فصل: سنة ست وأربعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثنتين وأربعين ومائتين

فيها كانت زلازل هائلة في البلاد، فمنها ما كان بمدينة قومس، تهدمت منها دور كثيرة، ومات من أهلها نحو من خمسة وأربعين ألفاً وستة وتسعين نفساً‏.‏

وكانت باليمن وخراسان وفارس والشام وغيرها من البلاد زلازل منكرة‏.‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بلاد الجزيرة فانتبهوا شيئاً كثيراً وأسروا نحواً من عشرة آلاف من الذراري، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/378‏)‏

وفيها‏:‏ حج بالناس عبد الصمد بن موسى بن إبراهيم الإمام بن محمد بن على نائب مكة‏.‏

وفيها‏:‏ توفي من الأعيان الحسن بن علي بن الجعد قاضي مدينة المنصور‏.‏

وأبو حسان الزيادي

قاضي الشرقية، واسمه‏:‏ الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن بن يزيد، البغدادي‏.‏

سمع‏:‏ الوليد بن مسلم، ووكيع بن الجراح، والواقدي، وخلقاً سواهم‏.‏

وعنه‏:‏ أبو بكر بن أبي الدنيا، وعلي بن عبد الله الفرغاني، الحافظ المعروف‏:‏ بطفل، وجماعة‏.‏

ترجمه ابن عساكر في تاريخه، قال‏:‏ وليس هو من سلالة زياد بن أبيه، إنما تزوج بعض أجداده بأم ولد لزياد، فقيل له‏:‏ الزيادي‏.‏

ثم أورد من حديثه بسنده عن جابر‏:‏ ‏(‏‏(‏الحلال بين والحرام بين‏)‏‏)‏‏.‏ الحديث‏.‏

وروي عن الخطيب، أنه قال‏:‏ كان من العلماء الأفاضل من أهل المعرفة والثقة والأمانة، ولي قضاء الشرقية في خلافة المتوكل، وله تاريخ على السنين، وله حديث كثير‏.‏

وقال غيره‏:‏ كان صالحاً ديِّناً، قد عمل الكتب، وكانت له معرفة جيدة بأيام الناس، وله تاريخ حسن، وكان كريماً مفضالاً‏.‏

وقد ذكر ابن عساكر عنه أشياء حسنة منها‏:‏ أنه أنفذ إليه بعض أصحابه يذكر له أنه قد أصابته ضائقة في عيد من الأعياد ولم يكن عنده غير مائة دينار فأرسلها بصرتها إليه‏.‏

ثم سأل ذلك الرجل صاحب له أيضاً وشكا إليه مثلما شكا إلى الزيادي، فأرسل بها الآخر إلى ذلك الآخر، وكتب أبو حسان إلى ذلك الرجل الأخير الذي وصلت إليه أخيراً يستقرض منه شيئاً، وهو لا يشعر بالأمر فأرسل إليه بالمائة في صرتها، فلما رآها تعجب من أمرها، وركب إليه يسأله عن ذلك فذكر أن فلاناً أرسلها إليه، فاجتمعوا الثلاثة واقتسموا المائة الدينار، رحمهم الله وجزاهم عن مروءتهم خيراً‏.‏

وفيها‏:‏ توفي أبو مصعب الزهري أحد رواة الموطأ عن مالك، وعبد الله بن ذكوان أحد القراء المشاهير، ومحمد بن أسلم الطوسي، ومحمد بن رمح، ومحمد بن عبد الله بن عمار الموصلي أحد أئمة الجرح والتعديل، والقاضي يحيى بن أكثم‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/379‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين ومائتين

في ذي القعدة منها‏:‏ توجه المتوكل على الله من العراق قاصداً مدينة دمشق ليجعلها له دار إقامة، ومحلة إمامة فأدركه عيد الأضحى بها، وتأسف أهل العراق على ذهاب الخليفة من بين أظهرهم، فقال في ذلك يزيد بن محمد المهبلي‏:‏

أظنُّ الشام تشمت بالعراق * إذا عزم الإمام على انطلاق

فإن يدع العراق وساكنيها * فقد تبلى المليحة بالطلاق

وحج بالناس فيها الذي حج بهم في التي قبلها وهو نائب مكة‏.‏

 وفيها‏:‏ توفي من الأعيان كما قال ابن جرير‏:‏

 إبراهيم بن العباس

متولي ديوان الضياع‏.‏

قلت‏:‏ هو‏:‏ إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول الصولي الشاعر الكاتب، وهو عم محمد بن يحيى الصولي، وكان جده صول بكر ملك جرجان وكان أصله منها، ثم تمجس ثم أسلم على يدي يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، ولإبراهيم هذا ديوان شعر ذكره ابن خلكان واستجاد من شعره أشياء منها قوله‏:‏

ولربَّ نازلة يضيق بها الفتى * ذرعاً وعند الله منها مخرج

ضاقت فلما استحكمت حلقاتها * فرجت وكنت أظنها لا تفرج

ومنها قوله‏:‏

كنت السواد لمقلتي * فبكى عليك الناظر

من شاء بعدك فليمت * فعليك كنت أحاذر

ومن ذلك ما كتب به إلى وزير المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/380‏)‏

