بن عبيد أسلم يوم بدر، وابنه شافع بن السائب من صغار الصحابة، وأمه أزدية‏.‏

وقد رأت حين حملت به كأن المشتري خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثم وقع في كل بلد منه شظية‏.‏

وقد ولد الشافعي بغزة، وقيل‏:‏ بعسقلان، وقيل‏:‏ باليمن، سنة خمسين ومائة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 275‏)‏

ومات أبوه وهو صغير فحملته أمه إلى مكة وهو ابن سنتين لئلا يضيع نسبه فنشأ بها وقرأ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة‏.‏

وقيل‏:‏ ابن ثماني عشرة سنة‏.‏

أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني باللغة والشعر، وأقام في هذيل نحواً من عشر سنين، وقيل‏:‏ عشرين سنة، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة من المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته، وأخذ عنه علم الحجازيين بعد أخذه عن مسلم بن خالد الزنجي‏.‏

وروى عنه خلق كثير قد ذكرنا أسماءهم مرتبين على حروف المعجم‏.‏

وقرأ القرآن على إسماعيل بن قسطنطين، عن شبل، عن ابن كثير، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن الله عز وجل‏.‏

وأخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس وابن الزبير وغيرهما، عن جماعة من الصحابة، منهم‏:‏ عمرو بن علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم‏.‏

وكلهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وتفقه أيضاً على مالك عن مشايخه، وتفقه به جماعة قد ذكرناهم ومن بعدهم إلى زماننا في تصنيف مفرد‏.‏

وقد روى ابن أبي حاتم، عن أبي بشر الدولابي، عن محمد بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي‏:‏ أنه ولي الحكم بنجران من أرض اليمن، ثم تعصبوا عليه ووشوا به إلى الرشيد أنه يروم الخلافة، فحمل على بغل في قيد إلى بغداد فدخلها في سنة أربع وثمانين ومائة وعمره ثلاثون سنة‏.‏

فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده‏.‏

وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة، وقيل‏:‏ بسنتين، وأكرمه محمد بن الحسن وكتب عنه الشافعي وقر بعير، ثم أطلق له الرشيد ألفي دينار، وقيل‏:‏ خمسة آلاف دينار‏.‏

وعاد الشافعي إلى مكة ففرق عامة ما حصل له في أهله وذوي رحمه من بني عمه، ثم عاد الشافعي إلى العراق في سنة خمس وتسعين ومائة، فاجتمع به جماعة من العلماء هذه المرة منهم‏:‏ أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث بن شريح البقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، والزعفراني، وغيرهم‏.‏

ثم رجع إلى مكة ثم رجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين ومائة، ثم انتقل منها إلى مصر فأقام بها إلى أن مات في هذه السنة، سنة أربع ومائتين‏.‏

وصنف بها كتابه الأم وهو من كتبه الجديدة لأنها من رواية الربيع بن سليمان، وهو مصري‏.‏

وقد زعم إمام الحرمين وغيره أنها من القديم، وهذا بعيد وعجيب من مثله، والله أعلم‏.‏

وقد أثنى على الشافعي غير واحد من كبار الأئمة منهم‏:‏ عبد الرحمن بن مهدي، وسأله أن يكتب له كتاباً في الأصول فكتب له الرسالة، وكان يدعو له في الصلاة دائماً، وشيخه مالك بن أنس‏.‏

وقتيبة بن سعيد‏.‏ وقال‏:‏ هو إمام‏.‏

وسفيان بن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وكان يدعو له أيضاً في صلاته‏.‏

وأبو عبيد، وقال‏:‏ ما رأيت أفصح ولا أعقل ولا أورع من الشافعي‏.‏

ويحيى بن أكثم القاضي، وإسحاق بن راهويه، ومحمد بن الحسن، وغير واحد ممن يطول ذكرهم وشرح أقوالهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 276‏)‏

وكان أحمد بن حنبل يدعو له في صلاته نحواً من أربعين سنة، وكان أحمد يقول في الحديث الذي رواه أبو داود، من طريق عبد الله بن وهب، عن سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها‏)‏‏)‏‏.‏

قال‏:‏ فعمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، والشافعي على رأس المائة الثانية‏.‏

