فصل: سنة ست وستين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة أربع وستين وأربعمائة

فيها‏:‏ قام الشيخ أبو إسحاق الشيرازي مع الحنابلة في الإنكار على المفسدين، والذين يبيعون الخمور، وفي إبطال المواجرات وهن البغايا، وكتبوا إلى السلطان في ذلك فجاءت كتبه في الإنكار‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة ببغداد ارتجت لها الأرض ست مرات‏.‏

وفيها‏:‏ كان غلاء شديد، وموتان ذريع في الحيوانات، بحيث إن بعض الرعاة بخراسان قام وقت الصباح ليسرح بغنمه فإذا هن قد متن كلهن، وجاء سيل عظيم وبرد كبار أتلف شيئاً كثيراً من الزروع والثمار بخراسان‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الأمير عدة الدين ولد الخليفة بابنة السلطان ألب أرسلان سفرى خاتون، وذلك بنيسابور، وكان وكيل السلطان نظام الملك، ووكيل الزوج عميد الدولة بن جهير، وحين عقد العقد نثر على الناس جواهر نفيسة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 زكريا بن محمد بن حيده

أبو منصور النيسابوري، كان يزعم أنه من سلالة عثمان بن عفان، وروى الحديث عن أبي بكر بن المذهب، وكان ثقة‏.‏

توفي في المحرم منها وقد قارب الثمانين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/129‏)‏

 محمد بن أحمد

ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسن الهاشمي، خطيب جامع المنصور، كان ممن يلبس القلانس الطوال، حدث عن ابن رزقويه وغيره، روى عنه الخطيب، وكان ثقة عدلاً شهد عند ابن الدامغاني وابن ماكولا فقبلاه، توفي عن ثمانين سنة، ودفن بقرب قبر بشر الحافي‏.‏

 محمد بن أحمد بن شاره

ابن جعفر أبو عبد الله الأصفهاني، ولي القضاء بدجيل، وكان شافعياً، روى الحديث عن أبي عمرو بن مهدي، توفي ببغداد، ونقل إلى دجيل من عمل واسط، والله سبحانه أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة

في يوم الخميس حادي عشر المحرم حضر إلى الديوان أبو الوفا علي بن محمد بن عقيل العقيلي الحنبلي، وقد كتب على نفسه كتاباً يتضمن توبته من الاعتزال، وأنه رجع عن اعتقاد كون الحلاج من أهل الحق والخير، وأنه قد رجع عن الجزء الذي عمله في ذلك، وأن الحلاج قد قتل بإجماع علماء أهل عصره على زندقته، وأنهم كانوا مصيبين في قتله وما رموه به، وهو مخطئ، وأشد عليه جماعة من الكتاب، ورجع من الديوان إلى دار الشريف أبي جعفر فسلم عليه وصالحه واعتذر إليه، فعظمه‏.‏

وفاة السلطان ألب أرسلان وملك ولده ملكشاه

كان السلطان قد سار في أول هذه السنة يريد أن يغزو بلاد ما وراء النهر، فاتفق في بعض المنازل أنه غضب على رجل يقال له‏:‏ يوسف الخوارزمي، فأوقف بين يديه فشرع يعاتبه في أشياء صدرت منه، ثم أمر أن يضرب له أربعة أوتاد ويصلب بينها‏.‏

فقال للسلطان‏:‏ يا مخنث، ومثلي يقتل هكذا‏؟‏

فاحتد السلطان من ذلك وأمر بإرساله، وأخذ القوس فرماه بسهم فأخطأه، وأقبل يوسف نحو السلطان فنهض السلطان عن السرير خوفاً منه، فنزل عنه فعثر فوقع فأدركه يوسف فضربه بخنجر كان معه في خاصرته فقتله، وأدرك الجيش يوسف فقتلوه، وقد جرح السلطان جرحاً منكراً فتوفي في يوم السبت عاشر ربيع الأول من هذه السنة، ويقال‏:‏ إن أهل بخارى لما اجتاز بهم نهب عسكره أشياء كثيرة لهم، فدعوا عليه فهلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/130‏)‏

ولما توفي جلس ولده ملكشاه على سرير الملك وقام الأمراء بين يديه، فقال له الوزير نظام الملك‏:‏ تكلم أيها السلطان‏.‏

فقال‏:‏ الأكبر منكم أبي والأوسط أخي والأصغر ابني، وسأفعل معكم ما لم أسبق إليه‏.‏

فأمسكوا فأعاد القول فأجابوه بالسمع والطاعة‏.‏

وقام بأعباء أمره الوزير نظام الملك، فزاد في أرزاق الجند سبعمائة ألف دينار، وسار إلى مرو فدفنوا بها السلطان، ولما بلغ موته أهل بغداد أقام الناس له العزاء، وغلقت الأسواق وأظهر الخليفة الجزع، وخلعت ابنة السلطان زوجة الخليفة ثيابها، وجلست على التراب، وجاءت كتب ملكشاه إلى الخليفة يتأسف فيها على والده، ويسأل أن تقام له الخطبة بالعراق وغيرها‏.‏

ففعل الخليفة ذلك، وخلع ملكشاه على الوزير نظام الملك خلعاً سنية، وأعطاه تحفاً كثيرة، من جملتها عشرون ألف دينار، ولقبه أتابك الجيوش، ومعناه الأمير الكبير الوالد، فسار سيرة حسنة، ولما بلغ قاورت موت أخيه ألب أرسلان، ركب في جيوش كثيرة قاصداً قتال ابن أخيه ملكشاه، فالتقيا فاقتتلا، فانهزم أصحاب قاورت وأسر هو، فأنبه ابن أخيه ثم اعتقله ثم أرسل إليه من قتله‏.‏

