فصل: سنة خمس وثلاثون ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة تسع وعشرين ومائتين

فيها أمر الواثق بعقوبة الدواوين وضربهم واستخلاص الأموال منهم، لظهور خياناتهم وإسرافهم في أمورهم، فمنهم من ضرب ألف سوط وأكثر من ذلك وأقل، ومنهم من أخذ منه ألف ألف دينار، ودون ذلك، وجاهر الوزير محمد بن عبد الملك لسائر ولاة الشرط بالعداوة فعسفوا وحبسوا ولقوا شراً عظيماً، وجهداً جهيداً، وجلس إسحاق بن إبراهيم للنظر في أمرهم، وأقيموا للناس وافتضحوا هم والدواوين فضيحة بليغة‏.‏

وكان سبب ذلك أن الواثق جلس ليلة في دار الخلافة وجلسوا يسمرون عنده، فقال‏:‏ هل منكم أحد يعرف سبب عقوبة جدي الرشيد للبرامكة ‏؟‏

فقال بعض الحاضرين‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ‏!‏ سبب ذلك أن الرشيد عرضت له جارية فأعجبه جمالها فساوم سيدها فيها‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إن أقسمت بكل يمين أن لا أبيعها بأقل من مائة ألف دينار‏.‏

فاشتراها منه بها وبعث إلى يحيى بن خالد الوزير ليبعث إليه بالمال من بيت المال، فاعتل بأنها ليست عنده، فأرسل الرشيد إليه يؤنبه ويقول‏:‏ أما في بيت مالي مائة ألف دينار ‏؟‏

وألح في طلبها فقال يحيى بن خالد‏:‏ أرسلوها إليه دراهم ليستكثرها، ولعله يرد الجارية‏.‏

فبعثوا بمائة ألف دينار دراهم ووضعوها في طريق الرشيد وهو خارج إلى الصلاة، فلما اجتاز به رأى كوماً من دراهم‏.‏

فقال‏:‏ ما هذا ‏؟‏

قالوا‏:‏ ثمن الجارية‏.‏

فاستكثر ذلك وأمر بخزنها عند بعض خدمه في دار الخلافة، وأعجبه جمع المال في حواصله، ثم شرع في تتبع أموال بيت المال فإذا البرامكة قد استهلكوها، فجعل يهمُّ بهم تارة يريد أخذهم وهلاكهم، وتارة يحجم عنهم، حتى إذا كان في بعض الليالي سمر عنده رجل يقال له‏:‏ أبو العود، فأطلق له ثلاثين ألفاً من الدراهم، فذهب إلى الوزير يحيى بن خالد بن برمك فطلبها منه فماطله مدة طويلة، فلما كان في بعض الليالي في السمر عرض أبو العود بذلك للرشيد في قول عمر بن أبي ربيعة‏:‏

وعدت هند وما كادت تعد * ليت هنداً أنجزتنا ما تعد

واستبدَّت مرةً واحدةً * إنما العاجز من لا يستبد

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/332‏)‏

فجعل الرشيد يكرر قوله‏:‏ إنما العاجز من لا يستبد، ويعجبه ذلك‏.‏

فلما كان الصباح دخل عليه يحيى بن خالد فأنشده الرشيد هذين البيتين وهو يستحسنهما، ففهم ذلك يحيى بن خالد وخاف وسأل عن من أنشد ذلك للرشيد‏؟‏ فقيل له‏:‏ أبو العود‏.‏

فبعث إليه وأعطاه الثلاثين ألفاً وأعطاه من عنده عشرين ألفاً، وكذلك ولداه الفضل وجعفر، فما كان عن قريب حتى أخذ الرشيد البرامكة، وكان من أمرهم ما كان‏.‏

فلما سمع ذلك الواثق أعجبه ذلك وجعل يكرر قول الشاعر‏:‏ إنما العاجز من لا يستبد‏.‏

ثم بطش بالكتاب وهم الدواوين على إثر ذلك، وأخذ منهم أموالاً عظيمةً جداً‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير السنة الماضية وهو أمير الحجيج في السنتين الماضيتين‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ خلف بن هشام البزار أحد مشاهير القراء، وعبد الله بن محمد السندي، ونعيم بن حماد الخزاعي أحد أئمة السنة بعد أن كان من أكابر الجهمية، وله المصنفات في السنن وغيرها، وبشار بن عبد الله المنسوب إليه النسخة المكذوبة عنه أو منه، ولكنها عالية الإسناد إليه، ولكنها موضوعة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاثين ومائتين

في جمادى منها‏:‏ خرجت بنو سليم حول المدينة النبوية فعاثوا في الأرض فساداً، وأخافوا السبيل، وقاتلهم أهل المدينة فهزموا أهلها واستحوذوا على ما بين المدينة ومكة من المناهل والقرى‏.‏

فبعث إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في جيش فقاتلهم في شعبان فقتل منهم خمسين فارساً وأسر منهم وانهزم بقيتهم، فدعاهم إلى الأمان وأن يكونوا على حكم أمير المؤمنين، فاجتمع إليه منهم خلق كثير، فدخل بهم المدينة وسجن رؤوسهم في دار يزيد بن معاوية‏.‏

وخرج إلى الحج في هذه السنة، وشهد معه الموسم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب نائب العراق‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن داود المتقدم‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

 عبد الله بن طاهر بن الحسين

نائب خراسان وما والاها‏.‏

وكان خراج ما تحت يده في كل سنة ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق مكانه ابنه طاهر‏.‏

وتوفي قبله أشناس التركي بتسعة أيام، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

وقال ابن خلكان‏:‏ توفي سنة ثمان وعشرين بمرو، وقيل‏:‏ بنيسابور‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/333‏)‏

وكان كريماً جواداً، وله شعر حسن، وقد ولي نيابة مصر بعد العشرين ومائتين‏.‏

وذكر الوزير أبو القاسم بن المعزى أن البطيخ العبدلاوي الذي بمصر منسوب إلى عبد الله بن طاهر هذا‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ لأنه كان يستطيبه‏.‏

وقيل‏:‏ لأن أول من زرعه هناك، والله أعلم‏.‏

ومن جيد شعره‏:‏

اغتفر زلتي لتحرز فضل الشَّـ * ـكر منيِّ ولا يفوتك أجري

لا تكلني إلى التوسل بالعذ * ر لعلِّي أن لا أقوم بعذري

ومن شعره قوله‏:‏

نحن قوم يليننا الخد والنَّحـ * ـر على أننا نلين الحديدا

طوع أيدي الصبا تصيدنا العيـ * ـن ومن شأننا نصيد الأسودا

نملك الصَّيد ثم تملكنا البيـ * ـض المضيئات أعيناً وخدودا

تتقي سخطنا الأسود ونخشى * سقط الخشف حين تبدي القعودا

فترانا يوم الكريهة أحرا * راً وفي السِّلم للغواني عبيدا

قال ابن خلكان‏:‏ وكان خزاعياً من موالي طلحة الطلحات الخزاعي، وقد كان أبو تمام يمدحه، فدخل إليه مرة فأضافه الملح بهمدان، فصنف له كتاب الحماسة عند بعض نسائه‏.‏

ولما ولاه المأمون نيابة الشام ومصر صار إليها وقد رسم له بما في ديار مصر من الحواصل، فحمل إليه وهو في أثناء الطريق ثلاثة آلاف ألف دينار، ففرقها كلها في مجلس واحد، وأنه لما واجه مصر نظر إليها فاحتقرها وقال‏:‏ قبّح الله فرعون، ما كان أخسه وأضعف همته حين تبجح وتعاظم بملك هذه القرية، وقال‏:‏ أنا ربكم الأعلى‏.‏

وقال‏:‏ أليس لي ملك مصر‏؟‏ فكيف لو رأى بغداد وغيرها‏.‏

وفيها توفي‏:‏ علي بن جعد الجوهري، ومحمد بن سعد كاتب الواقدي مصنف كتاب الطبقات وغيره، وسعيد بن محمد الجرمي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/334‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ وقعت مفاداة الأسارى المسلمين الذين كانوا في أيدي الروم على يدي الأمير خاقان الخادم وذلك في المحرم من هذه السنة، وكان عدة الأسارى أربعة آلاف وثلثمائة واثنين وستين أسيراً‏.‏

وفيها‏:‏ كان مقتل أحمد بن نصر الخزاعي، رحمه الله وأكرم مثواه‏.‏

وكان سبب ذلك أن هذا الرجل وهو‏:‏ أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي وكان جده مالك بن الهيثم من أكبر الدعاة إلى دولة بني العباس الذين قتلوا ولده هذا، وكان أحمد بن نصر هذا له وجاهة ورياسة، وكان أبوه نصر بن مالك يغشاه أهل الحديث، وقد بايعه العامة في سنة إحدى ومائتين على القيام بالأمر والنهي حين كثرت الشطار والدعار في غيبة المأمون عن بغداد كما تقدم ذلك، وبه تعرف سويقة نصر ببغداد‏.‏

وكان أحمد بن نصر هذا من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وكان ممن يدعو إلى القول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، وكان الواثق من أشد الناس في القول بخلق القرآن، يدعو إليه ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، اعتماداً على ما كان عليه أبوه قبله وعمه المأمون، من غير دليل ولا برهان، ولا حجة ولا بيان، ولا سنة ولا قرآن‏.‏

فقام أحمد بن نصر هذا يدعو إلى الله وإلى الأمر بالمعروف والنهي عن النكر والقول بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، في أشياء كثيرة دعا الناس إليها‏.‏

