فصل: سنة سبع وستين ومائتين‏.‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة سبع وخمسين ومائتين‏.‏

فيها ولي الخليفة المعتمد ليعقوب بن الليث بلخ وطخارستان وما يلي ذلك من كرمان وسجستان والسند وغيرها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/34‏)‏

وفي صفر منها عقد المعتمد لأخيه أبي أحمد على الكوفة وطريق مكة والحرمين واليمن، وأضاف إليه في رمضان نيابة بغداد والسواد وواسط وكور دجلة والبصرة والأهواز وفارس، وأذن له أن يستنيب في ذلك كله‏.‏

وفيها تواقع سعيد الحاجب وصاحب الزنج في أراضي البصرة فهزمه سعيد الحاجب، واستنقذ من يده خلقاً من النساء والذرية، واسترجع منه أموالاً جزيلة‏.‏

وأهان الزنج غاية الإهانة‏.‏

ثم إن الزنج بيتوا سعيداً وجيشه فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، ويقال‏:‏ أن سعيد بن صالح قتل أيضاً‏.‏

ثم إن الزنج التقوا هم ومنصور بن جعفر الخياط في جيش كثيف فهزمهم صاحب الزنج المدعى أنه طالبي، وهو كاذب‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها ظفر ببغداد بموضع بقال له‏:‏ بركة زلزل برجل خناق قد قتل خلقاً من النساء، كان يؤلف المرأة ثم يخنقها ويأخذ ما عليها، فحمل إلى المعتمد فضرب بين يديه بألفي سوط وأربعمائة، فلم يمت حتى ضربه الجلادون على أنثييه بخشب العقابين فمات، ورد إلى بغداد وصلب هناك، ثم أحرقت جثته‏.‏ وفي ليلة الرابع عشر من شوال من هذه السنة، كسف القمر وغاب أكثره‏.‏

وفي صبيحة هذا اليوم دخل جيش الخبيث الزنجي إلى البصرة قهراً فقتل من أهلها خلقاً وهرب نائبها بغراج ومن معه، وأحرقت الزنج جامع البصرة ودوراً كثيرة، وانتهبوها ثم نادى فيهم إبراهيم بن المهلبي أحد أصحاب الزنجي الخارجي‏:‏ من أراد الأمان فليحضر‏.‏ فاجتمع عنده خلق كثير من أهل البصرة فرأى أنه قد أصاب فرصة فغدر بهم وأمر بقتلهم، فلم يفلت منهم إلا الشاذ‏:‏ كانت الزنج تحيط بجماعة من أهل البصرة ثم يقول بعضهم لبعض‏:‏ كيلوا - وهي الإشارة بينهم إلى القتل - فيحملون عليهم بالسيوف فلا يسمع إلا قول أشهد أن لا إله الله، من أولئك المقتولين وضجيجهم عند القتل - أي‏:‏ صراخ الزنج وضحكهم - فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وهكذا كانوا يفعلون في كل محال البصرة في عدة أيام نحسات، وهرب الناس منهم كل مهرب وحرقوا الكلأ من الجبل إلى الجبل، فكانت النار تحرق ما وجدت من شيء من إنسان أو بهيمة أو آثار أو غير ذلك، وأحرقوا المسجد الجامع وقد قتل هؤلاء جماعة كثيرة من الأعيان والأدباء والفضلاء والمحدثين والعلماء‏.‏

فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وكان هذا الخبيث قد أوقع في أهل فارس وقعة عظيمة، ثم بلغه أن أهل البصرة قد جاءهم من الميرة شيء كثير وقد اتسعوا بعد الضيق فحسدهم على ذلك، فروى ابن جرير عن من سمعه يقول‏:‏ دعوت الله علي أهل البصرة فخوطبت فقيل‏:‏ إنما أهل البصرة خبزة لك تأكلها من جوانبها، فإذا انكسر نصف الرغيف خربت البصرة، فأولت الرغيف القمر وانكساره انكسافه، وقد كان هذا شائعاً في أصحابه حتى وقع الأمر طبق ما أخبر به‏.‏

ولا شك أن هذا كان معه شيطان يخاطبه، كما كان يأتي الشيطان مسيلمة وغيره‏.‏

قال‏:‏ ولما وقع ما وقع من الزنج بأهل البصرة قال هذا الخبيث لمن معه‏:‏ إني صبيحة ذلك دعوت الله على أهل البصرة، فرفعت لي البصرة بين السماء والأرض، ورأيت أهلها يقتلون، ورأيت الملائكة تقاتل مع أصحابي، وإني لمنصور على الناس والملائكة تقاتل معي، وتثبت جيوشي، ويؤيدني في حروبي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 35‏)‏

ولما صار إليه العلوية الذين كانوا بالبصرة انتسب هو حينئذ إلى يحيى بن زيد، وهو كاذب في ذلك بالإجماع، لأن يحيى بن زيد لم يعقب إلا بنتاً ماتت وهي ترضع، فقبح الله هذا اللعين ما أكذبه وأفجره وأغدره‏.‏

وفيها في مستهل ذي القعدة وجه الخليفة جيشاً كثيفاً مع الأمير محمد - المعروف بالمولد - لقتال صاحب الزنج، فقبض في طريقه على سعد بن أحمد الباهلي الذي كان قد تغلب على أرض البطائح وأخاف السبيل‏.‏

وفيها خالف محمد بن واصل الخليفة بأرض فارس وتغلب عليها‏.‏ وفيها وثب رجل من الروم يقال له‏:‏ بسيل الصقلبي على ملك الروم ميخائيل بن توفيل فقتله واستحوذ على مملكة الروم، وقد كان لميخائيل في الملك على الروم أربع وعشرون سنة‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

الحسن بن عرفة بن يزيد

صاحب الجزء المشهور المروي، وقد جاوز المائة بعشر سنين وقيل‏:‏ بسبع، وكان له عشرة من الولد سماهم بأسماء العشرة‏.‏