وقال أبو داود الطيالسي‏:‏ حدثنا جعفر بن سليمان، عن نصر بن معبد الكندي - أو العبدي -، عن الجارود، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏لا تسبوا قريشاً فإن عالمها يملأ الأرض علماً، اللهم إنك أذقت أولها عذاباً ووبالاً فأذق آخرها نوالاً‏)‏‏)‏‏.‏

وهذا غريب من هذا الوجه، وقد رواه الحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه‏.‏

قال أبو نعيم عبد الملك بن محمد الإسفراييني‏:‏ لا ينطبق هذا إلا على محمد بن إدريس الشافعي‏.‏ حكاه الخطيب‏.‏

وقال يحيى بن معين، عن الشافعي‏:‏ هو صدوق لا بأس به‏.‏

وقال مرة‏:‏ لو كان الكذب له مباحاً مطلقاً لكانت مروءته تمنعه أن يكذب‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ الشافعي فقيه البدن، صدوق اللسان‏.‏

وحكى بعضهم عن أبي زرعة أنه قال‏:‏ ما عند الشافعي حديث غلط فيه‏.‏ وحكي عن أبي داود نحوه‏.‏

وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة - وقد سئل‏:‏ هل سنَّة لم تبلغ الشافعي‏؟‏ - فقال‏:‏ لا ‏!‏‏.‏

ومعنى هذا أنها تارة تبلغه بسندها، وتارة مرسلة، وتارة منقطعة كما هو الموجود في كتبه، والله أعلم‏.‏

وقال حرملة‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ سميت ببغداد‏:‏ ناصر السنة‏.‏

وقال أبو ثور‏:‏ ما رأينا مثل الشافعي ولا هو رأى مثل نفسه‏.‏

وكذا قال الزعفراني وغيره‏.‏

وقال داود بن علي الظاهري في كتاب جمعه في فضائل الشافعي‏:‏ للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره من‏:‏ شرف نسبه، وصحة دينه ومعتقده، وسخاوة نفسه، ومعرفته بصحة الحديث وسقمه وناسخه ومنسوخه، وحفظه الكتاب والسنة وسيرة الخلفاء، وحسن التصنيف، وجودة الأصحاب والتلامذة، مثل‏:‏ أحمد بن حنبل في زهده وورعه، وإقامته على السنة‏.‏

ثم سرد أعيان أصحابه من البغاددة والمصريين، وكذا عدَّ أبو داود من جملة تلاميذه في الفقه‏:‏ أحمد بن حنبل‏.‏

وقد كان الشافعي من أعلم الناس بمعاني القرآن والسنة، وأشد الناس نزعاً للدلائل منهما، وكان من أحسن الناس قصداً وإخلاصاً، كان يقول‏:‏ وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولا ينسب إلي شيء منه أبداً فأوجز عليه ولا يحمدوني‏.‏

وقد قال غير واحد، عنه‏:‏ إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به ودعوا قولي، فإني أقول به، وإن لم تسمعوا مني‏.‏

وفي رواية‏:‏ فلا تقلدوني‏.‏

وفي رواية‏:‏ فلا تلتفتوا إلى قولي‏.‏

وفي رواية‏:‏ فاضربوا بقولي عرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال‏:‏ لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 277‏)‏

وفي رواية‏:‏ خير من أن يلقاه بعلم الكلام‏.‏

وقال‏:‏ لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه كما يفرون من الأسد‏.‏

وقال‏:‏ حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويطاف بهم في القبائل، وينادى عليهم هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام‏.‏

وقال البويطي‏:‏ سمعت الشافعي يقول‏:‏ عليكم بأصحاب الحديث فإنهم أكثر الناس صواباً‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت رجلاً من أصحاب الحديث فكأنما رأيت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جزاهم الله خيراً، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل‏.‏

ومن شعره في هذا المعنى قوله‏:‏

كل العلوم سوى القرآن مشغلة * إلا الحديث وإلا الفقه في الدين

العلم ما كان فيه قال حدثنا * وما سوى ذاك وسواس الشياطين

وكان يقول‏:‏ القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال‏:‏ مخلوق، فهو كافر‏.‏