فاجتمع عليه جماعة من أهل بغداد، والتف عليه من الألوف أعداد، وانتصب للدعوة إلى أحمد بن نصر هذا رجلان وهما‏:‏ أبو هارون السراج يدعو أهل الجانب الشرقي، وآخر يقال له‏:‏ طالب يدعو أهل الجانب الغربي فاجتمع عليه من الخلائق ألوف كثيرة، وجماعات غزيرة‏.‏

فلما كان شهر شعبان من هذه السنة انتظمت البيعة لأحمد بن نصر الخزاعي في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته ودعوته إلى القول بخلق القرآن، ولما هو عليه وأمراؤه وحاشيته من المعاصي والفواحش وغيرها‏.‏

فتواعدوا على أنهم في الليلة الثالثة من شعبان - وهي ليلة الجمعة - يضرب طبل في الليل فيجتمع الذين بايعوا في مكان اتفقوا عليه، وأنفق طالب وأبو هارون في أصحابه ديناراً ديناراً، وكان من جملة من أعطوه رجلان من بني أشرس، وكانا يتعاطيان الشراب‏.‏

فلما كانت ليلة الخميس شربا في قوم من أصحابهم واعتقدا أن تلك الليلة هي ليلة الوعد، وكان ذلك قبله بليلة، فقاما يضربان على طبل في الليل ليجتمع إليهما الناس، فلم يجيء أحد وانخرم النظام وسمع الحرس في الليل فأعلموا نائب السلطنة، وهو محمد بن إبراهيم بن مصعب، وكان نائباً لأخيه إسحاق بن إبراهيم، لغيبته عن بغداد، فأصبح الناس متخبطين‏.‏

واجتهد نائب السلطنة على إحضار ذينك الرجلين فأحضرا فعاقبهما فأقرا على أحمد بن نصر، فطلبه وأخذ خادماً له فاستقره فأقر بما أقر به الرجلان، فجمع جماعة من رؤوس أصحاب أحمد بن نصر معه وأرسل بهم إلى الخليفة بسر من رأى، وذلك في آخر شعبان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/335‏)‏

فأحضر له جماعة من الأعيان وحضر القاضي أحمد بن أبي داؤد المعتزلي، وأحضر أحمد بن نصر ولم يظهر منه على أحمد بن نصر عتب، فلما أوقف أحمد بن نصر بين يدي الواثق لم يعاتبه على شيء مما كان منه في مبايعته العوام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيره، بل أعرض عن ذلك كله وقال له‏:‏ ما تقول في القرآن ‏؟‏

فقال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

قال‏:‏ أمخلوق هو ‏؟‏

قال‏:‏ هو كلام الله‏.‏

وكان أحمد بن نصر قد استقتل وباع نفسه وحضر وقد تحنط وتنور وشد على عورته ما يسترها فقال له‏:‏ فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قد جاء القرآن والأخبار بذلك، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 22‏]‏ الآية‏.‏

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته‏)‏‏)‏‏.‏ فنحن على الخبر‏.‏

زاد الخطيب قال الواثق‏:‏ ويحك ‏!‏ أيرى كما يرى المحدود المتجسم‏؟‏ ويحويه مكان ويحصره الناظر‏؟‏ أنا أكفر برب هذه صفته‏.‏

قلت‏:‏ وما قاله الواثق لا يجوز ولا يلزم ولا يرد به هذا الخبر الصحيح، والله أعلم‏.‏

ثم قال أحمد بن نصر للواثق‏:‏ وحدثني سفيان بحديث يرفعه‏:‏ ‏(‏‏(‏إن قلب ابن آدم بأصبعين من أصابع الله يقلبه كيف شاء‏)‏‏)‏‏.‏

وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏‏(‏يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك‏)‏‏)‏‏.‏

فقال له إسحاق بن إبراهيم‏:‏ ويحك ‏!‏ انظر ما تقول‏.‏

فقال‏:‏ أنت أمرتني بذلك‏.‏

فأشفق إسحاق من ذلك وقال‏:‏ أنا أمرتك ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏ أنت أمرتني أن أنصح له‏.‏

فقال الواثق لمن حوله‏:‏ ما تقولون في هذا الرجل‏؟‏

فأكثروا القول فيه‏.‏

فقال عبد الرحمن بن إسحاق - وكان قاضياً على الجانب الغربي فعزل وكان مواداً لأحمد بن نصر قبل ذلك -‏:‏ يا أمير المؤمنين هو حلال الدم‏.‏

وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب أحمد بن أبي داؤد‏:‏ اسقني دمه يا أمير المؤمنين‏.‏

فقال الواثق‏:‏ لابد أن يأتي ما تريد‏.‏

وقال ابن أبي دؤاد‏:‏ هو كافر يستتاب لعل به عاهة أو نقص عقل‏.‏

فقال الواثق‏:‏ إذا رأيتموني قمت إليه فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي‏.‏

ثم نهض إليه بالصمصامة - وقد كانت سيفاً لعمرو بن معديكرب الزبيدي أهديت لموسى الهادي في أيام خلافته وكانت صفيحة مسحورة في أسفلها مسمورة بمسامير - فلما انتهى إليه ضربه بها على عاتقه وهو مربوط بحبل قد أوقف على نطع، ثم ضربه أخرى على رأسه ثم طعنه بالصمصامة في بطنه فسقط صريعاً رحمه الله على النطع ميتاً، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

رحمه الله وعفا عنه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/336‏)‏

ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه فضرب عنقه وحز رأسه وحمل معترضاً حتى أتى به الحظيرة التي فيها بابك الخرَّمي فصلب فيها، وفي رجليه زوج قيود وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد فنصب في الجانب الشرقي أياماً، وفي الغربي أياماً، وعنده الحرس في الليل والنهار‏.‏

وفي أذنه رقعة مكتوب فيها‏:‏ هذا رأس الكافر المشرك الضال أحمد بن نصر الخزاعي، ممن قتل على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن، ونفى التشبيه وعرض عليه التوبة ومكنه من الرجوع إلى الحق فأبى إلا المعاندة والتصريح، فالحمد لله الذي عجله إلى ناره وأليم عقابه بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه ولعنه‏.‏

ثم أمر الواثق بتتبع رؤوس أصحابه فأخذ منهم نحواً من تسع وعشرين رجلاً فأودعوا في السجون وسموا‏:‏ الظلمة، ومنعوا أن يزورهم أحد وقيدوا بالحديد، ولم يجر عليهم شيء من الأرزاق التي كانت تجري على المحبوسين، وهذا ظلم عظيم‏.‏

وقد كان أحمد بن نصر هذا من أكابر العلماء العاملين القائمين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏

وسمع الحديث من‏:‏ حماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وهاشم بن بشير، وكانت عنده مصنفاته كلها‏.‏

وسمع من الإمام مالك بن أنس أحاديث جيدة، ولم يحدث بكثير من حديثه‏.‏

وحدث عنه‏:‏ أحمد بن إبراهيم الدورقي، وأخوه يعقوب بن إبراهيم، ويحيى بن معين، وذكره يوماً فترحم عليه وقال‏:‏ قد ختم الله له بالشهادة، وكان لا يحدث ويقول إني لست أهلاً لذلك‏.‏

وأحسن يحيى بن معين الثناء عليه جداً‏.‏

وذكره الإمام أحمد بن حنبل يوماً فقال‏:‏ رحمه الله ما كان أسخاه بنفسه لله، لقد جاد بنفسه له‏.‏

وقال جعفر بن محمد الصائغ‏:‏ بصرت عيناي وإلا فقئتا وسمعت أذناي وإلا فصمتا أحمد بن نصر الخزاعي حين ضربت عنقه يقول رأسه‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏

وقد سمعه بعض الناس وهو مصلوب على الجذع ورأسه يقرأ‏:‏ ‏{‏الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 1-2‏]‏‏.‏

قال‏:‏ فاقشعر جلدي‏.‏

ورآه بعضهم في النوم فقال له‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ ما كانت إلا غفوة حتى لقيت الله عز وجل فضحك إلي‏.‏

ورأى بعضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام ومعه أبو بكر وعمر قد مروا على الجذع الذي عليه رأس أحمد بن نصر، فلما جاوزوه أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه الكريم عنه فقيل له‏:‏ يا رسول الله مالك أعرضت عن أحمد بن نصر ‏؟‏

فقال‏:‏ ‏(‏‏(‏أعرضت عنه استحياء منه حين قتله رجل يزعم أنه من أهل بيتي‏)‏‏)‏‏.‏

ولم يزل رأسه منصوباً من يوم الخميس الثامن والعشرين من شعبان من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة إحدى وثلاثين ومائتين - إلى بعد عيد الفطر بيوم أو يومين من سنة سبع وثلاثين ومائتين، فجمع بين رأسه وجثته ودفن بالجانب الشرقي من بغداد بالمقبرة المعروفة بالمالكية رحمه الله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/337‏)‏

وذلك بأمر المتوكل على الله الذي ولي الخلافة بعد أخيه الواثق، وقد دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني - صاحب كتاب الحيدة - على المتوكل وكان من خيار الخلفاء لأنه أحسن الصنيع لأهل السنة، بخلاف أخيه الواثق وأبيه المعتصم وعمه المأمون، فإنهم أساؤوا إلى أهل السنة وقربوا أهل البدع والضلال من المعتزلة وغيرهم‏.‏

فأمره أن ينزل جثة أحمد بن نصر ويدفنه ففعل، وقد كان المتوكل يكرم الإمام أحمد بن حنبل إكراماً زائداً جداً كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

