فصل: سنة ست وتسعين ومائتين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة ثنتين وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ دخل محمد بن سليمان في نحو عشرة آلاف مقاتل من جهة الخليفة المكتفي إلى الديار المصرية لقتال هارون بن خمارويه، فبرز إليه هارون فاقتتلا فقهره محمد بن سليمان، وجمع آل طولون وكانوا سبعة عشر رجلاً فقتلهم واستحوذ على أموالهم وأملاكهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 112‏)‏

وانقضت دولة الطولونية على الديار المصرية، وكتب بالفتح إلى المكتفي‏.‏

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي، القائم بأمر الحجاج في السنين المتقدمة‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي

أحد المشايخ المعمرين، كان يحضر مجلسه خمسون ألفاً ممن معه محبرة سوى النظارة، ويستملي عليه سبعة مستملين كل يبلغ صاحبه، ويكتب بعض الناس وهم قيام، وكان كلما حدث بعشرة آلاف حديث تصدق بصدقة، ولما فرغ من قراءة السنن عليه عمل مأدبة غرم عليها ألف دينار، وقال‏:‏ شهدت اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلت شهادتي وحدي، أفلا أعمل شكراً لله عز وجل‏؟‏

وروى ابن الجوزي والخطيب عن أبي مسلم الكجي قال‏:‏ خرجت ذات ليلة من المنزل، فمررت بحمام وعلي جنابة فدخلته فقلت للحمّامي‏:‏ أدخل حمامك أحد بعد‏؟‏

فقال‏:‏ لا‏.‏

فدخلت فلما فتحت باب الحمام الداخل إذا قائل يقول‏:‏ أبا مسلم أسلم تسلم‏.‏

ثم أنشأ يقول‏:‏

لك الحمد إما على نعمة * وإما على نقمة تدفع

تشاء فتفعل ما شئته * وتسمع من حيث لا يسمع

قال‏:‏ فبادرت فخرجت فقلت للحمامي‏:‏ أنت زعمت أنه لم يدخل حمامك أحد‏.‏

فقال‏:‏ نعم ‏!‏ وما ذاك‏؟‏

فقلت‏:‏ إني سمعت قائلاً يقول كذا وكذا‏.‏

قال‏:‏ وسمعته‏؟‏

قلت‏:‏ نعم‏.‏

فقال‏:‏ يا سيدي هذا رجل من الجان يتبدى لنا في بعض الأحيان فينشد الأشعار ويتكلم بكلام حسن فيه مواعظ‏.‏

فقلت‏:‏ هل حفظت من شعره شيئاً‏؟‏

فقال‏:‏ نعم‏.‏

ثم أنشدني من شعره فقال هذه الأبيات‏:‏

أيها المذنب المفرط مهلاً * كم تمادى تكسب الذنب جهلا

كم وكم تسخط الجليل بفعل * سمج وهو يحسن الصنع فعلا

كيف تهدا جفون من ليس يدري * أرضيَ عنه من على العرش أم لا

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء ومن أئمة العلماء، ورعاً نزهاً كثير الصيانة والديانة والأمانة‏.‏

وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم آثارا حسنة وأفعالاً جميلة رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 113‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ التف على أخي الحسين القرمطي المعروف بذي الشامة الذي قتل في التي قبلها خلائق من القرامطة بطريق الفرات، فعاث بهم في الأرض فساداً، ثم قصد طبرية فامتنعوا منه فدخلها قهراً، فقتل بها خلقاً كثيراً من الرجال، وأخذ شيئاً كثيراً من الأموال، ثم كرّ راجعاً إلى البادية، ودخلت فرقة أخرى منهم إلى هيت فقتلوا أهلها إلا القليل، وأخذوا منها أموالاً جزيلة حملوها على ثلاثة آلاف بعير، فبعث إليهم المكتفي جيشاً فقاتلوهم وأخذوا رئيسهم فضربت عنقه‏.‏

ونبغ رجل من القرامطة يقال له‏:‏ الداعية باليمن، فحاصر صنعاء فدخلها قهراً، وقتل خلقاً من أهلها، ثم سار إلى بقية مدن اليمن فأكثر الفساد وقتل خلقاً من العباد، ثم قاتله أهل صنعاء فظفروا به وهزموه، فأغار على بعض مدنها، وبعث الخليفة إليها مظفر بن حجاج نائباً، فسار إليها فلم يزل بها حتى مات‏.‏

وفي يوم عيد الأضحى دخلت طائفة من القرامطة إلى الكوفة فنادوا‏:‏ يا ثارات الحسين - يعنون المصلوب في التي قبلها ببغداد - وشعارهم‏:‏ يا أحمد يا محمد - يعنون الذين قتلوا معه - فبادر الناس الدخول من المصلى إلى الكوفة فدخلوا خلفهم فرمتهم العامة بالحجارة فقتلوا منهم نحو العشرين رجلاً، ورجع الباقون خاسئين‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر رجل بمصر يقال له‏:‏ الخليجي، فخلع الطاعة واجتمع إليه طائفة من الجند، فأمر الخليفة أحمد بن كنغلغ نائب دمشق وأعمالها فركب إليه فاقتتلا بظاهر مصر فهزمه الخليجي هزيمة منكرة، فبعث إليه الخليفة جيشاً آخر فهزموا الخليجي وأخذوه، فسلم إلى الأمير الخليفة وانطفأ خبره، واشتغل الجيش بأمر الديار المصرية، فبعث القرامطة جيشاً إلى بصرى صحبة رجل يقال له‏:‏ عبد الله بن سعيد، كان يعلم الصبيان، فقصد بصرى وأذرعات والبثنية فحاربه أهلها ثم أمنهم فلما أن تمكن منهم قتل المقاتلة وسبى الذرية، ورام الدخول إلى دمشق فحاربه نائب دمشق أحمد بن كنغلغ، وهو صالح بن الفضل، فهزمه القرمطي وقتل صالح فيمن قتل وحاصر دمشق فلم يمكنه فتحها، فانصرف إلى طبرية فقتلوا أكثر أهلها ونهبوا منها شيئاً كثيراً كما ذكرنا‏.‏

ثم ساروا إلى هيت ففعلوا بها ذلك كما تقدم، ثم ساروا إلى الكوفة في يوم عيد الأضحى كما ذكرنا‏.‏

كل ذلك بإشارة زكرويه بن مهرويه وهو مختف في بلده بين ظهراني قوم من القرامطة، فإذا جاءه الطلب نزل بئراً قد اتخذها ليختفي فيها، وعلى بابه تنور فتقوم امرأة فتسجره وتخبز فيه فلا يشعر به أصلاً، ولا يدري أحد أين هو، فبعث الخليفة إليه جيشاً فقاتلهم زكرويه بنفسه ومن أطاعه فهزم جيش الخليفة، وغنم من أموالهم شيئاً كثيراً جداً فتقوى به، واشتد أمره، فندب الخليفة إليه جيشاً آخر كثيفاً فكان من أمره وأمرهم ما سنذكره‏.‏

وفيها‏:‏ خرب إسماعيل بن أحمد الساماني نائب خراسان وما وراء النهر طائفة كبيرة من بلاد الأتراك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/114‏)‏

وفيها‏:‏ أغارت الروم على بعض أعمال حلب، فقتلوا ونهبوا وسبوا‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أبو العباس الناشي الشاعر

واسمه عبد الله بن محمد أبو العباس المعتزلي، أصله من الأنبار وأقام ببغداد مدة ثم انتقل إلى مصر فمات بها، وكان جيد الذهن يعاكس الشعراء ويرد على المنطقيين والفروضيين، وكان شاعراً مطيقاً إلا أنه كان فيه هوس، وله قصيدة حسنة في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرناها في السيرة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان عالماً في عدة علوم، من جملتها علم المنطق، وله قصيدة في فنون من العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وله عدة تصانيف وأشعار كثيرة‏.‏

عبيد بن محمد بن خلف أبو محمد البزار أحد الفقهاء من أصحاب أبي ثور، وكان عنده فقه أبي ثور، وكان من الثقات النبلاء‏.‏

نصر بن أحمد بن عبد العزيز أبو محمد الكندي الحافظ المعروف بنصرك، كان أحد حفاظ الحديث المشهورين، وكان الأمير خالد بن أحمد الذهلي نائب بخارى قد ضمه إليه وصنف له المسند‏.‏

توفي ببخارى في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وتسعين ومائتين

في المحرم من هذه السنة اعترض زكرويه في أصحابه إلى الحجاج من أهل خراسان وهم قافلون من مكة فقتلهم عن آخرهم، وأخذ أموالهم وسبى نساءهم فكان قيمة ما أخذه منهم ألفي ألف دينار، وعدة من قتل عشرين ألف إنسان، وكانت نساء القرامطة يطفن بين القتلى من الحجاج وفي أيديهم الآنية من الماء يزعمن أنهن يسقين الجريح العطشان، فمن كلمهن من الجرحى قتلنه وأجهزن عليه، لعنهن الله ولعن أزواجهن‏.‏

ذكر مقتل زكرويه لعنه الله

لما بلغ الخليفة خبر الحجيج وما أوقع بهم الخبيث، جهز إليه جيشاً كثيفاً، فالتقوا معه فاقتتلوا قتالاً شديداً جداً، قتل من القرامطة خلق كثير ولم يبق منهم إلا القليل، وذلك في أول ربيع الأول منها‏.‏

