فصل: سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثمان عشرة وأربعمائة

في ربيع الأول منها وقع برد أهلك شيئاً كثيراً من الزروع والثمار، وقتل خلقاً كثيراً من الدواب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/28‏)‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد قيل إنه كان في برده كل بردة رطلان وأكثر، وفي واسط بلغت البردة أرطالاً، وفي بغداد بلغت قدر البيض‏.‏

وفي ربيع الآخر سألت الاسفهلارية الغلمان الخليفة أن يعزل عنهم أبا كاليجار، لتهاونه بأمرهم، وفساده وفساد الأمور في أيامه، ويولي عليهم جلال الدولة، الذي كانوا قد عزلوه عنهم، فماطلهم الخليفة في ذلك، وكتب إلى أبي كاليجار أن يتدارك أمره، وأن يسرع الأوبة إلى بغداد، قبل أن يفوت الأمر‏.‏

وألح أولئك على الخليفة في تولية جلال الدولة، وأقاموا له الخطبة ببغداد، وتفاقم الحال، وفسد النظام‏.‏

وفيها‏:‏ ورد كتاب من محمود بن سبكتكين يذكر أنه دخل بلاد الهند أيضاً، وأنه كسر الصنم الأعظم الذي لهم المسمى بسومنات، وقد كانوا يفدون إليه من كل فج عميق، كما يفد الناس إلى الكعبة البيت الحرام وأعظم، وينفقون عنده النفقات والأموال الكثيرة التي لا توصف ولا تعد، وكان عليه من الأوقاف عشرة آلاف قرية، ومدينة مشهورة، وقد امتلأت خزائنه أموالاً، وعنده ألف رجل يخدمونه، وثلاثمائة رجل يحلقون رؤوس حجيجه، وثلاثمائة رجل يغنون ويرقصون على بابه، لما يضرب على بابه الطبول والبوقات، وكان عنده من المجاورين ألوف يأكلون من أوقافه، وقد كان البعيد من الهنود يتمنى لو بلغ هذا الصنم، وكان يعوقه طول المفاوز وكثرة الموانع والآفات، ثم استخار الله السلطان محمود لما بلغه خبر هذا الصنم وعباده، وكثرة الهنود في طريقه، والمفاوز المهلكة، والأرض الخطرة، في تجشم ذلك في جيشه، وأن يقطع تلك الأهوال إليه‏.‏

فندب جيشه لذلك فانتدب معه ثلاثون ألفاً من المقاتلة، ممن اختارهم لذلك، سوى المتطوعة، فسلمهم الله حتى انتهوا إلى بلد هذا الوثن، ونزلوا بساحة عباده، فإذا هو بمكان بقدر المدينة العظيمة، قال‏:‏ فما كان بأسرع من أن ملكناه وقتلنا من أهله خمسين ألفاً، وقلعنا هذا الوثن وأوقدنا تحته النار‏.‏

وقد ذكر غير واحد‏:‏ أن الهنود بذلوا للسلطان محمود أموالاً جزيلة ليترك لهم هذا الصنم الأعظم، فأشار من أشار من الأمراء على السلطان محمود بأخذ الأموال وإبقاء هذا الصنم لهم، فقال‏:‏ حتى أستخير الله عز وجل‏.‏

فلما أصبح قال‏:‏ إني فكرت في الأمر الذي ذكر فرأيت أنه إذا نوديت يوم القيامة‏:‏ أين محمود الذي كسر الصنم‏؟‏ أحب إليّ من أن يقال الذي ترك الصنم لأجل ما يناله من الدنيا، ثم عزم فكسره رحمه الله‏.‏

فوجد عليه وفيه من الجواهر واللآلئ والذهب والجواهر النفيسة ما ينيف على ما بذلوه له بأضعاف مضاعفة، ونرجو من الله له في الآخرة الثواب الجزيل الذي مثقال دانق منه خير من الدنيا وما فيها، مع ما حصل له من الثناء الجميل الدنيوي، فرحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وفي يوم السبت ثالث رمضان دخل جلال الدولة إلى بغداد فتلقاه الخليفة في دجلة في طيارة، ومعه الأكابر والأمراء، فلما واجه جلال الدولة الخليفة قبّل الأرض دفعات، ثم سار إلى دار الملك، وعاد الخليفة إلى داره، وأمر جلال الدولة أن يضرب له الطبل في أوقات الصلوات الثلاث، كما كان الأمر في زمن عضد الدولة، وصمصامها وشرفها وبهائها، وكان الخليفة يضرب له الطبل في أوقات الخمس، فأراد جلال الدولة ذلك فقيل له‏:‏ يحمل هذه المساواة الخليفة في ذلك، ثم صمم على ذلك في أوقات الخمس‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها وقع برد شديد حتى جمد الماء والنبيذ وأبوال الدواب والمياه الكبار، وحافات دجلة‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/29‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن عبد الله

ابن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو عبد الله الشاهد، خطب له في جامع المنصور في سنة ست وثمانين وثلاثمائة، ولم يخطب له إلا بخطبة واحدة جمعات كثيرة متعددة، فكان إذا سمعها الناس منه ضجوا بالبكاء وخشعوا لصوته‏.‏

 الحسين بن علي بن الحسين

أبو القاسم المغربي الوزير، ولد بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة، وهرب منها حين قتل صاحبها الحاكم أباه وعمه محمداً، وقصد مكة ثم الشام، ووزر في عدة أماكن، وكان يقول الشعر الحسن، وقد تذاكر هو وبعض الصالحين فأنشده ذلك الصالح شعراً‏:‏

إذا شئت أن تحيا غنياً فلا تكن * على حالة إلا رضيت بدونها

فاعتزل المناصب والسلطان، فقال له بعض أصحابه‏:‏ تركت المنازل والسلطان في عنفوان شبابك ‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

كنت في سفر الجهل والبطالة * حيناً فحان مني القوم

تبت من كل مأثم فعسى * يمحي بهذا الحديث ذاك القديم

بعد خمس وأربعين تعدت * ألا إن الآله القديم كريم

توفي بميافارقين في رمضان منها عن خمس وأربعين سنة، ودفن بمشهد علي‏.‏

 محمد بن الحسن بن إبراهيم

أبو بكر الوراق، المعروف بابن الخفاف، روى عن القطيعي وغيره، وقد اتهموه بوضع الحديث والأسانيد، قاله الخطيب وغيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/30‏)‏

 أبو القاسم اللالكائي

هبة الله بن الحسن بن منصور، الرازي، وهو طبري الأصل، أحد تلامذة الشيخ أبي حامد الإسفراييني، كان يفهم ويحفظ، وعني بالحديث فصنف فيه أشياء كثيرة، ولكن عاجلته المنية قبل أن تشتهر كتبه، وله كتاب في السنة وشرفها، وذكر طريقة السلف الصالح في ذلك، وقع لنا سماعه على الحجار عالياً عنه‏.‏

توفي بالدينور في رمضان منها، ورآه بعضهم في المنام فقال‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

قال‏:‏ غفر لي‏.‏

قال‏:‏ بم ‏؟‏

قال‏:‏ بشيء قليل من السنة أحييته‏.‏

أبو القاسم بن أمير المؤمنين القادر

توفي ليلة الأحد في جمادى الآخرة، وصلي عليه غير مرة، ومشى الناس في جنازته، وحزن عليه أبوه حزناً شديداً، وقطع الطبل أياماً‏.‏

 ابن طباطبا الشريف

كان شاعرا وله شعر حسن‏.‏

 أبو إسحاق

وهو الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني إبراهيم بن محمد بن مهران، الشيخ أبو إسحاق الإمام العلامة، ركن الدين الفقيه الشافعي، المتكلم الأصولي، صاحب ‏(‏التصانيف في الأصلين‏)‏، ‏(‏جامع الحلى‏)‏ في مجلدات، و‏(‏التعليقة النافعة‏)‏ في أصول الفقه، وغير ذلك، وقد سمع الكثير من الحديث من أبي بكر الإسماعيلي ودعلج وغيرهما، وأخذ عنه البيهقي والشيخ أبو الطيب الطبري، والحاكم النيسابوري، وأثنى عليه، وتوفي يوم عاشوراء منها بنيسابور، ثم نقل إلى بلده ودفن بمشهده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/31‏)‏

القدوري

صاحب الكتاب المشهور في مذهب أبي حنيفة، أحمد بن محمد بن أحمد بن جعفر بن حمدان، أبو الحسن القدوري الحنفي، صاحب ‏(‏المصنف المختصر‏)‏، الذي يحفظ، كان إماماً بارعاً عالماً، وثبتاً مناظراً، وهو الذي تولى مناظرة الشيخ أبي حامد الإسفراييني من الحنفية، وكان القدوري يطريه ويقول‏:‏ هو أعلم من الشافعي، وأنظر منه‏.‏