والمقصود أن عبد العزيز صاحب كتاب الحيدة قال للمتوكل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت أو ما رئي أعجب من أمر الواثق، قتل أحمد بن نصر وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن‏.‏

فوجل المتوكل من كلامه وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل‏:‏ في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أحرقني الله بالنار إن قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً‏.‏

ودخل عليه هرثمة فقال له في ذلك فقال‏:‏ قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً‏.‏

ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي داؤد فقال له مثل ذلك فقال‏:‏ ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً‏.‏

قال المتوكل‏:‏ فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار‏.‏

وأما هرثمة فانه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة فعرفه رجل من الحي فقال‏:‏ يا معشر خزاعة هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر فقطعوه، فقطعوه إرباً إرباً‏.‏

وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني‏:‏ بالفالج - ضربه الله قبل موته بأربع سنين، وصودر من صلب ماله بمال جزيل جداً كما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

وروى أبو داود في كتاب المسائل، عن أحمد بن إبراهيم الدورقي، عن أحمد بن نصر، قال‏:‏ سألت سفيان بن عيينة‏:‏ ‏(‏‏(‏القلوب بين إصبعين من أصابع الله، وإن الله يضحك ممن يذكره في الأسواق‏)‏‏)‏‏.‏

فقال‏:‏ اروها كما جاءت بلا كيف‏.‏

وفيها‏:‏ أراد الواثق أن يحج واستعد فذكر له أن الماء بالطريق قليل فترك الحج عامئذ‏.‏

وفيها‏:‏ تولى جعفر بن دينار نائب اليمن فسار إليها في أربعة آلاف فارس‏.‏

وفيها‏:‏ عدا قوم من العامة على بيت المال فأخذوا منه شيئاً من الذهب والفضة، فأخذوا وسجنوا‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر خارجي ببلاد ربيعة فقاتله نائب الموصل فكسره وانهزم أصحابه‏.‏

وفيها‏:‏ قدم وصيف الخادم بجماعة من الأكراد نحو من خمسمائة في القيود، كانوا قد أفسدوا في الطرقات وقطعوها، فأطلق الخليفة لوصيف الخادم خمسة وسبعين ألف دينار، وخلع عليه‏.‏

وفيها قدم خاقان الخادم من بلاد الروم وقد تم الصلح والمفاداة بينه وبين الروم، وقدم معه جماعة من رؤوس الثغور، فأمر الواثق بامتحانهم بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فأجابوا إلا أربعة فأمر بضرب أعناقهم إن لم يجيبوا بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة‏.‏

وأمر الواثق أيضاً بامتحان الأسارى الذين فودوا من أسر الفرنج بالقول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فمن أجاب إلى القول بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة فودى وإلا ترك في أيدي الكفار، وهذه بدعة صلعاء شنعاء عمياء صماء لا مستند لها من كتاب ولا سنة ولا عقل صحيح، بل الكتاب والسنة والعقل الصحيح بخلافهما كما هو مقرر في موضعه‏.‏ وبالله المستعان‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/ 338‏)‏

وكان وقوع المفاداة عند نهر يقال له‏:‏ اللامس، عند سلوقية بالقرب من طرسوس، بدل كل مسلم أو مسلمة في أيدي الروم أو ذمي أو ذمية كان تحت عقد المسلمين أسير من الروم كان بأيدي المسلمين ممن لم يسلم، فنصبوا جسرين على النهر فإذا أرسل الروم مسلماً أو مسلمة في جسرهم فانتهى إلى المسلمين كبر وكبر المسلمون، ثم يرسل المسلمون أسيراً من الروم على جسرهم فإذا انتهى إليهم تكلم بكلام يشبه التكبير أيضاً‏.‏

ولم يزالوا كذلك مدة أربعة أيام بدل كل نفس نفس، ثم بقي مع خاقان جماعة من الروم الأسارى فأطلقهم للروم حتى يكون له الفضل عليهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها مات الحسن بن الحسين أخو طاهر بطبرستان في شهر رمضان‏.‏

وفيها‏:‏ مات الخطاب بن وجه الفلس‏.‏

وفيها‏:‏ مات أبو عبد الله بن الأعرابي الرواية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان، وهو ابن ثمانين سنة‏.‏

وفيها‏:‏ ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضا‏.‏

وفيها‏:‏ مات مخارق المغني‏.‏

وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي‏.‏

وعمرو بن أبي عمرو الشيباني‏.‏

ومحمد بن سعدان النحوي‏.‏

قلت‏:‏ وممن توفي فيها أيضاً أحمد نصر الخزاعي كما تقدم‏.‏

وإبراهيم بن محمد بن عرعرة‏.‏

وأمية بن بسطام‏.‏

وأبو تمام الطائي في قول‏.‏ والمشهور ما تقدم‏.‏

وكامل بن طلحة‏.‏

ومحمد بن سلام الجمحي‏.‏

وأخوه عبد الرحمن‏.‏

ومحمد بن منهال الضرير‏.‏

ومحمد بن منهال أخو حجاج‏.‏

وهارون بن معروف‏.‏

والبويطي صاحب الشافعي مات في السجن مقيداً على القول بخلق القرآن فامتنع من ذلك‏.‏

ويحيى بن بكير راوي الموطأ عن مالك‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ عاثت قبيلة يقال لها‏:‏ بنو نمير باليمامة فساداً فكتب الواثق إلى بغا الكبير وهو مقيم بأرض الحجاز فحاربهم فقتل منهم جماعة وأسر منهم آخرين، وهزم بقيتهم، ثم التقى مع بني تميم وهو في ألفي فارس وهم ثلاثة آلاف، فجرت بينهم حروب ثم كان الظفر له عليهم آخراً، وذلك في النصف من جمادى الآخرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/339‏)‏

ثم عاد بعد ذلك إلى بغداد ومعهم من أعيان رؤوسهم في القيود والأسر جماعة، وقد فقد من أعيانهم في الوقائع ما ينيف على ألفي رجل من بني سليم ونمير ومرة وكلاب وفزارة وثعلبة وطي وتميم وغيرهم‏.‏

وفي هذه السنة أصاب الحجيج في رجوعهم عطش شديد حتى بيعت الشربة بالدنانير الكثيرة، ومات خلق كثير من العطش‏.‏

وفيها‏:‏ أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة الخليفة الواثق بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد أبي جعفر هارون الواثق‏.‏

كان هلاكه في ذي الحجة من هذه السنة بعلة الاستسقاء، فلم يقدر على حضور العيد عامئذ، فاستناب في الصلاة بالناس قاضيه أحمد بن أبي داؤد الإيادي المعتزلي‏.‏

توفي لست بقين من ذي الحجة، وذلك أنه قوي به الاستسقاء فأقعد في تنور قد أحمي له بحيث يمكنه الجلوس فيه ليسكن وجعه، فلان عليه بعض الشيء اليسير، فلما كان من الغد أمر بأن يحمّى أكثر من العادة فأجلس فيه ثم أخرج فوضع في محفة فحمل فيها وحوله أمراؤه و وزراؤه وقاضيه، فمات وهو محمول فيها، فما شعروا حتى سقط جبينه على المحفة وهو ميت، فغمض القاضي عينيه بعد سقوط جبينه، وولي غسله والصلاة عليه ودفنه في قصر الهادي، عليهما من الله ما يستحقانه‏.‏

وكان أبيض اللون مشرباً حمرةً جميل المنظر خبيث القلب حسن الجسم سيء الطوية، قاتم العين اليسرى، فيها نكتة بيضاء، وكان مولده سنة ست وتسعين ومائة بطريق مكة، فمات وهو ابن ست وثلاثين سنة، ومدة خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام‏.‏

وقيل‏:‏ سبعة أيام وثنتي عشرة ساعة‏.‏

فهكذا أيام أهل الظلم والفساد والبدع قليلة قصيرة‏.‏

وقد جمع الواثق أصحاب النجوم في زمانه حين اشتدت علته، وإنما اشتدت بعد قتله أحمد بن نصر الخزاعي ليلحقه إلى بين يدي الله، فلما جمعهم أمرهم أن ينظروا في مولده وما تقتضيه صناعة النجوم كم تدوم أيام دولته‏.‏

فاجتمع عنده من رؤوسهم جماعة منهم‏:‏ الحسن بن سهل، والفضل ابن إسحاق الهاشمي، وإسماعيل بن نوبخت‏.‏

ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي، وسند صاحب محمد بن الهيثم، وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في مولده وما يقتضيه الحال عندهم فأجمعوا على أنه يعيش في الخلافة دهراً طويلاً، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة من يوم نظروا نظر من لم يبصر، فإنه لم يعش بعد قولهم وتقديرهم إلا عشرة أيام حتى هلك‏.‏

ذكره الإمام أبو جعفر بن جرير الطبرى رحمه الله‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام وقد قعد مجلساً كان أول مجلس قعده، وكان أول ما غنى به في ذلك المجلس أن غنته شارية جارية إبراهيم بن المهدي‏:‏

ما درى الحاملون يوم استقلوا * نعشه للثواء أم للقاء

فيلقل فيك باكياتك ماشئـ *ن صياحاً في وقت كل مساء

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/340‏)‏

قال‏:‏ فبكى وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه‏.‏

ثم اندفع بعضهم يغنى‏:‏

ودّع هريرة إن الركب مرتحل * وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