وقد روى عن الربيع وغير واحد من رؤوس أصحابه ما يدل على أنه كان يمر بآيات الصفات وأحاديثها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، على طريقة السلف‏.‏

وقال ابن خزيمة‏:‏ أنشدني المزني وقال أنشدنا الشافعي لنفسه قوله‏:‏

ما شئت كان وإن لم أشأ * وما شئت إن لم تشأ لم يكن

خلقت العباد على ما علمت * ففي العلم يجري الفتى والمسن

فمنهم شقي ومنهم سعيد * ومنهم قبيح ومنهم حسن

على ذا مننت وهذا خذلت * وهذا أعنت وذا لم تعن

وقال الربيع‏:‏ سمعت الشافعي، يقول‏:‏ أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي‏.‏

وعن الربيع قال‏:‏ أنشدني الشافعي‏:‏

قد عوج الناس حتى أحدثوا بدعاً * في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل

حتى استخف بحق الله أكثرهم * وفي الذي حملوا من حقه شغل

وقد ذكرنا من شعره في السنة وكلامه فيها وفيما قال من الحكم والمواعظ طرفاً صالحاً في الذي كتبناه في أول طبقات الشافعية‏.‏

وقد كانت وفاته بمصر يوم الخميس، وقيل‏:‏ يوم الجمعة، في آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين، وعن أربع وخمسين سنة‏.‏

وكان أبيض جميلاً طويلاً مهيباً يخضب بالحناء، مخالفاً للشيعة رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 278‏)‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن الفرات، وأشهب بن عبد العزيز المصري المالكي، والحسن بن زياد، اللؤلؤي الكوفي الحنفي وأبو داود سليمان بن داود، الطيالسي، صاحب المسند، أحد الحفاظ‏.‏

وأبو بدر شجاع بن الوليد، وأبو بكر الحنفي، وعبد الكريم، وعبد الوهاب بن عطا الخفاف، والنضر بن شميل، أحد أئمة اللغة‏.‏

وهشام بن محمد بن السائب، الكلبي، أحد علماء التاريخ‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس ومائتين

فيها‏:‏ ولى المأمون طاهر بن الحسين بن مصعب نيابة بغداد والعراق وخراسان إلى أقصى عمل المشرق، ورضي عنه ورفع منزلته جداً، وذلك لأجل مرض الحسن بن سهل بالسواد‏.‏

وولى المأمون مكان طاهر على الرقة والجزيرة يحيى بن معاذ‏.‏

وقدم عبد الله بن طاهر بن الحسين إلى بغداد في هذه السنة، وكان أبوه قد استخلفه على الرقة وأمره بمقاتلة نصر بن شبث‏.‏

وولى المأمون عيسى بن يزيد الجلودي مقاتلة الزط‏.‏

وولى عيسى بن محمد بن أبي خالد أذربيجان‏.‏

ومات نائب مصر السري بن الحكم بها، ونائب السند داود بن يزيد، فولى مكانه بشر بن داود على أن يحمل إليه في كل سنة ألف ألف درهم‏.‏

وحج بالناس فيها عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إسحاق بن منصور السلولي، وبشر بن بكر الدمشقي، وأبو عامر العقدي، ومحمد بن عبيد الطنافسي، ويعقوب الحضري‏.‏

وأبو سليمان الداراني

عبد الرحمن بن عطية، وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل‏:‏ عبد الرحمن بن عسكر‏.‏

أبو سليمان الداراني، أحد أئمة العلماء العاملين، أصله من واسط، سكن قرية غربي دمشق يقال لها‏:‏ داريا‏.‏