توفي يوم الأحد الخامس من رجب منها، عن ست وخمسين سنة، ودفن إلى جانب الفقيه أبي بكر الخوارزمي الحنفي‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع عشرة وأربعمائة

فيها‏:‏ وقع بين الجيش وبين جلال الدولة ونهبوا دار وزيره، وجرت له أمور طويلة، آل الحال فيها إلى اتفاقهم على إخراجه من البلد، فهيئ له برذون رث، فخرج وفي يده طير نهاراً، فجعلوا لا يلتفتون إليه ولا يفكرون فيه، فلما عزم على الركوب على ذلك البرذون الرث رثوا له ورقوا له ولهيئته وقبلوا الأرض بين يديه، وانصلحت قضيته بعد فسادها‏.‏

وفيها‏:‏ قل الرطب جداً بسبب هلاك النخل في السنة الماضية بالبرد، فبيع الرطب كل ثلاثة أرطال بدينار جلالي، ووقع برد شديد أيضاً فأهلك شيئاً كثيراً من النخيل أيضاً‏.‏

ولم يحج أحد من أهل المشرق ولا من أهل الديار المصرية فيها، إلا أن قوماً من خراسان ركبوا في البحر من مدينة كرمان فانتهوا إلى جدة فحجوا‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 حمزة بن إبراهيم بن عبد الله

أبو الخطاب المنجم، حظي عند بهاء الدولة وعلماء النجوم، وكان له بذلك وجاهة عنده، حتى أن الوزراء كانوا يخافونه ويتوسلون به إليه، ثم صار أمره طريداً بعيداً حتى مات يوم مات بالكرخ من سامرا غريباً، فقيراً مفلوجاً قد ذهب ماله وجاهه وعقله‏.‏

 محمد بن محمد بن إبراهيم بن مخلد

أبو الحسن التاجر، سمع الكثير على المشايخ المتقدمين، وتفرد بعلو الإسناد، وكان ذا مال جزيل فخاف من المصادرة ببغداد فانتقل إلى مصر فأقام بها سنة، ثم عاد إلى بغداد فاتفق مصادرة أهل محلته فقسط عليه ما أفقره، ومات حين مات ولم يوجد له كفن ولم يترك شيئاً، فأرسل له القادر بالله ما كفن فيه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/32‏)‏

 مبارك الأنماطي

كان ذا مال جزيل نحو ثلاثمائة ألف دينار، مات ولم يترك وارثاً سوى ابنة واحدة ببغداد، وتوفي هو بمصر‏.‏

 أبو الفوارس بن بهاء الدولة

كان ظالماً، وكان إذا سكر يضرب الرجل من أصحابه أو وزيره مائتي مقرعة، بعد أن يحلفه بالطلاق أنه لا يتأوه، ولا يخبر بذلك أحداً‏.‏

فيقال‏:‏ إن حاشيته سموه، فلما مات نادوا بشعار أخيه كاليجار‏.‏

 أبو محمد بن الساد

وزير كاليجار، ولقبه معز الدولة، فلك الدولة، رشيد الأمة، وزير الوزراء، عماد الملك، ثم سلم بعد ذلك إلى جلال الدولة فاعتقله ومات فيها‏.‏

 أبو عبد الله المتكلم

توفي فيها، هكذا رأيت ابن الجوزي ترجمه مختصراً‏.‏

 ابن غلبون الشاعر

عبد المحسن بن محمد بن أحمد بن غالب أبو محمد الشامي ثم الصوري، الشاعر المطبق، له ديوان مليح، كان قد نظم قصيدة بليغه في بعض الرؤساء، ثم أنشدها لرئيس آخر يقال له‏:‏ ذو النعمتين، وزاد فيها بيتاً واحداً يقول فيه‏:‏

ولك المناقب كلها * فلم اقتصرت على اثنتين

فأجازه جائزة سنية، فقيل له‏:‏ إنه لم يقلها فيك‏.‏

فقال‏:‏ إن هذا البيت وحده بقصيدة‏.‏

وله أيضاً في بخيل نزل عنده‏:‏

وأخ مسه نزولي بقرح * مثل ما مسني منه جرح

بت ضيفاً له كما حكم الدهـ * ـر وفي حكمه على الحر فتح

فابتداني يقول وهو من الـ * ـسكر بالهم طافح ليس يصحو

لم تغربت ‏؟‏قلت قال رسول اللـ * ـه والقول منه نصح ونجح

‏(‏‏(‏سافروا تغنموا‏)‏‏)‏ فقال وقد * قال تمام الحديث ‏(‏‏(‏صوموا تصحوا‏)‏‏)‏

 ثم دخلت سنة عشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ سقط بناحية المشرق مطر شديد، معه برد كبار‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ حزرت البردة الواحدة منه مائة وخمسون رطلاً، وغاصت في الأرض نحواً من ذراع‏.‏

وفيها‏:‏ ورد كتاب من محمود بن سبكتكين أنه أحل بطائفة من أهل الري من الباطنية والروافض قتلاً ذريعاً، وصلباً شنيعاً، وأنه انتهب أموال رئيسهم رستم بن علي الديلمي، فحصل منها ما يقارب ألف ألف دينار، وقد كان في حيازته نحو من خمسين امرأة حرة، وقد ولدن له ثلاثاً وثلاثين ولداً بين ذكر وأنثى، وكانوا يرون إباحة ذلك‏.‏

وفي رجب منها انقض كواكب كثيرة شديدة الضوء شديدة الصوت‏.‏

وفي شعبان منها كثرت العملات وضعفت رجال المعونة عن مقاومة العيارين‏.‏

وفي يوم الاثنين منها ثامن عشر رجب غار ماء دجلة حتى لم يبق منه إلا القليل، ووقفت الأرحاء عن الطحن، وتعذر ذلك‏.‏

وفي هذا اليوم جمع القضاة والعلماء في دار الخلافة، وقرئ عليهم كتاب جمعه القادر بالله، فيه مواعظ وتفاصيل مذاهب أهل البصرة، وفيه الرد على أهل البدع، وتفسيق من قال بخلق القرآن، وصفة ما وقع بين بشر المريسي وعبد العزيز بن يحيى الكتاني من المناظرة، ثم ختم القول بالمواعظ، والقول بالمعروف، والنهي عن المنكر‏.‏

وأخذ خطوط الحاضرين بالموافقة على ما سمعوه‏.‏

وفي يوم الاثنين غرة ذي القعدة جمعوا أيضاً كلهم وقرئ عليهم كتاب آخر طويل، يتضمن بيان السنة والرد على أهل البدع ومناظرة بشر المريسي والكتاني أيضاً، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفضل الصحابة، وذكر فضائل أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولم يفرغوا منه إلا بعد العتمة، وأخذت خطوطهم بموافقة ماسمعوه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/34‏)‏

وعزل خطباء الشيعة، وولي خطباء السنة، ولله الحمد والمنة على ذلك وغيره‏.‏

وجرت فتنة بمسجد براثا، وضربوا الخطيب السني بالآجر، حتى كسروا أنفه وخلعوا كتفه، فانتصر لهم الخليفة وأهان الشيعة وأذلهم، حتى جاؤوا يعتذرون مما صنعوا، وأن ذلك إنما تعاطاه السفهاء منهم‏.‏

ولم يتمكن أحد من أهل العراق وخراسان في هذه السنة من الحج‏.‏

 ممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 الحسن بن أبي القين

أبو علي الزاهد، أحد العباد والزهاد وأصحاب الأحوال، دخل عليه بعض الوزراء فقبل يده، فعوتب الوزير بذلك فقال‏:‏ كيف لا أقبل يداً ما امتدت إلا إلى الله عز وجل‏.‏

 علي بن عيسى بن الفرج بن صالح

أبو الحسن الربعي النحوي، أخذ العربية أولاً عن أبي سعيد السيرافي، ثم عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة حتى كان يقول‏:‏ قولوا له لو سار من المشرق إلى المغرب لم يجد أحداً أنحى منه‏.‏

كان يوماً يمشي على شاطئ دجلة، إذ نظر إلى الشريفين الرضي والمرتضى في سفينة، ومعهما عثمان بن جني، فقال لهما‏:‏ من أعجب الأشياء عثمان معكما، وعلي بعيد عنكما، يمشي على شاطئ الفرات‏.‏

