فصل: سنة ست وثمانين ومائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة أربع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ رجع الرشيد من الرقة إلى بغداد فأخذ الناس بأداء بقايا الخراج الذي عليهم‏.‏

وولى رجلاً يضرب الناس على ذلك ويحبسهم‏.‏

وولى على أطراف البلاد‏.‏

وعزل وولى وقطع ووصل‏.‏ وخرج بالجزيرة أبو عمرو الشاري فبعث إليه الرشيد من قبله شهر زور‏.‏ وحج بالناس فيها إبراهيم بن محمد العباسي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/199‏)‏

 وفيها توفي‏:‏

أحمد بن الرشيد

كان زاهداً عابداً قد تنسك، وكان لا يأكل إلا من عمل يده في الطين، كان يعمل فاعلاً فيه، وليس يملك إلا مرواً وزنبيلاً - أي‏:‏ مجرفة وقفَّة - وكان يعمل في كل جمعة بدرهم ودانق يتقرب بهما من الجمعة إلى الجمعة، وكان لا يعمل إلا في يوم السبت فقط، ثم يقبل على العبادة بقية أيام الجمعة‏.‏

وكان من زبيدة في قول بعضهم، والصحيح أنه من امرأة كان الرشيد قد أحبها فتزوجها فحملت منه بهذا الغلام، ثم إن الرشيد أرسلها إلى البصرة وأعطاها خاتماً من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه‏.‏

فلما صارت الخلافة إليه لم تأته ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما فلم يطلع لهما على خبر، فكان هذا الشاب يعمل بيده ويأكل من كدها، ثم رجع إلى بغداد، وكان يعمل في الطين ويأكل مدة زمانية‏.‏

هذا وهو ابن أمير المؤمنين، ولا يذكر للناس من هو إلى أن اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين فمرَّضه عنده‏.‏

فلما احتضر أخرج الخاتم وقال لصاحب المنزل‏:‏ اذهب بهذا إلى الرشيد وقل له‏:‏ صاحب هذا الخاتم يقول لك‏:‏ إياك أن تموت في سكرتك هذه فتندم حيث لا ينفع نادماً ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، وأن يكون آخر العهد بك، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغك أخبار من مضى‏.‏

قال‏:‏ فلما مات دفنته، وطلبت الحضور عند الخليفة، فلما أوقفت بين يديه قال‏:‏ ما حاجتك ‏؟‏

قلت‏:‏ هذا الخاتم دفعه إلي رجل وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك‏.‏

فلما نظر الخاتم عرفه فقال‏:‏ ويحك وأين صاحب هذا الخاتم ‏؟‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ مات يا أمير المؤمنين‏.‏

ثم ذكرت الكلام الذي أوصاني به، وذكرت له أنه يعمل بالفاعل في كل جمعة يوماً بدرهم وأربع دوانيق، أو بدرهم ودانق، يتقوت به سائر الجمعة، ثم يقبل على العبادة‏.‏

قال‏:‏ فلما سمع هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض وجعل يتمرغ ويتقلب ظهراً لبطن ويقول‏:‏ والله لقد نصحتني يا بني، ثم بكى، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال‏:‏ أتعرف قبره ‏؟‏

قلت‏:‏ نعم ‏!‏ أنا دفنته‏.‏

قال‏:‏ إذا كان العشي فائتني‏.‏

فقال‏:‏ فأتيته فذهب إلى قبره فلم يزل يبكي عنده حتى أصبح، ثم أمر لذلك الرجل بعشرة آلاف درهم، وكتب له ولعياله رزقاً‏.‏

وفيها مات‏:‏

عبد الله بن مصعب

ابن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام، القرشي الأسدي، والد بكار‏.‏

ألزمه الرشيد بولاية المدينة فقبلها بشروط عدل اشترطها، فأجابه إلى ذلك، ثم أضاف إليه نيابة اليمن، فكان من أعدل الولاة، وكان عمره يوم تولى نحواً من سبعين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/200‏)‏

عبد الله بن عبد العزيز العمري

أدرك أبا طوالة، وروى عن‏:‏ أبيه، وإبراهيم بن سعد‏.‏

وكان عابداً زاهداً، وعظ الرشيد يوماً فأطنب وأطيب‏.‏

قال له وهو واقف على الصفا‏:‏ أتنظركم حولها - يعني‏:‏ الكعبة - من الناس ‏؟‏

فقال‏:‏ كثير‏.‏

فقال‏:‏ كل منهم يسأل يوم القيامة عن خاصة نفسه، وأنت تسأل عنهم كلهم‏.‏

فبكى الرشيد بكاءً كثيراً، وجعلوا يأتونه بمنديل بعد منديل ينشف به دموعه‏.‏

ثم قال له‏:‏ يا هارون ‏!‏ إن الرجل ليسرف في ماله فيستحق الحجر عليه، فكيف بمن يسرف في أموال المسلمين كلهم ‏؟‏

ثم تركهم وانصرف والرشيد يبكي‏.‏

وله معه مواقف محمودة غير هذه‏.‏

توفي عن ست وستين سنة‏.‏

ومحمد بن يوسف بن معدان

أبو عبد الله الأصبهاني، أدرك التابعين، ثم اشتغل بالعبادة والزهادة‏.‏

كان عبد الله بن المبارك يسميه‏:‏ عروس الزهاد‏.‏

وقال يحيى بن سعيد القطان‏:‏ ما رأيت أفضل منه، كان كأنه قد عاين‏.‏

وقال ابن مهدي‏:‏ ما رأيت مثله، وكان لا يشتري خبزه من خباز واحد، ولا بقله من بقال واحد، كان لا يشتري إلا ممن لا يعرفه، يقول‏:‏ أخشى أن يحابوني فأكون ممن يعيش بدينه‏.‏

وكان لا يضع جنبه للنوم صيفاً ولا شتاء‏.‏

ومات ولم يجاوز الأربعين سنة رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وثمانين ومائة

فيها‏:‏ قتل أهل طبرستان متوليهم مهرويه الرازي، فولى الرشيد عليهم عبد الله بن سعيد الحرشي‏.‏

وفيها‏:‏ قتل عبد الرحمن الأنباري أبان بن قحطبة الخارجي بمرج العلقة‏.‏

وفيها‏:‏ عاث حمزة الشاري ببلاد باذغيس من خراسان، فنهض عيسى بن علي بن عيسى إلى عشرة آلاف من جيش حمزة فقتلهم، وسار وراء حمزة إلى كابل وزابلستان‏.‏

وفيها‏:‏ خرج أبو الخصيب فتغلب على أبيورد وطوس ونيسابور وحاصر مرو وقوي أمره‏.‏

وفيها‏:‏ توفي يزيد بن مزيد ببرذعة، فولى الرشيد مكانه ابنه أسد بن يزيد‏.‏

واستأذن الوزير يحيى بن خالد الرشيد في أن يعتمر في رمضان فأذن له، ثم رابط بجنده إلى وقت الحج‏.‏

وكان أمير الحج في هذه السنة منصور بن محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 وفيها توفي‏:‏

عبد الصمد بن علي

ابن عبد الله بن عباس، عم السفاح والمنصور‏.‏

ولد سنة أربع ومائة، وكان ضخم الخلق جداً ولم يبدل أسنانه، وكانت أصولها صفيحة واحدة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/201‏)‏

قال يوماً للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ هذا المجلس اجتمع فيه عم أمير المؤمنين، وعم عمه، وعم عم عمه‏.‏

وذلك أن سليمان بن أبي جعفر عم الرشيد، والعباس بن محمد بن علي عم سليمان، وعبد الصمد بن علي عم السفاح، وتلخيص ذلك أن عبد الصمد عم عم عم الرشيد، لأنه عم جده‏.‏

روى عبد الصمد، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن البر والصلة ليطيلان الأعمار، ويعمران الديار، ويثريان الأموال، ولو كان القوم فجاراً‏)‏‏)‏‏.‏

وبه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏‏(‏إن البر والصلة ليخففان الحساب يوم القيامة‏)‏‏)‏‏.‏

ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 21‏]‏‏.‏

وغير ذلك من الأحاديث‏.‏

ومحمد بن إبراهيم بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، المعروف بالإمام، كان على إمارة الحاج، وإقامة سقايته في خلافة المنصور عدة سنين‏.‏

توفي ببغداد فصلى عليه الأمين في شوال من هذه السنة، ودفن بالعباسية‏.‏

وفيها توفي من مشايخ الحديث‏:‏

تمام بن إسماعيل، وعمرو بن عبيد، والمطلب بن زياد، والمعافى بن عمران‏.‏ في قول‏.‏

ويوسف بن الماجشون، وأبو إسحاق الفزاري، إمام أهل الشام بعد الأوزاعي في المغازي والعلم والعبادة‏.‏