وقد سمع الحديث من‏:‏ سفيان الثوري، وغيره‏.‏

وروى عنه‏:‏ أحمد بن أبي الحواري، وجماعة‏.‏

وأسند الحافظ ابن عساكر من طريقه، قال‏:‏ سمعت علي بن الحسن بن أبي الربيع الزاهد، يقول‏:‏ سمعت إبراهيم بن أدهم، يقول‏:‏ سمعت ابن عجلان يذكر، عن القعقاع بن حكيم، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من صلى قبل الظهر أربعاً غفر الله ذنوبه يومه ذلك‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أبو القاسم القشيري‏:‏ حكي عن أبي سليمان الداراني، قال‏:‏ اختلفت إلى مجلس قاصٍّ فأثر كلامه في قلبي، فلما قمت لم يبق في قلبي منه شيء، فعدت إليه ثانية فأثر في قلبي بعد ما قمت وفي الطريق، ثم عدت إليه ثالثة فأثر كلامه في قلبي حتى رجعت إلى منزلي، فكسرت آلات المخالفات ولزمت الطريق، فحكيت هذه الحكاية ليحيى بن معاذ، فقال‏:‏ عصفور اصطاد كركياً - يعني‏:‏ بالعصفور القاص، وبالكركي‏:‏ أبا سليمان -‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان، يقول‏:‏ ليس لمن ألهم شيئاً من الخير أن يعمل به حتى يسمع به في الأثر، فإذا سمع به في الأثر عمل به فكان نوراً على نور‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 279‏)‏

وقال الجنيد‏:‏ قال أبو سليمان‏:‏ ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم فلا أقبلها إلا بشاهدين عدلين‏:‏ الكتاب والسنة‏.‏

قال‏:‏ وقال أبو سليمان‏:‏ أفضل الأعمال خلاف هوى النفس‏.‏

وقال‏:‏ لكل شيء علم، وعلم الخذلان ترك البكاء من خشية الله‏.‏

وقال‏:‏ لكل شيء صدأ، وصدأ نور القلب شبع البطن‏.‏

وقال‏:‏ كل ما شغلك عن الله من أهل أو مال أو ولد فهو شؤم‏.‏

وقال‏:‏ كنت ليلة في المحراب أدعو ويداي ممدوتان فغلبني البرد فضممت إحداهما وبقيت الأخرى مبسوطة أدعو بها، وغلبتني عيني فنمت فهتف بي هاتف‏:‏ يا أبا سليمان ‏!‏ قد وضعنا في هذه ما أصابها، ولو كانت الأخرى لوضعنا فيها‏.‏

قال‏:‏ فآليت على نفسي ألا أدعو إلا ويداي خارجتان حراً كان أو برداً‏.‏

وقال‏:‏ نمت ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء تقول لي‏:‏ تنام وأنا أربي لك في الخدور منذ خمسمائة عام ‏؟‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان، يقول‏:‏ إن في الجنة أنهاراً على شاطئيها خيام فيهن الحور، ينشئ الله خلق الحوراء إنشاء، فإذا تكامل خلقها ضربت الملائكة عليهن الخيام، الواحدة منهن جالسة على كرسي من ذهب ميل في ميل، قد خرجت عجيزتها من جانب الكرسي، فيجيء أهل الجنة من قصورهم يتنزهون على شاطئ تلك الأنهار ما شاؤوا ثم يخلو كل رجل بواحدة منهن‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ كيف يكون في الدنيا حال من يريد افتضاض الأبكار على شاطئ تلك الأنهار في الجنة‏.‏

وقال‏:‏ سمعت أبا سليمان يقول‏:‏ ربما مكثت خمس ليال لا أقرأ بعد الفاتحة بآية واحدة أتفكر في معانيها، ولربما جاءت الآية من القرآن فيطير العقل، فسبحان من يرده بعد‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، ومفتاح الدنيا الشبع، ومفتاح الآخرة الجوع‏.‏

وقال لي يوماً‏:‏ يا أحمد ‏!‏ جوع قليل، وعري قليل، وفقر قليل، وصبر قليل، وقد انقضت عنك أيام الدنيا‏.‏

وقال أحمد‏:‏ اشتهى أبو سليمان يوماً رغيفاً حاراً بملح فجئته به فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي ويقول‏:‏ يا رب عجلت لي شهوتي، لقد أطلت جهدي وشقوتي وأنا تائب‏؟‏ فلم يذق الملح حتى لحق بالله عز وجل‏.‏

قال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ ما رضيت عن نفسي طرفة عين، ولو أن أهل الأرض اجتمعوا على أن يضعوني كاتضاعي عند نفسي ما قدروا‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة‏.‏

وسمعته يقول‏:‏ من حسن ظنه بالله ثم لم يخفه ويطعه فهو مخدوع‏.‏

وقال‏:‏ ينبغي للخوف أن يكون على العبد أغلب الرجاء، فإذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب‏.‏