وضرب رجل زكرويه بالسيف في رأسه فوصلت الضربة إلى دماغه، وأخذ أسيراً فمات بعد خمسة أيام، فشقوا بطنه وصّبروه وحملوه في جماعة من رؤوس أصحابه إلى بغداد، واحتوى عسكر الخليفة على ما كان بأيدي القرامطة من الأموال والحواصل، وأمر الخليفة بقتل أصحاب القرمطي وأن يطاف برأسه في سائر بلاد خراسان، لئلا يمتنع الناس عن الحج‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 115‏)‏

وأطلق من كان بأيدي القرامطة من النساء والصبيان الذين أسروهم‏.‏

وفيها‏:‏ غزا أحمد بن كنغلغ نائب دمشق بلاد الروم من ناحية طرسوس، فقتل منهم نحواً من أربعة آلاف، وأسر من ذراريهم نحواً من خمسين ألفاً، وأسلم بعض البطارقة وصحبته ونحو من مائتي أسير كانوا في حبسه من المسلمين، فأرسل ملك الروم جيشاً في طلب ذلك البطريق، فركب في جماعة من المسلمين فكبس جيش الروم فقتل منهم مقتلة عظيمة وغنم غنيمة كثيرة جداً، ولما قدم على الخليفة أكرمه وأحسن إليه وأعطاه ما تمناه عليه‏.‏

وفيها‏:‏ ظهر بالشام رجل فادعى أنه السفياني، فأخذ وبعث به إلى بغداد فادعى أنه موسوس فترك‏.‏

وحج بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمي‏.‏

وفيها توفي من الأعيان‏:‏ الحسين بن محمد بن حاتم بن يزيد بن علي بن مروان أبو علي، المعروف بعبيد العجلي، كان حافظاً مكثراً متقناً مقدماً في حفظ المسندات، توفي في صفر منها‏.‏

صالح بن محمد بن عمرو بن حبيب أبو علي الأسدي - أسد خزيمة - المعروف بجزرة لأنه قرأ على بعض المشايخ كانت له خرزة يرقأ بها المريض، فقرأها هو جزرة تصحيفاً منه فغلب عليه ذلك فلقب به، وقد كان حافظاً مكثراً جوّالاً رحالاً طاف الشام ومصر وخراسان، وسكن بغداد ثم انتقل منها إلى بخارى فسكنها، وكان ثقة صدوقاً أميناً، وله رواية كثيرة عن يحيى بن معين وسؤالات كثيرة، كان مولده بالرقة سنة عشر ومائتين‏.‏

وتوفي في هذه السنة‏:‏ محمد بن عيسى بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس المعروف بالبياضي لأنه حضر مجلس الخليفة وعليه ثياب البياض، فقال الخليفة‏:‏ من ذاك البياضي‏؟‏

فعُرف به‏.‏

وكان ثقة روى عن ابن الأنباري وابن مقسم‏.‏

قتله القرامطة في هذه السنة‏.‏

محمد بن الإمام إسحاق بن راهويه، سمع أباه وأحمد بن حنبل وغيرهما، وكان عالماً بالفقه والحديث، جميل الطريقة حميد السيرة قتلته القرامطة في هذه السنة في جملة من قتلوا من الحجيج‏.‏

محمد بن نصر أبو عبد الله المروزي

ولد ببغداد ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند، وكان من أعلم الناس باختلاف الصحابة والتابعين فمن بعدهم من أئمة الإسلام، وكان عالماً بالأحكام، وقد رحل إلى الآفاق وسمع من المشايخ الكثير النافع وصنف الكتب المفيدة الحافلة النافعة، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 116‏)‏ وكان من أحسن الناس صلاة وأكثرهم خشوعاً فيها، وقد صنف كتاباً عظيماً في الصلاة‏.‏

وقد روى الخطيب عنه أنه قال‏:‏ خرجت من مصر قاصداً مكة، فركبت البحر ومعي جارية فغرقت السفينة فذهب لي في الماء ألفا جزء وسلمت أنا والجارية فلجأنا إلى جزيرة فطلبنا بها ماء فلم نجد، فوضعت رأسي على فخذ الجارية ويئست من الحياة، فبينا أنا كذلك إذا رجل قد أقبل وفي يده كوز فقال‏:‏ هاه، فأخذته فشربت منه وسقيت الجارية ثم ذهب فلم أدر من أين أقبل ولا إلى أين ذهب‏.‏

ثم إن الله سبحانه أغاثنا فنجانا من ذلك الغم‏.‏

وقد كان من أكرم الناس وأسخاهم نفساً‏.‏

وكان إسماعيل بن أحمد يصله في كل سنة بأربعة آلاف، ويصله أخوه إسحاق بن أحمد بأربعة آلاف، ويصله أهل سمرقند بأربعة آلاف فينفق ذلك كله، فقيل له‏:‏ لو ادخرت شيئاً لنائبة‏.‏

فقال‏:‏ سبحان الله أنا كنت بمصر أنفق فيها في كل سنة عشرين درهماً فرأيت إذا لم يحصل لي شيء من هذا المال لا يتهيأ لي في السنة عشرون درهماً‏.‏

وكان محمد بن نصر المروزي إذا دخل على إسماعيل بن أحمد الساماني ينهض له ويكرمه، فعاتبه يوماً أخوه إسحاق، فقال له‏:‏ تقوم لرجل في مجلس حكمك، وأنت ملك خراسان‏؟‏

قال إسماعيل‏:‏ فبت تلك الليلة وأنا مشتت القلب من قول أخي - وكانوا هم ملوك خراسان وما وراء النهر - قال‏:‏ فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو يقول‏:‏ يا إسماعيل ثبت ملكك وملك بنيك بتعظيمك محمد بن نصر، وذهب ملك أخيك باستخفافه بمحمد بن نصر‏.‏ وقد اجتمع بالديار المصرية محمد بن نصر‏.‏

ومحمد بن جرير الطبري‏.‏

ومحمد بن المنذر، فجلسوا في بيت يكتبون الحديث ولم يكن عندهم في ذلك اليوم شيء يقتاتونه، فاقترعوا فيما بينهم أيهم يخرج يسعى لهم في شيء يأكلونه، فوقعت القرعة على محمد بن نصر هذا، فقام إلى الصلاة فجعل يصلي ويدعو الله عز وجل، وذلك وقت القائلة، فرأى نائب مصر - وهو طولون وقيل‏:‏ أحمد بن طولون - في منامه في ذلك الوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له‏:‏

أدرك المحدثين فإنهم ليس عندهم ما يقتاتونه‏.‏

فانتبه من ساعته فسأل من‏:‏ ها هنا من المحدثين‏؟‏

فذكر له هؤلاء الثلاثة، فأرسل إليهم في الساعة الراهنة بألف دينار، فدخل الرسول بها عليهم وأزال الله ضررهم ويسر أمرهم‏.‏

واشترى طولون تلك الدار وبناها مسجداً وجعلها على أهل الحديث، وأوقف عليها أوقافاً جزيلة‏.‏

وقد بلغ محمد بن نصر سناً عالية وكان يسأل الله ولداً فأتاه يوماً إنسان فبشره بولد ذكر، فرفع يديه فحمد الله وأثنى عليه وقال‏:‏ الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل، فاستفاد الحاضرون من ذلك عدة فوائد‏:‏ منها أنه قد ولد له على الكبر ولد ذكر بعد ما كان يسأل الله عز وجل، ومنها أنه سمي يوم مولده كما سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولده إبراهيم يوم مولده قبل السابع، ومنها اقتداؤه بالخليل أول ولد له إسماعيل‏.‏

موسى بن هارون بن عبد الله أبو عمران المعروف والده بالحمال، ولد سنة أربع عشرة ومائتين، وسمع أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما، وكان إمام عصره في حفظ الحديث ومعرفة الرجال، وكان ثقة متقناً شديد الورع عظيم الهيبة، قال عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري‏:‏ كان أحسن الناس كلاماً على الحديث، أثنى عليه علي بن المديني ثم موسى بن هارون ثم الدارقطني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 117‏)‏

 ثم دخلت سنة خمس وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ كانت المفاداة بين المسلمين والروم، وكان من جملة من استنقذ من أيدي الروم من نساء ورجال نحواً من ثلاثة آلاف نسمة، وفي المنتصف من صفر منها كانت وفاة إسماعيل بن أحمد الساماني أمير خراسان وما وراء النهر، وقد كان عاقلاً عادلاً حسن السيرة في رعيته حليماً كريماً‏.‏

وهو الذي كان يحسن إلى محمد بن نصر المروزي ويعظمه ويكرمه ويحترمه ويقوم له في مجلس ملكه، فلما مات تولى بعده ولده أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني وبعث إليه الخليفة تشريفة‏.‏

وقد ذكر الناس يوماً عند إسماعيل بن أحمد هذا الفخر بالأنساب فقال‏:‏ إنما الفخر بالأعمال وينبغي أن يكون الإنسان عصامياً لا عظامياً - أي ينبغي أن يفتخر بنفسه لا بنسبه وبلده وجده - كما قال بعضهم‏:‏ ‏(‏وبجدِّي سموت لا بجدودي‏)‏‏.‏

وقال آخر‏:‏

حسبي فخاراً وشيمتي أدبي * ولست من هاشم ولا العرب

إنّ الفتى من يقولُ ها أنا ذا * وليس الفتى من يقولُ كانَ أبي

وفي ذي القعدة منها كانت وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد‏.‏