وكنت أخي بإخاء الزمان * فلما ثنى صرت حرباً عوانا

وكنت أذم إليك الزمان * فأصبحت منك أذم الزمانا

وكنت أعدك للنائبات * فها أنا أطلب منك الأمانا

وله أيضاً‏:‏

لا يمنعنك خفض العيش في دعة * نزوع نفس إلى أهل وأوطان

تلقى بكل بلاد إن حللت بها * أهلاً بأهل وأوطاناً بأوطان

كانت وفاته بمنتصف شعبان من هذه السنة بسر من رأى‏.‏

والحسن بن مخلد بن الجراح خليفة إبراهيم بن شعبان‏.‏

قال‏:‏ ومات هاشم بن فيجور في ذي الحجة‏.‏

قلت‏:‏ وفيها توفي‏:‏ أحمد بن سعيد الرباطي، والحارث بن أسد المحاسبي أحد أئمة الصوفية، وحرملة بن يحيى التجيبي صاحب الشافعي، وعبد الله بن معاوية الجمحي، ومحمد بن عمر العدني، وهارون بن عبد الله الحماني، وهناد بن السري‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وأربعين ومائتين

في صفر منها‏:‏ دخل الخليفة المتوكل إلى مدينة دمشق في أبهة الخلافة وكان يوماً مشهوداً، وكان عازماً على الإقامة بها، وأمر بنقل دواوين الملك إليها، وأمر ببناء القصور بها، فبنيت بطريق داريا، فأقام بها مدة، ثم إنه استوخمها، ورأى أن هواءها بارد ندي وماءها ثقيل بالنسبة إلى هواء العراق ومائه، ورأى الهواء بها يتحرك من بعد الزوال في زمن الصيف فلا يزال في اشتداد وغبار إلى قريب من ثلث الليل، ورأى كثرة البراغيث بها، ودخل عليه فصل الشتاء فرأى من كثرة الأمطار والثلوج أمراً عجيباً، وغلت الأسعار وهو بها لكثرة الخلق الذين معه، وانقطعت الأجلاب بسبب كثرة الأمطار والثلوج‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/381‏)‏

فضجر منها، ثم جهز بغا إلى بلاد الروم، ثم رجع من آخر السنة إلى سامرا بعد ما أقام بدمشق شهرين وعشرة أيام، ففرح به أهل بغداد فرحاً شديداً‏.‏

وفيها‏:‏ أتى المتوكل بالحربة التي كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرح بها فرحاً شديداً، وقد كانت تحمل بين يدي رسول الله عليه وسلم يوم العيد وغيره، وقد كانت للنجاشي فوهبها للزبير بن العوام، فوهبها الزبير للنبي صلى الله عليه وسلم، ثم إن المتوكل أمر صاحب الشرطة أن يحملها بين يديه كما كانت تحمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها‏:‏ غضب المتوكل على الطبيب بختيشوع ونفاه وأخذ ماله‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الصمد المتقدم ذكره قبلها‏.‏

واتفق في هذه السنة يوم عيد الأضحى وخميس فطر اليهود وشعانين النصارى، وهذا عجيب غريب‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن منيع، وإسحاق بن موسى الخطمي، وحميد بن مسعدة، وعبد الحميد بن بيان، وعلي بن حجر، والوزير محمد بن عبد الملك الزيات، ويعقوب بن السكيت صاحب إصلاح المنطق‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وأربعين ومائتين

فيها‏:‏ أمر المتوكل ببناء مدينة الماحوزة، وحفر نهرها فيقال‏:‏ إنه أنفق على بنائها وبناء قصر الخلافة بها الذي يقال له‏:‏ اللؤلؤة، ألفي ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ وقعت زلازل كثيرة في بلاد شتى، فمن ذلك بمدينة إنطاكية سقط فيها ألف وخمسمائة دار، وانهدم من سورها نيف وتسعون برجاً، وسمعت من كوى دورها أصوات مزعجة جداً فخرجوا من منازلهم سراعاً يهرعون، وسقط الجبل الذي إلى جانبها الذي يقال له‏:‏ الأقرع فساخ في البحر، فهاج البحر عند ذلك وارتفع دخان أسود مظلم منتن، وغار نهر على فرسخ منها، فلا يدرى أين ذهب‏.‏

ذكر أبو جعفر بن جرير قال‏:‏ وسمع فيها أهل تنيس ضجة دائمة طويلة مات منها خلق كثير‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/382‏)‏

قال‏:‏ وزلزلت فيها الرها والرقة وحران ورأس العين وحمص ودمشق وطرسوس والمصيصة، وأذنة وسواحل الشام، ورجفت اللاذقية بأهلها فما بقي منها منزل إلا انهدم، وما بقي من أهلها إلا اليسير، وذهبت جبلة بأهلها‏.‏