ورابعة العدوية

وهي‏:‏ رابعة بنت إسماعيل مولاة آل عتيك، العدوية البصرية، العابدة المشهورة‏.‏

ذكرها أبو نعيم في الحلية والرسائل، وابن الجوزي في صفوة الصفوة، والشيخ شهاب الدين السهروردي في المعارف، والقشيري‏.‏

وأثنى عليها أكثر الناس، وتكلم فيها أبو داود السجستاني، واتهمها بالزندقة، فلعله بلغه عنها أمر‏.‏

وأنشد لها السهروردي في المعارف‏:‏

إني جعلتكِ في الفؤاد محدثي * وأبحت جسميَ من أراد جلوسي

فالجسمُ مني للجليس موانسٌ * وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد ذكروا لها أحوالاً وأعمالاً صالحةً، وصيام نهار، وقيام ليل، ورؤيت لها منامات صالحة، فالله أعلم‏.‏

توفيت بالقدس الشريف وقبرها شرقيه بالطور، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/202‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وثمانين ومائة

فيها‏:‏ خرج علي بن عيسى بن ماهان من مرو لحرب أبي الخصيب إلى نسا فقاتله بها، وسبى نساءه وذراريه‏.‏

واستقامت خراسان‏.‏

وحج بالناس فيها الرشيد ومعه أبناه محمد الأمين، وعبد الله المأمون، فبلغ جملة ما أعطى لأهل الحرمين ألف ألف دينار وخمسين ألف دينار، وذلك أنه كان يعطي الناس فيذهبون إلى الأمين فيعطيهم، فيذهبون إلى المأمون فيعطيهم‏.‏

وكان إلى الأمين ولاية الشام والعراق، وإلى المأمون همدان إلى بلاد المشرق‏.‏

ثم تابع الرشيد لولده القاسم من بعد ولديه، ولقبه‏:‏ المؤتمن، وولاه الجزيرة والثغور والعواصم، وكان الباعث له على ذلك أن ابنه القاسم هذا كان في حجر عبد الملك بن صالح، فلما بايع الرشيد لولديه كتب إليه‏:‏

يا أيها الملك الذي * لو كان نجماً كان سعدا

اعقد لقاسم بيعةً * واقدح له في الملك زندا

فالله فرد واحد * فاجعل ولاة العهد فردا

ففعل الرشيد ذلك، وقد حمده قوم على ذلك، وذمه آخرون‏.‏

ولم ينتظم للقاسم هذا أمر، بل اختطفته المنون والأقدار عن بلوغ الأمل والأوطار‏.‏

ولما قضى الرشيد حجه أحضر من معه من الأمراء والوزراء، وأحضر وليي العهد‏:‏ محمداً الأمين، وعبد الله المأمون‏.‏

وكتب بمضمون ذلك صحيفة، وكتب فيها الأمراء والوزراء خطوطهم بالشهادة على ذلك، وأراد الرشيد أن يعلقها في الكعبة فسقطت فقيل‏:‏ هذا أمر سريع انتقاضه‏.‏ وكذا وقع كما سيأتي‏.‏

وقال إبراهيم الموصلي في عقد هذه البيعة في الكعبة‏:‏

خير الأمور مغبةٌ * وأحق أمرٍ بالتمام

أمر قضى أحكامه الر * حمن في البلد الحرام

وقد أطال القول في هذا المقام أبو جعفر بن جرير وتبعه ابن الجوزي في المنتظم‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

أصبغ بن عبد العزيز بن مروان

ابن الحكم، أبو ريان، في رمضان منها‏.‏

وحسان بن إبراهيم، قاضي كرمان، عن مائة سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/203‏)‏

وسلم الخاسر الشاعر

وهو‏:‏ سلم بن عمرو بن حماد بن عطاء، وإنما قيل له‏:‏ الخاسر لأنه باع مصحفاً واشترى به ديوان شعر لامرئ القيس، وقيل‏:‏ لأنه أنفق مائتي ألف في صناعة الأدب‏.‏

وقد كان شاعراً منطقياً له قدرة على الإنشاء على حرف واحد، كما قال في موسى الهادي‏:‏

موسى المطر غيث بكر ثم انهمر كم اعتبر ثم فتر وكم قدر ثم غفر عدل السير باقي الأثر خير البشر فرع مضر بدر بدر لمن نظر هو الوزر لمن حضر والمفتخر لم غبر

وذكر الخطيب أنه كان على طريقة غير مرضية من المجون والفسق، وأنه كان من تلاميذ بشار بن برد، وأن نظمه أحسن من نظم بشار، فمما غلب فيه بشاراً قوله‏:‏

من راقب الناس لم يظفر بحاجته * وفاز بالطيبات الفاتك اللهج

فقال سلم‏:‏

من راقب الناس مات غماً * وفاز باللذة الجسور

فغضب بشار وقال‏:‏ أحذ معاني كلامي فكساها ألفاظاً أخف من ألفاظي‏.‏

وقد حصل له من الخلفاء والبرامكة نحواً من أربعين ألف دينار، وقيل‏:‏ أكثر من ذلك‏.‏

ولما مات ترك ستة وثلاثين ألف دينار وديعة عند أبي الشمر الغساني، فغنى إبراهيم الموصلي يوماً الرشيد فأطر به فقال له‏:‏ سل‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ أسألك شيئاً ليس فيه من مالك شيء ولا أرزأوك شيئاً سواه‏.‏

قال‏:‏ وما هو ‏؟‏

فذكر له وديعة سلم الخاسر، وأنه لم يترك وارثاً‏.‏

فأمر له بها‏.‏

ويقال‏:‏ إنها كانت خمسين ألف دينار‏.‏

والعباس بن محمد

ابن علي بن عبد الله بن عباس، عم الرشيد، كان من سادات قريش، ولي إمارة الجزيرة في أيام الرشيد، وقد أطلق له الرشيد في يوم خمسة آلاف ألف درهم، وإليه تنسب العباسية، وبها دفن وعمره خمس وستون سنة، وصلى عليه الأمين‏.‏

ويقطين بن موسى

كان أحد الدعاة إلى دولة بني العباس، وكان داهية ذا رأي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/204‏)‏

وقد احتال مرة حيلة عظيمة لما حبس مروان الحمار إبراهيم بن محمد بحرَّان، فتحيرت الشيعة العباسية فيمن يولون، ومن يكون ولي الأمر من بعده إن قتل ‏؟‏

فذهب يقطين هذا إلى مروان فوقف بين يديه في صورة تاجر فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إني قد بعت إبراهيم بن محمد بضاعة ولم أقبض ثمنها منه حتى أخذته رسلك، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجمع بيني وبينه لأطالبه بمالي فعل‏.‏

قال‏:‏ نعم ‏!‏

فأرسل به إليه مع غلام، فلما رآه قال‏:‏ يا عدو الله إلى من أوصيت بعدك آخذ مالي منه ‏؟‏

فقال له‏:‏ إلى ابن الحارثية - يعني‏:‏ أخاه عبد الله السفاح - فرجع يقطين إلى الدعاة إلى بني العباس فأعلمهم بما قال، فبايعوا السفاح، فكان من أمره ما ذكرناه‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ كان مهلك البرامكة على يدي الرشيد، قتل جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي، ودمر ديارهم، واندرست آثارهم، وذهب صغارهم وكبارهم‏.‏

وقد اختلف في سبب ذلك على أقوال ذكرها ابن جرير وغيره‏.‏

قيل‏:‏ إن الرشيد كان قد سلم يحيى بن عبد الله بن حسن إلى جعفر البرمكي ليسجنه عنده، فما زال يحيى يترفق له حتى أطلقه، فنمَّ الفضل بن الربيع ذلك إلى الرشيد، فقال له الرشيد‏:‏ ويلك ‏!‏ لا تدخل بيني وبين جعفر، فلعله أطلقه عن أمري وأنا لا أشعر‏.‏

ثم سأل الرشيد جعفراً عن ذلك فصدقه فتغيظ عليه وحلف ليقتلنه، وكره البرامكة، ثم قتلهم وقلاهم بعدما كانوا أحظى الناس عنده، وأحبهم إليه، وكانت أم جعفر والفضل أم الرشيد من الرضاعة، وقد جعلهم الرشيد من الرفعة في الدنيا وكثرة المال بسبب ذلك شيئاً كثيراً لم يحصل لمن قبلهم من الوزراء ولا لمن بعدهم من الأكابر والرؤساء، بحيث إن جعفراً بنى داراً غرم عليها عشرين ألف ألف درهم، وكان ذلك من جملة ما نقمه عليه الرشيد‏.‏