وفاة الخليفة المكتفي بالله أبو محمد ابن المعتضد

وهذه ترجمته وذكر وفاته، وهو أمير المؤمنين المكتفي بالله بن المعتضد بن الأمير أبي أحمد الموفق بن المتوكل على الله، وقد ذكرنا أنه ليس من الخلفاء من اسمه علي سواه بعد علي بن أبي طالب، وليس من الخلفاء من يكنى بأبي محمد سوى الحسن بن علي بن أبي طالب وهو، وكان مولده في رجب سنة أربع وستين ومائتين، وبويع له بالخلافة بعد أبيه وفي حياته يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وعمره نحواً من خمس وعشرين سنة، وكان ربعة من الرجال جميلاً رقيق الوجه حسن الشعر، وافر اللحية عريضها‏.‏

ولما مات أبوه المعتضد وولي هو الخلافة دخل عليه بعض الشعراء فأنشده‏:‏

أجلُ الرزايا أن يموتَ إمام * وأسنى العطايا أن يقومَ إمامُ

فأسقى الذي مات الغمام وجوده * ودامت تحيات له وسلامُ‏.‏

وأبقى الذي قامَ الآله وزاده * مواهبُ لا يفنى لهنَّ دوام

وتمت له الآمالُ واتصلت بها * فوائد موصول بهنَّ تمتم

هو المكتفي بالله يكفيه كلما * عناهُ بركنٍ منه ليسَ برام

‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 118‏)‏ فأمر له بجائزة سنية وقد كان يقول الشعر، فمن ذلك قوله‏:‏

من لي بأن أعلم ما ألقى * فتعرف مني الصبابة والعشقا

ما زال لي عبداً وحبي له * صيرني عبداً له رقا

العتق من شأني ولكنني * من حبِّه لا أملكُ العتقا

وكان نقش خاتمه‏:‏ علي المتوكل على ربه‏.‏

وكان له من الولد محمد وجعفر وعبد الصمد وموسى و عبد الله وهارون والفضل وعيسى والعباس وعبد الملك‏.‏

وفي أيامه فتحت أنطاكية وكان فيها من أسارى المسلمين بشر كثير وجم غفير، ولما حضرته الوفاة سأل عن أخيه أبي الفضل جعفر بن المعتضد وقد صح عنده أنه بالغ، فأحضره في يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة منها وأحضر القضاة وأشهدهم على نفسه بأنه قد فوض أمر الخلافة إليه من بعده، ولقبه بالمقتدر بالله‏.‏

وتوفي بعد ثلاثة أيام وقيل‏:‏ آخر يوم السبت بعد المغرب، وقيل‏:‏ بين الظهر والعصر، لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة، ودفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر، عن ثنتين وقيل‏:‏ ثلاث وثلاثين سنة، وكانت خلافته ست سنين وستة أشهر وتسعة عشر يوماً‏.‏

وأوصى بصدقة من خالص ماله ستمائة ألف دينار، وكان قد جمعها وهو صغير، وكان مرضه بداء الخنازير رحمه الله‏.‏

 خلافة المقتدر بالله أبي الفضل جعفر بن المعتضد

جددت له البيعة بعد موت أخيه وقت السحر لأربع عشرة ليلة خلت من ذي القعدة من هذه السنة - أعني سنة خمس وتسعين ومائتين - وعمره إذ ذاك ثلاث عشرة سنة وشهر واحد وإحدى وعشرون يوماً، ولم يل الخلافة أحد قبله أصغر منه، ولما جلس في منصب الخلافة صلى أربع ركعات ثم سلم ورفع صوته بالدعاء والاستخارة، ثم بايعه الناس بيعة العامة، وكتب اسمه على الرقوم وغيرها‏:‏ المقتدر بالله، وكان في بيت مال الخاصة خمسة عشر ألف ألف دينار، وفي بيت مال العامة ستمائة ألف دينار ونيف، وكانت الجواهر الثمينة في الحواصل من لدن بني أمية وأيام بني العباس قد تناهى جمعها، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 119‏)‏ فما زال يفرقها في حظاياه وأصحابه حتى أنفذها، وهذا حال الصبيان وسفهاء الولاة، وقد استوزر جماعة من الكتاب يكثر تعدادهم، منهم أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات، ولاّه ثم عزله بغيره، ثم أعاده ثم عزله ثم قتله، وقد استقصى ذكرهم ابن الجوزي‏.‏

وكان له من الخدم والحشمة التامة والحجّاب شيء كثير جداً، وكان كريماً وفيه عبادة مع هذا كله كان كثير الصلاة كثير الصيام تطوعاً، وفي يوم عرفة في أول ولايته فرق من الأغنام والأبقار ثلاثين ألف رأس، ومن الإبل ألفي بعير، وردّ الرسوم والأرزاق والكلف إلى ما كانت عليه في زمن الأوائل من بني العباس، وأطلق أهل الحبوس الذين يجوز إطلاقهم، فوكل أمر ذلك إلى القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، وكان قد بنيت له أبنية في الرحبة صرف عليها في كل شهر ألف دينار، فأمر بهدمها ليوسع على المسلمين الطرقات، وسيأتي ذكر شيء من أيامه في ترجمته‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 أبو إسحاق المزكي

إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سختويه بن عبد الله أبو إسحاق المزكي، الحافظ الزاهد، إمام أهل عصره بنيسابور في معرفة الحديث والرجال والعلل، وقد سمع خلقاً من المشايخ الكبار، ودخل على الإمام أحمد وذاكره، وكان مجلسه مهيباً ويقال‏:‏ إنه كان مجاب الدعوة، وكان لا يملك الإداره التي يسكنها وحانوتاً يستغله كل شهر سبعة عشر درهماً ينفقها على نفسه وعياله، وكان لا يقبل من أحد شيئاً، وكان يطبخ له الجزر بالخل فيأتدم به طول الشتاء، وقد قال أبو علي الحسين بن علي الحافظ‏:‏ لم ترَ عيناي مثله‏.‏

 أبو الحسين النوري أحد أئمة الصوفية

اسمه أحمد بن محمد، ويقال‏:‏ محمد بن محمد، والأول أصح ويعرف بابن البغوي، أصله من خراسان وحدّث عن سرى السقطي ثم صار هو من أكابر أئمة القوم، قال أبو أحمد المغازلي‏:‏ ما رأيت أحداً قط أعبد من أبي الحسين النوري، قيل له‏:‏ ولا الجنيد‏؟‏

قال‏:‏ ولا الجنيد ولا غيره‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 120‏)‏

وقال غيره‏:‏ صام عشرين سنة لا يعلم به أحد لا من أهله ولا من غيره‏.‏

وتوفي في مسجد وهو مقنّع فلم يعلم به أحد إلا بعد أربعة أيام‏.‏

 إسماعيل بن أحمد بن سامان

أحد ملوك خراسان وهو الذي قتل عمرو بن الليث الصفار الخارجي، وكتب بذلك إلى المعتضد فولاّه خراسان ثم ولاّه المكتفي الري وما وراء النهر وبلاد الترك، وقد غزا بلادهم وأوقع بهم بأساً شديداً، وبنى الربط في الطرقات يسع الرباط منها ألف فارس، وأوقف عليهم أوقافاً جزيلة، وقد أهدى إليه طاهر بن محمد بن عمرو بن الليث هدايا جزيلة منها ثلاث عشرة جوهرة زنة كل جوهرة منها ما بين السبع مثاقيل إلى العشرة، وبعضها أحمر وبعضها أزرق قيمتها مائة ألف دينار، فبعث بها إلى الخليفة المعتضد وشفع في طاهر فشفعه فيه‏.‏

ولما مات إسماعيل بن أحمد وبلغ المكتفي موته تمثّل بقول أبي نواس‏:‏

لن يخلفَ الدهر مثلهم أبداً * هيهاتِ هيهاتِ شأنهُ عجبُ

 المعمري الحافظ

صاحب عمل اليوم والليلة، وهو الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري الحافظ، رحل وسمع من الشيوخ وأدرك خلقاً منهم علي بن المديني ويحيى بن معين، وعنه ابن صاعد والنجاد والجلدي، وكان من بحور العلم وحفاظ الحديث، صدوقاً ثبتاً، وقد كان يشبك أسنانه بالذهب من الكبر، لأنه جاوز الثمانين، وكان يكنى أولاً بأبي القاسم، ثم بأبي علي، وقد ولي القضاء للبرتي على القصر وأعمالها وإنما قيل له المعمري بأمه أم الحسن بنت أبي سفيان صاحب معمر بن راشد‏.‏

وقد صنف المعمري كتاباً جيداً في عمل يوم وليلة، واسمه الحسن بن علي بن شبيب أبو علي المعمري، توفي ليلة الجمعة لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم‏.‏

عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب واسم أبي شعيب عبد الله بن مسلم أبو شعيب الأموي الحرَّاني المؤدب المحدث ابن المحدث، تولد سنة ست وثمانين ومائتين، سمع أباه وجده وعفان بن مسلم وأبا خيثمة، كان صدوقاً ثقة مأموناً، توفي في ذي الحجة منها‏.‏

علي بن أحمد المكتفي بالله تقدم ذكره‏.‏

أبو جعفر الترمذي محمد بن محمد بن نصر أبو جعفر الترمذي الفقيه الشافعي، كان من أهل العلم والزهد، ووثقه الدارقطني، كان مأموناً ناسكاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 121‏)‏