فازداد بكاؤه وقال‏:‏ ما سمعت كاليوم قط تعزية بأب وبغى نفس، ثم أرفض ذلك المجلس‏.‏

وروى الخطيب أن دعبل بن علي الشاعر لما تولى الواثق عمد إلى طومار فكتب فيه أبيات شعر ثم جاء إلى الحاجب فدفعه إليه وقال‏:‏ اقرأ أمير المؤمنين السلام وقل‏:‏ هذه أبيات امتدحك بها دعبل فلما فضّها الواثق إذا فيها‏:‏

الحمد لله لا صبر ولا جدل * ولا عزاء إذا أهل الهوى رقدوا

خليفةً مات لم يحزن له أحد * وآخر قام لم يفرح به أحد

فمر هذا ومر الشؤم يتبعه * وقام هذا فقام الويل

والنكد

قال‏:‏ فتطلبه الواثق بكل ما يقدر عليه من الطلب

فلم يقدر عليه حتى مات الواثق‏.‏

وروي أيضاً‏:‏ أنه لما استخلف الواثق ابن أبي داود على الصلاة في يوم العيد ورجع إليه بعد أن قضاها قال له‏:‏ كيف كان عيدكم يا أبا عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ كنا في نهار لا شمس فيه، فضحك وقال‏:‏ يا أبا عبد الله أنا مؤيد بك‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وكان ابن أبي داؤد استولى على الواثق وحمله على التشديد في المحنة ودعا الناس إلى القول بخلق القرآن‏.‏

قال ويقال‏:‏ إن الواثق رجع عن ذلك قبل موته فأخبرني عبد الله ابن أبي الفتح أنبأ أحمد بن إبراهيم بن الحسن، ثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة، حدثني حامد بن العباس عن رجل عن المهدي‏:‏ أن الواثق مات وقد تاب من القول بخلق القرآن‏.‏

وروي أن الواثق دخل عليه يوماً مؤدبه فأكرمه إكراماً كثيراً فقيل له في ذلك فقال‏:‏ هذا أول من فتق لساني بذكر الله وأدناني برحمة الله‏.‏

وكتب إليه بعض الشعراء‏:‏

جذبت دواعي النفس عن طلب الغنى * وقلت لها عفي عن الطلب النزر

فإن أمير المؤمنين بكفه * مدار رحا الأرزاق دائبة تجري

فوقع له في رقعته جذبتك نفسك عن امتهانها، ودعتك إلى صونها فخذ ما طلبته هيناً، وأجزل له العطاء‏.‏

ومن شعره قوله‏:‏

هي المقادير تجري في أعنتها * فأصبر فليس لها صبر على حال

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/341‏)‏

ومن شعر الواثق قوله‏:‏

تنحّ عن القبيح ولا ترده *ومن أوليته حسناً فزده

ستكفى من عدوك كل كيد * إذا كاد العدو ولم تكده

وقال القاضي يحيى بن أكثم‏:‏ ما أحسن أحد من خلفاء بني العباس إلى آل أبي طالب ما أحسن إليهم الواثق‏:‏ ما مات وفيهم فقير‏.‏

ولما احتضر جعل يردد هذين البيتين‏:‏

الموت فيه جميع الخلق مشترك * لا سوقة منهم يبقى ولا ملك

ما ضر أهل قليل في تفاقرهم * وليس يغني عن الأملاك ما ملكوا

ثم أمر بالبسط فطويت ثم ألصق خده بالأرض وجعل يقول‏:‏ يا من لا يزول ملكه ارحم من قد زال ملكه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لما احتضر الواثق ونحن حوله غشي عليه فقال بعضنا لبعض‏:‏ انظروا هل قضى ‏؟‏

قال‏:‏ فدنوت من بينهم إليه لأنظر هل هدأ نفسه، فأفاق فلحظ إلي بعينه فرجعت القهقري خوفاً منه، فتعلقت قائمة سيفي بشيء فكدت أن أهلك، فما كان عن قريب حتى مات وأغلق عليه الباب الذي هو فيه وبقي فيه وحده واشتغلوا عن تجهيزه بالبيعة لأخيه جعفر المتوكل، وجلست أنا أحرس الباب فسمعت حركة من داخل البيت فدخلت فإذا جرذ قد أكل عينه التي لحظ إلي بها، وما كان حولها من الخدين‏.‏

وكانت وفاته بسر من رأى التي كان يسكنها في القصر الهاروني، في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة من هذه السنة - أعني سنة ثنتين وثلاثين ومائتين - عن ست وثلاثين سنة، وقيل ثنتين وثلاثين سنة‏.‏

وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام، وقيل خمس سنين وشهران وأحد وعشرين يوماً، وصلى عليه أخوه جعفر المتوكل على الله، والله أعلم‏.‏

خلافة المتوكل على الله جعفر بن المعتصم

بويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق وقت الزوال من يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة‏.‏

وكانت الأتراك قد عزموا على تولية محمد بن الواثق فاستصغروه فتركوه وعدلوا إلى جعفر هذا، وكان عمره إذ ذاك ستاً وعشرين سنة، وكان الذي ألبسه خلعة الخلافة أحمد بن أبي داؤد القاضي، وكان هو أول من سلم عليه بالخلافة وبايعه الخاصة والعامة، وكانوا قد اتفقوا على تسميته بالمنتصر بالله،

إلى صبيحة يوم الجمعة فقال ابن أبي داؤد رأيت أن يلقب بالمتوكل على الله، فاتفقوا على ذلك، وكتب إلى الآفاق وأمر بإعطاء الشاكرية من الجند ثمانية شهور، وللمغاربة أربعة شهور، ولغيرهم ثلاثة شهور، واستبشر الناس به‏.‏

وقد كان المتوكل رأى في منامه في حياة أخيه هارون الواثق كأن شيئاً نزل عليه من السماء مكتوب فيه جعفر المتوكل على الله، فعبره فقيل له هي الخلافة، فبلغ ذلك أخاه الواثق فسجنه حيناً ثم أرسله‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/342‏)‏

وفيها‏:‏ حج بالناس أمير الحجيج محمد بن داود‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الحكم بن موسى، وعمرو بن محمد الناقد‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وثلاثين ومائتين

في يوم الأربعاء سابع صفر منها أمر الخليفة المتوكل على الله بالقبض على محمد بن عبد الملك بن الزيات وزير الواثق، وكان المتوكل يبغضه لأمور، منها أن أخاه الواثق غضب على المتوكل في بعض الأوقات وكان ابن الزيات يزيده غضباً عليه، فبقي ذلك في نفسه، ثم كان الذي استرضى الواثق عليه أحمد بن أبي داؤد فحظي بذلك عنده في أيام ملكه، ومنها أن ابن الزيات كان قد أشار بخلافة محمد بن الواثق بعد أبيه، ولف عليه الناس، وجعفر المتوكل في جنب دار الخلافة لم يلتفت إليه ولم يتم الأمر إلا لجعفر المتوكل على الله، رغم أنف ابن الزيات‏.‏

فلهذا أمر بالقبض عليه سريعاً فطلبه فركب بعد غدائه وهو يظن أن الخليفة بعث إليه، فانتهى به الرسول إلى دار إيتاخ أمير الشرطة فاحتيط به وقيد وبعثوا في الحال إلى داره فأخذ جميع ما فيها من الأموال واللآلي والجواهر والحواصل والجواري والأثاث، ووجدوا في مجلسه الخاص به آلات الشرب، وبعث المتوكل في الحال أيضاً إلى حواصله بسامرا وضياعه وما فيها فاحتاط عليها، وأمر به أن يعذب ومنعوه من الكلام، وجعلوا يساهرونه كلما أراد الرقاد نخس بالحديد، ثم وضعه بعد ذلك كله في تنور من خشب فيه مسامير قائمة في أسفله فأقيم عليها ووكل به من يمنعه من القعود والرقاد، فمكث كذلك أياماً حتى مات وهو كذلك‏.‏

ويقال إنه أخرج من التنور وفيه رمق فضرب على بطنه ثم على ظهره حتى مات وهو تحت الضرب، ويقال إنه أحرق ثم دفعت جثته إلى أولاده فدفنوه، فنبشت عليه الكلاب فأكلت ما بقي من لحمه وجلده‏.‏

وكانت وفاته لإحدى عشرة من ربيع الأول منها‏.‏

وكان قيمة ما وجد له من الحواصل نحواً من تسعين ألف دينار‏.‏

وقد قدمنا أن المتوكل سأله عن قتل أحمد بن نصر الخزاعي فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين أحرقني الله بالنار إن قتله الواثق إلا كافراً‏.‏

قال المتوكل‏:‏ فأنا أحرقته بالنار‏.‏

وفيها‏:‏ في جمادى الأولى منها بعد مهلك ابن الزيات فلج أحمد بن أبي داؤد القاضي المعتزلي‏.‏

فلم يزل مفلوجاً حتى مات بعد أربع سنين وهو كذلك، كما دعا على نفسه حين سأله المتوكل عن

قتل حمد بن نصر كما تقدم‏.‏

ثم غضب المتوكل على جماعة من الدواوين والعمال، وأخذ منهم أموالاً جزيلةً جداً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/343‏)‏

وفيها‏:‏ ولى المتوكل ابنه محمد المنتصر الحجاز واليمن وعقد له على ذلك كله في رمضان منها‏.‏