وقد وثقه يحيى بن معين وغيره، وكان يتردد إلى الإمام أحمد بن حنبل‏.‏

ولد في سنة خمسين ومائة، وتوفي في هذه السنة عن مائة وسبع سنين‏.‏

وأبو سعيد الأشج‏.‏

وزيد بن أخرم الطائي‏.‏

والرياشي، ذبحهما الزنج في جملة من ذبحوا من أهل البصرة‏.‏

وعلي بن خشرم، أحد مشايخ مسلم الذي يكثر عنهم الرواية‏.‏ والعباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي النحوي اللغوي، كان عالماً بأيام العرب والسير وكان كثير الاطلاع ثقة عالماً، روى عن الأصمعي وأبي عبيدة وغيرهما، وعنه إبراهيم الحربي، وأبو بكر بن أبي الدنيا وغيرهما‏.‏

قتل بالبصرة في هذه السنة، قتله الزنج‏.‏

ذكره ابن خلكان في الوفيات وحكى عنه الأصمعي أنه قال‏:‏

مر بنا أعرابي ينشد ابنه فقلنا له‏:‏ صفه لنا‏.‏

فقال‏:‏ كأنه دنينير‏.‏

فقلنا‏:‏ لم نره، فلم نلبث أن جاء يحمله على عنقه أسيود كأنه سفل قدر‏.‏

فقلت لو سألتنا عن هذا لأرشدناك، إنه منذ اليوم يلعب ههنا مع الغلمان‏.‏

ثم أنشد الأصمعي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 36‏)‏

نعم ضجيع الفتى إذا برد * الليل سحراً وقرقف العرد

زينها الله في الفؤاد كما * زين في عين والد ولد

 ثم دخلت سنة ثمان وخمسين ومائتين‏.‏

في يوم الاثنين لعشر بقين من ربيع الأول عقد الخليفة لأخيه أبي أحمد علي ديار مصر وقنسرين والعواصم، وجلس يوم الخميس في مستهل ربيع الآخر فخلع على أخيه وعلى مفلح، وركبا نحو البصرة في جيش كثيف في عدد وعدد، فاقتتلوا هم والزنج قتالاً شديداً فقتل مفلح للنصف من جمادى الأولى، أصابه سهم بلا نصل في صدره فأصبح ميتاً، وحملت جثته إلى سامرا فدفن بها‏.‏ وفيها أسر يحيى بن محمد البحراني أحد أمراء صاحب الزنج الكبار، وحمل إلى سامرا فضرب بين يدي المعتمد مائتي سوط، ثم قطعت يداه ورجلاه من خلاف، ثم أخذ بالسيوف ثم ذبح ثم أحرق، وكان الذين أسروه جيش أبي أحمد في وقعة هائلة مع الزنج قبحهم الله‏.‏

ولما بلغ خبره صاحب الزنج أسف على ذلك ثم قال‏:‏ لقد خوطبت فيه فقيل لي‏:‏ قتله كان خيراً لك‏.‏

لأنه كان شرهاً يخفى من المغانم خيارها، وقد كان صاحب الزنج يقول لأصحابه‏:‏ لقد عرضت علي النبوة فخفت أن لا أقوم بأعبائها فلم أقبلها‏.‏

وفي ربيع الآخر منها وصل سعيد بن أحمد الباهلي إلى باب الخليفة فضرب سبعمائة سوط حتى مات ثم صلب‏.‏

وفيها قتل قاض وأربعة وعشرون رجلاً من أصحاب صاحب الزنج عند باب العامة بسامرا‏.‏

وفيها رجع محمد بن واصل إلى طاعة السلطان وحمل خراج فارس وتمهدت الأمور هناك‏.‏

وفيها في أواخر رجب كان بين أبي أحمد وبين الزنج وقعة هائلة فقتل منها خلق من الفريقين‏.‏

ثم استوخم أبو أحمد منزله فانتقل إلى واسط فنزلها في أوائل شعبان فلما نزلها وقعت هناك زلزلة شديدة وهدة عظيمة، تهدمت فيها بيوت ودور كثيرة ومات من الناس نحو من عشرين ألفاً‏.‏

وفيها وقع في الناس وباء شديد وموت عريض ببغداد وسامرا وواسط وغيرها من البلاد، وحصل للناس ببغداد داء يقال له‏:‏ القفاع‏.‏

وفي يوم الخميس لسبع خلون من رمضان، أخذ رجل من باب العامة بسامرا ذكر عنه أنه يسب السلف، فضرب ألف سوط حتى مات‏.‏

وفي يوم الجمعة ثامنه، توفي الأمير يارجوخ فصلى عليه أخو الخليفة أبو عيسى وحضره جعفر بن المعتمد على الله‏.‏

وفيها كانت وقعة هائلة بين موسى بن بغا وبين أصحاب الحسن بن زيد ببلاد خراسان، فهزمهم موسى هزيمة فظيعة‏.‏

وفيها كانت وقعة بين مسرور البلخي وبين مساور الخارجي، فكسره مسرور وأسر من أصحابه جماعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 37‏)‏

كثيرة وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق المتقدم ذكره‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان أحمد بن بديل، وأحمد بن حفص‏.‏

وأحمد بن سنان القطان‏.‏

ومحمد بن يحيى الذهلي‏.‏

ويحيى بن معاذ الرازي‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومائتين‏.‏

في يوم الجمعة لأربع من ربيع الآخر رجع أبو أحمد بن المتوكل من واسط إلى سامرا، وقد استخلف على حرب الزنج محمد الملقب بالمولد، وكان شجاعاً شهماً‏.‏

وفيها بعث الخليفة إلى نائب الكوفة جماعة من القواد فذبحوه وأخذوا ما كان معه من المال، فإذا هو أربعون ألف دينار‏.‏

وفيها تغلب رجل جمال يقال له‏:‏ شركب الجمال على مدينة مرو فانتهبها، وتفاقم أمره وأمر أتباعه هناك‏.‏

ولثلاث عشرة بقيت من ذي القعدة توجه موسى بن بغا إلى حرب الزنج وخرج المعتمد لتوديعه، وخلع عليه عند مفارقته له، وخرج عبد الرحمن بن مفلح إلى بلاد الأهواز نائباً عليها، وليكون عوناً لموسى بن بغا على حرب صاحب الزنج الخبيث، فهزم عبد الرحمن بن مفلح جيش الخبيث، وقتل من الزنج خلقاً كثيراً، وأسر طائفة كبيرة منهم وأرعبهم رعباً كثيراً، بحيث لم يتجاسروا على موافقتة مرة ثانية، وقد حرضهم الخبيث كل التحريض فلم ينجع ذلك فيهم، ثم تواقع عبد الرحمن بن مفلح وعلي بن أبان المهلبي، وهو مقدم جيوش صاحب الزنج فجرت بينهما حروب يطول شرحها، ثم كانت الدائرة على الزنج ولله الحمد‏.‏