وفيها‏:‏ غارت مشاش - عين - مكة حتى بلغ ثمن القربة بمكة ثمانين درهماً‏.‏

ثم أرسل المتوكل فأنفق عليها مالاً جزيلاً حتى خرجت‏.‏

وفيها‏:‏ مات إسحاق بن أبي إسرائيل، وسوار بن عبد الله القاضي، وهلال الرازي‏.‏

وفيها‏:‏ هلك نجاح بن سلمة، وقد كان على ديوان التوقيع، وقد كان حظياً عند المتوكل، ثم جرت له حكاية أفضت به إلى أن أخذ المتوكل أمواله وأملاكه وحواصله، وقد أورد قصته ابن جرير مطولة‏.‏

 وفيها توفي‏:‏ أحمد بن عبدة الضبي، وأبو الحيس القواس مقري مكة، وأحمد بن نصر النيسابوري، وإسحاق بن أبي إسرائيل، وإسماعيل بن موسى بن بنت السدي، وذو النور المصري، وعبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، ومحمد بن رافع، وهشام بن عمار، وأبو تراب النخشبي‏.‏

 وابن الراوندي

الزنديق، وهو‏:‏ أحمد بن يحيى بن إسحاق، أبو الحسين بن الراوندي، نسبة إلى قرية بلاد قاشان ثم نشأ ببغداد، كان بها يصف الكتب في الزندقة، وكانت لديه فضيلة، ولكنه استعملها فيما يضره ولا ينفعه في الدنيا ولا في الآخرة‏.‏

وقد ذكرنا له ترجمة مطولة حسب ما ذكرها ابن الجوزي في سنة ثمان وتسعين ومائتين، وإنما ذكرناه ههنا لأن ابن خلكان ذكر أنه توفي في هذه السنة، وقد تلبس عليه ولم يحرجه بل مدحه فقال‏:‏ هو‏:‏ أبو الحسين أحمد بن إسحاق، الراوندي العالم المشهور، له مقالة في علم الكلام، وكان من الفضلاء في عصره، وله من الكتب المصنفة نحو مائة وأربعة عشر كتاباً، منها‏:‏ فضيحة المعتزلة، وكتاب التاج، وكتاب الزمردة، وكتاب القصب، وغير ذلك‏.‏

وله محاسن ومحاضرات مع جماعة من علماء الكلام، وقد انفرد بمذاهب نقلها عنه أهل الكتاب‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/383‏)‏

توفي سنة خمس وأربعين ومائتين، برحبة مالك بن طوق التغلبي، وقيل‏:‏ ببغداد‏.‏

نقلت ذلك عن ابن خلكان بحروفه وهو غلط، وإنما أرخ ابن الجوزي وفاته في سنة ثمان وتسعين ومائتين، كما سيأتي له هناك ترجمة مطولة‏.‏

 ذو النون المصري

ثوبان بن إبراهيم، وقيل‏:‏ ابن الفيض بن إبراهيم، أبو الفيض المصري، أحد مشايخ المشهورين، وقد ترجمه ابن خلكان في الوفيات، وذكر شيئاً من فضائله وأحواله، وأرخ وفاته في هذه السنة، وقيل‏:‏ في التي بعدها، وقيل‏:‏ في سنة ثمان وأربعين ومائتين، فالله اعلم‏.‏

وهو معدود في جملة من روى الموطأ عن مالك، وذكره ابن يونس في تاريخ مصر، وقال‏:‏ كان أبوه نوبياً، وقيل‏:‏ إنه كان من أهل أخميم، وكان حكيماً فصيحاً‏.‏

وقيل‏:‏ وسئل عن سبب توبته، فذكر أنه رأى قبَّرة عمياء، نزلت من وكرها فانشقت لها الأرض عن سكرجتين من ذهب وفضة في إحداهما سمسم، وفي الأخرى ماء، فأكلت من هذه، وشربت من هذه، وقد شكى عليه مرة إلى المتوكل فأحضره من مصر إلى العراق، فلما دخل عليه وعظه فأبكاه، فرده مكرماً، فكان بعد ذلك إذا ذكر عند المتوكل يثني عليه‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وأربعين ومائتين

في يوم عاشوراء منها‏:‏ دخل المتوكل الماحوزة، فنزل بقصر الخلافة فيها، واستدعى بالقراء، ثم بالمطربين، وأعطى وأطلق، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وفي صفر منها‏:‏ وقع الفداء بين المسلمين والروم، ففدي من المسلمين نحو من أربعة آلاف أسير‏.‏

وفي شعبان منها‏:‏ أمطرت بغداد مطراً عظيماً استمر نحواً من أحد وعشرين يوماً، ووقع بأرض بلخ مطر ماؤه دم عبيط‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

وحج فيها من الأعيان‏:‏ محمد بن عبد الله بن طاهر، وولي أمر الموسم‏.‏

وممن توفى فيها من الأعيان‏:‏

أحمد بن إبراهيم الدورقي، والحسين بن أبي الحسن المروزي، وأبو عمر الدوري أحد القراء المشاهير، ومحمد بن مصفى الحمصي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/384‏)‏