وقال لي يوماً‏:‏ هل فوق الصبر منزلة ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏ - يعني‏:‏ الرضا -‏.‏

فصرخ صرخة غشي عليه ثم أفاق فقال‏:‏ إذا كان الصابرون يوفون أجرهم بغير حساب، فما ظنك بالأخرى وهم الذين رضي عنهم‏.‏

وقال‏:‏ ما يسرني أن لي الدنيا وما فيها من أولها إلى آخرها أنفقه في وجوه البر، وإني أغفل عن الله طرفة عين‏.‏

وقال‏:‏ قال زاهد لزاهد‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ لا يراك الله حيث نهاك، ولا يفقدك حيث أمرك‏.‏

فقال‏:‏ زدني‏.‏

فقال‏:‏ ما عندي زيادة‏.‏

وقال‏:‏ من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، ومن أحسن في ليلة كوفئ في نهاره، ومن صدق في

ترك شهوة أذهبها الله من قلبه، والله أكرم من أن يعذب قلباً بشهوة تركت له‏.‏

وقال‏:‏ إذا سكنت الدنيا القلب ترحلت منه الآخرة، وإذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، وإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الدنيا لئيمة والآخرة كريمة، وما ينبغي لكريم أن يزاحم لئيماً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 280‏)‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ بتُّ ليلة عند أبي سليمان فسمعته يقول‏:‏ وعزتك وجلالك لئن طالبتني بذنوبي لأطالبنك بعفوك، ولئن طالبتني ببخلي لأطالبنك بكرمك، ولئن أمرت بي إلى النار لأخبرن أهل النار أني أحبك‏.‏

وكان يقول‏:‏ لو شك الناس كلهم في الحق ما شككت فيه وحدي‏.‏

وكان يقول‏:‏ ما خلق الله خلقاً أهون عليَّ من إبليس، ولولا أن الله أمرني أن أتعوذ منه ما تعوذت منه أبداً، ولو تبدَّى لي ما لطمت إلا صفحة وجهه‏.‏

وقال‏:‏ إن اللص لا يجيء إلى خربة ينقب حيطانها وهو قادر على الدخول إليها من أي مكان شاء، وإنما يجيء إلى البيت المعمور، كذلك إبليس لا يجيء إلا كل قلب عامر ليستنزله وينزله عن كرسيه ويسلبه أعز شيء‏.‏

وقال‏:‏ إذا أخلص العبد انقطعت عنه الوساوس والرؤيا‏.‏

وقال‏:‏ الرؤيا - يعني‏:‏ الجنابة -‏.‏

وقال‏:‏ مكثت عشرين سنة لم أحتلم فدخلت مكة ففاتتني صلاة العشاء جماعة فاحتلمت تلك الليلة‏.‏

وقال‏:‏ إن من خلق الله قوماً لا يشغلهم الجنان وما فيها من النعيم عنه فكيف يشتغلون بالدنيا عنه ‏؟‏‏.‏

وقال‏:‏ الدنيا عند الله أقل من جناح بعوضة فما الزهد فيها، وإنما الزهد في الجنان والحور العين، حتى لا يرى الله في قلبك غيره‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ شيء يروى عن أبى سليمان، أنا استحسنته كثيراً قوله‏:‏ من اشتغل بنفسه شغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شغل عن نفسه وعن الناس‏.‏

وقال‏:‏ خير السخاء ما وافق الحاجة‏.‏

وقال‏:‏ من طلب الدنيا حلالاً واستغناء عن المسألة واستغناء عن الناس لقي الله يوم يلقاه ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلب الدنيا حلالاً مفاخراً ومكاثراً لقي الله يوم يلقاه وهو عليه غضبان‏.‏

وقد روي نحو هذا مرفوعاً‏.‏

وقال‏:‏ إن قوماً طلبوا الغنى في المال وجمعه فأخطأوا من حيث ظنوا، ألا وإنما الغنى في القناعة، وطلبوا الراحة في الكثرة وإنما الراحة في القلة، وطلبوا الكرامة من الخلق وإنما هي في التقوى، وطلبوا التنعم في اللباس الرقيق اللين، والطعام الطيب، والمسكن الأنيق المنيف، وإنما هو في الإسلام والإيمان، والعمل الصالح، والستر والعافية، وذكر الله‏.‏