وقال القاضي أحمد بن كامل‏:‏ لم يكن لأصحاب الشافعي بالعراق أرأس منه، ولا أورع‏:‏ كان متقللاً في المطعم على حالة عظيمة فقراً وورعاً وصبراً، وكان ينفق في كل شهر أربعة دراهم، وكان لا يسأل أحداً شيئاً، وكان قد اختلط في آخر عمره، توفي في المحرم منها‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وتسعين ومائتين

في ربيع الأول منها اجتمع جماعة من القواد والجند والأمراء على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز الخلافة، فأجابهم على أنه لا يُسفك بسببه دم، وكان المقتدر قد خرج يلعب بالصولجان فقصد إليه الحسين بن حمدان يريد أن يفتك به، فلما سمع المقتدر الصيحة بادر إلى دار الخلافة فأغلقها دون الجيش، واجتمع الأمراء والأعيان والقضاة في دار المخرمي، فبايعوا عبد الله بن المعتز، وخوطب بالخلافة ولقب بالمرتضى بالله‏.‏

وقال الصولي‏:‏ إنما لقبوه المنتصف بالله، واستوزر أبا عبيد الله محمد بن داود، وبعث إلى المقتدر يأمره بالتحول من دار الخلافة إلى دار ابن طاهر لينتقل إليها، فأجابه بالسمع والطاعة، فركب الحسين بن حمدان من الغد إلى دار الخلافة ليتسلمها، فقاتله الخدم ومن فيها، ولم يسلموها إليه، وهزموه فلم يقدر على تخليص أهله وماله إلا بالجهد‏.‏

ثم ارتحل من فوره إلى الموصل، وتفرق نظام ابن المعتز وجماعته فأراد ابن المعتز أن يتحول إلى سامرا لينزلها، فلم يتبعه أحد من الأمراء، فدخل دار ابن الجصاص فاستجار به فأجاره، ووقع النهب في البلد واختبط الناس وبعث المقتدر إلى أصحاب ابن المعتز فقبض عليهم وقتل أكثرهم وأعاد ابن الفرات إلى الوزارة، فجدد البيعة إلى المقتدر، وأرسل إلى دار ابن الجصاص فتسلمها‏.‏

وأحضر ابن المعتز وابن الجصاص فصادر ابن الجصاص بمال جزيل جداً، نحو ستة عشر ألف ألف درهم ثم أطلقه، واعتقل ابن المعتز، فلما دخل في ربيع الآخر ليلتان ظهر للناس موته وأخرجت جثته فسلمت إلى أهله فدفن، وصفح المقتدر عن بقية من سعى في هذه الفتنة حتى لا تفسد نيات الناس‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولا يعرف خليفة خلع ثم أعيد إلا الأمين والمقتدر‏.‏

وفي يوم السبت لأربع بقين من ربيع الأول سقط ببغداد ثلج عظيم، حتى اجتمع على الأسطحة منه نحو أربعة أصابع، وهذا غريب في بغداد جداً، ولم تخرج السنة حتى خرج الناس يستسقون لأجل تأخر المطر عن إبانة‏.‏

وفي شعبان منها خلع على مونس الخادم، وأمر بالمسير إلى طرسوس لأجل غزو الروم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 122‏)‏

وفيها‏:‏ أمر المقتدر بأن لا يستخدم أحد من اليهود والنصارى في الدواوين، وألزموا بلزومهم بيوتهم، وأن يلبسوا المساحي ويضعوا بين أكتافهم رقاعاً ليعرفوا بها، وألزموا بالذلِّ حيث كانوا‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل ابن عبد الملك الهاشمي، ورجع كثير من الناس من قلة الماء بالطريق‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن محمد بن زكريا بن أبي عتاب أبو بكر البغدادي الحافظ، ويعرف بأخي ميمون‏.‏

روى عن نصر بن علي الجهضمي وغيره، وروى عنه الطبراني، وكان يمتنع من أن يحدث وإنما يسمع منه في المذاكرة‏.‏

توفي في شوال منها‏.‏

 أبو بكر الأثرم

أحمد بن محمد بن هاني الطائي الأثرم تلميذ الإمام أحمد، سمع عفان وأبا الوليد والقعنبي وأبا نعيم وخلقاً كثيراً، وكان حافظاً صادقاً قوي الذاكرة، كان ابن معين يقول عنه‏:‏ كان أحد أبويه جنيّاً لسرعة فهمه وحفظه، وله كتب مصنفة في العلل والناسخ والمنسوخ، وكان من بحور العلم‏.‏

عبد الحميد بن عبد العزيز أبو حاتم القاضي الحنفي، كان من خيار القضاة وأعيان الفقهاء، ومن أئمة العلماء ورعاً نزهاً كثير الصيانة والديانة والأمانة، وقد ذكر له ابن الجوزي في المنتظم‏:‏

 خلف بن عمرو بن عبد الرحمن بن عيسى

أبو محمد العكبري، سمع الحديث وكان ظريفاً وكان له ثلاثون خاتماً وثلاثون عكازاً، يلبس في كل يوم من الشهر خاتماً ويأخذ في يده عكازاً، ثم يستأنف ذلك في الشهر الثاني، وكان له سوط معلق في منزله، فإذا سئل عن ذلك قال‏:‏ ليرهب العيال منه‏.‏

ابن المعتز الشاعر والخليفة

عبد الله بن المعتز بالله محمد بن المتوكل على الله جعفر بن المعتصم بالله محمد بن الرشيد، يكنى أبو العباس الهاشمي العباسي، كان شاعراً مطيقاً فصيحاً بليغاً مطبقاً، وقريش قادة الناس في الخير ودفع الشر‏.‏

وقد سمع المبرد وثعلباً، وقد روي عنه من الحكم والآداب شيء كثير، فمن ذلك قوله‏:‏ أنفاس الحي خطايا‏.‏

أهل الدنيا ركب يسار بهم وهو نيام، ربما أورد الطمع ولم يصدر، ربما شرق شارب الماء قبل ريه، من تجاوز الكفاف لم يغنه الإكثار، كلما عظم قدر المتنافس فيه عظمت الفجيعة به، من ارتحله الحرص أضناه الطلب‏.‏

وروي انضاه الطلب أي‏:‏ أضعفه، والأول معناه أمرضه‏.‏

الحرص نقص من قدر الإنسان ولا يزيد في حظه شيئاً، أشقى الناس أقربهم من السلطان، كما أن أقرب الأشياء إلى النار أقربها حريقاً‏.‏

من شارك السلطان في عزِّ الدنيا شاركه في ذلِّ الآخرة، يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك‏.‏

الفرصة سريعة الفوت بعيدة العود، الأسرار إذا كثرت خزانها ازدادت ضياعاً، العزل نصحك من تيه الولاة‏.‏

الجزع أتعب من الصبر، لا تشن وجه العفو بالتقريع، تركة الميت عزّ للورثة وذلّ له‏.‏

إلى غير ذلك من كلامه وحكمه‏.‏

ومن شعره مما يناسب المعنى قوله‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 123‏)‏

بادر إلى مالكٍ ورِّثه * ما المرءُ في الدنيا بلباث

كم جامعٍ يخنق أكياسه * قد صارَفي ميزانِ ميراث

وله أيضاً‏:‏

ياذا الغنى والسطوة القاهرة * والدولة الناهية الآمرة

ويا شياطين بني آدمٍ * ويا عبيدَ الشهوةِ الفاجرة

انتظرو الدنيا وقد أدبرت * وعن قليل تلدُ الآخرة

وله أيضاً‏:‏

ابكِ يانفسُ وهاتي * توبةً قبلَ الممات

قبل أن يفجعنا الده * رُ ببينٍ وشتات

لا تخونيني إذا متُ * وقامت بي نعاتي

إنما الوفي بعهدي * من وفى بعد وفاتي

قال الصولي‏:‏ نظر ابن المعتز في حياة أبيه الخليفة إلى جارية فأعجبته، فمرض من حبها، فدخل أبوه عليه عائداً فقال له‏:‏ كيف تجدك‏؟‏

فأنشأ يقول‏:‏

أيها العاذلون لا تعذلوني * وانظروا حسنَ وجهها تعذروني

وانظروا هل ترونَ أحسنَ منها * إن رأيتم شبيهها فاعذلوني

قال‏:‏ ففحص الخليفة عن القصة واستعلم خبر الجارية، ثم بعث إلى سيدها فاشتراها منه بسبعة آلاف دينار، وبعث بها إلى ولده‏.‏

وقد تقدم أن في ربيع الأول من هذه السنة اجتمع الأمراء والقضاة على خلع المقتدر وتولية عبد الله بن المعتز هذا، ولقب بالمرتضى والمنتصف بالله، فما مكث بالخلافة إلا يوماً أو بعض يوم، ثم انتصر المقتدر وقتل غالب من خرج عليه واعتقل ابن المعتز عنده في الدار ووكل به مونس الخادم فقتل في أوائل ربيع الآخر لليلتين خلتا منه، ويقال‏:‏ إنه أنشد في آخر يوم من حياته وهو معتل‏:‏

يانفسُ صبراً لعل الخرً عقباكِ * خانتكِ من بعد طولِ الأمن دنياك

مرت بنا سحراً طير فقلتُ لها * طوباكِ ياليتني إياكِ طوباك

إن كانَ قصدك شرقاً فالسلامُ على * شاطي الصراة أبلغي إن كان مسراك

من موثقٍ بالمنايا لا فكاكَ له * يبكي الدماءَ على إلفٍ له باكي

فربَّ آمنة جاءت منيتها * وربَّ مفلتة من بين أشراك

أظنه آخرَ الأيام من عمري * وأوشكَ اليومَ أن يبكيَ لي الباكي ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 124‏)‏