فرجع علي بن أبان إلى الخبيث مغلوباً مقهوراً، وبعث عبد الرحمن بالأسارى إلى سامرا، فبادر إليهم العامة فقتلوا أكثرهم وسلبوهم قبل أن يصلوا إلى الخليفة‏.‏

وفيها دنا ملك الروم - لعنه الله -إلى بلاد سميساط ثم إلى ملطية فقاتله أهلها فهزموه، وقتلوا بطريق البطارقة من أصحابه، ورجع إلى بلاده خاسئاً وهو حسير‏.‏

وفيها دخل يعقوب بن الليث إلى نيسابور وظفر بالخارجي الذي كان بهراة ينتحل الخلافة منذ ثلاثين سنة، فقتله وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق‏.‏

ومعه رقعة مكتوب فيها ذلك‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن يعقوب بن سليمان بن إسحاق بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 38‏)‏ وفيها توفي من الأعيان إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق أبو إسحاق الجوزجاني خطيب دمشق وإمامها وعالمها، وله المصنفات المشهورة المفيدة، منها المترجم فيه علوم غزيرة وفوائده كثيرة‏.‏

 ثم دخلت سنة ستين ومائتين‏.‏

فيها وقع غلاء شديد ببلاد الإسلام كلها حتى أحلى أكثر أهل البلدان منها إلى غيرها، ولم يبق بمكة أحد من المجاورين حتى ارتحلوا إلى المدينة وغيرها من البلاد، وخرج نائب مكة منها‏.‏

وبلغ كر الشعير ببغداد مائة وعشرين ديناراً، واستمر ذلك شهوراً‏.‏ وفيها قتل صاحب الزنج علي بن زيد صاحب الكوفة، وفيها أخذ الروم من المسلمين حصن لؤلؤة‏.‏

وفيها حج بالناس إبراهيم بن محمد بن إسماعيل المذكور قبلها‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ الحسن بن محمد الزعفراني، وعبد الرحمن بن شرف، ومالك بن طوق صاحب الرحبة التي تنسب إليه، وهو مالك بن طوق، ويقال للرحبة‏:‏ رحبة مالك بن طوق، وحنين ابن إسحاق العبادي الذي عرب كتاب اقليدس وحرره بعد ثابت بن قرة‏.‏

وعرب حنين أيضاً كتاب المجسطي وغير ذلك من كتب الطب من لغة اليونان إلى لغة العرب، وكان المأمون شديد الاعتناء بذلك جداً، وكذلك جعفر البرمكي قبله، ولحنين مصنفات كثيرة في الطب، واليه تنسب مسائل حنين، وكان بارعاً في فنه جداً، توفي يوم الثلاثاء لست خلون من صفر من هذه السنة‏.‏

قاله ابن خلكان‏.‏

سنة إحدى وستين ومائتين

فيها انصرف الحسن بن زيد من بلاد الديلم إلى طبرستان وأحرق مدينة شالوس، لممالأتهم يعقوب بن الليث عليه‏.‏

وفيها قتل مساور الخارجي يحيى بن حفص الذي كان يلي طريق خراسان في جمادى الآخرة، فشخص إليه مسرور البلخي، ثم تبعه أبو أحمد بن المتوكل فهرب مساور فلم يلحق‏.‏

وفيها كانت وقعة بين ابن واصل الذي تغلب على فارس وبين عبد الرحمن بن مفلح، فكسره ابن واصل وأسره، وقتل طاشتمر واصطلم الجيش الذين كانوا معه فلم يفلت منهم إلا اليسير، ثم سار ابن واصل إلى واسط يريد حرب موسى بن بغا، فرجع موسى إلى نائب الخليفة وسأل أن يعفى من ولاية بلاد المشرق لما بها من الفتن، فعزل عنها وولاها الخليفة إلى أخيه أبي أحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 39‏)‏

وفيها سار أبو الساج إلى حرب الزنج فاقتتلوا قتالاً شديداً، وغلبتهم الزنج، ودخلوا الأهواز فقتلوا خلقاً من أهلها وأحرقوا منازل كثيرة، ثم صرف أبو الساج عن نيابة الأهواز وخربها الزنج وولى الخليفة ذلك إبراهيم بن سيما‏.‏

وفيها تجهز مسرور البلخي في جيش لقتال الزنج‏.‏

وفيها ولى الخليفة نصر بن أحمد بن أسد الساماني ما وراء نهر بلخ وكتب إليه بذلك في شهر رمضان‏.‏

وفي شوال قصد يعقوب بن الليث حرب ابن واصل فالتقيا في ذي القعدة، فهزمه يعقوب وأخذ عسكره وأسر رجاله وطائفة من حرمه، وأخذ من أمواله ما قيمته أربعون ألف ألف درهم‏.‏

وقتل من كان يمالئه وينصره من أهل تلك البلاد‏.‏

وأصلح الله به تلك الناحية‏.‏

ولاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال، ولى المعتمد على الله ولده جعفراً العهد من بعده، وسماه المفوض إلى الله وولاه المغرب، وضم إليه موسى بن بغا ولاية إفريقية ومصر والشام والجزيرة والموصل وأرمينية وطريق خراسان وغير ذلك، وجعل الأمر من بعد ولده لأبي أحمد المتوكل ولقبه الموفق بالله وولاه المشرق، وضم إليه مسرور البلخي وولاه المشرق وضم إليه مسرور البلخي وولاه بغداد والسواد والكوفة وطريق مكة والمدينة واليمن وكسكر وكوردجلة والأهواز وفارس وأصبهان والكرخ والدينور والرى وزنجان والسند، وكتب بذلك مكاتبات وقرئت بالآفاق، وعلق منها نسخة بالكعبة‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل بن إسحاق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن سليمان الرهاوي‏.‏