ودعبل بن علي

ابن رزين بن سليمان الخزاعي، مولاهم الشاعر الماجن، البليغ في المدح، وفي الهجاء أكثر‏.‏

حضر يوماً عند سهل بن هارون الكاتب، وكان بخيلاً فاستدعى بغدائه فإذا ديك في قصعة، وإذا هو قاس لا يقطعه سكين إلا بشدة، ولا يعمل فيه ضرس‏.‏

فلما حضر بين يديه فقد رأسه، فقال للطباخ‏:‏ ويلك ‏!‏ ماذا صنعت‏؟‏ أين رأسه ‏؟‏

قال‏:‏ ظننت أنك لا تأكله فألقيته‏.‏

فقال‏:‏ ويحك ‏!‏ والله إني لأعيب على من يلقي الرجلين، فكيف بالرأس وفيه الحواس الأربع، ومنه يصوت، وبه فضل عينيه، وبهما يضرب المثل، وعرفه وبه يتبرك، وعظمه أهنى العظام، فإن كنت رغبت عن أكله فأحضره‏.‏

فقال‏:‏ لا أدري أين هو ‏؟‏

فقال‏:‏ بل أنا أدري هو في بطنك قاتلك الله‏.‏

فهجاه بأبيات ذكر فيها بخله ومسكه‏.‏

أحمد بن أبي الحواري

واسمه‏:‏ عبد الله بن ميمون بن عياش بن الحارث، أبو الحسن، التغلبي الغطفاني، أحد العلماء الزهاد المشهورين، والعباد المذكورين، والأبرار المشكورين، ذوي الأحوال الصالحة، والكرامات الواضحة، أصله من الكوفة، وسكن دمشق وتخرج بأبي سليمان الداراني رحمهما الله‏.‏

وروى الحديث عن‏:‏ سفيان بن عيينة، ووكيع، وأبي أسامة، وخلق‏.‏

وعنه‏:‏ أبو داود، وابن ماجه، وأبو حاتم، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو زرعة الرازي، وخلق كثير‏.‏

وقد ذكره أبو حاتم فأثنى عليه‏.‏

وقال يحيى بن معين‏:‏ إني لأظن أن الله يسقي أهل الشام به‏.‏

وكان الجنيد بن محمد يقول‏:‏ هو ريحانة الشام‏.‏

وروى ابن عساكر أنه كان قد عاهد أبا سليمان الدارني ألا يغضبه ولا يخالفه، فجاءه يوماً وهو يحدث الناس فقال‏:‏ يا سيدي ‏!‏ هذا قد سجروا التنور فماذا تأمر ‏؟‏

فلم يرد عليه أبو سليمان لشغله بالناس، ثم أعادها أحمد ثانية، وقال له في الثالثة‏:‏ اذهب فاقعد فيه، ثم اشتغل أبو سليمان في حديث الناس ثم استفاق فقال لمن حضره‏:‏ إني قلت لأحمد اذهب فاقعد في التنور، وإني أحسب أن يكون قد فعل ذلك فقوموا بنا إليه، فذهبوا فوجدوه جالساً في التنور، ولم يحترق منه شيء ولا شعرة واحدة‏.‏

وروي أيضاً أن أحمد بن أبي الحواري أصبح ذات يوم وقد ولد له ولد ولا يملك شيئاً يصلح به الولد، فقال لخادمه‏:‏ اذهب فاستدن لنا وزنة من دقيق، فبينما هو في ذلك إذ جاءه رجل بمائتي درهم فوضعها بين يديه، فدخل عليه رجل في تلك الساعة فقال‏:‏ يا أحمد ‏!‏ إنه قد ولد لي الليلة ولد ولا أملك شيئاً فرفع طرفه إلى السماء وقال‏:‏ يا مولاي هكذا بالعجلة‏.‏

ثم قال للرجل‏:‏ خذ هذه الدراهم فأعطاه إياها كلها، ولم يبق منها شيئاً، واستدان لأهله دقيقاً‏.‏

وروى عنه خادمه أنه خرج للثغر لأجل الرباط، فما زالت الهدايا تفد إليه من بركة النهار إلى الزوال، ثم فرقها كلها إلى وقت الغروب، ثم قال لي‏:‏ كن هكذا لا ترد على الله شيئاً، ولا تدَّخر عنه شيئاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/385‏)‏

ولما جاءت المحنة في زمن المأمون إلى دمشق بخلق القرآن عيَّن فيها أحمد بن أبي الحواري، وهشام بن عمار، وسليمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن ذكوان، فكلهم أجابوا إلا ابن أبي الحواري فحبس بدار الحجارة، ثم هدد فأجاب تورية مكرهاً، ثم أطلق رحمه الله‏.‏

وقد قام ليلة بالثغر يكرر هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 5‏]‏ حتى أصبح وقد ألقى كتبه في البحر وقال‏:‏ نعم الدليل كنت لي على الله وإليه، ولكن الاشتغال بالدليل بعد معرفة المدلول عليه والوصول إليه محال‏.‏