ويقال‏:‏ إنما قتلهم الرشيد لأنه كان لا يمر ببلد ولا إقليم ولا قرية ولا مزرعة ولا بستان إلا قيل‏:‏ هذا لجعفر‏.‏

ويقال‏:‏ إن البرامكة كانوا يريدون إبطال خلافة الرشيد وإظهار الزندقة‏.‏

وقيل‏:‏ إنما قتلهم بسبب العباسة‏.‏

ومن العلماء من أنكر ذلك وإن كان ابن جرير قد ذكره‏.‏

وذكر ابن الجوزي أن الرشيد سئل عن سبب قتله البرامكة فقال‏:‏ لو أعلم أن قميصي يعلم ذلك لأحرقته‏.‏

وقد كان جعفر يدخل على الرشيد بغير إذن حتى كان يدخل عليه وهو في الفراش مع حظاياه - وهذه وجاهة ومنزلة عالية - وكان عنده من أحظى العشراء على الشراب المسكر - فإن الرشيد كان يستعمل في أواخر أيام خلافته المسكر - وكان أحب أهله إليه أخته العباسة بنت المهدي، وكان يحضرها معه، وجعفر البرمكي حاضراً أيضاً معه، فزوجه بها ليحل النظر إليها، واشترط عليه أن لا يطأها‏.‏

وكان الرشيد ربما قام وتركهما وهما ثملان من الشراب فربما واقعها جعفر فحبلت منه فولدت ولداً وبعثته مع بعض جواريها إلى مكة، وكان يربى بها‏.‏

وذكر ابن خلكان أن الرشيد لما زوج أخته العباسة من جعفر أحبها حباً شديداً، فراودته عن نفسه فامتنع أشد الامتناع خوفاً من الرشيد، فاحتالت عليه - وكانت أمه تهدي له في كل ليلة جمعة جارية حسناء بكراً - فقالت لأمه‏:‏ أدخليني عليه بصفة جارية‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/205‏)‏

فهابت ذلك فتهددتها حتى فعلت ذلك‏.‏

فلما دخلت عليه لم يتحقق وجهها فواقعها فقالت له‏:‏ كيف رأيت خديعة بنات الملوك ‏؟‏‏.‏

وحملت من تلك الليلة، فدخل على أمه فقال‏:‏ بعتيني والله برخيص‏.‏

ثم إن والده يحيى بن خالد جعل يضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة ذلك إلى الرشيد مرات، ثم أفشت له سر العباسة، فاستشاط غيظاً، ولما أخبرته أن الولد قد أرسلت به إلى مكة حج عام ذلك حتى تحقق الأمر‏.‏

ويقال‏:‏ إن بعض الجواري نمت عليها إلى الرشيد وأخبرته بما وقع، وأن الولد بمكة وعنده جوار وأموال وحلي كثيرة، فلم يصدق حتى حج في السنة الخالية، ثم كشف الأمر عن الحال، فإذا هو كما ذكر‏.‏

وقد حج في هذه السنة التي حج فيها الرشيد يحيى بن خالد، فجعل يدعو عند الكعبة‏:‏ اللهم إن كان يرضيك عني سلب جميع مالي وولدي وأهلي فافعل ذلك وأبق علي منهم الفضل، ثم خرج‏.‏

فلما كان عند باب المسجد رجع فقال‏:‏ اللهم والفضل معهم فإني راض برضاك عني ولا تستثن منهم أحداً‏.‏

فلما قفل الرشيد من الحج صار إلى الحيرة ثم ركب في السفن إلى الغمر من أرض الأنبار، فلما كانت ليلة السبت سلخ المحرم من هذه السنة أرسل مسروراً الخادم ومعه حماد بن سالم أبو عصمة في جماعة من الجند، فأطافوا بجعفر بن يحيى ليلاً، فدخل عليه مسرور الخادم وعنده بختيشوع المتطبب، وأبو ركانة الأعمى المغني الكلوذاني، وهو في أمره وسروره، وأبو ركانة يغنيه‏:‏

فلا تبعد فكل فتى سيأتي * عليه الموت يطرق أو يغادي

فقال الخادم له‏:‏ يا أبا الفضل ‏!‏ هذا الموت قد طرقك، أجب أمير المؤمنين‏.‏

فقام إليه يقبل قدميه ويدخل عليه أن يمكنه فيدخل إلى أهله فيوصي إليهم ويودعهم، فقال‏:‏ أما الدخول فلا سبيل إليه، ولكن أوص‏.‏

فأوصى وأعتق جميع مماليكه أو جماعة منهم، وجاءت رسل الرشيد تستحثه فأخرج إخراجاً عنيفاً، فجعلوا يقودونه حتى أتوا به المنزل الذي فيه الرشيد، فحبسه وقيده بقيد حمار، وأعلموا الرشيد بما كان يفعل، فأمر بضرب عنقه، فجاء السياف إلى جعفر فقال‏:‏ إن أمير المؤمنين قد أمرني أن آتيه برأسك‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا هاشم ‏!‏ لعل أمير المؤمنين سكران، فإذا صحا عاتبك فيَّ، فعاوده‏.‏

فرجع إلى الرشيد فقال‏:‏ إنه يقول‏:‏ لعلك مشغول‏.‏

فقال‏:‏ يا ماص بظر أمه ائتني برأسه‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/206‏)‏

فكرر عليه جعفر المقالة فقال الرشيد في الثالثة‏:‏ برئت من المهدي إن لم تأتني برأسه لأبعثن من يأتيني برأسك ورأسه‏.‏

فرجع إلى جعفر فحز رأسه وأتى به إلى الرشيد فألقاه بين يديه، وأرسل الرشيد من ليلته البرد بالاحتياط على البرامكة جميعهم ببغداد وغيرها، ومن كان منهم بسبيل‏.‏

فأخذوا كلهم عن آخرهم، فلم يفلت منهم أحد‏.‏

وحبس يحيى بن خالد في منزله، وحبس الفضل بن يحيى في منزل آخر، وأخذ جميع ما كانوا يملكونه من الدنيا، وبعث الرشيد برأس جعفر وجثته فنصب الرأس عند الجسر الأعلى، وشقت الجثة باثنتين فنصب نصفها الواحد عند الجسر الأسفل، والأخر عند الجسر الآخر، ثم أحرقت بعد ذلك‏.‏

ونودي في بغداد‏:‏ أن لا أمان للبرامكة ولا لمن آواهم، إلا محمد بن يحيى بن خالد فإنه مستثنى منهم لنصحه للخليفة‏.‏

وأتي الرشيد بأنس بن أبي شيخ كان يتهم بالزندقة، وكان مصاحباً لجعفر، فدار بينه وبين الرشيد كلام، ثم أخرج الرشيد من تحت فراشه سيفاً وأمر بضرب عنقه به‏.‏

وجعل يتمثل ببيت قيل في قتل أنس قبل ذلك‏:‏

تلمظ السيف من شوق إلى أنس * فالسيف يلحظ والأقدار تنتظر

فضربت عنق أنس فسبق السيف الدم فقال الرشيد‏:‏ رحم الله عبد الله بن مصعب‏.‏

فقال الناس‏:‏ إن السيف كان للزبير بن العوام‏.‏

ثم شحنت السجون بالبرامكة، واستلبت أموالهم كلها، وزالت عنهم النعمة‏.‏

وقد كان الرشيد في اليوم الذي قتل جعفراً في آخره، هو وإياه راكبين في الصيد في أوله، وقد خلا به دون ولاة العهود، وطيبه في ذلك بالغالية بيده، فلما كان وقت المغرب ودعه الرشيد وضمه إليه وقال‏:‏ لولا أن الليلة ليلة خلوتي بالنساء ما فارقتك، فاذهب إلى منزلك واشرب واطرب وطب عيشاً حتى تكون على مثل حالي، فأكون أنا وأنت في اللذة سواء‏.‏

فقال‏:‏ والله يا أمير المؤمنين لا أشتهي ذلك إلا معك‏.‏

فقال‏:‏ لا ‏!‏ انصرف إلى منزلك‏.‏

فانصرف عنه جعفر فما هو إلا أن ذهب من الليل بعضه حتى أوقع به من البأس والنكال ما تقدم ذكره‏.‏

وكان ذلك ليلة السبت آخر ليلة من المحرم‏.‏

وقيل‏:‏ إنها أول ليلة من صفر في هذه السنة، وكان عمر جعفر إذ ذاك سبعاً وثلاثين سنة‏.‏