وأحمد بن عبد الله العجلي‏.‏

والحسن بن أبي الشوارب بمكة‏.‏

وداود بن سليمان الجعفري‏.‏

وشعيب بن أيوب‏.‏

و عبد الله بن الواثق أخو المهتدي بالله‏.‏

وأبو شعيب السوسي‏.‏

وأبو زيد البسطامي أحد أئمة الصوفية‏.‏

وعلي بن إشكاب وأخوه أبو محمد، ومسلم بن الحجاج صاحب الصحيح‏.‏

ذكر شيء من ترجمته بالاختصار‏.‏

هو مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري، أحد الأئمة من حفاظ الحديث صاحب الصحيح الذي هو تلو صحيح البخاري عند أكثر العلماء، وذهبت المغاربة وأبو علي النيسابوري من المشارقة إلى تفضيل صحيح مسلم على صحيح البخاري، فإن أرادوا تقديمه عليه في كونه ليس فيه شيء من التعليقات إلا القليل، وأنه يسوق الأحاديث بتمامها في موضع واحد، ولا يقطعها كتقطيع البخاري لها في الأبواب، فهذا القدر لا يوازي قوة أسانيد البخاري واختياره في الصحيح لها ما أورده في جامعه معاصرة الراوي لشيخه وسماعه منه، وفي الجملة فإن مسلماً لم يشترط في كتابه الشرط الثاني كما هو مقرر في علوم الحديث، وقد بسطت ذلك في أول شرح البخاري‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 40‏)‏

والمقصود أن مسلماً دخل إلى العراق والحجاز والشام ومصر وسمع من جماعة كثيرين قد ذكرهم شيخنا الحافظ المزي في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم‏.‏

وروى عنه جماعة كثيرون منهم‏:‏ الترمذي في جامعه حديثاً واحداً وهو حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

‏(‏‏(‏احصوا هلال شعبان لرمضان‏)‏‏)‏‏.‏

وصالح بن محمد حرره‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي حاتم‏.‏

وابن خزيمة، وابن صاعد، وأبو عوانة الأسفراييني‏.‏

وقال الخطيب‏:‏ أخبرني محمد بن أحمد بن يعقوب، أخبرنا أحمد بن نعيم الضبي، أخبرنا أبو الفضل محمد بن إبراهيم، سمعت أحمد بن سلمة يقول‏:‏ رأيت أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان مسلم بن الحجاج في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما‏.‏

وأخبرني ابن يعقوب، أنا محمد بن نعيم، سمعت الحسين بن محمد الماسرخسي يقول‏:‏ سمعت أبي يقول‏:‏ سمعت مسلماً بن الحجاج يقول‏:‏ صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة‏.‏

وروى الخطيب قائلاً‏:‏ حدثني أبو القاسم عبيد الله بن أحمد بن علي السودرجاني - بأصبهان - سمعت محمد بن إسحاق بن منده سمعت أبا علي الحسين بن علي النيسابوري يقول‏:‏ ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم بن الحجاج في علم الحديث‏.‏

وقد ذكر مسلم عند إسحاق بن راهويه فقال بالعجمية ما معناه‏:‏ أي رجل كان هذا‏؟‏

وقال إسحاق بن منصور لمسلم‏:‏ لن نعدم الخير ما أبقاك الله للمسلمين‏.‏

وقد أثنى عليه جماعة من العلماء من أهل الحديث وغيرهم‏.‏

وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الأخرم‏:‏ قل ما يفوت البخاري ومسلماً ما يثبت في الحديث‏.‏

وروى الخطيب عن أبي عمر محمد بن حمدان الحيري قال‏:‏ سألت أبا العباس أحمد بن سعيد بن عقدة الحافظ عن البخاري ومسلم أيهما أعلم‏؟‏

فقال‏:‏ كان البخاري عالماً ومسلم عالماً، فكررت ذلك عليه مراراً وهو يرد علي هذا الجواب ثم قال‏:‏ يا أبا عمرو قد يقع للبخاري الغلط في أهل الشام، وذلك أنه أخذ كتبهم فنظر فيها فربما ذكر الواحد منهم بكنيته ويذكره في موضع آخر باسمه ويتوهم أنهما اثنان، وأما مسلم فقل ما يقع له الغلط لأنه كتب المقاطيع والمراسيل‏.‏

قال الخطيب‏:‏ إنما قفا مسلم طريق البخاري ونظر في علمه وحذا حذوه‏.‏

ولما ورد البخاري نيسابور في آخر أمره لازمه مسلم وأدام الاختلاف إليه‏.‏

وقد حدثني عبيد الله بن أحمد بن عثمان الصيرفي قال‏:‏ سمعت أبا الحسن الدارقطني يقول‏:‏ لولا البخاري ما ذهب مسلم ولا جاء‏.‏ قال الخطيب‏:‏ وأخبرني أبو بكر المنكدر، ثنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثني أبو نصر بن محمد الزراد، سمعت أبا حامد أحمد بن حمدان القصار، سمعت مسلم بن الحجاج وجاء إلى محمد بن إسماعيل البخاري فقبل بين عينيه وقال‏:‏ دعني حتى أقبل رجليك يا أستاذ الأستاذين وسيد المحدثين وطبيب الحديث في علله، حدثك محمد بن سلام، ثنا مخلد بن يزيد الحراني، حدثنا ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل، عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة المجلس فما علته‏؟‏‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 41‏)‏

فقال البخاري‏:‏ هذا حديث مليح ولا أعلم في الدنيا في هذا الباب غير هذا الحديث، إلا أنه معلول، ثنا به موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب عن سهيل، عن عوز بن عبد الله قوله‏.‏

قال البخاري‏:‏ وهذا أولى فإنه لا يعرف لموسى بن عقبة سماع من سهيل‏.‏

قلت‏:‏ وقد أفردت لهذا الحديث جزءاً على حدة، وأوردت فيه طرقه وألفاظه ومتنه وعلله‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وقد كان مسلم يناضل عن البخاري‏.‏

ثم ذكر ما وقع بين البخاري ومحمد بن يحيى الذهلي في مسألة اللفظ بالقرآن في نيسابور، وكيف نودى على البخارى بسبب ذلك بنيسابور، وأن الذهلي قال يوماً لأهل مجلسه وفيهم مسلم بن الحجاج‏:‏ ألا من كان يقول بقول البخاري في مسألة اللفظ بالقرآن فليعتزل مجلسنا‏.‏