ولما قدم ليقتل أنشأ يقول‏:‏

فقل للشامتينَ بنا رُوَيداً * أمامكمُ المصائبُ والخطوبُ

هو الدهرُ لا بد من أن * يكونَ إليكم منهُ ذنوبُ

ثم كان ظهور قتله لليلتين من ربيع الآخر منها‏.‏

وقد ذكر له ابن خلكان مصنفات كثيرة، منها ‏(‏طبقات الشعراء‏)‏ وكتاب ‏(‏أشعار الملوك‏)‏ وكتاب ‏(‏الآداب‏)‏وكتاب ‏(‏البديع‏)‏، وكتاب في الغناء وغير ذلك‏.‏

وذكر أن طائفة من الأمراء خلعوا المقتدر وبايعوه بالخلافة يوماً وليلة، ثم تمزق شمله واختفى في بيت ابن الجصاص الجوهري، ثم ظهر عليه فقتل، وصودر ابن الجصاص بألفي دينار، وبقي معه ستمائة ألف دينار‏.‏

وكان ابن المعتز أسمر اللون مدور الوجه يخضب بالسواد، عاش خمسين سنة، وذكر شيئاً من كلامه وأشعاره رحمه الله‏.‏

محمد بن الحسين بن حبيب

أبو حصين الوادعي القاضي، صاحب المسند، من أهالي الكوفة، قدم بغداد وحدث بها عن أحمد بن يونس اليربوعي ويحيى بن عبد الحميد، وجندل بن والق، وعنه ابن صاعد والنجاد والمحاملي‏.‏

قال الدارقطني‏:‏ كان ثقة، توفي بالكوفة‏.‏

محمد بن داود بن الجراح أبو عبد الله الكاتب، عم الوزير علي بن عيسى، كان من أعلم الناس بالأخبار وأيام الخلفاء، له مصنفات في ذلك روى عن عمر بن شيبة وغيره، كانت وفاته في ربيع الأول منها عن ثلاث وخمسين سنة‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وتسعين ومائتين

فيها‏:‏ غزا القاسم بن سيما الصائفة، وفادى يونس الخادم الأسارى الذين بأيدي الروم، وحكى ابن الجوزي عن ثابت بن سنان‏:‏ أنه رأى في أيام المقتدر ببغداد امرأة بلا ذراعين ولا عضدين، وإنما كفاها ملصقان بكتفيها، لاتسطيع أن تعمل بهما شيئاً، وإنما كانت تعمل برجليها ما تعمله النساء بأيديهن‏:‏ الغزل والفتل ومشط الرأس وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ تأخرت الأمطار عن بغداد، وارتفعت الأسعار بها، وجاءت الأخبار بأن مكة جاءها سيل عظيم غرق أركان البيت، وفاضت زمزم، ولم ير ذلك قبل هذه السنة‏.‏

وحج بالناس الفضل الهاشمي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 125‏)‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 محمد بن داود بن علي

أبو بكر الفقيه ابن الفقيه الظاهري، كان عالماً بارعاً أديباً شاعراً فقيهاً ماهراً، له كتاب ‏(‏الزهرة‏)‏ اشتغل على أبيه وتبعه في مذهبه ومسلكه وما اختاره من الطرائق وارتضاه، وكان أبوه يحبه ويقربه ويدنيه‏.‏

قال رويم بن محمد‏:‏ كنا يوماً عند داود إذ جاء ابنه هذا باكياً فقال‏:‏ مالك‏؟‏

فقال‏:‏ إن الصبيان يلقبونني عصفور الشوك‏.‏

فضحك أبوه فاشتد غضب الصبي وقال لأبيه‏:‏ أنت أضر علي منهم، فضمه أبوه إليه وقال‏:‏ لا إله إلا الله، ما الألقاب إلا من السماء ما أنت يابني إلا عصفور الشوك‏.‏

ولما توفي أبوه أجلس في مكانه في الحلقة، فاستصغره الناس عن ذلك، فسأله سائل يوماً عن حد السُّكر فقال‏:‏ إذا غربت عنه الفهوم وباح بسره المكتوم‏.‏

فاستحسن الحاضرون منه ذلك، وعظم في أعين الناس‏.‏

قال ابن الجوزي في المنتظم‏:‏ وقد ابتلي بحب صبي اسمه محمد بن جامع، ويقال‏:‏ محمد بن زحرف، فاستعمل العفاف والدين في حبه، ولم يزل ذلك دأبه فيه حتى كان سبب وفاته في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ فدخل في الحديث المروي عن ابن عباس موقوفاً عليه ومرفوعاً عنه‏:‏ من عشق فكتم فعف فمات مات شهيداً‏.‏

وقد قيل عنه‏:‏ إنه كان يبيح العشق بشرط العفاف‏.‏

وحكى هو عن نفسه أنه لم يزل يتعشق منذ كان في الكتَّاب، وأنه صنف كتاب ‏(‏الزهرة‏)‏ في ذلك من صغره، ورد ما وقف أبوه داود على بعض ذلك، وكان يتناظر هو وأبو العباس بن شريح كثيراً بحضرة القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فيعجب الناس من مناظرتهما وحسنها‏.‏

وقد قال له ابن شريح يوماً في مناظرته‏:‏ أنت بكتاب الزهرة أشهر منك بهذا‏.‏

فقال له‏:‏ تعيرنى بكتاب الزهرة وأنت لا تحسن تشتم قراءته، وهو كتاب جمعناه هزلاً فاجمع أنت مثله جداً‏.‏

وقال القاضي أبوعمر‏:‏ كنت يوماً أنا وأبو بكر بن داود راكبين فإذا جارية تغني بشيء من شعره‏:‏

أشكو إليك فؤاداً أنت متلفهُ * شكوى عليلٍ إلى إلفٍ يعلله

سُقمي تزيد على الأيام كثرتهُ * وأنت في عظم ما ألقى تقلِّلهُ

الله حرمَ قتلي في الهوى أسفاً * وأنت يا قاتلي ظلماً تحلِّلهُ

فقال أبو بكر‏:‏ كيف السبيل إلى استرجاع هذا‏؟‏

فقلت‏:‏ هيهات سار به الركبان‏.‏

كانت وفاة محمد بن داود رحمه الله في رمضان من هذه السنة، وجلس ابن شريح لعزاه وقال‏:‏ ما أثني إلا على التراب الذي أكل لسان محمد بن داود رحمه الله‏.‏

 محمد بن عثمان بن أبي شيبة

أبو جعفر، حدث عن يحيى بن معين وعلي بن المديني وخلق، وعنه ابن صاعد والخلدي والباغندي وغيرهم، وله كتاب في التاريخ وغيره من المصنفات، ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 126‏)‏ وقد وثقه صالح بن محمد جزرة وغيره، وكذبه عبد الله بن الإمام أحمد وقال‏:‏ هو كذاب بينِّ الأمر، وتعجب ممن يروي عنه، توفي في ربيع الأول منها‏.‏

محمد بن طاهر بن عبد الله بن الحسن بن مصعب من بيت الإمارة والحشمة، باشر نيابة العراق مدة ثم خراسان، ثم ظفر به يعقوب بن الليث في سنة ثمان وخمسين فأسره، وبقي معه يطوف به الآفاق أربع سنين، ثم تخلص منه في بعض الوقعات ونجا بنفسه، ولم يزل مقيماً ببغداد إلى أن توفي في هذه السنة‏.‏

 موسى بن إسحاق

ابن موسى بن عبد الله أبو بكر الأنصارى الخطمي، مولده سنة عشر ومائتين، سمع أباه وأحمد ابن حنبل وعلي بن الجعد وغيرهم، وحدث عنه الناس وهو شاب وقرؤوا عليه القرآن، وكان ينتحل مذهب الشافعي، وولي قضاء الأهواز، وكان ثقة فاضلاً عفيفاً فصيحاً كثير الحديث‏.‏

توفي في المحرم منها‏.‏

 يوسف بن يعقوب

ابن إسماعيل بن حماد بن زيد، والد القاضي أبي عمر، وهو الذي قتل الحلاج، كان يوسف هذا من أكابر العلماء وأعيانهم، ولد سنة ثمان ومائتين، وسمع سليمان بن حرب وعمرو بن مرزوق وهدبة ومسدداً، وكان ثقة، ولي قضاء البصرة وواسط والجانب الشرقي من بغداد، وكان عفيفاً شديد الحرمة نزهاً، جاءه يوماً بعض خدم الخليفة المعتضد، فترفع في المجلس على خصمه، فأمره حاجب القاضي أن يساوي خصمه، فامتنع إدلالاً بجاهه عند الخليفة، فزبره القاضي وقال‏:‏ ائتوني بدلال النخس حتى أبيع هذا العبد وأبعث بثمنه إلى الخليفة، وجاء حاجب القاضي فأخذه بيده وأجلسه مع خصمه، فلما انقضت الحكومة رجع الخادم إلى المعتضد فبكى بين يديه فقال له‏:‏ مالك‏؟‏

فأخبره بالخبر وما أراد القاضي من بيعه، فقال‏:‏ والله لو باعك لأجزت بيعه ولما استرجعتك أبداً، فليس خصوصيتك عندي تزيل مرتبة الشرع فإنه عمود السلطان وقوام الأديان، كانت وفاته في رمضان منها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 127‏)‏