ولما جاء الخبر إلى أبيه يحيى بن خالد بقتله قال‏:‏ قتل الله ابنه‏.‏

ولما قيل له‏:‏ قد خربت دارك‏.‏

قال‏:‏ خرب الله دوره‏.‏

ويقال‏:‏ إن يحيى لما نظر إلى دوره وقد هتكت ستورها، واستبيحت قصورها، وانتهب ما فيها‏.‏

قال‏:‏ هكذا تقوم الساعة‏.‏

وقد كتب إليه بعض أصحابه يعزيه فيما جرى له، فكتب إليه جواب التعزية‏:‏ أنا بقضاء الله راض، وباختياره عالم، ولا يؤاخذ الله العباد إلا بذنوبهم، وما الله بظلام للعبيد، وما يغفر الله أكثر، ولله الحمد‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/207‏)‏

وقد أكثر الشعراء من المراثي في البرامكة فمن ذلك قول الرقاشي، وقيل‏:‏ إنها لأبي نواس‏:‏

الآن استرحنا واستراحت ركابنا * وأمسك من يحدي ومن كان يحتدى

فقل للمطايا قد أمنت من السُّرى * وطيِّ الفيافي فدفداً بعد فدفد

وقل للمنايا قد ظفرت بجعفر * ولن تظفري من بعده بمسوَّد

وقل للعطايا بعد فضل تعطلي * وقل للرزايا كل يوم تجددي

ودونك سيفاً برمكياً مهنداً * أصيب بسيف هاشمي مهند

وقال الرقاشي، وقد نظر إلى جعفر وهو على جذعه‏:‏

أما والله لولا خوف واشٍ * وعين للخليفة لا تنام

لطفنا حول جذعك واستلمنا * كما للناس بالحجر استلام

فما أبصرت قبلك يا ابن يحيى * حساماً فلَّه السيف الحسام

على اللذات والدنيا جميعاً * ودولة آل برمكٍ السلام

قال‏:‏ فاستدعاه الرشيد فقال له‏:‏ كم كان يعطيك جعفر كل عام ‏؟‏

قال‏:‏ ألف دينار‏.‏

فأمر له بألفي دينار‏.‏

وقال الزبير بن بكار‏:‏ عن عمه مصعب الزبيري، قال‏:‏ لما قتل الرشيد جعفراً وقفت امرأة على حمار فاره فقالت بلسان فصيح‏:‏ والله يا جعفر لئن صرت اليوم آية لقد كنت في المكارم غاية، ثم أنشأت تقول‏:‏

ولما رأيت السيف خالط جعفراً * ونادى منادٍ للخليفة في يحيى

بكيت على الدنيا وأيقنت أنما * قصارى الفتى يوماً مفارقة الدنيا

وما هي إلا دولة بعد دولة * تخوِّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى

إذا أنزلت هذا منازل رفعة * من الملك حطت إلى الغاية القصوى

قال‏:‏ ثم حركت حمارها فذهبت فكأنها كانت ريحاً لا أثر لها، ولا يعرف أين ذهبت‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/208‏)‏

وذكر ابن الجوزي‏:‏ أن جعفراً كان له جارية يقال لها‏:‏ فتينة مغنية، لم يكن لها في الدنيا نظير، كان مشتراها عليه بمن معها من الجواري مائة ألف دينار، فطلبها منه الرشيد فامتنع من ذلك، فلما قتله الرشيد اصطفى تلك الجارية فأحضرها ليلة في مجلس شرابه وعنده جماعة من جلسائه وسماره، فأمر من معها أن يغنين فاندفعت كل واحدة تغني، حتى انتهت النوبة إلى فتينة، فأمرها بالغناء فأسبلت دمعها وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فغضب الرشيد غضباً شديداً، وأمر بعض الحاضرين أن يأخذها إليه فقد وهبها له، ثم لما أراد الانصراف قال له فيما بينه وبينه‏:‏ لا تطأها‏.‏

ففهم أنه إنما يريد بذلك كسرها‏.‏

فلما كان بعد ذلك أحضرها وأظهر أنه قد رضي عنها وأمرها بالغناء فامتنعت وأرسلت دمعها وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فغضب الرشيد أشد من غضبه في المرة الأولى وقال‏:‏ النطع والسيف‏.‏

وجاء السياف فوقف على رأسها فقال له الرشيد‏:‏ إذا أمرتك ثلاثاً وعقدت أصابعي ثلاثاً فاضرب‏.‏

ثم قال لها‏:‏ غنِّ، فبكت وقالت‏:‏ أما بعد السادة فلا‏.‏

فقعد أصبعه الخنصر، ثم أمرها الثانية فامتنعت، فعقد اثنتين، فارتعد الحاضرون وأشفقوا غاية الإشفاق وأقبلوا عليها يسألونها أن تغني لئلا تقتل نفسها، وأن تجيب أمير المؤمنين إلى ما يريد‏.‏

ثم أمرها الثالثة فاندفعت تغني كارهة‏:‏

لما رأيت الدنيا قد درست * أيقنت أن النعيم لم يعد

قال‏:‏ فوثب إليها الرشيد وأخذ العود من يدها وأقبل يضرب به وجهها ورأسها حتى تكسر، وأقبلت الدماء وتطايرت الجوار من حولها، وحملت من بين يديه فماتت بعد ثلاث‏.‏

وروي أن الرشيد كان يقول‏:‏ لعن الله من أغراني بالبرامكة، فما وجدت بعدهم لذة ولا راحة ولا رجاء، وددت والله أني شطرت نصف عمري وملكي وأني تركتهم على حالهم‏.‏

وحكى ابن خلكان‏:‏ أن جعفراً اشترى جارية من رجل بأربعين ألف دينار، فالتفتت إلى بائعها وقالت‏:‏ اذكر العهد الذي بيني وبينك، لا تأكل من ثمني شيئاً‏.‏

فبكى سيدها وقال‏:‏ اشهدوا أنها حرة، وأني قد تزوجتها‏.‏

فقال جعفر‏:‏ اشهدوا أن الثمن له أيضاً‏.‏

وكتب إلى نائب له‏:‏ أما بعد فقد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما أن تعدل، وإما تعتزل‏.‏

ومن أحسن ما وقع منه من التلطف في إزالة همِّ الرشيد، وقد دخل عليه منجم يهودي فأخبره أنه سيموت في هذه السنة، فحمل الرشيد هماً عظيماً، فدخل عليه جعفر فسأله‏:‏ ما الخبر ‏؟‏

فأخبره بقول اليهودي فاستدعى جعفر اليهودي، فقال له‏:‏ كم بقي لك من العمر‏؟‏ فذكر مدة طويلة‏.‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ اقتله حتى تعلم كذبه فيما أخبر عن عمره‏.‏

فأمر الرشيد باليهودي فقتل، وسرِّي عن الرشيد الذي كان فيه‏.‏

وبعد مقتل البرامكة قتل الرشيد إبراهيم بن عثمان بن نهيك، وذلك أنه حزن على البرامكة، ولاسيما على جعفر، كان يكثر البكاء عليهم، ثم خرج من حيز البكاء إلى حيز الانتصار لهم والأخذ بثأرهم‏.‏

وكان إذا شرب في منزله يقول لجاريته‏:‏ ائتني بسيفي، فيسله ثم يقول‏:‏ والله لأقتلن قاتله‏.‏

فأكثر أن يقول ذلك، فخشي ابنه عثمان أن يطلع الخليفة على ذلك فيهلكهم عن آخرهم، ورأى أن أباه لا ينزع عن هذا، فذهب إلى الفضل بن الربيع فأعلمه، فأخبر الفضل الخليفة، فاستدعى به فاستخبره فأخبره، فقال‏:‏ من يشهد معك عليه ‏؟‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/209‏)‏

فقال‏:‏ فلان الخادم‏.‏

فجاء به فشهد، فقال الرشيد‏:‏ لا يحل قتل أمير كبير بمجرد قول غلام وخصي، لعلهما قد تواطآ على ذلك‏.‏

فأحضره الرشيد معه على الشراب ثم خلا به فقال‏:‏ ويحك يا إبراهيم ‏!‏ إن عندي سراً أحب أن أطلعك عليه، أقلقني في الليل والنهار‏.‏

قال‏:‏ وما هو ‏؟‏

قال‏:‏ إني ندمت على قتل البرامكة، ووددت أني خرجت من نصف ملكي ونصف عمري ولم أكن فعلت بهم ما فعلت، فإني لم أجد بعدهم لذة ولا راحة‏.‏