فنهض مسلم من فوره إلى منزله، وجمع ما كان سمعه من الذهلي جميعه وأرسله إليه، وترك الرواية عن الذهلي بالكلية، فلم يرو عنه شيئاً لا في صحيحه ولا في غيره، واستحكمت الوحشة بينهما‏.‏

هذا ولم يترك البخاري محمد بن يحيى الذهلي بل روى عنه في صحيحه وغيره وعذره رحمه الله‏.‏

وقد ذكر الخطيب سبب موت مسلم رحمه الله‏:‏ أنه عقد له مجلس للمذاكرة فسئل يوماً عن حديث، فلم يعرفه فانصرف إلى منزله فأوقد السراج وقال لأهله‏:‏ لا يدخل أحد الليلة علي، وقد أهديت له سلة من تمر فهي عنده يأكل تمرة ويكشف عن حديث ثم يأكل أخرى ويكشف عن آخر، فلم يزل ذلك دأبه حتى أصبح، وقد أكل تلك السلة وهو لا يشعر‏.‏

فحصل له بسبب ذلك ثقل ومرض من ذلك حتى كانت وفاته عشية يوم الأحد، ودفن يوم الاثنين لخمس بقين من رجب سنة إحدى وستين ومائتين بنيسابور، وكان مولده في السنة التي توفي فيها الشافعي، وهي سنة أربع ومائتين، فكان عمره سبعاً وخمسين سنة رحمه الله تعالى‏.‏

أبو يزيد البسطامي‏.‏

اسمه طيفور بن عيسى بن علي، أحد مشايخ الصوفية، وكان جده مجوسياً فأسلم، وكان لأبي يزيد أخوات صالحات عابدات، وهو أجلهم، قيل لأبي يزيد‏:‏ بأي شيء وصلت إلى المعرفة‏؟‏

فقال‏:‏ ببطن جائع وبدن عار‏.‏

وكان يقول‏:‏ دعوت نفسي إلى طاعة الله فلم تجبني فمنعتها الماء سنة‏.‏

وقال‏:‏ إذا رأيت الرجل قد أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء، فلا تغتروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي، وحفظ الحدود والوقوف عند الشريعة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 42‏)‏

قال ابن خلكان‏:‏ وله مقامات ومجاهدات مشهورة، وكرامات ظاهرة‏.‏

توفي سنة إحدى وستين ومائتين‏.‏

قلت‏:‏ وقد حكي عنه شحطات ناقصات، قد تأولها كثير من الفقهاء والصوفية وحملوها على محامل بعيدة‏.‏

وقد قال بعضهم‏:‏ إنه قال ذلك في حال الاصطلام والغيبة‏.‏

ومن العلماء من بدعه وخطأه وجعل ذلك من أكبر البدع، وأنها تدل على اعتقاد فاسد كامن في القلب ظهر في أوقاته، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة اثنتين وستين ومائتين‏.‏

فيها قدم يعقوب بن الليث في جحافل، فدخل واسط قهراً، فخرج الخليفة المعتمد بنفسه من سامرا لقتاله، فتوسط بين بغداد وواسط فانتدب له أبو أحمد الموفق بالله أخو الخليفة، في جيش عظيم على ميمنته موسى بن بغا، وعلى ميسرته مسرور البلخي، فاقتتلوا في رجب من هذه السنة أياماً قتالاً عظيماً، ثم كانت الغلبة على يعقوب وأصحابه، وذلك يوم عيد الشعانين‏.‏

فقتل منهم خلق كثير، وغنم منهم أبو أحمد شيئاً كثيراً من الذهب والفضة والمسك والدواب‏.‏

ويقال‏:‏ إنهم وجدوا في جيش يعقوب هذا رايات عليها صلبان‏.‏ ثم انصرف المعتمد إلى المدائن ورد محمد بن طاهر إلى نيابة بغداد، وأمر له بخمسمائة ألف درهم‏.‏

وفيها‏:‏ غلب يعقوب بن الليث على بلاد فارس، وهرب ابن واصل منها‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين صاحب الزنج وجيش الخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ ولي القضاء علي بن محمد بن أبي الشوارب‏.‏

وفيها‏:‏ جمع للقاضي إسماعيل بن إسحاق قضاء جانبي بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وفيها وقع بين الخياطين والخرازين بمكة فاقتتلوا يوم التروية أو قبله بيوم‏.‏

فقتل منهم سبعة عشر نفساً، وخاف الناس أن يفوتهم الحج بسببهم، ثم توادعوا إلى ما بعد الحج‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏ صالح بن علي بن يعقوب بن المنصور في ربيع الآخر منها‏.‏

وعمر بن شبة النميري‏.‏

ومحمد بن عاصم‏.‏

ويعقوب بن شيبة صاحب المسند الحافل المشهور، والله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين ومائتين‏.‏

فيها جرت حروب كثيرة منتشرة في بلاد شتى فمن ذلك مقتلة عظيمة في الزنج لعنهم الله، حصرهم في بعض المواقف بعض الأمراء من جهة الخليفة، فقتل الموجودين عنده عن آخرهم‏.‏

وفيها‏:‏ سلمت الصقالبة حصن لؤلؤة إلى طاغية الروم‏.‏

وفيها‏:‏ تغلب أخو شركب الجمال على نيسابور، وأخرج منها عاملها الحسين بن طاهر، وأخذ من أهلها ثلث أموالهم مصادرة قبحه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 43‏)‏

وحج بالناس فيها الفضل بن إسحاق العباسي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ مساور بن عبد الحميد الشاري الخارجي، وقد كان من الأبطال والشجعان المشهورين، والتف عليه خلق من الأعراب وغيرهم، وطالت مدته حتى قصمه الله‏.‏