وقال‏:‏ لولا قيام الليل ما أحببت البقاء في الدنيا وما أحب الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما أحبها لصيام الهواجر وقيام الليل‏.‏

وقال‏:‏ أهل الطاعة في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم‏.‏

وقال‏:‏ ربما استقبلني الفرح في جوف الليل، وربما رأيت القلب يضحك ضحكاً‏.‏

وقال‏:‏ إنه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً فأقول‏:‏ إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب‏.‏

وقال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ سمعت أبا سليمان يقول‏:‏ بينا أنا ساجد إذ ذهب بي النوم فإذا

أنا بها - يعني‏:‏ الحوراء - قد ركضتني برجلها فقالت‏:‏ حبيبي أترقد عيناك والملك يقظان ينظر إلى المتهجدين في تهجدهم‏؟‏ بؤساً لعين آثرت لذة نومة على لذة مناجاة العزيز، قم فقد دنا الفراغ ولقي المحبون بعضهم بعضاً، فما هذا الرقاد‏؟‏ حبيبي وقرَّة عيني أترقد عيناك وأنا أتربى لك في الخدود منذ كذا وكذا ‏؟‏

قال‏:‏ فوثبت فزعاً وقد عرقت حياء من توبيخها إياي، وإن حلاوة منطقها لفي سمعي وقلبي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 281‏)‏

وقال أحمد‏:‏ دخلت على أبي سليمان فإذا هو يبكي، فقلت‏:‏ مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ زجرت البارحة في منامي‏.‏

قلت‏:‏ ما الذي زجرك ‏؟‏

قال‏:‏ بينا أنا نائم في محرابي إذ وقفت عليّ جارية تفوق الدنيا حسناً، وبيدها ورقة وهي تقول‏:‏ أتنام يا شيخ ‏؟‏

فقلت‏:‏ من غلبت عينه نام ‏؟‏

قالت‏:‏ كلا إن طالب الجنة لا ينام، ثم قالت‏:‏ أتقرأ ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ فأخذت الورقة من يدها فإذا فيها مكتوب‏:‏

لهت بك لذة عن حسن عيش * مع الخيرات في غرف الجنان

تعيش مخلداً لا موت فيها * وتنعم في الجنان مع الحسان

تيقظ من منامك إن خيراً * من النوم التهجد في القرآن

وقال أبو سليمان‏:‏ أما يستحي أحدكم أن يلبس عباءة بثلاثة دراهم وفي قلبه شهوة بخمسة دراهم ‏؟‏

وقال أيضاً‏:‏ لا يجوز لأحد أن يظهر للناس الزهد والشهوات في قلبه، فإذا لم يبق في قلبه شيء من الشهوات جاز له أن يظهر إلى الناس الزهد بلبس العبا فإنها علم من أعلام الزهاد، ولو لبس ثوبين أبيضين ليستر بهما أبصار الناس عنه وعن زهده كان أسلم لزهده من لبس العبا‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت الصوفي يتنوق في لبس الصوف فليس بصوفي، وخيار هذه الأمة أصحاب القطن، أبو بكر الصديق وأصحابه‏.‏

وقال غيره‏:‏ إذا رأيت ضوء الفقير في لباسه فاغسل يديك من فلاحه‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ الأخ الذي يعظك برؤيته قبل كلامه، وقد كنت أنظر إلى الأخ من أصحابي بالعراق فأنتفع برؤيته شهراً‏.‏

وقال أبو سليمان‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏‏(‏عبدي إنك ما استحييت مني أنسيت الناس عيوبك، وأنسيت بقاع الأرض ذنوبك، ومحوت زلاتك من أم الكتاب ولم أناقشك الحساب يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ سألت أبا سليمان عن الصبر فقال‏:‏ والله إنك لا تقدر عليه في الذي تحب فكيف تقدر عليه فيما تكره ‏؟‏‏.‏

وقال أحمد‏:‏ تنهدت عنده يوماً فقال‏:‏ إنك مسؤول عنها يوم القيامة، فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك، وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك‏.‏