فقال‏:‏ رحمة الله على أبي الفضل - يعني‏:‏ جعفراً - وبكى، وقال‏:‏ والله يا سيدي لقد أخطأت في قتله‏.‏

فقال له‏:‏ قم لعنك الله، ثم حبسه، ثم قتله بعد ثلاثة أيام، وسلم أهله وولده‏.‏

وفي هذه السنة‏:‏ غضب الرشيد على عبد الملك بن صالح بسبب أنه بلغه أنه يريد الخلافة، واشتد غضبه بسببه على البرامكة الذين هم في الحبوس، ثم سجنه فلم يزل في السجن حتى مات الرشيد، فأخرجه الأمين وعقد له على نيابة الشام‏.‏

وفيها‏:‏ ثارت العصبية بالشام بين المضرية والنزارية، فبعث إليهم الرشيد محمد بن منصور بن زياد فأصلح بينهم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالمصيصة فانهدم بعض سورها ونضب ماؤها ساعة من الليل‏.‏

وفيها‏:‏ بعث الرشيد ولده القاسم على الصائفة، وجعله قرباناً ووسيلة بين يديه، وولاه العواصم، فسار إلى بلاد الروم فحاصرهم حتى افتدوا بخلق من الأسارى يطلقونهم ويرجع عنهم، ففعل ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ نقضت الروم الصلح الذي كان بينهم وبين المسلمين، الذي كان عقده الرشيد بينه وبين رني ملكة الروم الملقبة‏:‏ أغسطه‏.‏

وذلك أن الروم عزلوها عنهم وملكوا عليهم النقفور، وكان شجاعاً، يقال‏:‏ إنه منه سلالة آل جفنة، فخلعوا رني وسملوا عينيها‏.‏

فكتب نقفور إلى الرشيد‏:‏ من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد‏:‏ فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها، وذلك من ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي هذا فاردد إلي ما حملته إليك من الأموال وافتد نفسك به، وإلا فالسيف بيننا وبينك‏.‏

فلما قرأ هارون الرشيد كتابه أخذه الغضب الشديد حتى لم يتمكن أحد أن ينظر إليه، ولا يستطيع مخاطبته، وأشفق عليه جلساؤه خوفاً منه، ثم استدعى بدواة وكتب على ظهر الكتاب‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم‏.‏ قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه والسلام‏.‏

ثم شخص من فوره وسار حتى نزل بباب هرقلة ففتحها واصطفى ابنة ملكها، وغنم من الأموال شيئاً كثيراً، وخرب وأحرق، فطلب نقفور منه الموادعة على خراج يؤدِّيه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك‏.‏

فلما رجع من غزوته وصار بالرقة نقض الكافر العهد وخان الميثاق، وكان البرد قد اشتد جداً، فلم يقدر أحد أن يجيء فيخبر الرشيد بذلك لخوفهم على أنفسهم من البرد، حتى يخرج فصل الشتاء‏.‏

وحج بالناس فيها عبد الله به عباس بن محمد بن علي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/210‏)‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك

أبو الفضل البرمكي، الوزير ابن الوزير، ولاه الرشيد الشام وغيرها من البلاد، وبعثه إلى دمشق لما ثارت الفتنة العشيران بحوران بين قيس ويمن، وكان ذلك أول نار ظهرت بين قيس ويمن في بلاد الإسلام، كان خامداً من زمن الجاهلية فأثاروه في هذا الأوان، فلما قدم جعفر بجيشه خمدت الشرور وظهر السرور، وقيلت في ذلك أشعار حسان، قد ذكر ذلك ابن عساكر في ترجمة جعفر من تاريخه، منها‏:‏

لقد أوقدت في الشام نيران فتنة * فهذا أوان الشام تخمد نارها

إذا جاش سوج البحر من آل برمك * عليها خبت شهبانها وشرارها

رماها أمير المؤمنين بجعفر * وفيه تلافى صدعها وانجبارها

هو الملك المأمول للبر والتقى * وصولاته لا يستطاع خطارها

وهي قصيدة طويلة، وكانت له فصاحة وبلاغة، وذكاء وكرم زائد، كان أبوه قد ضمه إلى القاضي أبي يوسف فتفقه عليه، وصار له اختصاص بالرشيد، وقد وقع ليلة بحضرة الرشيد زيادة على ألف توقيع، ولم يخرج في شيء منها عن موجب الفقه‏.‏

وقد روى الحديث عن أبيه، عن عبد الحميد الكاتب، عن عبد الملك بن مروان كاتب عثمان، عن زيد بن ثابت كاتب الوحي، قال‏:‏ قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏‏(‏إذا كتبت بسم الله الرحمن الرحيم فبيِّن السين فيه‏)‏‏)‏‏.‏

رواه الخطيب وابن عساكر، من طريق أبي القاسم الكعبي المتكلم، واسمه‏:‏ عبد الله بن أحمد البلخي - وقد كان كاتباً لمحمد بن زيد -، عن أبيه، عن عبد الله بن طاهر بن الحسين بن زريق، عن الفضل بن سهل ذي الرياستين، عن جعفر بن يحيى، به‏.‏

وقال عمرو بن بحر الجاحظ‏:‏ قال جعفر للرشيد‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ قال لي أبي يحيى‏:‏ إذا أقبلت الدنيا عليك فأعط، وإذا أدبرت فأعط، فإنها لا تبقى، وأنشدني أبي‏:‏

لا تبخلن لدنيا وهي مقبلة * فليس ينقصها التبذير والسرف

فإن تولَّت فأحرى أن تجود بها * فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

قال الخطيب‏:‏ ولقد كان جعفر من علوِّ القدر ونفاذ الأمر وعظم المحل وجلالة المنزلة عند الرشيد على حالة انفرد بها، ولم يشاركه فيها أحد‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/211‏)‏

وكان سمح الأخلاق، طلق الوجه، ظاهر البشر‏.‏

أما جوده وسخاؤه وبذله وعطاؤه فأشهر من أن يذكر‏.‏

وكان أيضاً من ذوي الفصاحة والمذكورين بالبلاغة‏.‏

وروى ابن عساكر، عن مهذب حاجب العباس بن محمد صاحب قطيعة العباس والعباسية‏:‏ أنه أصابته فاقة وضائقة، وكان عليه ديون، فألح عليه المطالبون وعنده سفط فيه جواهر شراؤه عليه ألف ألف، فأتى به جعفراً فعرضه عليه وأخبره بما هو عليه من الثمن، وأخبره بإلحاح المطالبين بديونهم، وأنه لم يبق له سوى هذا السفط‏.‏

فقال‏:‏ قد اشتريته منك بألف ألف، ثم أقبضه المال وقبض السفط منه، وكان ذلك ليلاً‏.‏

ثم أمر من ذهب بالمال إلى منزله وأجلسه معه في السمر تلك الليلة، فلما رجع إلى منزله إذا السفط قد سبقه إلى منزله أيضاً‏.‏

قال‏:‏ فلما أصبحت غدوت إلى جعفر لأتشكر له فوجدته مع أخيه الفضل على باب الرشيد يستأذنان عليه، فقال له جعفر‏:‏ إني قد ذكرت أمرك للفضل، وقد أمر لك بألف ألف، وما أظنها إلا قد سبقتك إلى منزلك، وسأفاوض فيك أمير المؤمنين‏.‏

فلما دخل ذكر له أمره وما لحقه من الديون فأمر له بثلاثمائة ألف دينار‏.‏

وكان جعفر ليلة في سمره عند بعض أصحابه، فجاءت الخنفساء فركبت ثياب الرجل فألقاها عنه جعفر، وقال‏:‏ إن الناس يقولون‏:‏ من قصدته الخنفساء يبشر بمال يصيبه، فأمر له جعفر بألف دينار‏.‏

ثم عادت الخنفساء، فرجعت إلى الرجل فأمر له بألف دينار أخرى‏.‏

وحج مرة مع الرشيد فلما كانوا بالمدينة قال لرجل من أصحابه‏:‏ انظر جارية اشتريها تكون فائقة في الجمال والغناء والدعابة، ففتش الرجل فوجد جارية على النعت فطلب سيدها فيها مالاً كثيراً على أن يراها جعفر، فذهب جعفر إلى منزل سيدها فلما رآها أعجب بها، فلما غنته أعجبته أكثر، فساومه صاحبها فيها‏.‏

فقال له جعفر‏:‏ قد أحضرنا مالاً فإن أعجبك وإلا زدناك‏.‏

فقال لها سيدها‏:‏ إني كنت في نعمة وكنت عندي في غاية السرور، وإنه قد انقبض علي حالي، وإني قد أحببت أن أبيعك لهذا الملك، لكي تكوني عنده كما كنت عندي‏.‏