ووزير الخلافة عبيد الله بن يحيى بن خاقان صدمه في الميدان خادم يقال له‏:‏ رشيق، فسقط عن دابته على أم رأسه، فخرج دماغه من أذنيه وأنفه فمات بعد ثلاث ساعات، وصلى عليه أبو أحمد الموفق بن المتوكل، ومشى في جنازته، وذلك يوم الجمعة لعشر خلون من ذي القعدة من هذه السنة، واستوزر من الغد الحسن بن مخلد، فلما قدم موسى بن بغا سامرا عزله واستوزر مكانه سليمان بن وهب، وسلمت دار عبد الله بن يحيى بن خاقان إلى الأمير المعروف بكيطلغ‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أحمد بن الأزهر‏.‏

والحسن بن أبي الربيع‏.‏

ومعاوية بن صالح الأشعري‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين ومائتين‏.‏

في المحرم منها عسكر أبو أحمد وموسى بن بغا بسامرا وخرجا منها لليلتين مضتا من صفر، وخرج المعتمد لتوديعهما، وسارا إلى بغداد‏.‏

فلما وصلا إلى بغداد توفي الأمير موسى بن بغا وحمل إلى سامرا فدفن بها‏.‏

وفيها‏:‏ ولى محمد بن المولد واسطاً لمحاربة سليمان بن جامع نائبها من جهة صاحب الزنج، فهزمه ابن المولد بعد حروب طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ سار ابن الديراني إلى مدينة الدينور، واجتمع عليه دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف وابن عياض، فهزماه ونهبا أمواله ورجع مغلولاً‏.‏

ولما توفي موسى بن بغا عزل الخليفة الوزير الذي كان من جهته وهو سليمان بن حرب، وحبسه مقيداً وأمر بنهب دوره ودور أقربائه، ورد الحسن بن مخلد إلى الوزارة، فبلغ ذلك أبا أحمد وهو ببغداد فسار بمن معه إلى سامرا، فتحصن منه أخوه المعتمد بجانبها الغربي، فلما كان يوم التروية عبر جيش أبي أحمد إلى الجانب الذي فيه المعتمد فلم يكن بينهم قتال بل اصطلحوا على رد سليمان بن وهب إلى الوزارة، وهرب الحسن بن مخلد فنهبت أمواله وحواصله واختفى أبو عيسى بن المتوكل ثم ظهر، وهرب جماعة من الأمراء إلى الموصل خوفاً من أبي أحمد‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى بن عيسى الهاشمي الكوفي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 44‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن عبد الرحمن بن وهب‏.‏ وإسماعيل بن يحيى المزني أحد رواة الحديث عن الشافعي من أهل مصر، وقد ترجمناه في طبقات الشافعيين‏.‏

أبو زرعة‏.‏

عبيد الله بن عبد الكريم الرازي‏.‏

أحد الحفاظ المشهورين، قيل‏:‏ إنه كان يحفظ سبعمائة ألف حديث، وكان فقيهاً ورعاً زاهداً عابداً متواضعاً خاشعاً، أثنى عليه أهل زمانه بالحفظ والديانة، وشهدوا له بالتقدم على أقرانه، وكان في حال شبيبته إذا اجتمع بأحمد بن حنبل يقتصر أحمد على الصلوات المكتوبات، ولا يفعل المندوبات اكتفاء بمذاكرته‏.‏

توفي يوم الاثنين سلخ ذي الحجة من هذه السنة، وكان مولده سنة مائتين، وقيل‏:‏ سنة تسعين ومائة، وقد ذكرنا ترجمته مبسوطة في التكميل‏.‏

ومحمد بن إسماعيل بن علية قاضي دمشق‏.‏

ويونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري، وهو ممن روى عن الشافعي‏.‏

وقد ذكرناه في التكميل وفي الطبقات‏.‏

وقبيحة أم المعتز إحدى حظايا المتوكل على الله، وقد جمعت من الجواهر واللآلئ والذهب والمصاغ ما لم يعهد لمثلها‏.‏

ثم سلبت ذلك كله وقتل ولدها المعتز لأجل نفقات الجند، وشحت عليه بخمسين ألف دينار تداري بها عنه‏.‏

كانت وفاتها في ربيع الأول من هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين ومائتين‏.‏

فيها كانت وقعة بين ابن ليثويه عامل أبي أحمد وبين سليمان بن جامع، فظفر بها ابن ليثويه بابن جامع نائب صاحب الزنج، فقتل خلقاً من أصحابه وأسر منهم سبعة وأربعين أسيراً، وحرق له مراكب كثيرة، وغنم منهم أموالاً جزيلة‏.‏

وفي المحرم من هذه السنة حاصر أحمد بن طولون نائب الديار المصرية مدينة أنطاكية، وفيها سيما الطويل فأخذها منه وجاءته هدايا ملك الروم، وفي جملتها أسارى من أسارى المسلمين، ومع كل أسير مصحف، منهم عبد الله بن رشيد بن كاوس الذي كان عامل الثغور، فاجتمع لأحمد بن طولون ملك الشام بكماله مع الديار المصرية، لأنه لما مات نائب دمشق أماخور ركب ابن طولون من مصر فتلقاه ابن ماخور إلى الرملة فأقره عليها‏.‏

وسار إلى مشق فدخلها ثم إلى حمص فتسلمها، ثم إلى حلب فأخذها، ثم ركب إلى إنطاكية فكان من أمره ما تقدم‏.‏

وكان قد استخلف على مصر ابنه العباس، فلما بلغه قدوم أبيه عليه من الشام أخذ ما كان في بيت المال من الحواصل، ووازره جماعة على ذلك، ثم ساروا إلى برقة خارجاً عن طاعة أبيه، فبعث إليه من أخذه ذليلاً حقيراً، وردوه إلى مصر فحبسه وقتل جماعة من أصحابه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 45‏)‏

وفيها‏:‏ خرج رجل يقال له‏:‏ القاسم بن مهاة، على دلف بن عبد العزيز بن أبي دلف العجلي، فقتله واستحوذ على أصبهان فانتصر أصحاب دلف له، فقتلوا القاسم ورأسوا عليهم أحمد بن عبد العزيز‏.‏

وفيها‏:‏ لحق محمد المولد بيعقوب بن الليث فسار إليه في المحرم، فأمر الخليفة بنهب حواصله وأمواله وأملاكه‏.‏

وفيها‏:‏ دخل صاحب الزنج إلى النعمانية، فقتل وحرق ثم سار إلى جرجرايا فانزعج الناس منه، ودخل أهل السواد إلى بغداد‏.‏