فضحكا وقالا‏:‏ باسم الله‏.‏

توفي في المحرم منها عن ثنتين وتسعين سنة‏.‏

ودفن بباب الدير، ويقال‏:‏ إنه لم يتبع جنازته إلا ثلاثة أنفس‏.‏

 أسد الدولة

أبو علي صالح بن مرداس بن إدريس الكلابي، أول ملوك بني مرداس بحلب، انتزعها من يدي نائبها عن الظاهر بن الحاكم العبيدي، في ذي الحجة في سنة سبع عشرة وأربعمائة، ثم جاءه جيش كثيف من مصر فاقتتلوا فقتل أسد الدولة هذا في سنة تسع عشرة، وقام حفيده نصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/35‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وعشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ توفي الملك الكبير المجاهد المغازي، فاتح بلاد الهند محمود بن سبكتكين رحمه الله، لما كان في ربيع الأول من هذه السنة توفي الملك العادل الكبير الثاغر المرابط، المؤيد المنصور، يمين الدولة أبو القاسم محمود بن سبكتكين، صاحب بلاد غزنة ومالك تلك الممالك الكبار، وفاتح أكثر بلاد الهند قهراً، وكاسر أصنامهم وندودهم وأوثانهم وهنودهم، وسلطانهم الأعظم قهراً‏.‏

وقد مرض رحمه الله نحواً من سنتين لم يضطجع فيهما على فراش، ولا توسد وساداً، بل كان يتكئ جالساً حتى مات وهو كذلك، وذلك لشهامته وصرامته، وقوة عزمه، وله من العمر ستون سنة رحمه الله‏.‏

وقد عهد بالأمر من بعده لولده محمد، فلم يتم أمره حتى عافصه أخوه مسعود بن محمود المذكور، فاستحوذ على ممالك أبيه، مع ما كان يليه مما فتحه هو بنفسه من بلاد الكفار، ومن الرساتيق الكبار والصغار، فاستقرت له الممالك شرقاً وغرباً في تلك النواحي، في أواخر هذا العام، وجاءته الرسل بالسلام من كل ناحية ومن كل ملك همام، وبالتحية والإكرام، وبالخضوع التام، وسيأتي ذكر أبيه في الوفيات‏.‏

وفيها‏:‏ استحوذت السرية التي كان بعثها الملك المذكور محمود إلى بلاد الهند على أكثر مدائن الهنود وأكبرها مدينة، وهي المدينة المسماة نرسي، دخلوها في نحو من مائة ألف مقاتل ما بين فارس وراجل، فنهبوا سوق العطر والجوهر بها نهاراً كاملاً، ولم يستطيعوا أن يحولوا ما فيه من أنواع الطيب والمسك والجواهر واللآلئ واليواقيت‏.‏

ومع هذا لم يدر أكثر أهل البلد بشيء من ذلك لاتساعها، وذلك أنها كانت في غاية الكبر‏:‏ طولها مسيرة منزلة من منازل الهند، وعرضها كذلك، وأخذوا منها من الأموال والتحف والأثاث ما لا يحد ولا يوصف، حتى قيل‏:‏ إنهم اقتسموا الذهب والفضة بالكيل، ولم يصل جيش من جيوش المسلمين إلى هذه المدينة قط، لا قبل هذه السنة ولا بعدها، وهذه المدينة من أكثر بلاد الهند خيراً ومالاً، بل قيل‏:‏ إنه لا يوجد مدينة أكثر منها مالاً ورزقاً، مع كفر أهلها وعبادتهم الأصنام، فليسلم المؤمن على الدنيا سلام، وقد كانت محل الملك، وأخذوا منها من الرقيق من الصبيان والبنات ما لا يحصى كثرة‏.‏

وفيها‏:‏ عملت الرافضة بدعتهم الشنعاء وحادثتهم الصلعاء في يوم عاشوراء، من تعليق المسوح، وتغليق الأسواق، والنوح والبكاء في الأزقة، فأقبل أهل السنة إليهم في الحديد فاقتتلوا قتالاً شديداً، فقتل من الفريقين طوائف كثيرة، وجرت بينهم فتن وشرور مستطيرة‏.‏

وفيها‏:‏ مرض أمير المؤمنين القادر بالله وعهد بولاية العهد من بعده إلى ولده أبي جعفر القائم بأمر الله، بمحضر من القضاة والوزراء والأمراء، وخطب له بذلك وضرب اسمه على السكة المتعامل بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/36‏)‏

وفيها‏:‏ أقبل ملك الروم من قسطنطينية في مائة ألف مقاتل، فسار حتى بلغ بلاد حلب، وعليها شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس، فنزلوا على مسيرة يوم منها، ومن عزم ملك الروم أن يستحوذ على بلاد الشام كلها، وأن يستردها إلى دين النصرانية، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده‏)‏‏)‏‏.‏

وقيصر هو من ملك الشام من الروم مع بلاد الروم فلا سبيل لملك الروم إلى هذا‏.‏

فلما نزل من حلب كما ذكرنا أرسل الله عليهم عطشاً شديداً، وخالف بين كلمتهم، وذلك أنه كان معه الدمستق، فعامل طائفة من الجيش على قتله ليستقل هو بالأمر من بعده، ففهم الملك ذلك فكر من فوره راجعاً، فاتبعهم الأعراب ينهبونهم ليلاً ونهاراً، وكان من جملة ما أخذوا منهم أربعمائة فحل محجل محملة أموالاً وثياباً للملك، وهلك أكثرهم جوعاً وعطشاً، ونهبوا من كل جانب ولله الحمد والمنة‏.‏

وفيها‏:‏ ملك جلال الدولة واسطاً واستناب عليها ولده، وبعث وزيره أبا علي بن ماكولا إلى البطائح ففتحها، وسار في الماء إلى البصرة وعليها نائب لأبي كاليجار، فهزمهم البصريون، فسار إليهم جلال الدولة بنفسه فدخلها في شعبان منها‏.‏

وفيها‏:‏ جاء سيل عظيم بغزنة فأهلك شيئاً كثيراً من الزورع والأشجار‏.‏

وفي رمضان منها‏:‏ تصدق مسعود بن محمود بن سبكتكين بألف ألف درهم، وأدر أرزاقاً كثيرةً للفقهاء والعلماء بلاد ببلاده، على عادة أبيه من قبله، وفتح بلاداً كثيرة، واتسعت ممالكه جداً، وعظم شأنه، وقويت أركانه، وكثرت جنوده وأعوانه‏.‏

وفيها‏:‏ دخل خلقٌ كثير من الأكراد إلى بغداد يسرقون خيل الأتراك ليلاً، فتحصن الناس منهم، فأخذوا الخيول كلها حتى خيل السلطان‏.‏

وفيها‏:‏ سقط جسر بغداد على نهر عيسى‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بين الأتراك النازلين بباب البصرة، وبين الهاشميين، فرفعوا المصاحف ورمتهم الأتراك بالنشاب، وجرت خطبة عظيمة، ثم أصلح بين الفريقين‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت العملات، وأخذت الدور جهرة، وكثر العيارون ولصوص الأكراد‏.‏

وفيها‏:‏ تعطل الحج أيضاً سوى شرذمة من أهل العراق ركبوا من جمال البادية مع الأعراب، ففازوا بالحج‏.‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان

 أحمد بن عبد الله بن أحمد

أبو الحسن الواعظ، المعروف بان اكرات، صاحب كرامات ومعاملات، كان من أهل الجزيرة فسكن دمشق، وكان يعظ الناس بالرفادة القيلية، حيث كان يجلس القصاص‏.‏

قاله ابن عساكر‏.‏

قال‏:‏ وصنف كتباً في الوعظ، وحكى حكايات كثيرة، ثم قال‏:‏ سمعت أبا الحسن أحمد بن عبد الله اكرات الواعظ ينشد أبياتاً‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/37‏)‏

أنا ما أصنع باللذا * ت شغلي بالذنوب

إنما العيد لمن فا * ز بوصل من حبيب

أصبح الناس على رو * ح وريحان وطيب

ثم أصبحت على نوح * وحزن ونحيب

فرحوا حين أهلّوا * شهرهم بعد المغيب

وهلالي متوار * من ورا حجب الغيوب

فلهذا قلت للذا * ت غيبي ثم غيبي

وجلعت الهم والحز * ن من الدنيا نصيبي

يا حياتي ومماتي * وشقائي وطبيبي

جد لنفس تتلظّى * منك بالرحب الرحيب

الحسين بن محمد الخليع

الشاعر، له ديوان شعر حسن، عمر طويلاً، وتوفي في هذه السنة‏.‏

 الملك الكبير العادل

محمود بن سبكتكين، أبو القاسم الملقب يمين الدولة، وأمين الملة، وصاحب بلاد غزنة، وما والاها، وجيشه يقال لهم‏:‏ السامانية، لأن أباه كان قد تملك عليهم، وتوفي سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، فتملك عليهم بعده ولده محمود هذا، فسار فيهم وفي سائر رعاياه سيرة عادلة، وقام في نصر الإسلام قياماً تاماً، وفتح فتوحات كثيرة في بلاد الهند وغيرها، وعظم شأنه، واتسعت مملكته، وامتدت رعاياه، وطالت أيامه لعدله وجهاده، وما أعطاه الله إياه، وكان يخطب في سائر ممالكه للخليفة القادر بالله، وكانت رسل الفاطميين من مصر تفد إليه بالكتب والهدايا لأجل أن يكون من جهتهم، فيحرق بهم ويحرق كتبهم وهداياهم، وفتح في بلاد الكفار من الهند فتوحات هائلة، لم يتفق لغيره من الملوك، لا قبله ولا بعده، وغنم مغانم كثيرة منهم لا تنحصر ولا تنضبط، من الذهب واللآلئ، والسبي وكسر من أصنامهم شيئاً كثيراً، وأخذ من حليتها‏.‏