فقالت له الجارية‏:‏ والله يا سيدي لو ملكت منك كما ملكت مني لم أبعك بالدنيا وما فيها، وأين ما كنت عاهدتني أن لا تبيعني ولا تأكل من ثمني‏.‏

فقال سيدها لجعفر وأصحابه‏:‏ أشهدكم أنها حرة لوجه الله، وأني قد تزوجتها‏.‏

فلما قال ذلك نهض جعفر وقام أصحابه وأمروا الحمال أن يحمل المال‏.‏

فقال جعفر‏:‏ والله لا يتبعني‏.‏

وقال للرجل‏:‏ قد ملكتك هذا المال فأنفقه على أهلك، وذهب وتركه‏.‏

هذا وقد كان يبخل بالنسبة إلى أخيه الفضل، إلا أن الفضل كان أكثر منه مالاً‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/212‏)‏

وروى ابن عساكر من طريق الدارقطني بسنده‏:‏ أنه لما أصيب جعفر وجدوا له في جرة ألف دينار، زنة كل دينار مائة دينار، مكتوب على صفحة الدينار جعفر‏:‏

وأصفر من ضرب دار الملوك * يلوح على وجهه جعفر

يزيد على مائة واحداً * متى تعطه معسراً يوسر

وقال أحمد بن المعلى الرواية‏:‏ كتبت عنان جارية الناطفي لجعفر تطلب منه أن يقول لأبيه يحيى أن يشير علي الرشيد بشرائها، وكتبت إليه هذه الأبيات من شعرها في جعفر‏:‏

يا لائمي جهلاً ألا تقصر * من ذا علي حر الهوى يصبر

لا تلحني إذا شربت الهوى * صرفاً فممزوج الهوى سكر

أحاط بي الحب فخلفي له * بحر وقدامي له أبحر

تخفق رايات الهوى بالردى * فوقي وحولي للهوى عسكر

سيَّان عندي في الهوى لائم * أقلَّ فيه والذي يكثر

أنت المصفى من بني برمك * يا جعفر الخيرات يا جعفر

لا يبلغ الواصف في وصفه * ما فيك من فضل ولا يعشر

من وفر المال لأغراضه * فجعفر أغراضه أوفر

ديباجة الملك على وجهه * وفي يديه العارض الممطر

سحت علينا منهما ديمة * ينهل منها الذهب الأحمر

لو مسحت كفاه جلمودة * نضر فيها الورق الأخضر

لا يستتم المجد إلا فتى * يصبر للبذل كما يصبر

يهتز تاج الملك من فوقه * فخراً ويزهى تحته المنبر

أشبهه البدر إذا ما بدا * أو غرة في وجهه يزهر

والله ما أدري أبدر الدجى * في وجهه أم وجهه أنور

يستمطر الزوار منك الندى * وأنت بالزوار تستبشر

وكتبت تحت أبياتها حاجتها، فركب من فوره إلى أبيه فأدخله على الخليفة فأشار عليه بشرائها فقال‏:‏ لا ‏!‏ والله لا أشتريها، وقد قال فيها الشعراء فأكثروا، واشتهر أمرها، وهي التي يقول فيها أبو نواس‏:‏

لا يشتريها إلا ابن زانية * أو قلطبان يكون من كانا

وعن ثمامة بن أشرس، قال‏:‏ بت ليلة مع جعفر بن يحيى بن خالد، فانتبه من منامه يبكي مذعوراً، فقلت‏:‏ ما شأنك ‏؟‏

قال‏:‏ رأيت شيخاً جاء فأخذ بعضادتي هذا الباب وقال‏:‏

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا * أنيس ولم يسمر بمكة سامر

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/213‏)‏

قال فأجبته‏:‏

بلى نحن كنا أهلها فأبادنا * صروف الليالي والجدود العواثر

قال ثمامة‏:‏ فلما كانت الليلة القابلة قتله الرشيد ونصب رأسه على الجسر، ثم خرج الرشيد فنظر إليه فتأمله ثم أنشأ يقول‏:‏

تقاضاك دهرك ما أسلفا * وكدر عيشك بعد الصفا

فلا تعجبن فإن الزمان * رهين بتفريق ما ألفا

قال‏:‏ فنظرت إلى جعفر وقلت‏:‏ أما لئن أصبحت اليوم آية فلقد كنت في الكرم والجود غاية‏.‏

قال‏:‏ فنظر إلي كأنه جمل صؤول ثم أنشأ يقول‏:‏

ما يعجب العالم من جعفر * ما عاينوه فبنا كانا

من جعفر أو من أبوه ومن * كانت بنو برمك لولانا

ثم حول وجه فرسه وانصرف‏.‏

وقد كان مقتل جعفر ليلة السبت مستهل صفر من سنة سبع وثمانين ومائة، وكان عمره سبعاً وثلاثين سنة، ومكث وزيراً سبع عشرة سنة‏.‏

وقد دخلت عبادة أم جعفر على أناس في يوم عيد أضحى تستمنحهم جلد كبش تدفأ به، فسألوها عن ما كانت فيه من النعمة فقالت‏:‏ لقد أصبحت في مثل هذا اليوم وإن على رأسي أربعمائة وصيفة، وأقول إن ابني جعفراً عاق لي‏.‏

وروى الخطيب البغدادي بإسناده‏:‏ أن سفيان بن عيينة لما بلغه قتل الرشيد جعفراً وما أحل بالبرامكة، استقبل القبلة وقال‏:‏ اللهم إن جعفراً كان قد كفاني مؤنة الدنيا فاكفه مؤنة الآخرة‏.‏

حكاية غريبة

ذكر ابن الجوزي في المنتظم أن المأمون بلغه أن رجلاً يأتي كل يوم إلى قبور البرامكة فيبكي عليهم ويندبهم، فبعث من جاء به فدخل عليه وقد يئس من الحياة‏.‏

فقال له‏:‏ ويحك ‏!‏ ما يحملك على صنيعك هذا ‏؟‏

فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنهم أسدوا إلي معروفاً وخيراً كثيراً‏.‏

فقال‏:‏ وما الذي أسدوه إليك ‏؟‏

فقال‏:‏ أنا المنذر بن المغيرة من أهل دمشق، كنت بدمشق في نعمة عظيمة واسعة، فزالت عني حتى أفضى بي الحال إلى أن بعت داري، ثم لم يبق لي شيء‏.‏

فأشار بعض أصحابي عليَّ بقصد البرامكة ببغداد، فأتيت أهلي وتحملت بعيالي، فأتيت بغداد ومعي نيف وعشرون امرأة فأنزلتهن في مسجد مهجور ثم قصدت مسجداً مأهولاً أصلي فيه‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/214‏)‏

فدخلت مسجداً فيه جماعة لم أر أحسن وجوهاً منهم، فجلست إليهم فجعلت أدبر في نفسي كلاماً أطلب به منهم قوتاً للعيال الذين معي، فيمنعني من ذلك السؤال الحياء‏.‏

فبينا أنا كذلك إذا بخادم قد أقبل فدعاهم فقاموا كلهم وقمت معهم، فدخلوا داراً عظيمةً، فإذا الوزير يحيى بن خالد جالس فيها فجلسوا حوله، فعقد عقد ابنته عائشة على ابن عم له ونثروا فلق المسك وبنادق العنبر، ثم جاء الخدم إلى كل واحد من الجماعة بصينية من فضة فيها ألف دينار، ومعها فتات المسك‏.‏

فأخذها القوم ونهضوا وبقيت أنا جالساً، وبين يدي الصينية التي وضعوها لي، وأنا أهاب أن آخذها من عظمتها في نفسي، فقال لي بعض الحاضرين‏:‏ ألا تأخذها وتذهب ‏؟‏

فمددت يدي فأخذتها فأفرغت ذهبها في جيبي وأخذت الصينية تحت إبطي وقمت، وأنا خائف أن تؤخذ مني، فجعلت أتلفت والوزير ينظر إلي وأنا لا أشعر‏.‏

فلما بلغت الستارة أمرهم فردوني فيئست من المال، فلما رجعت قال لي‏:‏ ما شأنك خائف ‏؟‏

فقصصت عليه خبري، فبكى ثم قال لأولاده‏:‏ خذوا هذا فضموه إليكم‏.‏

فجاءني خادم فأخذ مني الصينية والذهب وأقمت عندهم عشرة أيام من ولد إلى ولد، وخاطري كله عند عيالي، ولا يمكنني الانصراف‏.‏