وفيها‏:‏ ولى أبو أحمد عمرو بن الليث خراسان وفارس وأصبهان وسجستان وكرمان والسند، ووجهه إليها بذلك وبالخلع والتحف‏.‏

وفيها‏:‏ حاصرت الزنج تستر حتى كادوا يأخذونها، فوافاهم تكين البخاري فلم يضع ثياب سفره حتى ناجز الزنج فقتل منهم خلقاً، وهزمهم هزيمة فظيعة جداً، وهرب أميرهم علي بن أبان المهلبي مخذولاً‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ وهذه وقعة باب كودك المشهورة، ثم إن علي بن أبان المهلبي أخذ في مكاتبة تكين واستمالته إليه وإلى صاحب الزنج، فسارع تكين في إجابته إلى ذلك، فبلغ خبره مسروراً البلخي فسار نحوه وأظهر له الأمان حتى أخذه فقيده وتفرق جيشه عنه، ففرقة صارت إلى الزنج، وفرقة إلى محمد بن عبيد الله الكردي، وفرقة انضافت إلى مسرور بعد إعطائه إياهم الأمان، وولى مكانه على عمالته أميراً آخر يقال له‏:‏ اغرتمش‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس هارون بن محمد بن إسحاق بن موسى العباسي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ أحمد بن منصور الرمادي راوية عبد الرزاق، وقد صحب الإمام أحمد وكان يعد من الأبدال، توفي عن ثلاث وستين سنة‏.‏

وسعدان بن نصر‏.‏

و عبد الله بن محمد المخزومي‏.‏

وعلي بن حرب الطائي الموصلي‏.‏

وأبو حفص النيسابوري علي بن موفق الزاهد‏.‏

ومحمد بن سحنون‏.‏

قال ابن الأثير في كامله‏:‏ وفيها قتل أبو الفطل العباس بن الفرج الرياضي صاحب أبي عبيدة، والأصمعي قتلته الزنج بالبصرة‏.‏

يعقوب بن الليث الصفار‏.‏

أحد الملوك العقلاء الأبطال‏.‏

فتح بلاداً كثيرة من ذلك بلد الرجح التي كان فيها ملك صاحب الزنج، وكان يحمل في سرير من ذهب على رؤوس اثني عشر رجلاً، وكان له بيت في رأس جبل عال سماه مكة، فما زال حتى قتل وأخذ بلده، واستسلم أهلها فأسلموا على يديه، ولكن كان قد خرج عن طاعة الخليفة وقاتله أبو أحمد الموفق كما تقدم‏.‏

ولما مات ولوا أخاه عمرو بن الليث ما كان يليه أخوه يعقوب مع شرطة بغداد وسامرا كما سيأتي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 46‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وستين ومائتين‏.‏

في صفر منها تغلب إساتكين على بلد الري، وأخرج عاملها منها ثم مضى إلى قزوين فصالحه أهلها فدخلها، وأخذ منها أموالاً جزيلة، ثم عاد إلى الري فمانعه أهلها عن الدخوال إليها فقهرهم ودخلها‏.‏

وفيها‏:‏ غارت سرية من الروم على ناحية ديار ربيعة، فقتلوا وسبوا ومثلوا وأخذوا نحواً من مائتين وخمسين أسيراً، فنفر إليهم أهل نصيبين وأهل الموصل، فهربت منهم الروم ورجعوا إلى بلادهم‏.‏

وفيها‏:‏ ولى عمرو بن الليث شرطة بغداد وسامرا لعبيد الله بن طاهر، وبعث إليه أبو أحمد بالخلعة وخلع عليه عمرو بن الليث أيضاً، وأهدى إليه عمودين من ذهب، وذلك مضافاً إلى ما كان يليه أخوه من البلدان‏.‏

وفيها‏:‏ سار اغرتمش إلى قتال علي بن أبان المهلبي بتستر، فأخذ من كان في السجن من أصحاب علي بن أبان المهلبي من الأمراء فقتلهم عن آخرهم، ثم سار إلى علي بن أبان فاقتتلا قتالاً شديداً في مرات عديدة، وكان آخرها لعلي بن أبان المهلبي، قتل خلقاً كثيراً من أصحاب اغرتمش وأسر بعضهم فقتلهم أيضاً، وبعث برؤوسهم إلى صاحب الزنج فنصبت رؤوسهم على باب مدينته قبحه الله‏.‏

وفيها‏:‏ وثب أهل حمص على عاملهم عيسى الكرخي فقتلوه في شوال منها‏.‏

وفيها‏:‏ دعا الحسن بن محمد بن جعفر بن عبد الله بن حسين الأصغر العقيلي أهل طبرستان إلى نفسه، وأظهر لهم أن الحسن بن زيد أسر ولم يبق من يقوم بهذا الأمر غيره، فبايعوه‏.‏

فلما بلغ ذلك الحسين بن زيد قصده فقاتله فقتله، ونهب أمواله وأموال من اتبعه، وأحرق دورهم‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت فتنة بالمدينة ونواحيها بين الجعفرية والعلوية، وتغلب عليها رجل من أهل البيت من سلالة الحسن بن زيد الذي تغلب على طبرستان، وجرت شرور كثيرة هنالك بسبب قتل الجعفرية والعلوية يطول ذكرها‏.‏

وفيها‏:‏ وثبت طائفة من الأعراب على كسوة الكعبة فانتهبوها، وسار بعضهم إلى صاحب الزنج وأصاب الحجيج منهم شدة وبلاء شديد وأمور كريهة‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم أيضاً على ديار ربيعة‏.‏

وفيها‏:‏ دخل أصحاب صاحب الزنج إلى رامهرمز فافتتحوها بعد قتال طويل‏.‏

وفيها‏:‏ دخل ابن أبي الساج مكة، فقاتله المخزومي فقهره ابن أبي الساج، وحرق داره واستباح ماله، وذلك يوم التروية في هذه السنة‏.‏