وقد تقدم ذلك مفصلاً متفرقاً في السنين المتقدمة من أيامه، ومن جملة ما كسر من أصنامهم صنم يقال له‏:‏ سومنان، بلغ ما تحصل من حليته من الذهب عشرين ألف ألف دينار، وكسر ملك الهند الأكبر الذي يقال له‏:‏ صينال، وقهر ملك الترك الأعظم الذي يقال له‏:‏ إيلك الخان وأباد ملك السامانية، وقد ملكوا العالم في بلاد سمرقند وما حولها، ثم هلكوا‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/38‏)‏

وبنى على جيحون جسراً تعجز الملوك والخلفاء عنه، غرم عليه ألفي ألف دينار، وهذا شيء لم يتفق لغيره، وكان في جيشه أربعمائة فيل تقاتل، وهذا شيء عظيم هائل، وجرت له فصول يطول تفصيلها، وكان مع هذا في غاية الديانة والصيانة وكراهة المعاصي وأهلها، لا يحب منها شيئاً ولا يألفه، ولا أن يسمع بها، ولا يجسر أحداً أن يظهر معصية ولا خمراً في مملكته، ولا غير ذلك، ولا يحب الملاهي ولا أهلها، وكان يحب العلماء والمحدثين ويكرمهم ويجالسهم، ويحب أهل الخير والدين والصلاح ويحسن إليهم‏.‏

وكان حنفياً ثم صار شافعياً على يدي أبي بكر القفال الصغير على ما ذكره إمام الحرمين وغيره، وكان على مذهب الكرامية في الاعتقاد، وكان من جملة من يجالسه منهم محمد بن الهيضم، وقد جرى بينه وبين أبى بكر بن فورك مناظرات بين يدي السلطان محمود في مسألة العرش، ذكرها ابن الهيضم في مصنف له، فمال السلطان محمود إلى قول ابن الهيضم، ونقم على ابن فورك كلامه، وأمر بطرده وإخراجه، لموافقته لرأي الجهمية‏.‏

وكان عادلاً جيداً، اشتكى إليه رجل أن ابن أخت الملك يهجم عليه في داره وعلى أهله في كل وقت، فيخرجه من البيت ويختلي بامرأته، وقد حار في أمره، وكلما اشتكاه لأحد من أولي الأمر لا يجسر أحد عليه خوفاً وهيبة للملك‏.‏

فلما سمع الملك ذلك غضب غضباً شديداً، وقال للرجل‏:‏ ويحك متى جاءك فائتني فأعلمني، ولا تسمعن من أحد منعك من الوصول إليّ، ولو جاءك في الليل فائتني فأعلمني‏.‏

ثم إن الملك تقدم إلى الحجبة وقال لهم‏:‏ إن هذا الرجل متى جاءني لا يمنعه أحد من الوصول إليّ من ليل أو نهار، فذهب الرجل مسروراً داعياً، فما كان إلا ليلة أو ليلتان حتى هجم عليه ذلك الشاب فأخرجه من البيت واختلى بأهله، فذهب باكياً إلى دار الملك فقيل له‏:‏ إن الملك نائم‏.‏

فقال‏:‏ قد تقدم إليكم أن لا أمنع منه ليلاً ولا نهاراً، فنبهوا الملك فخرج معه بنفسه وليس معه أحد، حتى جاء إلى منزل الرجل فنظر إلى الغلام وهو مع المرأة في فراش واحد، وعندهما شمعة تقد، فتقدم الملك فأطفأ الضوء ثم جاء فاحتز رأس الغلام وقال للرجل‏:‏ ويحك الحقني بشربة ماء، فأتاه بها فشرب ثم انطلق الملك ليذهب، فقال له الرجل‏:‏ بالله لم أطفأت الشمعة ‏؟‏

قال‏:‏ ويحك إنه ابن أختي، وإني كرهت أن أشاهده حال الذبح‏.‏

فقال‏:‏ ولم طلبت الماء سريعاً ‏؟‏

فقال الملك‏:‏ إني آليت على نفسي منذ أخبرتني أن لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أنصرك، وأقوم بحقك، فكنت عطشاناً هذه الأيام كلها، حتى كان ما كان مما رأيت‏.‏

فدعا له الرجل وانصرف الملك راجعاً إلى منزله ولم يشعر بذلك أحد‏.‏

وكان مرض الملك محمود هذا بسوء المزاج، اعتراه مع انطلاق البطن سنتين، فكان فيهما لا يضطجع على فراش، ولا يتكئ على شيء، لقوة بأسه وسوء مزاجه، وكان يستند على مخاد توضع له ويحضر مجلس الملك، ويفصل على عادته بين الناس، حتى مات كذلك في يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر من هذه السنة عن ثلاث وستين سنة، ملكه منها ثلاث وثلاثون سنة، وخلف من الأموال شيئاً كثيراً، من ذلك سبعون رطلاً من جوهر، الجوهرة منه لها قيمة عظيمة سامحه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/39‏)‏

وقام بالأمر من بعده ولده محمد، ثم صار الملك إلى ولده الآخر مسعود بن محمود فأشبه أباه، وقد صنف بعض العلماء مصنفاً في سيرته وأيامه وفتوحاته وممالكه‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة القادر بالله الخليفة، وخلافة ابنه القائم بأمر الله على ما سيأتي تفصيله وبيانه‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة عظيمة بين السنة والروافض، فقويت عليهم السنة وقتلوا خلقاً منهم، ونهبوا الكرخ ودار الشريف المرتضى، ونهبت العامة دور اليهود لأنهم نسبوا إلى معاونة الروافض، وتعدى النهب إلى دور كثيرة، وانتشرت الفتنة جداً، ثم سكنت بعد ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت العملات وانتشرت المحنة بأمر العيارين في أرجاء البلد، وتجاسروا على أمور كثيرة، ونهبوا دوراً وأماكن سراً وجهراً، ليلاً ونهاراً، والله سبحانه أعلم‏.‏

 خلافة القائم بالله

أبي جعفر عبد الله بن القادر بالله، بويع له بالخلافة لما توفي أبوه أبو العباس أحمد بن المقتدر بن المعتضد بن الأمين أبو أحمد الموفق بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد بن المهدي بن المنصور، في ليلة الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة من هذه السنة، عن ست وثمانين سنة، وعشرة أشهر وإحدى عشر يوماً، ولم يعمر أحد من الخلفاء قبله هذا العمر ولا بعده، مكث من ذلك خليفة إحدى وأربعين سنة وثلاثة أشهر، وهذا أيضاً شيء لم يسبقه أحد إليه‏.‏

وأمه أم ولد اسمها يمنى، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وقد كان حليماً كريماً، محباً لأهل العلم والدين والصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان على طريقة السلف في الاعتقاد، وله في ذلك مصنفات كانت تقرأ على الناس‏.‏

وكان أبيض حسن الجسم طويل اللحية عريضها يخضبها، وكان يقوم الليل كثير الصدقة، محباً للسنة وأهلها، مبغضاً للبدعة وأهلها، وكان يكثر الصوم ويبر الفقراء من أقطاعه، يبعث منه إلى المجاورين بالحرمين وجامع المنصور، وجامع الرصافة، وكان يخرج من داره في زي العامة فيزور قبور الصالحين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/40‏)‏

وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من سيرته عند ذكر ولايته في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وجلسوا في عزئاه سبعة أيام لعظم المصيبة به، ولتوطيد البيعة لولده المذكور، وأمه يقال لها‏:‏ قطر الندى، أرمنية أدركت خلافته في هذه السنة، وكان مولده يوم الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ثم بويع له بحضرة القضاة والأمراء والكبراء في هذه السنة، وكان أول من بايعه المرتضى وأنشده أبياتاً‏:‏

فأما مضى جبل وانقضى * فمنك لنا جبل قد رسى

وأما فجعنا ببدر التمام * فقد بقيت منه شمس الضحى

لنا حزن في محل السرور * فكم ضحك في محل البكا

فيا صارماً أغمدته يد * لنا بعدك الصارم المنتضى

ولما حضرنا لعقد البياع * عرفنا بهديك طرق الهدى

فقابلتنا بوقار المشيب * كمالاً وسنك سن الفتى

فطالبته الأتراك برسم البيعة فلم يكن مع الخليفة شيء يعطيهم، لأن أباه لم يترك شيئاً، وكادت الفتنة تقع بين الناس بسبب ذلك، حتى دفع عنه الملك جلال الدولة مالاً جزيلاً لهم، نحواً من ثلاثة آلاف دينار، واستوزر الخليفة أبا طالب محمد بن أيوب، واستقضى ابن ماكولا‏.‏