وقال‏:‏ إنما رجع من رجع من الطريق قبل وصول ولو وصلوا إلى الله ما رجعوا‏.‏

وقال‏:‏ إنما عصى الله من عصاه لهوانهم عليه، ولو عزوا عليه وكرموا لحجزهم عن معاصيه، وحال بينهم وبينها‏.‏

وقال‏:‏ جلساء الرحمن يوم القيامة من جعل فيهم خصالاً‏:‏ الكرم، والحلم، والعلم، والحكمة، والرأفة، والرحمة، والفضل، والصفح، والإحسان، والبر، والعفو، واللطف‏.‏

وذكر أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب محن المشايخ أن أبا سليمان الداراني أخرج من دمشق‏.‏

وقالوا‏:‏ إنه يرى الملائكة ويكلمونه، فخرج إلى بعض الثغور فرأى بعض أهل الشام في منامه أنه إن لم يرجع إليهم هلكوا‏.‏

فخرجوا في طلبه وتشفعوا وتذللوا له حتى ردوه‏.‏

وقد اختلف الناس في وفاته على أقوال‏:‏

فقيل‏:‏ مات سنة أربع ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ خمس عشرة ومائتين‏.‏

وقيل‏:‏ سنة خمس وثلاثين ومائتين، فالله أعلم‏.‏

وقد قال مروان الطاطري يوم مات أبو سليمان‏:‏ لقد أصيب به أهل الإسلام كلهم‏.‏

قلت‏:‏ وقد دفن في قرية داريا في قبلتها، وقبره بها مشهور وعليه بناء، وقبلته مسجد بناه الأمير ناهض الدين عمر النهرواني، ووقف على المقيمين عنده وقفاً يدخل عليهم منه غلة، وقد جدد مزاره في زماننا هذا‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 282‏)‏

ولم أر ابن عساكر تعرض لموضع دفنه بالكلية، وهذا منه عجيب‏.‏

وروى ابن عساكر، عن أحمد بن أبي الحواري، قال‏:‏ كنت أشتهي أن أرى أبا سليمان في المنام فرأيته بعد سنة‏.‏

فقلت له‏:‏ ما فعل الله بك يا معلم ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أحمد دخلت يوماً من باب الصغير فرأيت حمل شيح فأخذت منه عوداً فما أدري تخللت به أو رميته، فأنا في حسابه إلى الآن‏.‏

وقد توفي ابنه سليمان بعده بنحو من سنتين رحمهما الله تعالى‏.‏

 ثم دخلت سنة ست ومائتين

فيها‏:‏ ولى المأمون داود بن ماسجور بلاد البصرة وكور دجلة واليمامة والبحرين، وأمره بمحاربة الزط‏.‏

وفيها‏:‏ جاء مد كثير فغرق أرض السواد وأهلك للناس شيئاً كثيراً‏.‏

وفيها‏:‏ ولى المأمون عبد الله بن طاهر بن الحسين أرض الرقة وأمره بمحاربة نصر بن شبث، وذلك أن نائبها يحيى بن معاذ مات وقد كان استخلف مكانه ابنه أحمد فلم يمض ذلك المأمون، واستناب عليه عبد الله بن طاهر لشهامته وبصره بالأمور، وحثه على قتال نصر بن شبث، وقد كتب إليه أبوه من خراسان بكتاب فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واتباع الكتاب والسنة‏.‏

وقد ذكره ابن جرير بطوله، وقد تداوله الناس بينهم واستحسنوه وتهادوه بينهم، حتى بلغ أمره إلى المأمون فأمر فقرئ بين يديه فاستجاده جداً، وأمر أن يكتب به نسخ إلى سائر العمال في الأقاليم‏.‏

وحج بالناس عبيد الله بن الحسن نائب الحرمين‏.‏

وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن بشر الكاهلي، أبو حذيفة، صاحب كتاب المبتدأ‏.‏

وحجاج بن محمد الأعور، وداود بن المحبر، الذي وضع كتاب العقل‏.‏

وسبابة بن سوار ‏(‏شبابة‏)‏، ومحاضر بن المورد، وقطرب، صاحب المثلث في اللغة‏.‏

ووهب بن جرير، ويزيد بن هارون، شيخ الإمام أحمد‏.‏