وفيها‏:‏ عمد ملك الروم ميخائيل بن ترفيل إلى أمه تدورة فأقامها بالشمس وألزمها الدير وقتل الرجل الذي اتهمها به، وكان ملكها ست سنين‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن داود أمير مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إبراهيم بن الحجاج الشامي، وحبان بن موسى العربي، وسليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، وسهل بن عثمان العسكري، ومحمد بن سماعة القاضي، ومحمد بن عائذ الدمشقي صاحب المغازي، ويحيى المقابري، ويحيى بن معين أحد أئمة الجرح والتعديل، وأستاذ أهل هذه الصناعة في زمانه‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ خرج محمد بن البعيث بن حلبس عن الطاعة في بلاد أذربيجان، وأظهر أن المتوكل قد مات والتف عليه جماعة من أهل تلك الرساتيق، ولجأ إلى مدينة مرند فحصنها، وجاءته البعوث من كل جانب، وأرسل إليه المتوكل جيوشاً يتبع بعضها بعضاً، فنصبوا على بلده المجانيق من كل جانب، وحاصروه محاصرةً عظيمةً جداً، وقاتلهم مقاتلةً هائلةً، وصبر هو وأصحابه صبراً بليغاً، وقدم بغا الشرابي لمحاصرته، فلم يزل به حتى أسره واستباح أمواله وحريمه وقتل خلقاً من رؤس أصحابه، وأسر سائرهم وانحسمت مادة ابن البعيث‏.‏

وفي جمادى الأولى منها خرج المتوكل إلى المدائن‏.‏

وفيها‏:‏ حج إيتاخ أحد الأمراء الكبار وهو والي مكة، ودعي له على المنابر، وقد كان إيتاخ هذا غلاماً خزرياً طباخاً، وكان لرجل يقال له سلام الأبرش، فاشتراه منه المعتصم في سنة تسع وتسعين ومائة، فرفع منزلته وحظي عنده، وكذلك الواثق من بعده، ضم إليه أعمالاً كثيرةً، وكذلك عامله المتوكل وذلك لفروسيته ورجلته وشهامته، ولما كان في هذه السنة شرب ليلة مع المتوكل فعربد عليه المتوكل فهم إيتاخ بقتله‏.‏

فلما كان الصباح اعتذر المتوكل إليه وقال له‏:‏ أنت أبي وأنت ربيتني، ثم دس إليه من يشير إليه بأن يستأذن للحج فاستأذن فأذن له، وأمره على كل بلدة يحل بها، وخرج القواد في خدمته إلى طريق الحج حين خرج، ووكل المتوكل الحجابة لوصيف الخادم عوضاً عن إيتاخ‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/344‏)‏

وحج بالناس فيها محمد بن داود أمير مكة وهو أمير الحجيج من سنين متقدمة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الشاركوني أحد الحفاظ، عبد الله بن محمد النفيلي، أبو ربيع الزهراني، وعلي بن عبد الله بن جعفر المديني شيخ البخاري في صناعة الحديث ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن أبي بكر المقدمي، والمعافا الرسيعني، ويحيى بن يحيى الليثي راوي الموطأ عن مالك‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثلاثون ومائتين

في جمادى الآخرة منها كان هلاك إيتاخ في السجن، وذلك أنه رجع من الحج فتلقته هدايا الخليفة، فلما اقترب يريد دخول سامرا التي فيها المتوكل بعث إليه إسحاق بن إبراهيم نائب بغداد عن أمر الخليفة يستدعيه إليها ليتلقاه وجوه الناس وبني هاشم، فدخلها في أبهة عظيمة، فقبض عليه إسحاق بن إبراهيم وعلى ابنيه مظفر ومنصور وكاتبيه سليمان بن وهب، وقدامه بن زياد النصراني، فأسلم تحت العقوبة، وكان هلاك إيتاخ بالعطش، وذلك أنه أكل أكلاً كثيراً بعد جوع شديد ثم استسقى الماء فلم يسقى حتى مات ليلة الأربعاء لخمس خلون من جمادى الآخرة منها‏.‏

ومكث ولداه في السجن مدة خلافة المتوكل، فلما ولي المنتصر ولد المتوكل أخرجهما‏.‏

وفي شوال منها قدم بغا سامرا ومعه محمد بن البعيث وأخواه صقر وخالد، ونائبه العلاء ومعهم من رؤوس أصحابه نحو مائة وثمانين إنساناً فأدخلوا على الجمال ليراهم الناس، فلما أوقف ابن البعيث بين يدي المتوكل أمر بضرب عنقه، فأحضر السيف والنطع فجاء السيافون فوقفوا حوله، فقال له المتوكل‏:‏ ويلك ما دعاك إلى ما فعلت‏؟‏ فقال‏:‏ الشقوة يا أمير المؤمنين، وأنت الحبل الممدود بين الله وبين خلقه، وإن لي فيك لظنين أسبقهما إلى قلبي أولاهما بك، وهو العفو‏.‏

ثم اندفع يقول بديهة‏:‏

أبى الناس إلا وأنك اليوم قاتلي * إمام الهدى والصفح بالمرء أجمل

وهل أنا إلا جبلة من خطيئة * وعفوك من نور النبوة يجبل

فإنك خير السابقين إلى العلى * ولا شك أن خير الفعالين تفعل

فقال المتوكل‏:‏ إن معه لأدباً، ثم عفا عنه‏.‏

ويقال‏:‏ بل شفع فيه المعتز بن المتوكل فشفعه، ويقال بل أودع في السجن في قيوده فلم يزل فيه حتى هرب بعد ذلك، وقد قال حين هرب‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/345‏)‏

كم قد قضيت أموراً كان أهملها * غيري وقد أخذ الإفلاس بالكظم

لا تعذليني فيما ليس ينفعني * إليك عني جرى المقدور بالقلم

سأتلف المال في عسر في يسر * إن الجواد الذي يعطي على العدم

وفيها‏:‏ أمر المتوكل أهل الذمة أن يتميزوا عن المسلمين في لباسهم وعمائمهم وثيابهم، وأن يتطيلسوا بالمصبوغ بالقلى وأن يكون على عمائمهم رقاع مخالفة للون ثيابهم من خلفهم ومن بين أيديهم، وأن يلزموا بالزنانير الخاصرة لثيابهم كزنانير الفلاحين اليوم، وأن يحملوا في رقابهم كرات من خشب كثيرة، وأن لا يركبوا خيلاً، ولتكن ركبهم من خشب، إلى غير ذلك من الأمور المذلة لهم المهينة لنفوسهم، وأن لا يستعملوا في شيء من الدواوين التي يكون لهم فيها حكم على مسلم، وأمر بتخريب كنائسهم المحدثة، وبتضييق منازلهم المتسعة، فيؤخذ منها العشر، وأن يعمل مما كان متسعاً من منازلهم

مسجد، وأمر بتسوية قبورهم بالأرض، وكتب بذلك إلى سائر الأقاليم والأفاق، وإلى كل بلد ورستاق‏.‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له محمود بن الفرج النيسابوري، وهو ممن كان يتردد إلى خشبة بابك وهو مصلوب فيقعد قريباً منه، وذلك بقرب دار الخلافة بسر من رأى، فادعى أنه نبي، وأنه ذو القرنين وقد اتبعه على هذه الضلالة ووافقه على هذه الجهالة جماعة قليلون، وهم تسعة وعشرون رجلاً، وقد نظم لهم كلاماً في مصحف له قبّحه الله، زعم أن جبريل جاءه به من الله، فأخذ فرفع أمره إلى المتوكل فأمر فضرب بين يديه بالسياط، فاعترف بما نسب إليه وما هو معول عليه، وأظهر التوبة من ذلك والرجوع عنه، فأمر الخليفة كل واحد من أتباعه التسعة والعشرين أن يصفعه فصفعوه عشر صفعات فعليه وعليهم لعنة رب الأرض والسموات‏.‏

ثم اتفق موته في يوم الأربعاء لثلاث خلون من ذي الحجة من هذه السنة‏.‏

وفي يوم السبت لثلاث بقين من ذي الحجة أخذ المتوكل على الله العهد من بعده لأولاده الثلاثة وهم‏:‏ محمد المنتصر، ثم أبو عبد الله المعتز، واسمه محمد، وقيل الزبير، ثم لإبراهيم وسماه المؤيد بالله، ولم يل الخلافة هذا‏.‏

وأعطى كل واحد منهم طائفة من البلاد يكون نائباً عليها ويستنيب فيها ويضرب له السكة بها، وقد عين ابن جرير لكل واحد منهم من البلدان والأقاليم، وعقد لكل واحد منهم لواءين لواء أسود للعهد، ولواء للعمالة، وكتب بينهم كتاباً بالرضى منهم ومبايعته لأكثر الأمراء على ذلك وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفيها في شهر ذي الحجة منها تغير ماء دجلة إلى الصفرة ثلاثة أيام ثم صار في لون ماء الدردي ففزع الناس لذلك‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/346‏)‏

وفيها‏:‏ أتى المتوكل بيحيى بن عمر بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب من بعض النواحي، وكان قد اجتمع إليه قوم من الشيعة فأمر بضربه فضرب ثماني عشرة مقرعة ثم حبس في المطبق‏.‏

وحج بالناس محمد بن داود‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها توفي‏:‏ إسحاق بن إبراهيم صاحب الجسر - يعني نائب بغداد - يوم الثلاثاء لسبع بقين من ذي الحجة وجعل ابنه محمد مكانه، وخلع عليه خمس خلع وقلده سيفاً‏.‏

قلت‏:‏ وقد كان نائباً في العراق من زمن المأمون، وهو من الدعاة تبعاً لسادته وكبرائه إلى القول بخلق القرآن الذي قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا‏}‏ الآية ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏‏.‏