 ثم دخلت سنة ثمان وتسعين ومائتين

فيها قدم القاسم بن سيما من بلاد الروم، فدخل بغداد ومعه الأسارى والعلوج، بأيديهم أعلام عليها صلبان من الذهب وخلق من الأسارى‏.‏

وفيها‏:‏ قدمت هدايا نائب خراسان أحمد بن إسماعيل ابن أحمد الساماني، من ذلك مائة وعشرون غلاماً بحرابهم وأسلحتهم وما يحتاجون إليه، وخمسون بازاً وخمسون جملاً تحمل من مرتفع الثياب وخمسون رطلاً من مسك وغير ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ فلج القاضي عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب، فقلد مكانه على الجانب الشرقي والكرخ ابنه محمد‏.‏

وفيها‏:‏ في شعبان أخذ رجلان يقال‏:‏ لأحدهما أبو كبيرة والآخر يعرف بالسمري، فذكروا أنهما من أصحاب رجل يقال له‏:‏ محمد بن بشر، وأنه يدعى الربوبية‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بأن الروم قصدت اللاذقية‏.‏

وفيها‏:‏ وردت الأخبار بأن ريحاً صفراء هبت بمدينة الموصل، فمات من حرها بشر كثير‏.‏

وفيها حج بالناس الفضل الهاشمي‏.‏

 وفيها توفى من الأعيان‏:‏

 ابن الراوندي

أحد مشاهير الزنادقة، كان أبوه يهودياً فأظهر الإسلام، ويقال‏:‏ إنه حرف التوراة، كما عادى ابنه القرآن بالقرآن وألحد فيه، وصنف كتاباً في الرد على القرآن سماه ‏(‏الدامغ‏)‏‏.‏

وكتاباً في الرد على الشريعة والإعتراض عليها سماه ‏(‏الزمردة‏)‏‏.‏

وكتاباً يقال له‏:‏ التاج في معنى ذلك، وله كتاب ‏(‏الفريد‏)‏، وكتاب ‏(‏إمامة المفضول الفاضل‏)‏‏.‏

وقد انتصب للرد على كتبه هذه جماعة، منهم الشيخ أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه، وقد أجاد في ذلك‏.‏

وكذلك ولده أبو هاشم عبد السلام ابن أبى علي، قال الشيخ أبو علي‏:‏ قرأت كتاب هذا الملحد الجاهل السفيه ابن الراوندى، فلم أجد فيه إلا السفه والكذب والافتراء‏.‏

قال‏:‏ وقد وضع كتاباً في قدم العالم، ونفي الصانع، وتصحيح مذهب الدهرية، والرد على أهل التوحيد، ووضع كتاباً في الرد على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعة عشر موضعاً، ونسبه إلى الكذب - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - وطعن على القرآن، ووضع كتاباً لليهود والنصارى، وفضل دينهم على المسلمين والإسلام، يحتج لهم فيها على إبطال نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الكتب التي تبين خروجه عن الإسلام‏.‏

نقل ذلك ابن الجوزي عنه‏.‏

وقد أورد ابن الجوزي في منتظمه طرفاً من كلامه وزندقته وطعنه على الآيات والشريعة، ورد عليه في ذلك وهو أقل وأخس وأذل من أن يلتفت إليه وإلى جهله وكلامه وهذيانه وسفهه وتمويهه‏.‏

وقد أسند إليه حكايات من المسخرة والاستهتار والكفر والكبائر، منها ما هو صحيح عنه، ومنها ماهو مفتعل عليه ممن هو مثله وعلى طريقه ومسلكه في الكفر والتستر في المسخرة، يخرجونها في قوالب مسخرة وقلوبهم مشحونة بالكفر والزندقة، وهذا كثير موجود فيمن يدّعي الإسلام وهو منافق، يتمسخرون بالرسول ودينه وكتابه‏.‏

وهؤلاء ممن قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية ‏[‏التوبة‏:‏65-66‏]‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 128‏)‏

وقد كان أبو عيسى الوراق مصاحباً لابن الراوندي قبحهما الله، فلما علم الناس بأمرهما طلب السلطان أبا عيسى فأودع السجن حتى مات‏.‏

وأما ابن الراوندي فهرب فلجأ إلى ابن لاوي اليهودي، وصنف له في مدة مقامه عنه كتابه الذي سماه ‏(‏الدامغ للقرآن‏)‏ فلم يلبث بعده إلا أياماً يسيرة حتى مات لعنه الله‏.‏

ويقال‏:‏ إنه أخذ وصلب‏.‏

قال أبو الوفاء بن عقيل‏:‏ ورأيت في كتاب محقق أنه عاش ستاً وثلاثين سنة مع ما انتهى إليه من التوغل في المخازي في هذا العمر القصير لعنه الله وقبحه ولا رحم عظامه‏.‏

وقد ذكره ابن خلكان في الوفيات وقلس عليه ولم يخرجه بشيء، ولا كأن الكلب أكل له عجيناً، على عادته في العلماء والشعراء، فالشعراء يطيل تراجمهم، والعلماء يذكر لهم ترجمة يسيرة، والزنادقة يترك ذكر زندقتهم‏.‏

وأرخ ابن خلكان تاريخ وفاته في سنة خمس وأربعين ومائتين، وقد وهم وهماً فاحشاً، والصحيح أنه توفي في هذه السنة كما أرخه ابن الجوزي وغيره‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 الجنيد بن محمد بن الجنيد

أبو القاسم الخزاز، ويقال له‏:‏ القواريري، أصله من نهاوند، ولد ببغداد ونشأ بها‏.‏

وسمع الحديث من الحسين بن عرفة‏.‏

وتفقه بأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وكان يفتي بحضرته وعمره عشرون سنة، وقد ذكرناه في طبقات الشافعية، واشتهر بصحبة الحارث المحاسبي، وخاله سري السقطي، ولازم التعبد، ففتح الله عليه بسبب ذلك علوماً كثيرة، وتكلم على طريقة الصوفية‏.‏

وكان ورده في كل يوم ثلاثمائة ركعة، وثلاثين ألف تسبيحة‏.‏

ومكث أربعين سنة لا يأوي إلى فراش، ففتح عليه من العلم النافع والعمل الصالح بأمور لم تحصل لغيره في زمانه، وكان يعرف سائر فنون العلم، وإذا أخذ فيها لم يكن له فيها وقفة ولا كبوة، حتى كان يقول في المسألة الواحدة وجوهاً كثيرة لم تخطر للعلماء ببال، وكذلك في التصوف وغيره‏.‏

ولما حضرته الوفاة جعل يصلي ويتلو القرآن، فقيل له‏:‏ لورفقت بنفسك في مثل هذا الحال‏؟‏

فقال‏:‏ لا أحد أحوج إلى ذلك مني الآن، وهذا أوان طي صحيفتي‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ أخذ الفقه عن أبي ثور، ويقال‏:‏ كان يتفقه على مذهب سفيان الثوري، وكان ابن سريح يصحبه ويلازمه، وربما استفاد منه أشياء في الفقه لم تخطر له ببال، ويقال‏:‏ إنه سأله مرة عن مسألة‏.‏

فأجابه فيها بجوابات كثيرة، فقال‏:‏ يا أبا القاسم ألم أكن أعرف فيها سوى ثلاثة أجوبة مما ذكرت فأعدها عليّ‏.‏

فأعادها بجوابات أخرى كثيرة‏.‏

فقال‏:‏ والله ما سمعت هذا قبل اليوم، فأعده فأعاده بجوابات أخرى غير ذلك‏.‏

فقال له‏:‏ لم أسمع بمثل هذا فأمله عليّ حتى أكتبه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 129‏)‏

فقال الجنيد‏:‏ لئن كنت أجريه فأنا أمليه، أي‏:‏ إن الله هو الذي يجري ذلك على قلبي وينطق به لساني، وليس هذا مستفاد من كتب ولا من تعلم، وإنما هذا من فضل الله عز وجل يلهمنيه ويجريه على لساني‏.‏

فقال‏:‏ فمن أين استفدت هذا العلم‏؟‏

قال‏:‏ من جلوسي بين يدي الله أربعين سنة‏.‏

والصحيح أنه كان على مذهب سفيان الثوري وطريقه، والله أعلم‏.‏

وسئل الجنيد عن العارف‏؟‏

فقال‏:‏ من نطق عن سرك وأنت ساكت‏.‏

وقال‏:‏ مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة، فمن لم يقرأ القرآن ويكتب الحديث لا يقتدى به في مذهبنا وطريقتنا‏.‏

ورأى بعضهم معه مسبحة فقال له‏:‏ أنت مع شرفك تتخذ مسبحة‏؟‏

فقال‏:‏ طريق وصلت به إلى الله لا أفارقه‏.‏

وقال له خاله السري‏:‏ تكلم على الناس‏.‏

فلم ير نفسه موضعاً‏.‏

فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ تكلم على الناس‏.‏

فغدا على خاله، فقال له‏:‏ لم تسمع مني حتى قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فتكلم على الناس، فجاءه يوماً شاب نصراني في صورة مسلم، فقال له‏:‏ يا أبا القاسم ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏(‏‏(‏اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله‏)‏‏)‏‏؟‏‏.‏

فأطرق الجنيد، ثم رفع رأسه إليه وقال‏:‏ أسلم فقد آن لك أن تسلم‏.‏

قال‏:‏ فأسلم الغلام‏.‏

وقال الجنيد‏:‏ ما انتفعت بشيء انتفاعي بأبيات سمعتها من جارية تغني بها في غرفة وهي تقول‏:‏