ثم جعلت إمرة الحرمين إلى ابن أبي الساج من جهة الخليفة‏.‏

وحج بالناس فيها هارون بن محمد المتقدم ذكره قبلها‏.‏

وفيها‏:‏ عمل محمد بن عبد الرحمن الداخل إلى بلاد المغرب - وهو خليفة بلاد الأندلس وبلاد المغرب - مراكب في نهر قرطبة ليدخل بها إلى البحر المحيط، ولتسير الجيوش في أطرافه إلى بعض البلاد ليقاتلوهم، فلما دخلت المراكب البحر المحيط تكسرت وتقطعت، ولم ينج من أهلها إلا اليسير بل غرق أكثرهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/47‏)‏

وفيها‏:‏ التقى أسطول المسلمين وأسطول الروم ببلاد صقلية، فاقتتلوا فقتل من المسلمين خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ حارب لؤلؤ غلام ابن طولون لموسى بن أتامش، فكسره لؤلؤ وأسره وبعث به إلى مولاه أحمد بن طولون، وهو إذ ذاك نائب الشام ومصر وإفريقية من جهة الخليفة، ثم اقتتل لؤلؤ هذا وطائفة من الروم فقتل من الروم خلقاً كثيراً‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وفيها اشتد الحال، وضاق الناس ذرعاً بكثرة الهياج والفتن، وتغلب القواد والأجناد على كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة واشتغال أخيه أبي أحمد بقتال الزنج‏.‏

وفيها‏:‏ اشتد الحر في تشرين الثاني جداً، ثم قوي به البرد حتى جمد الماء‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ إبراهيم بن رومة‏.‏

وصالح بن الإمام أحمد بن حنبل قاضي أصبهان‏.‏

ومحمد بن شجاع البلخي أحد عباد الجهمية‏.‏

ومحمد بن عبد الملك الدقيقي‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين ومائتين‏.‏

فيها وجه أبو أحمد الموفق ولده أبا العباس في نحو من عشرة آلاف فارس وراجل في أحسن هيئة وأكمل تجمل لقتال الزنج، فساروا نحوهم فكان بينهم وبينهم من القتال والنزال في أوقات متعددات ووقعات مشهورات ما يطول بسطه، وقد استقصاه ابن جرير في تاريخه مبسوطاً مطولاً‏.‏

وحاصل ذلك‏:‏ أنه آل الحال أن استحوذ أبو العباس بن الموفق على ما كان استولى عليه الزنج ببلاد واسط وأراضي دجلة، هذا وهو شاب حدث لا خبرة له بالحرب، ولكن سلمة الله وغنمه وأعلى كلمته وسدد رميته وأجاب دعوته وفتح على يديه وأسبغ نعمه عليه، وهذا الشاب هو الذي ولي الخلافة بعد عمه المعتمد كما سيأتي‏.‏

ثم ركب أبو أحمد الموفق ناصر دين الله في بغداد في صفر منها في جيوش كثيفة، فدخل واسط في ربيع الأول منها، فتلقاه ابنه أخبره عن الجيوش الذين معه، وأنهم نصحوا وتحملوا من أعباء الجهاد، فخلع على الأمراء كلهم خلعاً سنية، ثم سار بجميع الجيوش إلى صاحب الزنج وهو بالمدينة التي أنشأها وسماها المنيعة، فقاتل الزنج دونها قتالاً شديداً فقهرهم ودخلها عنوة وهربوا منها، فبعث في آثارهم جيشاً فلحقوهم إلى البطائح يقتلون ويأسرون، وغنم أبو أحمد من المنيعة شيئاً كثيراً، واستنقذ من النساء المسلمات خمسة آلاف امرأة، وأمر بإرسالهن إلى أهاليهن بواسط، وأمر بهدم سور البلد وبطم خندقها وجعلها بلقعاً بعد ما كانت للشر مجمعاً‏.‏

ثم سار الموفق إلى المدينة التي لصاحب الزنج التي يقال لها‏:‏ المنصورة، وبها سليمان بن جامع، فحاصروها وقاتلوه دونها فقتل خلق كثير من الفريقين، ورمى أبو العباس بن الموفق بسهم أحمد بن هندي أحد أمراء صاحب الزنج فأصابه في دماغه فقتله، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/48‏)‏ وكان من أكابر أمراء صاحب الزنج فشق ذلك على الزنج جداً، وأصبح الناس محاصرين مدينة الزنج يوم السبت لثلاث بقين من ربيع الآخر، والجيوش الموفقية مرتبة أحسن ترتيب، فتقدم الموفق فصلى أربع ركعات، وابتهل إلى الله في الدعاء واجتهد في حصارها، فهزم الله مقاتلتها وانتهى إلى خندقها فإذا هو قد حصن غاية التحصين، وإذا هم قد جعلوا حول البلد خمسة خنادق وخمسة أسوار، فجعل كلما جاوز سوراً قاتلوه دون الآخر فيقهرهم ويجوز إلى الذي يليه، حتى انتهى إلى البلد فقتل منهم خلقاً كثيراً وهرب بقيتهم، وأسر من نساء الزنج من حلائل سليمان بن جامع وذويه نساء كثيرة وصبياناً، واستنقذ من أيديهم النساء المسلمات والصبيان من أهل البصرة والكوفة نحواً من عشرة آلاف نسمة فسيرهم إلى أهليهم، جزاه الله خيراً‏.‏

ثم أمر بهدم فنادقها وأسوارها وردم خنادقها وأنهارها، وأقام بها سبعة عشر يوماً وبعث في آثار من انهزم منهم، فكان لا يأتون بأحد منهم إلا استماله إلى الحق برفق ولين وصفح، فمن أجابه أضافه إلى بعض الأمراء - وكان مقصوده رجوعهم إلى الدين والحق - ومن لم يجبه قتله وحبسه‏.‏

ثم ركب إلى الأهواز فأجلاهم عنها وطردهم منها، وقتل خلقاً كثيراً من أشرافهم، منهم‏:‏ أبو عيسى محمد بن إبراهيم البصري، وكان رئيساً فيهم مطاعاً، وغنم شيئاً كثيراً من أموالهم، وكتب الموفق إلى صاحب الزنج قبحه الله كتاباً يدعوه فيه إلى التوبة والرجوع عما ارتكبه من المآثم والمظالم والمحارم ودعوى النبوة والرسالة وخراب البلدان واستحلال الفروج الحرام‏.‏

ونبذ له الأمان إن هو رجع إلى الحق، فلم يرد عليه صاحب الزنج جواباً‏.‏