ولم يحج أحد من أهل المشرق سوى شرذمة خرجوا من الكوفة مع العرب فحجوا‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان غير الخليفة‏:‏

 الحسن بن جعفر

أبو علي بن ماكولا الوزير لجلال الدولة، قتله غلام له وجارية تعاملا عليه فقتلاه، عن ست وخمسين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/41‏)‏

 عبد الوهاب بن علي

ابن نصر بن أحمد بن الحسن بن هارون بن مالك بن طوق، صاحب الرحبة، التغلبي البغدادي أحد أئمة المالكية، ومصنفيهم، له كتاب ‏(‏التلقين‏)‏ يحفظه الطلبة، وله غيره في الفروع والأصول، وقد أقام ببغداد دهراً، وولي قضاء داريا وماكسايا، ثم خرج من بغداد لضيق حاله، فدخل مصر فأكرمه المغاربة وأعطوه ذهباً كثيراً، فتمول جداً، فأنشأ يقول متشوقاً إلى بغداد‏:‏

سلام على بغداد في كل موقف * وحق لها مني السلام مضاعف

فوالله ما فارقتها عن ملالة * وإني بشطَّي جانبيها لعارف

ولكنها ضاقت عليّ بأسرها * ولم تكن الأرزاق فيها تساعف

فكانت كَخِلٍّ كنت أهوى دنوّه * وأخلاقه تنأى به وتخالف

قال الخطيب‏:‏ سمع القاضي عبد الوهاب من ابن السماك، وكتبت عنه، وكان ثقة، ولم تر المالكية أحداً أفقه منه‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وعند وصوله إلى مصر حصل له شيء من المال، وحسن حاله، مرض من أكلة اشتهاها فذكر عنه أنه كان يتقلب ويقول‏:‏ لا إله إلا الله، عندما عشنا متنا‏.‏

قال‏:‏ وله أشعار رائقة فمنها قوله‏:‏

ونائمة قبلتها فتنبهت * فقالت‏:‏ تعالوا واطلبوا اللص بالحدِّ

فقلت لها ك إني فديتك غاصب * وما حكموا في غاصب بسوى الردِّ

خذيها وكفّي عن أثيم طلابة * وإن أنتِ لم ترضي فألفاً على العدّ

فقالت‏:‏ قصاص يشهد العقل أنه * على كبد الجاني ألذُّ من الشهد

فباتت يميني وهي هميان خصرها * وباتت يساري وهي واسطة العقد

فقالت‏:‏ ألم تخبر بأنك زاهد * فقلت بلى ما زلت أزهد في الزهد

ومما أنشده ابن خلكان للقاضي عبد الوهاب‏:‏

بغداد دار لأهل المال طيّبة * وللمفاليس دار الضنك والضيق

ظللت حيران أمشي في أزقتها * كأنني مصحف في بيت زنديق

 ثم دخلت سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة

في سادس المحرم منها استسقى أهل بغداد لتأخر المطر عن أوانه، فلم يسقوا، وكثر الموت في الناس، ولما كان يوم عاشوراء عملت الروافض بدعتهم، وكثر النوح والبكاء، وامتلأت بذلك الطرقات والأسواق‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/42‏)‏

وفي صفر منها أمر الناس بالخروج إلا الاستسقاء فلم يخرج من أهل بغداد مع اتساعها وكثرة أهلها مائة واحد‏.‏

وفيها‏:‏ وقع بين الجيش وبين جلال الدولة فاتفق على خروجه إلى البصرة منفياً، وردّ كثيراً من جواريه، واستبقى بعضهن معه، وخرج من بغداد ليلة الاثنين سادس ربيع الأول منها‏.‏

وكتب الغلمان الاسفهلارية إلى الملك أبي كاليجار ليقدم عليهم، فلما قدم تمهدت البلاد ولم يبق أحد من أهل العناد والإلحاد، ونهبوا دار جلال الدولة وغيرها، وتأخر مجيء أبي كاليجار، وذلك أن وزيره أشار عليه بعدم القدوم إلى بغداد، فأطاعه في ذلك، فكثر العيارون وتفاقم الحال، وفسد البلد، وافتقر جلال الدولة بحيث أن احتاج إلى أن باع بعض ثيابه في الأسواق‏.‏

وجعل أبو كاليجار يتوهم من الأتراك ويطلب منهم رهائن، فلم يتفق ذلك، وطال الفصل فرجعوا إلى مكاتبة جلال الدولة، وأن يرجع إلى بلده، وشرعوا يعتذرون إليه، وخطبوا له في البلد على عادته، وأرسل الخليفة الرسل إلى الملك كاليجار، وكان فيمن بعث إليه القاضي أبو الحسن الماوردي، فسلم عليه مستوحشاً منه، وقد تحمل أمراً عظيماً، فسأل من القضاة أن يلقب بالسلطان الأعظم مالك الأمم، فقال الماوردي‏:‏ هذا ما لا سبيل إليه، لأن السلطان المعظم هو الخليفة، وكذلك مالك الأمم‏.‏

ثم اتفقوا على تلقيبه بملك الدولة، فأرسل مع الماوردي تحفاً عظيمة منها ألف ألف دينار سابورية، وغير ذلك من الدراهم آلاف مؤلفة، والتحف والألطاف، واجتمع الجند على طلب من الخليفة فتعذر ذلك فراموا أن يقطعوا خطبته، فلم تصلّ الجمعة، ثم خطب له من الجمعة القابلة، وتخبط البلد جداً، وكثر العيارون‏.‏

ثم في ربيع الآخر منها حلف الخليفة لجلال الدولة بخلوص النية وصفائها، وأنه على ما يحب من الصدق وصلاح السريرة‏.‏

ثم وقع بينهما بسبب جلال الدولة وشربه النبيذ وسكره، ثم اعتذر إلى الخليفة واصطلحا على فساد‏.‏

وفي رجب غلت الأسعار جداً ببغداد وغيرها، من أرض العراق‏.‏

ولم يحج أحد منهم‏.‏

وفيها‏:‏ وقع موتان عظيم ببلاد الهند وغزنة وخراسان وجرجان والري وأصبهان، خرج منها في أدنى مدة أربعون ألف جنازة‏.‏

وفي نواحي الموصل والجبل وبغداد طرف قوي من ذلك بالجدري، بحيث لم تخل دار من مصاب به، واستمر ذلك في حزيران وتموز وآذار وأيلول وتشرين الأول والثاني، وكان في الصيف أكثر منه في الخريف‏.‏

قاله ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏.‏

وقد رأى رجل في منامه من أهل أصبهان في هذه السنة منادياً ينادي بصوت جهوري‏:‏ يا أهل أصبهان سكت، نطق، سكت، نطق، فانتبه الرجل مذعوراً فلم يدر أحد تأويلها ما هو، حتى قال رجل بيت أبي العتاهية فقال‏:‏

احذروا يا أهل أصبهان فإني قرأت في شعر أبي العتاهية قوله‏:‏

سكت الدهر زماناً عنهم * ثم أبكاهم دماً حين نطق

فما كان إلا قليل حتى جاء الملك مسعود بن محمود فقتل منهم خلقاً كثيراً، حتى قتل الناس في الجوامع‏.‏

وفي هذه السنة ظفر الملك أبو كاليجار بالخادم جندل فقتله، وكان قد استحوذ على مملكته ولم يبق معه سوى الاسم، فاستراح منه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/43‏)‏

وفيها‏:‏ مات ملك الترك الكبير صاحب بلاد ما وراء النهر، واسمه قدرخان‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 روح بن محمد بن أحمد

أبو زرعة الرازي‏.‏

قال الخطيب‏:‏ سمع جماعة، وفد علينا حاجاً فكتبت عنه، وكان صدوقاً فهماً أديباً، يتفقه على مذهب الشافعي، وولي قضاء أصبهان‏.‏

قال‏:‏ وبلغني أنه مات بالكرخ سنة ثلاثة وعشرين وأربعمائة‏.‏

 علي بن محمد بن الحسن

ابن محمد بن نعيم بن الحسن البصري، المعروف بالنعيمي، الحافظ الشاعر، والمتكلم الفقيه الشافعي‏.‏

قال البرقاني‏:‏ هو كامل في كل شيء لولا بادرة فيه، وقد سمع على جماعة، ومن شعره قوله‏:‏

إذا أظمأتك أكف اللئام * كفتك القناعة شبعاً وريا

فكن رجلاً رِجله في الثرى * وهامته همُّه في الثريا

أبيّاً لنائل ذي نعمة * تراه بما في يديه أبياً

فإن إراقة ماء الحيا * ة دون إراقة ماء المحيا

 محمد بن الطيب

ابن سعد بن موسى أبو بكر الصباغ، حدث عن النجاد وأبي بكر الشافعي، وكان صدوقاً، حكى الخطيب أنه تزوج تسعمائة امرأة، وتوفي عن خمس وتسعين سنة‏.‏