ومن كلامه‏:‏ لا دليل على الله سواه، وإنما يطلب العلم لآداب الخدمة‏.‏

وقال‏:‏ من عرف الدنيا زهد فيها، ومن عرف الآخرة رغب فيها، ومن عرف الله آثر رضاه‏.‏

وقال‏:‏ من نظر إلى الدنيا نظر إرادة وحب لها أخرج الله نور اليقين والزهد من قلبه‏.‏

وقال‏:‏ قلت لأبي سليمان في ابتداء أمري‏:‏ أوصني‏.‏

فقال‏:‏ أتستوص أنت ‏؟‏

فقلت‏:‏ نعم ‏!‏ إن شاء الله تعالى‏.‏

فقال‏:‏ خالف نفسك في كل مراداتها فإنها الأمارة بالسوء، وإياك أن تحقر إخوانك المسلمين، واجعل طاعة الله دثاراً، والخوف منه شعاراً، والإخلاص له زاداً، والصدق حسنة، واقبل مني هذه الكلمة الواحدة ولا تفارقها ولا تغفل عنها‏:‏ من استحيى من الله في كل أوقاته وأحواله وأفعاله، بلَّغه الله إلى مقام الأولياء من عباده‏.‏

قال‏:‏ فجعلت هذه الكلمات أمامي في كل وقت أذكرها وأطالب نفسي بها‏.‏

والصحيح‏:‏ أنه توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ثلاثين ومائتين، وقيل‏:‏ غير ذلك، فالله أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وأربعين ومائتين

في شوال منها‏:‏ كان مقتل الخليفة المتوكل على الله على يد ولده المنتصر، وكان سبب ذلك أنه أمر ابنه عبد الله المعتز الذي هو ولي العهد من بعده أن يخطب بالناس في يوم جمعة، فأداها أداء عظيماً بليغاً، فبلغ ذلك من المنتصر كل مبلغ، وحنق على أبيه وأخيه، فأحضره أبوه وأهانه، وأمر بضربه في رأسه وصفعه، وصرح بعزله عن ولاية العهد من بعد أخيه، فاشتد أيضاً حنقه أكثر مما كان‏.‏

فلما كان يوم عيد الفطر خطب المتوكل بالناس وعنده بعض ضعف من علة به، ثم عدل إلى خيام قد ضربت له أربعة أميال في مثلها، فنزل هناك ثم استدعى في يوم ثالث شوال بندمائه على عادته في سمره وحضرته وشربه، ثم تمالأ ولده المنتصر وجماعة من الأمراء على الفتك به، فدخلوا عليه ليلة الأربعاء لأربع خلون من شوال، ويقال‏:‏ من شعبان من هذه السنة، وهو على السماط فابتدروه بالسيوف فقتلوه، ثم ولوا بعده ولده المنتصر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/386‏)‏

 ترجمة المتوكل على الله

جعفر بن المعتصم بن الرشيد بن محمد المهدي بن المنصور العباسي، وأم المتوكل أم ولد يقال لها‏:‏ شجاع، وكانت من سروات النساء سنحاً وحزماً‏.‏

كان مولده بفم الصلح سنة سبع ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أخيه الواثق في يوم الأربعاء لست بقين من ذي الحجة، لسنة ثنتين وثلاثين ومائتين‏.‏

وقد روى الخطيب من طريقه، عن يحيى بن أكثم، عن محمد بن عبد الوهاب، عن سفيان، عن الأعمش، عن موسى بن عبد الله بن يزيد، عن عبد الرحمن بن هلال، عن جرير بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏من حرم الرفق حرم الخير‏)‏‏)‏‏.‏

ثم أنشأ المتوكل يقول‏:‏

الرفق يمن والأناة سعادة * فاستأن في رفق تلاق نجاحا

لا خير في حزم بغير رويَّة * والشك وهن إن أردت سراحا

وقال ابن عساكر في تاريخه‏:‏ وحدث عن أبيه المعتصم، ويحيى بن أكثم القاضي‏.‏

وروى عنه‏:‏ علي بن الجهم الشاعر، وهشام بن عمار الدمشقي‏.‏

وقدم المتوكل دمشق في خلافته، وبنى بها قصراً بأرض داريا‏.‏

وقال يوماً لبعضهم‏:‏ إن الخلفاء تتغضب على الرعية لتطيعها، وإني ألين لهم ليحبوني ويطيعوني‏.‏

وقال أحمد بن مروان المالكي‏:‏ ثنا أحمد بن علي البصري، قال‏:‏ وجه المتوكل إلى أحمد بن المعذل وغيره من العلماء فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم فقام الناس كلهم إليه إلا أحمد بن المعذل‏.‏

فقال المتوكل لعبيد الله‏:‏ إن هذا لا يرى بيعتنا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين، بلى ‏!‏ ولكن في بصره سوء‏.‏

فقال أحمد بن المعذل‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ ما في بصري سوء، ولكن نزهتك من عذاب الله‏.‏

قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار‏)‏‏)‏‏.‏

فجاء المتوكل فجلس إلى جنبه‏.‏

وروى الخطيب‏:‏ أن علي بن الجهم دخل على المتوكل وفي يده درتان يقلبهما فأنشده قصيدته التي يقول فيها‏:‏

وإذا مررت ببئر عروة فاستقي من مائها *

فأعطاه التي في يمينه، وكانت تساوي مائة ألف‏.‏

ثم أنشده‏:‏

بسرِّ من رأى أمير * تغرف من بحره البحار

يرجى ويخشى لكل خطب * كأنه جنة ونار

الملك فيه وفي بنيه * ما اختلف الليل والنهار

يداه في الجود ضرتان * عليه كلتاهما تغار

لم تأت منه اليمين شيئاً * إلا أتت مثله اليسار

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/387‏)‏

قال‏:‏ فأعطاه التي في يساره أيضاً‏.‏

قال الخطيب‏:‏ وقد رويت هذه الأبيات لعلي بن هارون البحتري في المتوكل‏.‏

وروى ابن عساكر، عن علي بن الجهم، قال‏:‏ وقفت فتحية حظية المتوكل بين يديه وقد كتبت على خدها بالغالية جعفر فتأمل ذلك، ثم أنشأ يقول‏:‏

وكاتبة في الخد بالمسك جعفراً * بنفسي تحطُّ المسك من حيث أثرا

لئن أودعت سطراً من المسك خدها * لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

فيا من مناها في السريرة جعفر * سقا الله من سقيا ثناياك جعفرا

ويا من لملوك بملك يمينه * مطيع له فيما أسرَّ وأظهر

قال‏:‏ ثم أمر المتوكل عرباً فغنت به‏.‏

وقال الفتح بن خاقان‏:‏ دخلت يوماً على المتوكل فإذا هو مطرق مفكر فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ مالك مفكر‏؟‏ فوالله ما على الأرض أطيب منك عيشاً، ولا أنعم منك بالاً‏.‏

قال‏:‏ بلى ‏!‏ أطيب مني عيشاً رجل له دار واسعة، وزوجة صالحة، ومعيشة حاضرة، لا يعرفنا فنؤذيه، ولا يحتاج إلينا فنزدريه‏.‏

وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد شبهه بعضهم بالصديق في قتله أهل الردة، لأنه نصر الحق ورده عليهم حتى رجعوا إلى الدين، وبعمر بن عبد العزيز حين رد مظالم بني أمية، وقد أظهر السنة بعد البدعة، وأحمد أهل البدع وبدعتهم بعد انتشارها واشتهارها، فرحمه الله‏.‏

وقد رآه بعضهم في المنام بعد موته وهو جالس في نور قال‏:‏ فقلت‏:‏ المتوكل ‏؟‏

قال‏:‏ المتوكل‏.‏

قلت‏:‏ فما فعل بك ربك ‏؟‏

قال‏:‏ غفر لي‏.‏

قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏

قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏

وروى الخطيب، عن صالح بن أحمد‏:‏ أنه رأى في منامه ليلة مات المتوكل كأن رجلاً يصعد به إلى السماء، وقائلاً يقول‏:‏

ملك يقاد إلى مليك عادل * متفضل في العفو ليس بجائر

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/388‏)‏

وروى عن عمرو بن شيبان الحلبي قال‏:‏ رأيت ليلة المتوكل قائلاً يقول‏:‏

يا نائم العين في أوطان جثمان * أفض دموعك يا عمرو بن شيبان

أما ترى الفئة الأرجاس ما فعلوا * بالهاشمي وبالفتح بن خاقان

وافى إلى الله مظلوماً فضجَّ له * أهل السموات من مثنى ووحدان

وسوف يأتيكم من بعده فتن * توقعوها لها شأن من الشان

فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم * فقد بكاه جميع الأنس والجان

قال‏:‏ فلما أصبحت أخبرت الناس برؤياي، فجاء نعي المتوكل أنه قد قتل في تلك الليلة، قال‏:‏ ثم رأيته بعد هذا بشهر وهو واقف بين يدي الله عز وجل فقلت‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي‏.‏

قلت‏:‏ بماذا ‏؟‏

قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها‏.‏

قلت‏:‏ فما تصنع ههنا ‏؟‏

قال‏:‏ أنتظر ابني محمداً أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم‏.‏

وذكرنا قريباً كيفية مقتله، وأنه قتل في ليلة الأربعاء أول الليل لأربع خلت من شوال من هذه السنة - أعني‏:‏ سنة سبع وأربعين ومائتين - بالمتوكلية وهي الماحوزية‏.‏

وصلي عليه يوم الأربعاء، ودفن بالجعفرية وله من العمر أربعون سنة، وكانت مدة خلافته أربع عشرة سنة وعشرة أشهر وثلاثة أيام، وكان أسمر، حسن العينين، نحيف الجسم، خفيف العارضين، أقرب إلى القصر، والله سبحانه أعلم‏.‏