فلما انقضت العشرة الأيام جاءني خادم فقال‏:‏ ألا تذهب إلى عيالك ‏؟‏

فقلت‏:‏ بلى ‏!‏ والله، فقام يمشي أمامي ولم يعطني الذهب ولا الصينية‏.‏

فقلت‏:‏ يا ليت هذا كان قبل أن يؤخذ مني الصينية والذهب، ياليت عيالي رأوا ذلك‏.‏

فسار يمشي أمامي إلى دار لم أر أحسن منها، فدخلتها فإذا عيالي يتمرغون في الذهب والحرير فيها، وقد بعثوا إلى الدار مائة ألف درهم وعشرة آلاف دينار، وكتاباً فيه تمليك الدار بما فيها، وكتاباً آخر فيه تمليك قريتين جليلتين‏.‏

فكنت مع البرامكة في أطيب عيش، فلما أصيبوا أخذ مني عمرو بن مسعدة القريتين وألزمني بخراجهما، فكلما لحقتني فاقة قصدت دورهم وقبورهم فبكيت عليهم‏.‏

فأمر المأمون بردِّ القريتين، فبكى الشيخ بكاءً شديداً فقال المأمون‏:‏ مالك‏؟‏ ألم استأنف بك جميلاً ‏؟‏

قال‏:‏ بلى ‏!‏ ولكن هو من بركة البرامكة‏.‏

فقال له المأمون‏:‏ امض مصاحباً فإن الوفاء مبارك، ومراعاة حسن العهد والصحبة من الإيمان‏.‏

وفيها توفي‏:‏

الفضيل بن عياض

أبو علي التميمي، أحد أئمة العباد الزهاد، وهو أحد العلماء والأولياء، ولد بخراسان بكورة دينور، وقدم الكوفة وهو كبير‏.‏

فسمع بها‏:‏ الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعطاء بن السائب، وحصين بن عبد الرحمن، وغيرهم‏.‏

ثم انتقل إلى مكة فتعبد بها، وكان حسن التلاوة كثير الصلاة والصيام، وكان سيداً جليلاً ثقةً من أئمة الرواية رحمه الله ورضي عنه‏.‏

وله مع الرشيد قصة طويلة، وقد روينا ذلك مطولاً في كيفية دخول الرشيد عليه منزله، وما قال له الفضيل بن عياض، وعرض عليه الرشيد المال فأبى أن يقبل منه ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/215‏)‏

توفي بمكة في المحرم من هذه السنة‏.‏

وذكروا أنه كان شاطراً يقطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جداراً إذ سمع قارئاً يقرأ‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 16‏]‏‏.‏

فقال‏:‏ بلى ‏!‏ وتاب وأقلع عما كان عليه‏.‏

ورجع إلى خربة فبات بها، فسمع سفاراً يقولون‏:‏ خذوا حذركم إن فضيلاً أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علماً يقتدى به ويهتدى بكلامه وفعاله‏.‏

قال الفضيل‏:‏ لو أن الدنيا كلها حلال لا أحاسب بها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه‏.‏

وقال‏:‏ العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص أن يعافيك الله منهما‏.‏

وقال له الرشيد يوماً‏:‏ ما أزهدك‏.‏

فقال‏:‏ أنت أزهد مني لأني أنا زهدت في الدنيا التي هي أقل من جناح بعوضة، وأنت زهد في الآخرة التي لا قيمة لها، فأنا زاهد في الفاني وأنت زاهد في الباقي، ومن زهده في درة أزهد ممن زهد في بعرة‏.‏

وقد روي مثل هذا عن أبي حازم، أنه قال‏:‏ ذلك لسليمان بن عبد الملك‏.‏

وقال‏:‏ لو أن لي دعوة مستجابة لجعلتها للإمام، لأن به صلاح الرعية، فإذا صلح أمنت العباد والبلاد‏.‏

وقال‏:‏ إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق حماري وخادمي وامرأتي وفأر بيتي‏.‏

وقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 2‏]‏ قال‏:‏ يعني أخلصه وأصوبه، إن العمل يجب أن يكون خالصاً لله، وصواباً على متابعة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفيها توفي‏:‏

بشر بن المفضل، وعبد السلام بن حرب، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد العزيز العمي‏.‏

وعلي بن عيسى، الأمير ببلاد الروم مع القاسم بن الرشيد في الصائفة‏.‏ ومعتمر بن سليمان‏.‏

وأبو شعيب البراثي

الزاهد، وكان أول من سكن براثاً في كوخ له يتعبد فيه، فهويته امرأة من بنات الرؤساء فانخلعت مما كانت فيه من الدنيا والسعادة والحشمة، وتزوجته وأقامت معه في كوخه تتعبد حتى ماتا، يقال‏:‏ إن اسمها جوهرة‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة

فيها‏:‏ غزا إبراهيم بن إسرائيل الصائفة، فدخل بلاد الروم من درب الصفصاف، فخرج النقفور للقائه، فجرح النقفور ثلاث جراح، وانهزم، وقتل من أصحابه أكثر من أربعين ألفاً، وغنموا أكثر من أربعة آلاف دابة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 10/216‏)‏

وفيها‏:‏ رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس الرشيد، وكانت آخر حجاته‏.‏

وقد قال أبو بكر حين رأى الرشيد منصرفاً من الحج - وقد اجتاز بالكوفة - لا يحج الرشيد بعدها، ولا يحج بعده خليفة أبداً‏.‏

وقد رأى الرشيد بهلول الموله فوعظه موعظة حسنة، فروينا من طريق الفضل بن الربيع الحاجب، قال‏:‏ حججت مع الرشيد فمررنا بالكوفة فإذا بهلول المجنون يهذي‏.‏

فقلت‏:‏ اسكت فقد أقبل أمير المؤمنين، فسكت‏.‏

فلما حاذاه الهودج قال‏:‏ يا أمير المؤمنين، حدثني أيمن بن نائل، ثنا قدامة بن عبد الله العامري، قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى على جمل وتحته رحل رث، ولم يكن ثمَّ طرد ولا ضرب ولا إليك إليك‏.‏

قال الربيع‏:‏ فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين ‏!‏ إنه بهلول‏.‏

فقال‏:‏ قد عرفته‏.‏

قل‏:‏ يا بهلول فقال‏:‏

هب أن قد ملكت الأرض طراً * ودان لك العباد فكان ماذا

أليس غداً مصيرك جوف قبر * ويحثو عليك التراب هذا ثم هذا

قال‏:‏ أجدت يا بهلول، أفغيره ‏؟‏

قال‏:‏ نعم يا أمير المؤمنين ‏!‏ من رزقه الله مالاً وجمالاً فعف في جماله، وواسى في ماله، كتب في ديوان الله من الأبرار‏.‏

قال‏:‏ فظن أنه يريد شيئاً‏.‏

فقال‏:‏ إنا أمرنا بقضاء دينك‏.‏

فقال‏:‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين، لا يقضى دين بدين، اردد الحق إلى أهله، واقض دين نفسك من نفسك‏.‏

قال‏:‏ إنا أمرنا أن يجرى عليك رزق تقتات به‏.‏

قال‏:‏ لا تفعل يا أمير المؤمنين فإنه سبحانه لا يعطيك وينساني، وها أنا قد عشت عمراً لم تجر علي رزقاً، انصرف لا حاجة لي في جرايتك‏.‏

قال‏:‏ هذه ألف دينار خذها‏.‏

فقال‏:‏ ارددها على أصحابها فهو خير لك، وما أصنع أنا بها‏؟‏ انصرف عني فقد آذيتني‏.‏

قال‏:‏ فانصرف عنه الرشيد وقد تصاغرت عنده الدنيا‏.‏

 وممن توفي فيها من الأعيان‏:‏

أبو إسحاق الفزاري

إبراهيم بن محمد بن الحارث بن إسماعيل بن خارجة، إمام أهل الشام في المغازي وغير ذلك‏.‏

أخذ عن‏:‏ الثوري، والأوزاعي، وغيرهما‏.‏

توفي في هذه السنة، وقيل‏:‏ قبلها‏.‏

وإبراهيم الموصلي

النديم، وهو إبراهيم بن ماهان بن بهمن، أبو إسحاق، أحد الشعراء والمغنين والندماء للرشيد وغيره، أصله من الفرس وولد بالكوفة وصحب شبانها وأخذ عنهم الغناء، ثم سافر إلى الموصل ثم عاد إلى الكوفة، فقالوا‏:‏ الموصلي‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/217‏)‏

ثم اتصل بالخلفاء أولهم المهدي وحظي عند الرشيد، وكان من جملة سماره وندمائه ومغنيه، وقد أثرى وكثر ماله جداً، حتى قيل‏:‏ إنه ترك أربعة وعشرين ألف ألف درهم، وكانت له طرف وحكايات غريبة‏.‏