علي بن هلال

الكاتب المشهور، ذكر ابن خلكان أنه توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ثلاث عشرة كما تقدم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/44‏)‏

 ثم دخلت سنة أربع وعشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ تفاقم الحال بأمر العيارين، وتزايد أمرهم، وأخذوا العملات الكثيرة، وقوي أمر مقدمهم البرجمي، وقتل صاحب الشرطة غيلة، وتواترت العملات في الليل والنهار، وحرس الناس دورهم حتى دار الخليفة منه، وكذلك سور البلد، وعظم الخطب بهم جداً، وكان من شأن هذا البرجمي أنه لا يؤذي امرأة ولا يأخذ مما عليها شيئاً، وهذه مروءة في الظلم، وهذا كما قيل‏:‏

حنانيك بعض الشر أهون من بعض *

وفيها‏:‏ أخذ جلال الدولة البصرة وأرسل إليها ولده العزيز، فأقام بها الخطبة لأبيه، وقطع منها خطبة أبي كاليجار في هذه السنة والتي بعدها، ثم استرجعت، وأخرج منها ولده‏.‏

وفيها‏:‏ ثارت الأتراك بالملك جلال الدولة ليأخذوا أرزاقهم، وأخرجوه من داره، ورسموا عليه في المسجد، وأخرجت حريمه، فذهب في الليل إلى دار الشريف المرتضى فنزلها، ثم اصطلحت الأتراك عليه وحلفوا له بالسمع والطاعة، وردوه إلى داره، وكثر العيارون واستطالوا على الناس جداً‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لفساد البلاد‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن الحسين بن أحمد

أبو الحسين الواعظ المعروف بابن السماك، ولد سنة ثلاثين وثلاثمائة، وسمع جعفر الخلدي وغيره، وكان يعظ بجامع المنصور وجامع المهدي، ويتكلم على طريق الصوفية، وقد تكلم بعض الأئمة فيه، ونسب إليه الكذب‏.‏

توفي فيها عن أربع وتسعين سنة، ودفن بباب حرب‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وعشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ غزا السلطان مسعود بن محمود بلاد الهند، وفتح حصوناً كثيرة، وكان من جملتها أنه حاصر قلعة حصينة فخرجت من السور عجوز كبيرة ساحرة، فأخذت مكنسة فبلتها ورشتها من ناحية جيش المسلمين، فمرض السلطان تلك الليلة مرضاً شديداً، فارتحل عن تلك القلعة، فلما استقل ذاهباً عنها، عوفي عافية كاملة، فرجع إلى غزنة سالماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولي البساسيري حماية الجانب الشرقي من بغداد، لما تفاقم أمر العيارين‏.‏

وفيها‏:‏ ولي سنان بن سيف الدولة بعد وفاة أبيه، فقصد عمه قرواشاً فأقره وساعده على أموره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/45‏)‏

وفيها‏:‏ هلك ملك الروم أرمانوس، فملكم رجل ليس من بيت ملكهم، قد كان صيرفياً في بعض الأحيان، إلا أنه كان من سلالة الملك قسطنطين‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت الزلازل بمصر والشام فهدمت شيئاً كثيراً، ومات تحت الردم خلق كثير، وانهدم من الرملة ثلثها، وتقطع جامعها تقطيعاً، وخرج أهلها منها هاربين، فأقاموا بظاهرها ثمانية أيام، ثم سكن الحال فعادوا إليها، وسقط بعض حائط بيت المقدس، ووقع من محراب داود قطعة كبيرة، ومن مسجد إبراهيم قطعة، وسلمت الحجرة، وسقطت منارة عسقلان، ورأس منارة غزة، وسقط نصف بنيان نابلس، وخسف بقرية البارزاد وبأهلها وبقرها وغنمها، وساخت في الأرض‏.‏

وكذلك قرى كثيرة هنالك، وذكر ذلك ابن الجوزي‏.‏

ووقع غلاء شديد ببلاد إفريقية، وعصفت ريح سوداء بنصيبين فألقت شيئاً كثيراً من الأشجار كالتوت والجوز والعناب، واقتلعت قصراً مشيداً بحجارة وآجر وكلس فألقته وأهله فهلكوا، ثم سقط مع ذلك مطر أمثال الأكف، والزنود والأصابع، وجزر البحر من تلك الناحية ثلاث فراسخ، فذهب الناس خلف السمك فرجع البحر عليهم فهلكوا‏.‏

وفيها‏:‏ كثر الموت بالخوانيق حتى كان يغلق الباب على من في الدار كلهم موتى، وأكثر ذلك كان ببغداد، فمات من أهلها في شهر ذي الحجة سبعون ألفاً‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفتنة بين السنة والروافض حتى بين العيارين من الفريقين مع ابنا الأصفهاني، وهما مقدمي عيارين أهل السنة، منعا أهل الكرخ من ورود ماء دجلة فضاق عليهم الحال، وقتل ابن البرجمي وأخوه في هذه السنة‏.‏

ولم يحج أحد من أهل العراق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن أحمد بن غالب

الحافظ أبو بكر المعروف بالبرقاني، ولد سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، وسمع الكثير، ورحل إلى البلاد، وجمع كتباً كثيرة جداً، وكان عالماً بالقرآن والحديث والفقه والنحو، وله مصنفات في الحديث حسنة نافعة‏.‏

قال الأزهري‏:‏ إذا مات البرقاني ذهب هذا الشأن، وما رأيت أتقن منه‏.‏

وقال غيره‏:‏ ما رأيت أعبد منه في أهل الحديث‏.‏

توفي يوم الخميس مستهل رجب، وصلى عليه أبو علي بن أبي موسى الهاشمي، ودفن في مقبرة الجامع ببغداد، وقد أورد له ابن عساكر من شعره‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/46‏)‏

أعلّل نفسي بكتب الحديث * وأُجمل فيه لها الموعدا

وأشغل نفسي بتصنيفه * وتخريجه دائماً سرمدا

فطَوْراً أصنفه في الشيو * خ وطوراً أصنفه مسندا

وأقفو البخاريّ فيما حوا * ه وصنفه جاهداً مجهدا

ومسلم إذ كان زين الأنام * بتصنيفه مسلماً مرشدا

وماليَ فيه سوى أنني * أراه هوىً صادف المقصدا

وأرجو الثواب بكتب الصلا * ة على السيد المصطفى أحمدا

 أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد

أبو العباس الأبيوردي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ الشيخ أبي حامد الإسفرايني، كانت له حلقة في جامع المنصور للفتيا، وكان يدرس في قطيعة الربيع، وولي الحكم ببغداد نيابة عن ابن الأكفاني، وقد سمع الحديث، وكان حسن الاعتقاد جميل الطريقة، فصيح اللسان، صبوراً على الفقر، كاتماً له، وكان يقول الشعر الجيد، وكان كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 273‏]‏‏.‏

توفي في جمادى الآخرة، ودفن بمقبرة باب حرب‏.‏

 أبو علي البندنبجي

الحسن بن عبد الله بن يحيى، الشيخ أبو علي البندنيجي، أحد أئمة الشافعية، من تلاميذ أبي حامد أيضاً، ولم يكن في أصحابه مثله، تفقه ودرس وأفتى وحكم ببغداد، وكان ديناً ورعاً‏.‏

توفي في جمادى الآخرة منها أيضاً‏.‏

 عبد الوهاب بن عبد العزيز

الحارث بن أسد، أبو الصباح التميمي، الفقيه الحنبلي الواعظ، سمع من أبيه أثراً مسلسلاً عن علي‏:‏ الحنان‏:‏ الذي يقبل على من أعرض عنه، والمنان‏:‏ الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال‏.‏

توفي في ربيع الأول ودفن في مقبرة أحمد بن حنبل‏.‏

 غريب بن محمد

ابن مفتي سيف الدولة أبو سنان، كان قد ضرب السكة باسمه، وكان ملكاً متمكناً في الدولة، وخلف خمسمائة ألف دينار، وقام ابنه سنان بعده، وتقوى بعمه قرواش، واستقامت أموره، توفي بالكرخ سابور عن سبعين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/47‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وعشرين وأربعمائة

في محرمها كثر تردد الأعراب في قطع الطرقات إلى حواشي بغداد وما حولها، بحيث كانوا يسلبون النساء ما عليهن، ومن أسروه أخذوا ما معه وطالبوه بفداء نفسه، واستفحل أمر العيارين وكثرت شرورهم‏.‏

وفي مستهل صفر زادت دجلة بحيث ارتفع الماء على الضياع ذراعين، وسقط من البصرة في مدة ثلاثة نحو من ألفي دار‏.‏