 خلافة محمد المنتصر بن المتوكل

قد تقدم أنه تمالأ هو وجماعة من الأمراء على قتل أبيه، وحين قتل بويع له بالخلافة في الليل، فلما كان الصباح من يوم الأربعاء رابع شوال أخذت له البيعة من العامة، وبعث إلى أخيه المعتز فأحضره إليه فبايعه المعتز، وقد كان المعتز هو ولي العهد من بعد أبيه، ولكنه أكرهه وخاف فسلم وبايع، فلما أخذت البيعة له كان أول ما تكلم به أنه اتهم الفتح بن خاقان على قتل أبيه، وقتل الفتح أيضاً، ثم بعث البيع له إلى الآفاق‏.‏

وفي ثاني يوم من خلافته‏:‏ ولى المظالم لأبي عمرة أحمد بن سعيد، مولى بني هاشم فقال الشاعر‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/389‏)‏

يا ضيعة الإسلام لماَّ ولي * مظالم الناس أبو عمره

صيِّر مأموناً على أمة * وليس مأموناً على بعره

وكانت البيعة له بالمتوكلية، وهي المأحوزة، فأقام بها عشرة أيام، ثم تحول هو وجميع قواده وحشمه منها إلى سامرا‏.‏

وفيها‏:‏ في ذي الحجة أخرج المنتصر عمه علي بن المعتصم من سامرا إلى بغداد، ووكل به‏.‏

وحج بالناس محمد بن سليمان الزينبي‏.‏

 وفيها‏:‏ توفي من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن سعيد الجوهري، وسفيان بن وكيع بن الجراح، وسلمة بن شبيب‏.‏

وأبو عثمان المازني النحوي

واسمه‏:‏ بكر بن محمد بن عثمان البصري، شيخ النحاة في زمانه‏.‏

أخذه عن‏:‏ أبي عبيدة والأصمعي، وأبي زيد الأنصاري، وغيرهم‏.‏

وأخذ عنه‏:‏ أبو العباس المبرد وأكثر عنه‏.‏

وللمازني مصنفات كثيرة في هذا الشأن، وكان شبيهاً بالفقهاء ورعاً زاهداً ثقةً مأموناً‏.‏

روى عنه المبرد‏:‏ أن رجلاً من أهل الذمة طلب منه أن يقرأ عليه كتاب سيبويه ويعطيه مائة دينار، فامتنع من ذلك‏.‏

فلامه بعض الناس في ذلك فقال‏:‏ إنما تركت أخذ الأجرة عليه لما فيه من آيات الله تعالى‏.‏

فاتفق بعد هذا أن جارية غنت بحضرة الواثق‏:‏

أظلوم إن مصابكم رجلاً * رد السلام تحية ظلم

فاختلف من بحضرة الواثق في إعراب هذا البيت، وهل يكون رجلاً مرفوعاً أو منصوباً، وبم نصب‏؟‏ أهو اسم أو ماذا ‏؟‏

وأصرت الجارية على أن المازني حفظها هذا هكذا‏.‏

قال‏:‏ فأرسل الخليفة إليه، فلما مثل بين يديه قال له‏:‏ أنت المازني ‏؟‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

قال‏:‏ من مازن تميم، أم من مازن ربيعة، أم مازن قيس ‏؟‏

فقلت‏:‏ من مازن ربيعة‏.‏

فأخذ يكلمني بلغتي، فقال‏:‏ باسمك ‏؟‏

وهم يقلبون الباء ميماً والميم باء، فكرهت أن أقول مكر فقلت‏:‏ بكر‏.‏

فأعجبه إعراضي عن المكر إلى البكر، وعرف ما أردت‏.‏

فقال‏:‏ على م انتصب رجلاً ‏؟‏

فقلت‏:‏ لأنه معمول المصدر بمصابكم‏.‏

فأخذ اليزيدي يعارضه فعلاه المازني بالحجة، فأطلق له الخليفة ألف دينار، ورده إلى أهله مكرماً‏.‏

فعوضه الله عن المائة الدينار - لما تركها لله سبحانه ولم يمكن الذمي من قراءة الكتاب لأجل ما فيه من القرآن - ألف دينار عشرة أمثالها‏.‏

روى المبرد عنه، قال‏:‏ أقرأت رجلاً كتاب سيبويه إلى آخره، فلما انتهى إلى آخره، قال لي‏:‏ أما أنت أيها الشيخ فجزاك الله خيراً، وأما أنا فوالله ما فهمت منه حرفاً‏.‏

توفي المازني في هذه السنة، وقيل‏:‏ في سنة ثمان وأربعين‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/390‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان وأربعين ومائتين

فيها‏:‏ أغزى المنتصر وصيفاً التركي الصائفة لقتال الروم، وذلك أن ملك الروم قصد بلاد الشام، فعند ذلك جهز المنتصر وصيفاً، وجهز معه نفقات وعدداً كثيرةً، وأمره إذا فرغ من قتال الروم أن يقيم بالثغر أربع سنين، وكتب له إلى محمد بن عبد الله بن طاهر نائب العراق كتاباً عظيماً فيه آيات كثيرة في التحريض للناس على القتال والترغيب فيه‏.‏