إذا قلتُ‏:‏ أهدى الهجرُ لي حِللَ البِلى * تقولين‏:‏ لولا الهجرُ لم يطب الحبُّ

وإن قلتُ‏:‏ هذا القلبُ أحرقه الجوى * تقولين لي‏:‏ إنَّ الجوى شرف القلب

وإن قلت‏:‏ ما أذنبت، قالت مجيبة‏:‏ * حياتك ذنب لا يقاس به ذنب

قال‏:‏ فصعقت وصحت، فخرج صاحب الدار فقال‏:‏ ياسيدي مالك‏؟‏

قلت‏:‏ مما سمعت‏.‏

قال‏:‏ هي هبة مني إليك‏.‏

فقلت‏:‏ قد قبلتها وهي حرة لوجه الله، ثم زوجتها لرجل فأولدها ولداً صالحاً، حج على قدميه ثلاثين حجة‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 سعيد بن إسماعيل بن سعيد بن منصور أبو عثمان الواعظ

ولد بالري، ونشأ بها، ثم انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن مات بها، وقد دخل بغداد‏.‏

وكان يقال‏:‏ إنه مجاب الدعوة‏.‏

قال الخطيب‏:‏ أخبرنا عبد الكريم بن هوازن قال‏:‏ سمعت أبا عثمان يقول‏:‏ منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حالة فكرهتها، ولا نقلني إلى غيرها فسخطتها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 130‏)‏

وكان أبو عثمان ينشد‏:‏

أسأت ولم أحسن، وجئتك هارباً * وأين لعبد عن مواليه مهرب‏؟‏

يؤمل غفراناً، فإن خاب ظنه * فما أحد منه على الأرض أخيب

وروى الخطيب أنه سئل‏:‏ أي أعمالك أرجى عندك‏؟‏

فقال‏:‏ إني لما ترعرعت وأنا بالري وكانوا يريدونني على التزويج فأمتنع، فجائتني امرأة فقالت‏:‏ يا أبا عثمان قد أحببتك حباً أذهب نومي وقراري، وأنا أسألك بمقلب القلوب وأتوسل به إليه لما تزوجتني‏.‏

فقلت‏:‏ ألك والد‏؟‏

فقالت‏:‏ نعم‏.‏

فأحضرته فاستدعى بالشهود فتزوجتها، فلما خلوت بها إذا هي عوراء عرجاء شوهاء -مشوهة الخلق - فقلت‏:‏ اللهم لك الحمد على ما قدرته لي، وكان أهل بيتي يلومونني على تزويجي بها، فكنت أزيدها براً وإكراماً، وربما احتبستني عندها ومنعتني من الحضور إلى بعض المجالس، وكأني كنت في بعض أوقاتي على الجمر وأنا لا أبدي لها من ذلك شيئاً‏.‏

فمكثت كذلك خمس عشرة سنة، فما شيء أرجى عندي من حفظي عليها ما كان في قلبها من جهتي‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 سمنون بن حمزة

ويقال ابن عبد الله، أحد مشايخ الصوفية، كان ورده في كل يوم وليلة خمسمائة ركعة، وسمى نفسه سمنوناً الكذاب لقوله‏:‏

فليس لي في سواك حظ * فكيفما شئت فامتحني

فابتلي بعسر البول فكان يطوف على المكاتب ويقول للصبيان‏:‏ ادعوا لعمكم الكذاب‏.‏

وله كلام متين في المحبة، ووسوس في آخر عمره، وله كلام في المحبة مستقيم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

 صافي الحربي

كان من أكابر أمراء الدولة العباسية، أوصى في مرضه أن ليس له عند غلامه القاسم شيء، فلما مات حمل غلامه القاسم إلى الوزير ألف دينار وسبعمائة وعشرين منطقة من الذهب مكللة، فاستمروا به على إمرته ومنزلته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 131‏)‏

 إسحاق بن حُنين بن إسحاق

أبو يعقوب العبادي - نسبة إلى قبائل الجزيرة - الطبيب ابن الطبيب، له ولأبيه مصنفات كثيرة في هذا الفن، وكان أبوه يعرب كلام إرسططاليس وغيره من حكماء اليونان، توفي في هذه السنة‏.‏

 الحسين بن أحمد بن محمد بن زكريا

أبو عبد الله الشيعي، الذي أقام الدعوة للمهدي، وهو عبد الله بن ميمون الذي يزعم أنه فاطمي وقد زعم غير واحد من أهل التاريخ أنه كان يهودياً صباغاً بسلمية، والمقصود الآن‏:‏ أن أبا عبد الله الشيعي دخل بلاد إفريقيا وحدهم فقيراً لا مال له ولا رجال، فلم يزل يعمل الحيلة حتى انتزع الملك من يد أبي مضر زيادة الله، آخر ملوك بني الأغلب على بلاد إفريقية، واستدعى حينئذ مخذومه المهدي من بلاد المشرق، فقدم فلم يخلص إليه إلا بعد شدائد طوال، وحبس في أثناء الطريق، فاستنقذه هذا الشيعي وسلمه من الهلكة، فندمه أخوه أحمد وقال له‏:‏ ماذا صنعت‏؟‏وهلا كنت استبددت بالأمر دون هذا‏؟‏

فندم وشرع يعمل الحيلة في المهدي، فاستشعر المهدي بذلك فدس إليهما من قتلهما في هذه السنة بمدينة رقادة من بلاد القيروان، من إقليم إفريقية‏.‏

هذا ملخص ما ذكره ابن خلكان‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وتسعين ومائتين

قال ابن الجوزي‏:‏ وفيها ظهرت ثلاث كواكب مذنبة، أحدها في رمضان، واثنان في ذي القعدة تبقى أياماً ثم تضمحل‏.‏

وفيها‏:‏ وقع طاعون بأرض فارس مات فيه سبعة آلاف إنسان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 132‏)‏

وفيها‏:‏ غضب الخليفة على الوزير علي بن محمد بن الفرات، وعزله عن الوزارة، وأمر بنهب داره فنهبت أقبح نهب، واستوزر أبا علي محمد بن عبد الله بن يحيى بن خاقان، وكان قد التزم لأم ولد المعتضد بمائة ألف دينار حتى سعت في ولايته‏.‏

وفيها‏:‏ وردت هدايا كثيرة من الأقاليم من ديار مصر وخراسان وغيرها، من ذلك خمسمائة ألف دينار من مصر استخرجت من كنز وجد هناك من غير موانع كما يدعيه كثير من جهلة العوام وغيرهم من ضعيفي الأحلام، مكراً وخديعة ليأكلوا أموال الطغام والعوام أهل الطمع والآثام، وقد وجد في هذا الكنز ضلع إنسان طوله أربعة أشبار وعرضه شبر، وذكر أنه من قوم عاد فالله أعلم‏.‏

وكان من جملة هدية مصر تيس له ضرع يحلب لبناً‏.‏

ومن ذلك بساط أرسله ابن أبي الساج في جملة هداياه، طوله سبعون ذراعاً وعرضه ستون ذراعاً، عمل في عشر سنين لا قيمة له، وهدايا فاخرة أرسلها أحمد بن إسماعيل بن أحمد الساماني من بلاد خراسان كثيرة جداً‏.‏

وحج بالناس فيها الفضل بن عبد الملك العباسي، أمير الحجيج من مدة طويلة‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أحمد بن نصر بن إبراهيم‏:‏ أبو عمرو الخفاف

الحافظ، كان يذاكر بمائة ألف حديث، سمع إسحاق بن راهويه وطبقته، وكان كثير الصيام سرده نيفاً وثلاثين سنة، وكان كثير الصدقة، سأله سائل فأعطاه درهمين فحمد الله فجعلها خمسة، فحمد الله فجعلها عشرة، ثم ما زال يزيده ويحمد السائل الله حتى جعلها مائة‏.‏

فقال‏:‏ جعل الله عليك واقية باقية‏.‏

فقال للسائل‏:‏ والله لو لزمت الحمد لأزيدنك ولو إلى عشرة آلاف درهم‏.‏

 البهلول بن إسحاق بن البهلول

ابن حسان بنم سنان أبو محمد التنوخي، سمع إسماعيل بن أبي أويس، وسعيد بن منصور ومصعباً الزبيري وغيرهم، وعنه جماعة آخرهم أبو بكر الإسماعيلي الجرجاني الحافظ، وكان ثقة حافظاً ضابطاً بليغاً فصيحاً في خطبه‏.‏

توفي فيها عن خمس وتسعين سنة‏.‏

 الحسين بن عبد الله بن أحمد أبو علي الخرقي

صاحب المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، كان خليفة للمروذي‏.‏

توفي يوم عيد الفطر ودفن عند قبر الإمام أحمد بن حنبل‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 133‏)‏

 محمد بن إسماعيل‏:‏ أبو عبد الله المغربي

حج على قدميه سبعاً وتسعين حجة، وكان يمشي في الليل المظلم حافياً كما يمشي الرجل في ضوء النهار، وكان المشاة يأتمون به فيرشدهم إلى الطريق، وقال‏:‏ ما رأيت ظلمة منذ سنين كثيرة، وكانت قدماه مع كثرة مشيه كأنهما قدما عروس مترفة، وله كلام مليح نافع، ولما مات أوصى أن يدفن إلى جانب شيخه علي بن رزين، فهما على جبل الطور‏.‏

قال أبو نعيم‏:‏ كان أبو عبد الله المغربي من المعمرين، توفي عن مائة وعشرين سنة، وقبره بجبل طور سينا عند قبر أستاذه علي بن رزين‏.‏