وهو الذي كان يمتحن الناس ويرسلهم إلى المأمون‏.‏

وفيها توفي‏:‏

إسحاق بن ما هان

الموصلي النديم الأديب، النادر الشكل في وقته المجموع من كل فن يعرفه أبناء عصره في الفقه والحديث والجدل والكلام واللغة والشعر، ولكن اشتهر بالغناء لأنه لم يكن له في الدنيا نظير فيه‏.‏

قال المعتصم‏:‏ إن إسحاق إذا غنى يخيل لي أنه قد زيد في ملكي‏.‏

وقال المأمون‏:‏ لولا اشتهاره بالغناء لوليته القضاء عليها من عفته ونزاهته وأمانته، وله شعر حسن، وديوان كبير، وكانت عنده كتب كثيرة من كل فن‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ التي قبلها، وقيل في التي بعدها، وقد ترجمه ابن عساكر ترجمة حافلة، وذكر عنه أشياء حسنة، وأشعاراً رائقة، وحكايات مدهشة يطول استقصاؤها‏.‏

فمن غريب ذلك‏:‏ أنه غنى يوم يحيى بن خالد بن برمك، فوقع له بألف ألف، ووقع ابنه جعفر بمثلها، وابنه الفضل بمثلها في حكايات طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي سريح بن يونس، وشيبان بن فروخ، وعبيد الله بن عمر القواريري، وأبو بكر بن أبي شيبة أحد الأعلام وأئمة الإسلام، وصاحب المصنف الذي لم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/347‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وثلاثون ومائتين

فيها‏:‏ أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجدها بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق، فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن المنتصر بن المتوكل‏.‏

وفيها‏:‏ توفي محمد بن إبراهيم بن مصعب سمه ابن أخيه محمد بن إسحاق بن إبراهيم، وكان محمد بن إبراهيم هذا من الأمراء الكبار‏.‏

وفيها‏:‏ توفي الحسن بن سهل الوزير والد بوران زوجة المأمون التي تقدم ذكرها، وكان من سادات الناس، ويقال‏:‏ إن إسحاق بن إبراهيم المغني توفي في هذه السنة، فالله أعلم‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو سعيد محمد بن يوسف المروزي فجأة، فولى ابنه يوسف مكانه على نيابة أرمينية‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إبراهيم بن المنذر الحرابي، ومصعب بن عبد الله الزبيري، وهدبة بن خالد القيسي، وأبو الصلت الهروي أحد الضعفاء‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثلاثين ومائتين

فيها‏:‏ قبض يوسف بن محمد بن يوسف نائب أرمينية على البطريق الكبير، وبعثه إلى نائب الخليفة، واتفق بعد بعثه إياه أن سقط ثلج عظيم على تلك البلاد، فتحزب أهل تلك الطريق وجاؤوا فحاصروا البلد التي بها يوسف، فخرج إليهم ليقاتلهم فقتلوه، وطائفة كبيرة من المسلمين الذين معه، وهلك كثير من الناس من شدة البرد، ولما بلغ المتوكل ما وقع من هذا الأمر الفظيع أرسل إلى أهل تلك الناحية بغا الكبير من جيش كثيف جداً، فقتل من قتل من أهل تلك الناحية ممن حاصر المدينة نحواً من ثلاثين ألفاً، وأسر منهم طائفةً كبيرةً، ثم سار إلى بلاد الباق من كور البسفرجان، وسلك إلى مدن كثيرة كبار، ومهد المماليك، ووطد البلاد والنواحي، وفي صفر منها غضب المتوكل على ابن أبي داؤد القاضي المعتزل، وكان على المظالم فعزله عنها، واستدعى بيحيى بن أكثم فولاه قضاة القضاة والمظالم أيضاً‏.‏

وفي ربيع الأول‏:‏ أمر الخليفة بالاحتياط على ضياع ابن أبي دؤاد، وأخذ ابنه الوليد محمد فحبسه في يوم السبت لثلاث خلون من ربيع الآخر، وأمر بمصادرته فحمل مائة ألف وعشرين ألف دينار، ومن الجواهر النفيسة ما يقوم بعشرين ألف دينار، ثم صولح على ستة عشر ألف ألف درهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/348‏)‏

وكان أبو دؤاد قد أصابه الفالج كما ذكرنا، ثم نفي أهله من سامراً إلى بغداد مهانين‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فقال في ذلك أبو العتاهية‏:‏

لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد * وكان عزمك عزماً فيه توفيق

لكان في الفقه شغل لو قنعت به * عن أن تقول كتاب الله مخلوق

ماذا عليك وأصل الدين يجمعهم * ما كان في الفرع لولا الجهل والموق

وفي عيد الفطر منها‏:‏ أمر المتوكل بإنزال جثة أحمد بن نصر الخزاعي، والجمع بين رأسه وجسده، وأن يسلم إلى أوليائه ففرح الناس بذلك فرحاً شديداً، واجتمع في جنازته خلقٌ كثيرٌ جداً، وجعلوا يتمسحون بها وبأعواد نعشه، وكان يوماً مشهوداً، ثم أتوا إلى الجذع الذي صلب عليه فجعلوا يتمسحون به وأرهج العامة بذلك فرحاً وسروراً، فكتب المتوكل إلى نائبه يأمر بردعهم عن تعاطي مثل هذا وعن المغالاة في البشر، ثم كتب المتوكل إلى الآفاق بالمنع من الكلام في مسألة الكلام، والكف عن القول بخلق القرآن، وأن من تعلم علم الكلام لو تكلم فيه فالمطبق مأواه إلى أن يموت‏.‏

وأمر الناس أن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، ثم أظهر إكرام الإمام أحمد بن حنبل، واستدعاه من بغداد إليه فاجتمع به فأكرمه وأمر له بجائزة سنية، فلم يقبلها وخلع عليه خلعة سنية من ملابسه، فاستحيا منه أحمد كثيراً فلبسها إلى الموضع الذي كان نازلاً فيه، ثم نزعها نزعاً عنيفاً وهو يبكي رحمه الله تعالى‏.‏

وجعل المتوكل في كل يوم يرسل إليه من طعامه الخاص، ويظن أنه يأكل منه وكان أحمد لا يأكل لهم طعاماً بل كان صائماً مواصلاً طاوياً تلك الأيام لأنه لم يتيسر له شيء يرضى أكله، ولكن كان ابنه صالح وعبد الله يقبلان تلك الجوائز وهو لا يشعر بشي من ذلك، ولولا أنهم أسرعوا الأوبة إلى بغداد لخشي على أحمد أن يموت جوعاً، وارتفعت السنة جداً أيام المتوكل عفا الله عنه، وكان لا يولي أحداً إلا بعد مشورة الإمام أحمد‏.‏

وكان ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة موضع ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم هذا من أئمة السنة وعلماء الناس، ومن المعظمين للفقه والحديث واتباع الأثر، وكان قد ولي من جهته حيان بن بشر قضاء الشرقية، وسور بن عبد الله قضاء الجانب الغربي، وكان كلاهما أعوراً فقال في ذلك بعض أصحاب ابن أبي دؤاد‏:‏

رأيت من العجائب قاضيين * هما أحدوثة في الخافقين

هما اقتسما العمى نصفين قدّاً * كما اقتسما قضاء الجانبين

ويحسب منهما من هز رأساً * لينظر في مواريث ودين

كأنك وضعت عليه دناً * فتحت بزاله من فرد عين

هما فأل الزمان بهلك يحيى * إذ افتتح القضاء بأعورين

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/349‏)‏

وغزا الصائفة في هذه السنة علي بن يحيى الأرمني، وحج بالناس علي بن عيسى بن جعفر بن أبي جعفر المنصور أمير الحجاز‏.‏

وفيها‏:‏ توفي حاتم الأصم، وممن توفي فيها‏:‏ عبد الأعلى بن حماد، وعبيد الله بن معاذ العنبري، وأبو كامل الفضيل بن الحسن الجحدري‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثلاثين ومائتين

في ربيع الأول منها حاصر بغا مدينة تفليس، وعلى مقدمته زيرك التركي فخرج إليه صاحب تفليس إسحق بن إسماعيل فقاتله، فأسر بغا إسحق فأمر بضرب عنقه وصلبه، وأمر بإلقاء النار في النفط إلى نحو المدينة، وكان أكثر بنائها من خشب الصنوبر فأحرق أكثرها، وأحرق من أهلها نحواً من خمسين ألفاً، وطفئت النار بعد يومين لأن نار الصنوبر لا بقاء لها، ودخل الجند فأسروا من بقي من أهلها واستلبوهم حتى استلبوا المواشي، ثم سار بغا إلى مدن أخرى ممن كان يمالئ أهلها مع من قتل نائب أرمينية يوسف بن محمد بن يوسف، فأخذ بثأره وعاقب من تجرأ عليه‏.‏

وفيها‏:‏ جاءت الفرنج في نحو من ثلثمائة مركب قاصدين مصر من جهة دمياط، فدخلوها فجأة، فقتلوا من أهلها خلقاً، وحرقوا المسجد الجامع والمنبر، وأسروا من النساء نحواً من ستمائة امرأة من المسلمات مائة و خمسة وعشرين امرأة، وسائرهن من نساء القبط، وأخذوا من الأمتعة والمال والأسلحة شيئاً كثيراً جداً، وفر الناس منهم في كل جهة، وكان من غرق في بحيرة تنيس أكثر ممن أسروه، ثم رجعوا على حمية ولم يعرض لهم أحد حتى رجعوا بلادهم لعنهم الله‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غزا الصائفة علي بن يحيى الأرمني‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الأمير الذي حج بهم قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ توفي إسحق بن راهويه أحد الأعلام وعلماء الإسلام، والمجتهدين من الأنام‏.‏