وفي ليلة السبت لسبع بقين من صفر‏:‏ خلع أبو عبد الله المعتز والمؤيد إبراهيم أنفسهما من الخلافة، وأشهدا عليهما بذلك، وأنهما عاجزان عن الخلافة، والمسلمين في حلٍّ من بيعتهما، وذلك بعد ما تهددهما أخوهما المنتصر وتوعدهما بالقتل إن لم يفعلا ذلك، ومقصوده تولية ابنه عبد الوهاب بإشارة أمراء الأتراك بذلك‏.‏

وخطب بذلك على رؤوس الأشهاد بحضرة القواد والقضاة وأعيان الناس والعوام، وكتب بذلك إلى الآفاق ليعلموا بذلك، ويخطبوا له بذلك على المنابر، ويتوالى على محال الكتابة، والله غالب على أمره، فأراد أن يسلبهما الملك، ويجعله في ولده، والأقدار تكذبه وتخالفه، وذلك أنه لم يستكمل بعد قتل أبيه سوى ستة أشهر، ففي أواخر صفر من هذه السنة عرضت له علة كان فيها حتفه، وقد كان المنتصر رأى في منامه كأنه يصعد سلماً فبلغ إلى آخر خمس وعشرين درجة‏.‏

فقصها على بعض المعبرين فقال‏:‏ تلي خمساً وعشرين سنة الخلافة، وإذا هي مدة عمره قد استكملها في هذه السنة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ دخلنا عليه يوماً فإذا هو يبكي وينتحب شديداً، فسأله بعض أصحابه عن بكائه فقال‏:‏ رأيت أبي المتوكل في منامي هذا وهو يقول‏:‏ ويلك يا محمد ‏!‏ قتلتني وظلمتني وغصبتني خلافتي، والله لا أمتعت بها بعدي إلا أياماً يسيرة ثم مصيرك إلى النار‏.‏

قال‏:‏ فما أملك عيني ولا جزعي‏.‏

فقال له أصحابه من الغرارين الذين يغرون الناس ويفتنونهم‏:‏ هذه رؤيا، وهي تصدق وتكذب، قم بنا إلى الشراب ليذهب همك وحزنك‏.‏

فأمر بالشراب فأحضر، وجاء ندماؤه فأخذ في الخمر وهو منكسر الهمة، وما زال كذلك مكسوراً حتى مات‏.‏

وقد اختلفوا في علته التي كان فيها هلاكه، فقيل‏:‏ داء في رأسه فقطر في أذنه دهن فلما وصل إلى دماغه عوجل بالموت‏.‏

وقيل‏:‏ بل ورمت معدته فانتهى الورم إلى قلبه فمات‏.‏

وقيل‏:‏ بل أصابته ذبحة فاستمرت به عشرة أيام فمات‏.‏

وقيل‏:‏ بل فصده الحجام بمفصد مسموم فمات من يومه‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ أخبرني بعض أصحابنا أن هذا الحجام رجع إلى منزله وهو محموم فدعا تلميذاً له حتى يفصده فأخذ مبضع أستاذه ففصده به، وهو لا يشعر وأنسى الله سبحانه الحجام، فما ذكر حتى رآه قد فصده به، وتحكم فيه السم، فأوصى عند ذلك ومات من يومه‏.‏

وذكر ابن جرير أن أم الخليفة دخلت عليه وهو في مرضه الذي مات فيه فقالت له‏:‏ كيف حالك ‏؟‏

فقال‏:‏ ذهبت مني الدنيا والآخرة‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أنشد لما أحيط به وأيس من الحياة‏:‏

فما فرحت نفسي بدنيا أصبتها * ولكن إلى الرب الكريم أصير

فمات يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر من هذه السنة، وقت صلاة العصر، عن خمس وعشرين سنة، قيل‏:‏ وستة أشهر‏.‏

ولا خلاف أنه إنما مكث بالخلافة ستة أشهر لا أزيد منها‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/391‏)‏

وذكر ابن جرير عن بعض أصحابه‏:‏ أنه لم يزل يسمع الناس يقولون - العامة وغيرهم حين ولي المنتصر -‏:‏ إنه لا يمكث في الخلافة سوى ستة أشهر، وذلك مدة خلافة من قتل أباه لأجلها، كما مكث شيرويه بن كسرى حين قتل أباه لأجل الملك‏.‏

وكذلك وقع، وقد كان المنتصر أعين أقنى قصيراً مهيباً جيد البدن، وهو أول خليفة من بنى العباس أبرز قبره بإشارة أمه حبشية الرومية‏.‏

ومن جيد كلامه قوله‏:‏ والله ما عز ذو باطل قط، ولو طلع القمر من جبينه، ولا ذل ذو حق قط ولو أصفق العالم عليه‏.‏

بحمد الله تعالى قد تم طبع الجزء العاشر من البداية والنهاية ويليه الجزء الحادي عشر، وأوله خلافة أحمد المستعين بالله‏.‏ والله نسأل المعونة والتوفيق‏.‏