قال أبو عبد الله‏:‏ أفضل الأعمال عمارة الأوقاف‏.‏

وقال‏:‏ الفقير هو الذي لا يرجع إلى مستند في الكون غير الإلتجاء إلى من إليه فقره ليعينه بالاستعانة كما عزره بالافتقار إليه‏.‏

وقال‏:‏ أعظم الناس ذلاً فقير داهن غنياً وتواضع له، وأعظم الناس عزاً غني تذلل لفقير أو حفظ حرمته‏.‏

 محمد بن أبي بكر بن أبي خيثمة

أبو عبد الله الحافظ بن الحافظ كان أبوه يستعين به في جمع التاريخ، وكان فهماً حاذقاً حافظاً، توفي في ذي القعدة منها‏.‏

 محمد بن أحمد بن كيسان النحوي

أحد حفاظه والمكثرين منه، كان يحفظ طريقة البصريين والكوفيين معاً‏.‏

قال ابن مجاهد‏:‏ كان ابن كيسان أنحى من الشيخين المبرّد وثعلب‏.‏

 محمد بن يحيى

أبو سعيد، سكن دمشق، روى عن إبراهيم بن سعد الجوهري، وأحمد بن منيع، وابن أبي شيبة وغيرهم، روى عنه أبو بكر النقاش وغيره، وكان محمد بن يحيى هذا يدعى بحامل كفنه، وذلك ما ذكره الخطيب قال‏:‏ بلغني أنه توفي فغسل وكفن وصلي عليه ودفن، فلما كان الليل جاء نباش ليسرق كفنه ففتح عليه قبره‏.‏

فلما حل عنه كفنه استوى جالساً، وفر النباش هارباً من الفزع، ونهض محمد بن يحيى هذا فأخذ كفنه معه، وخرج من القبر وقصد منزله فوجد أهله يبكون عليه، فدق عليهم الباب فقالوا‏:‏ من هذا‏؟‏

فقال‏:‏ أنا فلان‏.‏

فقالوا‏:‏ يا هذا لا يحل لك أن تزيدنا حزناً إلى حزننا‏.‏

فقال‏:‏ افتحوا والله أنا فلان‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 134‏)‏

فعرفوا صوته، فلما رأوه فرحوا به فرحاً شديداً، وأبدل الله حزنهم سروراً، ثم ذكر لهم ما كان من أمره وأمر النباش‏.‏

وكأنه قد أصابته سكتة، ولم يكن قد مات حقيقة فقدر الله بحوله وقوته أن بعث له هذا النباش ففتح عليه قبره، فكان ذلك سبب حياته، فعاش بعد ذلك عدة سنين، ثم كانت وفاته في هذه السنة‏.‏

 فاطمة القهرمانة

غضب عليها المقتدر مرة فصادرها، وكان في جملة ما أخذ منها مائتي ألف دينار، ثم غرقت في طيارة لها في هذه السنة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاثمائة من الهجرة

فيها‏:‏ كثر ماء دجلة وتراكمت الأمطار ببغداد، وتناثرت نجوم كثيرة في ليلة الأربعاء لسبع بقين من جمادى الآخرة‏.‏

وفيها‏:‏ كثرت الأمراض ببغداد والأسقام وكلبت الكلاب حتى الذئاب بالبادية‏.‏

وكانت تقصد الناس بالنهار فمن عضته أكلبته‏.‏

وفيها‏:‏ انحسر جبل بالدينور يعرف بالتل فخرج من تحته ماء عظيم غرّق عدة من القرى‏.‏

وفيها‏:‏ سقطت شرذمة - أي‏:‏ قطعة - من جبل لبنان إلى البحر‏.‏

وفيها‏:‏ حملت بغلة ووضعت مهرة‏.‏

وفيها‏:‏ صلب الحسين بن منصور الحلاج وهو حي أربعة أيام، يومين في الجانب الشرقي ويومين في الجانب الغربي، وذلك في ربيع الأول منها‏.‏

وحج بالناس أمير الحجيج المتقدم ذكره في السنين قبلها وهو الفضل بن عبد الملك الهاشمي العباسي أثابه الله وتقبل منه‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 الأحوص بن الفضل

ابن معاوية بن خالد بن غسان، أبو أمية الغلابي القاضي بالبصرة وغيرها، روى عن أبيه التاريخ، استتر مرة عنده ابن الفرات، فلما أعيد إلى الوزارة ولاه قضاء البصرة والأهواز وواسط‏.‏

وكان عفيفاً نزهاً، فلما نكب ابن الفرات قبض عليه نائب البصرة فأودعه السجن فلم يزل به حتى مات فيه فيها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ولا نعلم قاضياً مات في السجن سواه‏.‏

 عبيد الله بن عبد الله بن طاهر

ابن الحسين بن مصعب أبو أحمد الخزاعي، ولي إمرة بغداد‏.‏

وحدث عن الزبير بن بكار وعنه الصولي والطبراني، وكان أديباً فاضلاً، ومن شعره‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 135‏)‏

حق التنائي بين أهل الهوى * تكاتب يسخن عين النوى

وفي التداني لا انقضى عمره * تزاور يشفى غليل الجوى

واتفق له مرة أن جارية له مرضت فاشتهت ثلجاً، وكان حظية عنده، فلم يوجد الثلج إلا عند رجل، فساومه وكيله على رطل منه فامتنع من بيعه إلا كل رطل بالعراقي بخمسة آلاف درهم -وذلك لعلم صاحب الثلج بحاجتهم إليه - فرجع الوكيل ليشاوره فقال‏:‏ ويحك اشتره ولو بما عساه أن يكون، فرجع إلى صاحب الثلج فقال‏:‏ لا أبيعه إلا بعشرة آلاف‏.‏ فاشتراه بعشرة آلاف ثم اشتهت الجارية ثلجاً أيضاً - وذلك لموافقته لها - فرجع فاشترى منه رطلاً آخر بعشرة آلاف‏.‏

ثم آخر بعشرة آلاف وبقي عند صاحب الثلج رطلان فنطفت نفسه إلى أكل رطل منه ليقول‏:‏ أكلت رطلاً من الثلج بعشرة آلاف، فأكله وبقي عنده رطل فجاءه الوكيل فامتنع أن يبيعه الرطل إلا بثلاثين ألفاً فاشتراه منه فشفيت الجارية وتصدقت بمال جزيل فاستدعى سيدها صاحب الثلج فأعطاه من تلك الصدقة مالاً جزيلاً فصار من أكثر الناس مالاً بعد ذلك، واستخدمه ابن طاهر عنده والله أعلم‏.‏

ومن توفي في حدود الثلاثمائة من الهجرة‏:‏

 الصنوبري الشاعر

وهو محمد بن أحمد بن محمد بن مراد أبو بكر الضبي الصنوبري الحنبلي‏.‏

قال الحافظ ابن عساكر‏:‏ كان شاعراً محسناً‏.‏

وقد حكى عن علي بن سليمان الأخفش، ثم ذكر أشياء من لطائف شعره فمن ذلك قوله‏:‏

لا النوم أدرى به ولا الأرق * يدري بهذين من به رمق

إن دموعي من طول ما استبقت * كلّت فما تستطيع تستبق

ولي مَلك لم تبد صورته * مذ كان إلا صلّت له الحدق

نويت تقبيل نار وجنته * وخفت أدنو منها فأحترق

وله أيضاً‏:‏

شمس غداً يشبه شمساً غدت *وخدها في النور من خده

تغيب في فيه ولكنها * من بعد ذا تطلع في خده

وقد روى الحافظ البيهقي عن شيخه الحاكم عن أبي الفضل نصر بن محمد الطوسي قال‏:‏ أنشدنا أبو بكر الصنوبري فقال‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 11/ 136‏)‏

هدم الشيب ما بناه الشباب * والغواني ما عصين خضاب

قلب الآبنوس عاجاً * فللأعين منه والقلوب انقلاب

وضلال في الرأي أن يشنأ الـ * ـبازي على حسنه ويهوى الغراب

وله أيضاً وقد أورده ابن عساكر في ابن له فطم فجعل يبكي على ثديه‏:‏

منعوه أحب شيء إليه * من جميع الورى ومن والديه

منعوه غذاه ولقد كان * مباحاً له وبين يديه

عجباً له على صغر السن * هوى فاهتدى الفراق إليه

 إبراهيم بن أحمد بن محمد

ابن المولد، أبو إسحاق الصوفي الواعظ الرقي أحد مشايخها، روى الحديث وصحب أبا عبد الله ابن الجلاء الدمشقي، والجنيد وغير واحد‏.‏

وروى عنه تمام بن محمد وأبو عبد الرحمن السلمي‏.‏

وقد أورد ابن عساكر من شعره قوله‏:‏

لكِ مني على البعاد نصيب * لم ينله على الدنو حبيب

وعلى الطرف من سواكِ حجاب * وعلى القلب من هواكِ رقيب

زين في ناظري هواك وقلبي * والهوى فيه رائع ومشوب

كيف يغني قرب الطبيب عليلاً * أنت أسقمته وأنت الطبيب

وقوله‏:‏

الصمت آمن من كل نازلة * من ناله نال أفضل الغنم

ما نزلت بالرجال نازلة * أعظم ضراً من لفظة نعم

عثرة هذا اللسان مهلكة * ليست لدينا كعثرة القدم

احفظ لساناً يلقيك في تلف * فرب قول أذل ذا كرم