وبشر بن الوليد الفقيه الحنفي، وطالوت بن عباد، ومحمد بن بكار بن الريان، و محمد بن البرجاني، ومحمد بن أبي السري العسقلاني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/350‏)‏

 ثم دخلت سنة تسع وثلاثين ومائتين

في المحرم منها زاد المتوكل في التغليظ على أهل الذمة في التميز في اللباس، وأكد الأمر بتخريب الكنائس المحدثة في الإسلام‏.‏

وفيها‏:‏ نفى المتوكل بن الجهم إلى خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ اتفق شعانين النصارى ويوم النيروز في يوم واحد، وهو الأحد لعشرين ليلة خلت من ذي القعدة، وزعمت النصارى أن هذا لم يتفق مثله في الإسلام إلا في هذا العام‏.‏

وغزا الصائفة علي بن يحيى المذكور‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الله بن محمد بن داود إلى مكة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ فيها توفي أبو الوليد محمد بن القاضي، أحمد بن محمد بن أبي دؤاد الأيادي المعتزلي‏.‏

قلت وممن توفي فيها‏:‏ داود بن رشد، وصفوان بن صالح مؤذن أهل دمشق، وعبد الملك بن حبيب الفقيه المالكي، أحد المشاهير، وعثمان بن أبي شيبة صاحب التفسير والمسند المشهور، ومحمد بن مهران الرازي، ومحمود بن غيلان، ووهب بن بقية‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

أحمد بن عاصم الأنطاكي

أبو علي الواعظ الزاهد أحد العباد والزهاد، له كلام حسن في الزهد ومعاملات القلوب‏.‏

قال أبو عبد الرحمن السلمي‏:‏ كان من طبقة الحارث المحاسبي، وبشر الحافي، وكان أبو سليمان الدراني يسميه جاسوس القلوب لحدة فراسته، روى عن أبي معاوية الضرير وطبقته، وعنه أحمد بن الحواري، ومحمود بن خالد، وأبو زرعة الدمشقي وغيرهم‏.‏

روى أحمد بن الحواري، عن مخلد بن الحسين، عن هشام بن حسان قال‏:‏ مررت بالحسن البصري، وهو جالس وقت السحر فقلت‏:‏ يا أبا سعيد مثلك يجلس في هذا الوقت ‏؟‏

قال‏:‏ إني توضأت وأردت نفسي على الصلاة فأبت علي وأرادتني على أن تنام فأبيت عليها‏.‏

ومن مستجاد كلامه قوله‏:‏ إذا أردت صلاح قلبك فاستعن عليه بحفظ جوارحك‏.‏

وقال‏:‏ من الغنيمة الباردة أن تصلح ما بقي من عمرك، فيغفر لك ما مضى منه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/351‏)‏

وقال‏:‏ يسير اليقين يخرج الشك كله من قلبك، ويسير الشك يخرج اليقين كله منه‏.‏

وقال‏:‏ من كان بالله أعرف كان منه أخوف‏.‏

وقال‏:‏ خير صاحب لك في دنياك الهم، يقطعك عن الدنيا، ويوصلك إلى الآخرة‏.‏

ومن شعره‏:‏

هممت ولم أعزم ولو كنت صادقاً * عزمت ولكن الفطام شديد

ولو كان لي عقل وإيقان موقن * لما كنت عن قصد الطريق أحيد

ولو كان لي غير السلوك مطامعي * ولكن عن الأقدار كيف أميد

ومن شعره أيضاً‏:‏

قد بقينا مذبذبين حيارى * نطلب الصدق ما إليه سبيل

فدواعي الهوى تخف علينا * وخلاف الهوى علينا ثقيل

فقد صدق في الأماكن حتى * وصفه اليوم ما عليه دليل

لا نرى خائفاً فيلزمنا الخوف * ولسنا نرى صادقاً على ما يقول

ومن شعره أيضاً‏:‏

هون عليك فكل الأمر ينقطع * وخل عنك ضباب الهم يندفع

فكل هم له من بعده فرج * وكل كرب إذا ضاق يتسع

إن البلاء وإن طال الزمان به * الموت يقطعه أو سوف ينقطع

وقد أطال الحافظ ابن عساكر ترجمته، ولم يؤرخ وفاته، وإنما ذكرته ههنا تقريباً، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة أربعين ومائتين

فيها‏:‏ عدا أهل حمص على عاملهم أبي الغيث موسى بن إبراهيم الرافقي لأنه قتل رجلاً من أشرافهم قتلوا جماعة من أصحابه، وأخرجوه من بين أظهرهم فبعث إليهم المتوكل أميراً عليهم وقال للسفير معه‏:‏ إن قبلوه، وإلا فأعلمني‏.‏

فقبلوه فعمل فيهم الأعاجيب وأهانهم غاية الإهانة‏.‏

وفيها‏:‏ عزل المتوكل يحيى بن أكثم القاضي عن القضاء، وصادره بما مبلغه ثمانون ألف دينار، وأخذ منه أراضي كثيرة في أرض البصرة، وولى مكانه جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي على قضاء القضاة‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفي المحرم منها توفي أحمد بن أبي دؤاد بعد ابنه بعشرين يوماً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/352‏)‏

وهذه ترجمته‏:‏

هو أحمد بن أبي دؤاد، واسمه الفرج، - وقيل‏:‏ دعمى، والصحيح أنه اسمه، كنيته الأيادي المعتزلي‏.‏

قال ابن خلكان في نسبه‏:‏ هو أبو عبد الله أحمد بن أبي دؤاد فرج بن جرير بن مالك بن عبد الله بن عباد بن سلام بن مالك بن عبد هند بن عبد نجم بن مالك بن فيض بن منعة بن برجان بن دوس الهذلي بن أمية بن حذيفة بن زهير بن إياد بن أد بن معد بن عدنان‏.‏

قال الخطيب‏:‏ ولي ابن أبي دؤاد قضاء القضاة للمعتصم ثم للواثق، وكان موصوفاً بالجود والسخاء وحسن الخلق ووفور الأدب، غير أنه أعلن بمذهب الجهمية، وحمل السلطان على امتحان الناس بخلق القرآن، وأن الله لا يرى في الآخرة‏.‏

قال الصولي‏:‏ لم يكن بعد البرامكة أكرم منه، ولولا ما وضع من نفسه من محبة المحنة لاجتمعت عليه الإنس‏.‏

قالوا‏:‏ وكان مولده في سنة ستين ومائة، وكان أسن من يحيى بن أكثم بعشرين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وأصله من بلاد قنسرين، وكان أبوه تاجراً يفد إلى الشام ثم وفد إلى العراق وأخذ ولده هذا معه إلى العراق، فاشتغل بالعلم وصحب هياج بن العلاء السلمى أحد أصحاب واصل بن عطاء فأخذ عنه الاعتزال، وذكر أنه كان يصحب يحيى بن أكثم القاضي ويأخذ عنه العلم، ثم سرد له ترجمة طويلة في كتاب الوفيات، وقد امتدحه بعض الشعراء فقال‏:‏

رسول الله والخلفاء منا * ومنا أحمد بن أبي دؤاد

فرد عليه بعض الشعراء فقال‏:‏

فقل للفاخرين على نزار * وهم في الأرض سادات العباد

رسول الله والخلفاء منا * ونبرأ من دعى بني إياد وما منا إياد إذا أقرت * بدعوة أحمد بن أبي دؤاد قال‏:‏ فلما بلغ ذلك أحمد بن أبي دؤاد قال‏:‏ لولا أني أكره العقوبة لعاقبت هذا الشاعر عقوبة ما فعلها أحد‏.‏ وعفا عنه‏.‏ قال الخطيب‏:‏ حدثني الأزهر ثنا أحمد بن عمر الواعظ حدثنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك حدثني جرير بن أحمد أبو مالك قال‏:‏ كان أبي- يعني أحمد بن أبي دؤاد - إذا صلى رفع يديه إلى السماء وخاطب ربه وأنشأ يقول‏:‏

ما أنت بالسبب الضعيف وإنما * نجح الأمور بقوة الأسباب

واليوم حاجتنا إليك وإنما * يدعى الطبيب لساعة الأوصاب

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/353‏)‏

ثم روى الخطيب أن أبا تمام دخل على ابن أبي دؤاد يوماً فقال له‏:‏ أحسبك عاتباً‏.‏

فقال‏:‏ إنما يعتب علي واحد، وأنت الناس جميعاً‏.‏

فقال له‏:‏ أنى لك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ من قول أبي نواس

وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد

وامتدحه أبو تمام يوماً فقال‏:‏

لقد أنست مساوى كل دهر * محاسن أحمد بن أبي دؤاد

وما سافرت في الآفاق إلا * ومن جدوك راحلتي وزادي

نعم الظن عندك والأماني * وإن قلقت ركابي في البلاد

فقال له‏:‏ هذا المعنى تفردت به، أو أخذته من غيرك ‏؟‏

فقال‏:‏ هو لي، غير أني ألمحت بقول أبي نواس‏:‏

وإن جرت الألفاظ يوماً بمدحة * لغيرك إنساناً فأنت الذي نعني

وقال محمد بن الصولي‏:‏ ومن مختار مديح أبي تمام لأحمد بن أبي دؤاد قوله‏:‏

أأحمد إن الحاسدين كثير * ومالك إن عد الكرام نظير

حللت محلاً فاضلاً متفادماً * من المجد والفخر القديم فخور

فكل غني أو فقير فإنه * إليك وأن نال السماء فقير

إليك تناهى المجد من كل وجهة * يصير فما يعدوك حيث يصير

وبدر إياد أنت لا ينكرونه * كذاك إياد للأنام بدور

تجنبت أن تدعى الأميرة تواضعاً *وأنت لمن يدعى الأمير أمير

فما من يد إلا إليك ممدة * وما رفعة إلا إليك تشير

قلت‏:‏ قد أخطأ الشاعر في هذه الأبيات خطأً كبيراً، وأفحش في المبالغة فحشاً كثيراً، ولعله إن اعتقد هذا في مخلوق ضعيف مسكين ضال مضل، أن يكون له جهنم وساءت مصيراً‏.‏

وقال ابن أبي دؤاد يوماً لبعضهم‏:‏ لما لم لا تسألني ‏؟‏

فقال له‏:‏ لأني لو سألتك أعطيتك ثمن صلتك‏.‏

فقال له‏:‏ صدقت وأرسل إليه بخمسة آلاف درهم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/354‏)‏

وقال ابن الأعرابي‏:‏ سأل رجل ابن أبي دؤاد أن يحمله على عير فقال‏:‏ يا غلام أعطه عيراً وبغلاً‏.‏

وبرذونا وفرساً وجارية‏.‏

قال له‏:‏ لو أعلم مركوباً غير هذا لأعطيتك‏.‏ ثم أورد الخطيب بأسانيده عن جماعة أخباراً تدل على كرمه وفصاحته وأدبه وحلمه ومبادرته إلى قضاء الحاجات، وعظيم منزلته عند الخلفاء‏.‏

وذكر عن محمد المهدي بن الواثق‏:‏ أن شيخاً دخل يوماً على الواثق فسلم، فلم يرد عليه الواثق بل قال‏:‏ لا سلم الله عليك‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين بئس ما أدبك معلمك‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 86‏]‏ فلا حييتني بأحسن منها، ولا رددتها فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ يا أمير المؤمنين الرجل متكلم‏.‏

فقال‏:‏ ناظره‏.‏ فقال ابن أبي دؤاد ما تقول يا شيخ في القرآن‏:‏ أمخلوق هو ‏؟‏

فقال الشيخ‏:‏ لم تنصفني المسألة لي‏.‏

فقال‏:‏ قل ‏!‏

فقال‏:‏ هذا الذي تقوله علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو ما علموه ‏؟‏

فقال ابن أبي دؤاد‏:‏ لم يعلموه‏.‏

قال‏:‏ فأنت علمت ما لم يعلموا‏؟‏ فخجل وسكت، ثم قال‏:‏ أقلني بل علموه‏.‏

قال‏:‏ فلم لا دعوا الناس إليه كما دعوتهم أنت، أما يسعك ما وسعهم‏؟‏ فخجل وسكت، وأمر الواثق له بجائزة نحو أربعمائة دينار فلم يقبلها‏.‏

قال المهدي‏:‏ فدخل أبي المنزل فاستلقى على ظهره، وجعل يكرر قول الشيخ على نفسه ويقول‏:‏

أما وسعك ما وسعهم‏؟‏ ثم أطلق الشيخ وأعطاه أربعمائة دينار ورده إلى بلاده، وسقط من عينيه ابن أبي دؤاد ولم يمتحن بعده أحداً‏.‏ ذكره الخطيب في تاريخه بإسناد فيه بعض من لا يعرف، وساق قصته مطولة، وقد أنشد ثعلب عن أبي حجاج الأعرابي أنه قال في ابن أبي دؤاد‏:‏

نكست الدين يا ابن أبي دؤاد * فأصبح من أطاعك في ارتداد

زعمت كلام ربك كان خلقا * أما لك عند ربك من معاد

كلام الله أنزله بعلم * على جبريل إلى خير العباد

ومن أمسى ببابك مستضيفاً * كمن حل الفلاة بغير زاد

لقد أطرفت يا ابن أبي دؤاد * بقولك إنني رجل إيادي

ثم قال الخطيب‏:‏ أنبأ القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال‏:‏ أنشدنا المعافى بن زكريا الجريري عن محمد بن يحيى الصولي لبعضهم يهجو ابن أبي دؤاد‏:‏

لو كنت في الرأي منسوباً إلى رشد * وكان عزمك عزماً فيه توفيق

وقد تقدمت هذه الأبيات‏.‏

وروى الخطيب عن أحمد بن الموفق أو يحيى الجلاء أنه قال‏:‏ ناظرني رجل من الواقفية في خلق القرآن فنالني منه ما أكره فلما أمسيت أتيت امرأتي فوضعت لي العشاء فلم أقدر أن أنال منه شيئاً، فنمت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الجامع، وهناك حلقة فيها أحمد بن حنبل وأصحابه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/355‏)‏

ويشير إلى حلقة ابن أبي دؤاد ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 89‏]‏ ويشير إلى أحمد بن حنبل وأصحابه وقال بعضهم‏:‏ رأيت في المنام كأن قائلاً يقول‏:‏ هلك الليلة أحمد بن أبي دؤاد، فقلت له‏:‏ وما سبب هلاكه‏؟‏

فقال‏:‏ إنه أغضب الله عليه فغضب عليه من فوق سبع سموات‏.‏

وقال غيره‏:‏ رأيت ليلة مات ابن أبي دؤاد كأن النار زفرت زفرة عظيمة فخرج منها لهب فقلت‏:‏ ما هذا ‏؟‏

فقيل‏:‏ هذا أنجزت لابن أبي دؤاد‏.‏

وقد كان هلاكه في يوم السبت لسبع بقين من المحرم من هذه السنة، وصلى عليه ابنه العباس ودفن في داره ببغداد وعمره يومئذ ثمانون سنة، وابتلاه الله بالفالج قبل موته بأربع سنين حتى بقي طريحاً في فراشه لا يستطيع أن يحرك شيئاً من جسده، وحرم لذة الطعام والشراب والنكاح وغير ذلك‏.‏

وقد دخل عليه بعضهم فقال‏:‏ والله ما جئتك عائداً وإنما جئتك لأعزيك في نفسك، وأحمد الله الذي سجنك في جسدك الذي هو أشد عليك عقوبة من كل سجن، ثم خرج عنه داعياً عليه بأن يزيده الله ولا ينقصه مما هو فيه، فازداد مرضاً إلى مرضه‏.‏ وقد صودر في العام الماضي بأموال جزيلة جداً، ولو كان يحمل العقوبة لوضعها عليه المتوكل‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان مولده في سنة ستين ومائة، قلت‏:‏ فعلى هذا يكون أسن من أحمد بن حنبل، ومن يحيى بن أكثم الذي ذكر ابن خلكان أن ابن أكثم كان سبب اتصال ابن أبي دؤاد بالخليفة المأمون، فحظي عنده بحيث إنه أوصى به إلى أخيه المعتصم، فولاه المعتصم القضاء والمظالم، وكان ابن الزيات الوزير يبغضه وجرت بينهما منافسات وهجو، وقد كان لا يقطع أمراً بدونه‏.‏ وعزل ابن أكثم عن القضاء وولاه مكانه، وهذه المحنة التي هي أس ما بعدها من المحن، والفتنة التي فتحت على الناس باب الفتن‏.‏

ثم ذكر ابن خلكان ما ضرب به الفالج وما صودر به من المال، وأن ابنه أبا الوليد محمد صودر بألف ألف دينار ومائتي ألف دينار، وأنه مات قبل أبيه بشهر‏.‏ وأما ابن عساكر فإنه بسط القول في ترجمته وشرحها شرحاً جيداً‏.‏ وقد كان أديباً فصيحاً كريماً جواداً ممدحاً يؤثر العطاء على المنع، والتفرقة على الجمع، وقد روى ابن عساكر بإسناده أنه جلس يوماً مع أصحابه ينتظرون خروج الواثق فقال ابن أبي دؤاد إنه‏:‏ ليعجبني هذان البيتان‏:‏

ولي نظرة لو كان يحبل ناظر * بنظرته أنثى لقد حبلت مني

فإن ولدت ما بين تسعة أشهر * إلى نظر ابنا فإن ابنها مني

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/356‏)‏

وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي أحد الفقهاء والمشاهير، قال الإمام أحمد هو عندنا في مسلاخ الثوري‏.‏ وخليفة بن خياط أحد أئمة التاريخ، وسويد بن سعد الحدثاني، وسويد بن نصر، وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون أحد فقهاء المالكية المشهورين، وعبد الواحد بن غياث وقتيبة بن سعيد شيخ الأئمة والسنة، وأبو العميثل عبد الله بن خالد كاتب عبد الله بن طاهر وشاعره، كان عالماً باللغة، وله فيها مصنفات عديدة أورد منها ابن خلكان جملة، ومن شعره يمدح عبد الله بن طاهر‏:‏

يا من يحاول أن تكون صفاته * كصفات عبد الله أنصت واسمع

فلا نصحنك في خصال والذي * حج الحجيج إليه فاسمع أو دع

أصدق وعف وبر واصبر واحتمل * واصفح وكافئ دار واحلم واشجع

والطف ولن وتأن وارفق واتئد * واحزم وجد وحام واحمل وادفع

فلقد نصحتك إن قبلت نصيحتي * وهديت للنهج الأسد المهيع