وفي شعبان منها ورد كتاب من مسعود بن محمود بأنه قد فتح فتحاً عظيماً في الهند، وقتل منهم خمسين ألفاً وأسر تسعين ألفاً، وغنم شيئاً كثيراً، ووقعت فتنة بين أهل بغداد والعيارين، ووقع حريق في أماكن من بغداد، واتسع الخرق على الراقع، ولم يحج أحد من هؤلاء ولا من أهل خراسان‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن كليب الشاعر

وهو أحد من هلك بالعشق، روى ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏ بسنده‏:‏ أن أحمد بن كليب هذا المسكين المغتر عشق غلاماً يقال له‏:‏ أسلم بن أبي الجعد، من بني خلد، وكان فيهم وزارة، أي‏:‏ كانوا وزراء للملوك وحجاباً، فأنشد فيه أشعاراً تحدث الناس بها، وكان هذا الشاب أسلم يطلب العلم في مجالس المشايخ فلما بلغه عن ابن كليب ما قال فيه استحى من الناس وانقطع في دارهم، وكان لا يجتمع بأحد من الناس، فازداد غرام ابن كليب به حتى مرض من ذلك مرضاً شديداً، بحيث عاده منه الناس، ولا يدرون ما به، وكان في جملة من عاده بعض المشايخ من العلماء، فسأله عن مرضه فقال‏:‏ أنتم تعلمون ذلك، ومن أي شيء مرضي، وفي أي شيء دوائي، لو زارني أسلم ونظر إليّ نظرة ونظرته نظرة واحدة لبرأت‏.‏

فرأى ذلك العالم من المصلحة أن لو دخل على أسلم وسأله أن يزوره ولو مرة واحدة مختفياً، ولم يزل ذلك الرجل العالم بأسلم حتى أجابه إلى زيارته، فانطلقا إليه فلما دخلا دربه ومحلته تجبّن الغلام، واستحى من الدخول عليه، وقال للرجل العالم‏:‏ لا أدخل عليه، وقد ذكرني ونوّه باسمي، وهذا مكان ريبة وتهمة، وأنا لا أحب أن أدخل مداخل التهم‏.‏

فحرص به الرجل كل الحرص ليدخل عليه فأبى عليه، فقال له‏:‏ إنه ميت لا محالة، فإذا دخلت عليه أحييته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/48‏)‏

فقال‏:‏ يموت وأنا لا أدخل مدخلاً يسخط الله علي ويغضبه، وأبى أن يدخل، وانصرف راجعاً إلى دارهم، فدخل الرجل على ابن كليب فذكر له ما كان من أمر أسلم معه، وقد كان غلام ابن كليب دخل عليه قبل ذلك وبشره بقدوم معشوقه عليه، ففرح بذلك جداً، فلما تحقق رجوعه عنه اختلط كلامه واضطرب في نفسه، وقال لذلك الرجل الساعي بينهما‏:‏ اسمع يا أبا عبد الله واحفظ عني ما أقول، ثم أنشده‏:‏

أسلم يا راحة العليل * رفقاً على الهائم النحيل

وصلك أشهى إلى فؤادي * من رحمة الخالق الجليل

فقال له الرجل‏:‏ ويحك اتق الله تعالى، ما هذه العظيمة ‏؟‏

فقال‏:‏ قد كان ما سمعت، أو قال‏:‏ القول ما سمعت‏.‏

قال‏:‏ فخرج الرجل من عنده فما توسط الدار حتى سمع الصراخ عليه، وسمع صيحة الموت، وقد فارق الدنيا على ذلك‏.‏

وهذه زلة شنعاء، وعظيمة صلعاء، وداهية دهياء، ولولا أن هؤلاء الأئمة ذكروها ما ذكرتها، ولكن فيها عبرة لأولي الألباب، وتنبيه لذوي البصائر والعقول، أن يسألوا الله رحمته وعافيته، وأن يستعيذوا بالله من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يرزقهم حسن الخاتمة عند الممات إنه كريم جواد‏.‏

قال الحميدي‏:‏ وأنشدني أبو علي بن أحمد قال‏:‏ أنشدني محمد بن عبد الرحمن لأحمد بن كليب وقد أهدى إلى أسلم كتاب ‏(‏الفصيح‏)‏ لثعلب‏:‏

هذا كتاب الفصيح * بكل لفظ مليح

وهبته لك طوعاً * كما وهبتك روحي

 الحسن بن أحمد

ابن إبراهيم بن الحسن بن محمد بن شاذان بن حرب بن مهران البزاز، أحد مشايخ الحديث، سمع الكثير، وكان ثقة صدوقاً، جاء يوماً شاب غريب فقال له‏:‏ إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي‏:‏ اذهب إلى أبي علي بن شاذان فسلم عليه وأقره مني السلام‏.‏

ثم انصرف الشاب فبكى الشيخ وقال‏:‏ ما أعلم لي عملاً أستحق به هذا غير صبري على سماع الحديث، وصلاتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما ذكر‏.‏

ثم توفي بعد شهرين أو ثلاثة من هذه الرؤيا في محرمها، عن سبع وثمانين سنة، ودفن بباب الدير‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/49‏)‏

 الحسن بن عثمان

ابن أحمد بن الحسين بن سورة، أبو عمر الواعظ المعروف بابن الغلو، سمع الحديث عن جماعة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وكان يعظ، وله بلاغة، وفيه كرم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، ومن شعره قوله‏:‏

دخلت على السلطان في دار عزه * بفقر ولم أجلب بخيل ولا رجل

وقلت‏:‏ انظروا ما بين فقرى وملككم * بمقدار ما بين الولاية والعزل

توفي في صفر منها وقد قارب الثمانين، ودفن بمقبرة حرب إلى جانب ابن السماك رحمهما الله‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وعشرين وأربعمائة

في المحرم منها تكاملت قنطرة عيسى التي كانت سقطت، وكان الذي ولي مشارفة الإنفاق عليها الشيخ أبو الحسين القدوري الحنفي‏.‏

وفي المحرم وما بعده تفاقم أمر العيارين، وكبسوا الدور وتزايد شرهم جداً‏.‏

وفيها‏:‏ توفي صاحب مصر الظاهر أبو الحسن علي بن الحاكم الفاطمي، وله من العمر ثلاث وثلاثون سنة، وقام بالأمر من بعده ولده المستنصر وعمره سبع سنين، واسمه معد، وكنيته أبو تميم، وتكفل بأعباء المملكة بين يديه الأفضل أمير الجيوش، واسمه بدر بن عبد الله الجمالي، وكان الظاهر هذا قد استوزر الصاحب أبا القاسم علي بن أحمد الجرجرائي، وكان مقطوع اليدين من المرفقين، في سنة ثماني عشرة، فاستمر في الوزارة مدة ولاية الظاهر، ثم لولده المستنصر، حتى توفي الوزير الجرجرائي المذكور في سنة ست وثلاثين، وكان قد سلك في وزارته العفة العظيمة، وكان الذي يعلم عنه القاضي أبو عبد الله القضاعي، صاحب كتاب ‏(‏الشهاب‏)‏‏.‏

وكانت علامته الحمد لله شكراً لنعمه، وكان الذي قطع يديه من المرفقين الحاكم، لجناية ظهرت منه في سنة أربع وأربعمائة، ثم استعمله في بعض الأعمال سنة تسع، فلما فقد الحاكم في السابع والعشرين من شوال، سنة إحدى عشرة، تنقلت بالجرجرائي المذكور الأحوال حتى استوزر سنة ثماني عشرة كما ذكرنا، وقد هجاه بعض الشعراء

فقال‏:‏

يا أجمعا اسمع وقل * ودع الرقاعة والتحامق

أأقمت نفسك في الثقا * ت وهبك فيما قلت صادق

أمن الأمانة والتقى * قطعت يداك من المرافق

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/50‏)‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعالبي

ويقال‏:‏ الثعلبي أيضاً - وهو لقب أيضاً - وليس بنسبة، النيسابوري المفسر المشهور، له ‏(‏التفسير الكبير‏)‏ وله كتاب ‏(‏العرايس‏)‏ في قصص الأنبياء عليهم السلام، وغير ذلك، وكان كثير الحديث واسع السماع، ولهذا يوجد في كتبه من الغرائب شيء كثير، ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في ‏(‏تاريخ نيسابور‏)‏، وأثنى عليه، وقال‏:‏ هو صحيح النقل موثوق به‏.‏

توفي في سنة سبع وعشرين وأربعمائة، وقال غيره‏:‏ توفي يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم منها، ورؤيت له منامات صالحة رحمه الله‏.‏

وقال السمعاني‏:‏ ونيسابور كانت مغصبة، فأمر سابور الثاني ببنائها مدينة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وعشرين وأربعمائة