وكان مولده سنة خمس عشرة ومائة في الكوفة، ونشأ في كفالة بني تميم، فتعلم منهم ونسب إليهم، وكان فاضلاً بارعاً في صناعة الغناء، وكان مزوجاً بأخت المنصور الملقب‏:‏ بزلزل، الذي كان يضرب معه، فإذا غنى هذا وضرب هذا اهتز المجلس‏.‏

توفي في هذه السنة على الصحيح، وحكى ابن خلكان في الوفيات أنه توفي وأبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني ببغداد في يوم واحد، من سنة ثلاث عشرة ومائتين، وصحح الأول‏.‏

ومن قوله في شعره عند احتضاره قوله‏:‏

ملَّ والله طبيبي * من مقاساة الذي بي

سوف أنعى عن قريب * لعدو وحبيب

وفيها مات‏:‏

جرير بن عبد الحميد، ورشد بن سعد، وعبدة بن سليمان، وعقبة بن خالد، وعمر بن أيوب، العابد، أحد مشايخ أحمد بن حنبل، عيسى بن يونس‏.‏ في قول‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وثمانين ومائة

فيها‏:‏ رجع الرشيد من الحج وسار إلى الري فولى وعزل‏.‏

وفيها‏:‏ رد علي بن عيسى إلى ولاية خراسان، وجاءه نواب تلك البلاد بالهدايا والتحف من سائر الأشكال والألوان‏.‏

ثم عاد إلى بغداد فأدركه عيد الأضحى بقصر اللصوص فضحى عنده، ودخل إلى بغداد لثلاث بقين من ذي الحجة، فلما اجتاز بالجسر أمر بجثة جعفر بن يحيى البرمكي فأحرقت ودفنت، وكانت مصلوبة من حين قتل إلى هذا اليوم‏.‏

ثم ارتحل الرشيد من بغداد إلى الرقة ليسكنها وهو متأسف على بغداد وطيبها، وإنما مراده بمقامه بالرقة ردع المفسدين بها، وقد قال العباس بن الأحنف في خروجهم من بغداد مع الرشيد‏:‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/218‏)‏

ما أنخنا حتى ارتحلنا فما نـ * ـفرق بين المناخ والارتحال

ساءلونا عن حالنا إذ قدمنا * فقرَّنا وداعهم بالسؤال

وفيها‏:‏ فادى الرشيد الأسارى من المسلمين الذين كانوا ببلاد الروم، حتى يقال‏:‏ إنه لم يترك بها أسيراً من المسلمين‏.‏

فقال فيه بعض الشعراء‏:‏

وفكت بك الأسرى التي شيدت لها * محابس ما فيها حميم يزورها

على حين أعيا المسلمين فكاكها * وقالوا سجون المشركين قبورها

وفيها‏:‏ رابط القاسم بن الرشيد بمرج دابق يحاصر الروم‏.‏

وفيها‏:‏ حج بالناس العباس بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس‏.‏

 ذكر من توفي فيها من الأعيان‏:‏

علي بن حمزة

ابن عبد الله بن فيروز، أبو الحسن الأسدي مولاهم، الكوفي المعروف بالكسائي لإحرامه في كساء، وقيل‏:‏ لاشتغاله على حمزة الزيات في كساء‏.‏

كان نحوياً لغوياً أحد أئمة القراء، أصله من الكوفة ثم استوطن بغداد، فأدب الرشيد وولده الأمين، وقد قرأ على حمزة بن حبيب الزيات قراءته، وكان يقرئ بها، ثم اختار لنفسه قراءة وكان يقرأ بها‏.‏

وقد روى عن‏:‏ أبي بكر بن عياش، وسفيان بن عيينة، وغيرهما‏.‏

وعنه‏:‏ يحيى بن زياد الفراء، وأبو عبيد‏.‏

قال الشافعي‏:‏ من أراد النحو فهو عيال على الكسائي‏.‏

أخذ الكسائي عن الخليل صناعة النحو فسأله يوماً‏:‏ عن من أخذت هذا العلم ‏؟‏

قال‏:‏ من بوادي الحجاز‏.‏

فرحل الكسائي إلى هناك فكتب عن العرب شيئاً كثيراً، ثم عاد إلى الخليل فإذا هو قد مات وتصدر في موضعه يونس، فجرت بينهما مناظرات أقر له فيها يونس بالفضل، وأجلسه في موضعه‏.‏

قال الكسائي‏:‏ صليت يوماً بالرشيد فأعجبتني قراءتي، فغلطت غلطة ما غلطها صبي، أردت أن أقول لعلهم يرجعون، فقلت‏:‏ لعلهم ترجعين، فما تجاسر الرشيد أن يردها‏.‏

فلما سلمت قال‏:‏ أي لغة هذه ‏؟‏

فقلت‏:‏ إن الجواد قد يعثر‏.‏

فقال‏:‏ أما هذا فنعم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لقيت الكسائي فإذا هو مهموم، فقلت‏:‏ مالك ‏؟‏

فقال‏:‏ إن يحيى بن خالد قد وجه إلي ليسألني عن أشياء فأخشى من الخطأ‏.‏

فقلت‏:‏ قل ما شئت فأنت الكسائي‏.‏

فقال‏:‏ قطعه الله - يعني‏:‏ لسانه - إن قلت ما لم أعلم‏.‏

وقال الكسائي يوماً‏:‏ قلت لنجار‏:‏ بكم هذان البابان ‏؟‏

فقال‏:‏ بسالجيان يا مصفعان‏.‏

توفي الكسائي في هذه السنة على المشهور، عن سبعين سنة‏.‏

‏(‏ج/ص‏:‏ 10/219‏)‏

وكان في صحبة الرشيد ببلاد الري فمات بنواحيها هو ومحمد بن الحسن في يوم واحد، وكان الرشيد يقول‏:‏ دفنت الفقه والعربية بالري‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ إن الكسائي توفي بطوس سنة ثنتين وثمانين ومائة‏.‏

وقد رأى بعضهم الكسائي في المنام ووجهه كالبدر فقال‏:‏ ما فعل بك ربك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي بالقرآن‏.‏

فقلت‏:‏ ما فعل حمزة ‏؟‏

قال‏:‏ ذاك في عليين ما نراه إلا كما نرى الكوكب‏.‏

وفيها توفي‏:‏

محمد بن الحسن بن زفر

أبو عبد الله الشيباني مولاهم، صاحب أبي حنيفة‏.‏

أصله من قرية من قرى دمشق، قدم أبوه العراق فولد بواسط سنة ثنتين ومائة، ونشأ بالكوفة‏.‏

فسمع من‏:‏ أبي حنيفة، ومسعر، والثوري، وعمر بن ذر، ومالك بن مغول‏.‏

وكتب عن‏:‏ مالك بن أنس، والأوزاعي، وأبي يوسف‏.‏

وسكن بغداد وحدث بها، وكتب عنه الشافعي حين قدمها في سنة أربع وثمانين ومائة، وولاه الرشيد قضاء الرقة ثم عزله‏.‏

وكان يقول لأهله‏:‏ لا تسألوني حاجة من حاجات الدنيا فتشغلوا قلبي، وخذوا ما شئتم من مالي فإنه أقل لهمي وأفرغ لقلبي‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ ما رأيت حبراً سميناً مثله، ولا رأيت أخف روحاً منه، ولا أفصح منه، كنت إذا سمعته يقرأ القرآن كأنما ينزل القرآن بلغته‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ ما رأيت أعقل منه، كان يملأ العين والقلب‏.‏

قال الطحاوي‏:‏ كان الشافعي قد طلب من محمد بن الحسن كتاب السير فلم يجبه إلى الإعارة، فكتب إليه‏:‏

قل للذي لم تر عيناي مثله * حتى كأن من رآه قد رأى من قبله

العلم ينهى أهله أن يمنعوه أهله * لعله ببذله لأهله لعله

قال‏:‏ فوجه به إليه في الحال هدية لا عارية‏.‏

وقال إبراهيم الحربي‏:‏ قيل لأحمد بن حنبل‏:‏ هذه المسائل الدقاق من أين هي لك ‏؟‏

قال‏:‏ من كتب محمد بن الحسن رحمه الله‏.‏

وقد تقدم أنه مات هو والكسائي في يوم واحد من هذه السنة‏.‏

فقال الرشيد‏:‏ دفنت اليوم اللغة والفقه جميعاً‏.‏

وكان عمره ثمانية وخمسين سنة‏.‏