فيها‏:‏ خلع الخليفة على أبي تمام محمد بن محمد بن علي الزينبي، وقلده ما كان إلى أبيه من نقابة العباسيين والصلاة‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت الفرقة بين الجند وبين جلال الدولة، وقطعوا خطبتة وخطبة الملك أبي كاليجار، ثم أعادوا الخطبة، واستوزر أبا المعالي بن عبد الرحيم، وكان جلال الدولة قد جمع خلقاً كثيراً معه، منهم البساسيري، وديبس بن علي بن مرثد، وقرواش بن مقلد، ونازل بغداد من جانبها الغربي حتى أخذها قهراً، واصطلح هو وأبو كاليجار نائب جلال الدولة على يدي قاضي القضاة الماوردي، وتزوج أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة جلال الدولة على صداق خمسين ألف دينار، واتفقت كلمتهما وحسن حال الرعية‏.‏

وفيها‏:‏ نزل مطر ببلاد قم الصلح ومعه سمك وزن السمكة رطل ورطلان‏.‏

وفيها‏:‏ بعث ملك مصر بمال لإصلاح نهر بالكوفة إن أذن الخليفة العباسي في ذلك، فجمع الخليفة الفقهاء وسألهم عن هذا المال فأفتوا بأن هذا المال فيء للمسلمين، يصرف في مصالحهم، فأذن في صرفه في مصالح المسلمين‏.‏

وفيها‏:‏ ثار العيارون ببغداد وفتحوا السجن بالجانب الشرقي، وأخذوا منه رجالاً وقتلوا من رجال الشرط سبعة عشرة رجلاً، وانتشرت الشرور في البلد جداً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/51‏)‏

ولم يحج أحد من أهل العراق وخراسان لاختلاف الكلمة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

 القدوري أحمد بن محمد

ابن أحمد بن جعفر، أبو الحسن القدوري الحنفي البغدادي، سمع الحديث ولم يحدث إلا بشيء يسير‏.‏

قال الخطيب‏:‏ كتبت عنه‏.‏

وقد تقدمت وفاته، ودفن بداره في درب خلف‏.‏

 الحسن بن شهاب

ابن الحسن بن علي، أبو علي العكبري، الفقيه الحنبلي الشاعر، ولد سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، سمع من أبي بكر بن مالك وغيره، وكان كما قال البرقاني‏:‏ ثقة أميناً، وكان يسترزق من الوراقة - وهو النسخ - يقال‏:‏ إنه كان يكتب ديوان المتنبي في ثلاث ليال فيبيعه بمائتي درهم، ولما توفي أخذ السلطان من تركته ألف دينار سوى الأملاك، وكان قد أوصى بثلث ماله في متفقهة الحنابلة، فلم تصرف‏.‏

 لطف الله أحمد بن عيسى

أبو الفضل الهاشمي، ولي القضاء والخطابة بدرب ريحان، وكان ذا لسان، وقد أضر في آخر عمره، وكان يروي حكايات وأناشيد من حفظه، توفي في صفر منها‏.‏

 محمد بن أحمد

ابن علي بن موسى بن عبد المطلب، أبو علي الهاشمي، أحد أئمة الحنابلة وفضلائهم‏.‏

 محمد بن الحسن

ابن أحمد بن علي أبو الحسن الأهوازي، ويعرف بابن أبي علي الأصبهاني، ولد سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، وقدم بغداد وخرج له أبو الحسن النعيمي أجزاء من حديثه، فسمعها منه البرقاني، إلا أنه بان كذبه، حتى كان بعضهم يسميه جراب الكذب، أقام ببغداد سبع سنين، ثم عاد إلى الأهواز فمات بها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/52‏)‏

 مهيار الديلمي الشاعر

مهيار بن مرزويه أبو الحسين الكاتب الفارسي، ويقال له‏:‏ الديلمي، كان مجوسياً فأسلم، إلا أنه سلك سبيل الرافضة، وكان ينظم الشعر القوي الفحل في مذاهبهم، من سب الصحابة وغيرهم، حتى قال له أبو القاسم بن برهان‏:‏ يا مهيار انتقلت من زاوية في النار إلى زاوية أخرى في النار، كنت مجوسياً فأسلمت فصرت تسب الصحابة‏.‏

وقد كان منزله بدرب رباح من الكرخ، وله ديوان شعر مشهود، فمن مستجاد قوله‏:‏

أستنجد الصبر فيكم وهو مغلوب * وأسأل النوم عنكم وهو مسلوب

وأبتغي عندكم قلباً سمحت به * وكيف يرجع شيء وهو موهوب

ما كنت أعرف مقدار حبكم * حتى هجرت وبعض الهجر تأديب

ولمهيار أيضاً‏:‏

أجارتنا بالغور والركب منهم * أيعلم خال كيف بات المتيم

رحلتم وجمر القلب فينا وفيكم * سواء ولكن ساهرون ونوم

فبنتم عنا ظاعنين وخلفوا * قلوباً أبت أن أعرف الصبر عنهم

ولما خلى التوديع عما حذرته * ولم يبق إلا نظرة لي تغنم

بكيت على الوادي وحرمت ماءه * وكيف به ماء وأكثره دم

قال ابن الجوزي‏:‏ ولما كان شعره أكثره جيداً اقتصرت على هذا القدر‏.‏

توفي في جمادى الآخرة‏.‏

 هبة الله بن الحسن

أبو الحسين المعروف بالحاجب، كان من أهل الفضل والأدب والدين، وله شعر حسن، فمنه قوله‏:‏

يا ليلة سلك الزما * ن في طيبها كل مسلك

إذ ترتقى روحي المسر * ة مدركاً ما ليس يدرك

والبدر قد فضح الزما * ن وسره فيه مهتك

وكأنما زهر النجو * م بلمعها شعل تحرك

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/53‏)‏

والغيب أحياناً يلو * ح كأنه ثوب ممسك

وكأن تجعيد الريا * ح لدجلة ثوب مفرك

وكان نشر المسك * ينفح في النسيم إذا تحرك

وكأنما المنثور مصفر * الذرى ذهب مسبك

والنور يبسم في الريا * ض فإن نظرت إليه سرك

شارطت نفسي أن أقو * م بحقها والشرط أملك

حتى تولى الليل منـ * ـهزماً وجاء الصبح يضحك

وذا الفتى لو أنه * في طيب العيش يترك

والدهر يحسب عمره * فإذا أتاه الشيب فذلك

 أبو علي بن سينا

الطبيب الفيلسوف، الحسين بن عبد الله بن سينا الرئيس، كان بارعاً في الطب في زمانه، كان أبوه من أهل بلخ، وانتقل إلى بخارى، واشتغل بها فقرأ القرآن وأتقنه، وهو ابن عشر سنين، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة وإقليدس والمجسطي، ثم اشتغل على أبي عبد الله الناتلي الحكيم، فبرع فيه وفاق أهل زمانه في ذلك، وتردد الناس إليه واشتغلوا عليه، وهو ابن ست عشرة سنة، وعالج بعض الملوك السامانية، وهو الأمير نوح بن نصر، فأعطاه جائزة سنية، وحكمه في خزانة كتبه، فرأى فيها من العجائب والمحاسن ما لا يوجد في غيرها، فيقال‏:‏ إنه عزا بعض تلك الكتب إلى نفسه‏.‏

وله في الإلهيات والطبيعات كتب كثيرة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ له نحو من مائة مصنف، صغار وكبار، منها‏:‏ ‏(‏القانون‏)‏، و‏(‏الشفا‏)‏، و‏(‏النجاة‏)‏، و‏(‏الإشارات‏)‏، و‏(‏سلامان‏)‏، و‏(‏إنسان‏)‏، و‏(‏حي بن يقظان‏)‏ وغير ذلك‏.‏

قال‏:‏ وكان من فلاسفة الإسلام، أورد له من الأشعار قصيدته في نفسه التي يقول فيها‏:‏

هبطت إليك من المقام الأرفع * ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبة عن كل مقلة عارف * وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وصلت على كره إليك وربما * كرهت فراقك وهي ذات تفجع

وهي قصيدة طويلة وله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/54‏)‏

اجعل غذاءك كل يوم مرة * واحذر طعاماً قبل هضم طعام

واحفظ منيك ما استطعت فإنه * ماء الحياة يراق في الأرحام

وذكر أنه مات بالقولنج في همذان، وقيل‏:‏ بأصبهان، والأول أصح، يوم الجمعة في شهر رمضان منها، عن ثمان وخمسين سنة‏.‏

قلت‏:‏ قد حصر الغزالي كلامه في ‏(‏مقاصد الفلاسفة‏)‏، ثم رد عليه في ‏(‏تهافت الفلاسفة‏)‏ في عشرين مجلساً له، كفره في ثلاث منها، وهي قوله‏:‏ بقدم العالم، وعدم المعاد الجثماني، وإن الله لا يعلم الجزئيات، وبدعه في البواقي، ويقال‏:‏ إنه تاب عند الموت فالله أعلم‏.‏