وفيها‏:‏ جرت فتنة عظيمة بين أهل الكرخ وباب البصرة والقلايين، فاقتتلوا فقتل منهم خلق كثير، واحترق جانب كبير من الكرخ، فانتقم المتولي لأهل الكرخ من أهل باب البصرة، فأخذ منهم أموالاً كثيرة جناية لهم على ما صنعوا‏.‏

وفيها‏:‏ أقيمت الدعوة العباسية ببيت المقدس‏.‏

وفيها‏:‏ ملك صاحب سمرقند وهو محمد التكين مدينة ترمذ‏.‏

وفيها حج بالناس أبو الغنائم العلوي‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 السلطان ألب أرسلان

الملقب بسلطان العالم، ابن داود جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق التركي، صاحب الممالك المتسعة، ملك بعد عمه طغرلبك سبع سنين وستة أشهر وأياماً، وكان عادلاً يسير في الناس سيرة حسنة، كريماً رحيماً، شفوقاً على الرعية، رفيقاً على الفقراء، باراً بأهله وأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام النعم به عليه، كثير الصدقات، يتفقد الفقراء في كل رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة، بل كان يقنع من الرعية بالخراج في قسطين رفقاً بهم‏.‏

كتب إليه بعض السعاة في نظام الملك وزيره وذكر ماله في ممالكه فاستدعاه فقال له‏:‏ خذ إن كان هذا صحيحاً فهذب أخلاقك وأصلح أحوالك، وإن كذبوا فاغفر له زلته‏.‏

وكان شديد الحرص على حفظ مال الرعايا، بلغه أن غلاماً من غلمانه، أخذ إزاراً لبعض أصحابه فصلبه فارتدع سائر المماليك به خوفاً من سطوته، وترك من الأولاد ملكشاه وإياز ونكشر وبوري برس وأرسلان وأرغو وسارة وعائشة وبنتاً أخرى، توفي في هذه السنة عن إحدى وأربعين سنة، ودفن عند والده بالري، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/131‏)‏

 أبو القاسم القشيري

صاحب ‏(‏الرسالة‏)‏، عبد الكريم بن هوازن بن عبد المطلب بن طلحة، أبو القاسم القشيري، وأمه من بني سليم، توفي أبوه وهو طفل، فقرأ الأدب والعربية، وصحب الشيخ أبا علي الدقاق، وأخذ الفقه عن أبي بكر بن محمد الطوسي، وأخذ الكلام عن أبي بكر بن فورك، وصنف الكثير‏.‏

وله التفسير والرسالة التي ترجم فيها جماعة من المشايخ الصالحين، وحج صحبة إمام الحرمين وأبي بكر البيهقي، وكان يعظ الناس، توفي بنيسابور في هذه السنة عن سبعين سنة، ودفن إلى جانب شيخه أبي علي الدقاق، ولم يدخل أحد من أهله بيت كتبه إلا بعد سنين، احتراماً له، وكان له فرس يركبها قد أهديت له، فلما توفي لم تأكل علفاً حتى نفقت بعده بيسير فماتت، ذكره ابن الجوزي‏.‏

وقد أثنى عليه ابن خلكان ثناء كثيراً، وذكر شيئاً من شعره من ذلك قوله‏:‏

سقى الله وقتاً كنت أخلو بوجهكم * وثغر الهوى في روضة الأنس ضاحك

أقمنا زماناً والعيون قريرة * وأصبحت يوماً والجفون سوافك

وقوله‏:‏

لو كنت ساعة بيننا ما بيننا *وشهدت حين فراقنا التوديعا

أيقنت أن من الدموع محدثاً * وعلمت أن من الحديث دموعا

وقوله‏:‏

ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة * فإني من ليلى لها غير ذائق

وأكثر شيء نلته من وصالها * أماني لم تصدق كخطفة بارق

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/132‏)‏

 ابن صربعر

الشاعر اسمه علي بن الحسين بن علي بن الفضل، أبو منصور الكاتب المعروف بابن صربعر، وكان نظام الملك يقول له‏:‏ أنت صردر لا صربعر‏.‏

وقد هجاه بعضهم فقال‏:‏

لئن لقب الناس قدماً أباك * وسموه من شحه صربعرا

فإنك تنثر ما صره * عقوقاً له وتسميه شعرا

قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا ظالم فاحش فإن شعره في غاية الحسن، ثم أورد له أبياتاً حساناً فمن ذلك‏:‏

أيه أحاديث نعمان وساكنه * أن الحديث عن الأحباب أسمار

أفتش الريح عنكم كلما نفحت * من نحو أرضكم مسكاً ومعطار

قال‏:‏ وقد حفظ القرآن وسمع الحديث من ابن شيران وغيره، وحدث كثيراً، وركب يوماً دابة هو ووالدته فسقطا بالشونيزية عنها في بئر فماتا فدفنا ببرر، وذلك في صفر من هذه السنة‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ قرأت بخط ابن عقيل صربعر جارنا بالرصافة، وكان ينبذ بالإلحاد، وقد أورد له ابن خلكان شيئاً من أشعاره، وأثنى عليه في فنه، والله أعلم بحاله‏.‏

 محمد بن علي

ابن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن المهتدي بالله، أبو الحسين، ويعرف بابن العريف، ولد سنة سبعين وثلاثمائة، وسمع الدارقطني، وهو آخر من حدث عنه في الدنيا، وابن شاهين وتفرد عنه، وسمع خلقاً آخرين، وكان ثقة ديناً كثير الصلاة والصيام، وكان يقال له‏:‏ راهب بني هاشم، وكان غزير العلم والعقل، كثير التلاوة، رقيق القلب غزير الدمعة، وقد رحل إليه الطلبة من الآفاق، ثم ثقل سمعه، وكان يقرأ على الناس، وذهبت إحدى عينيه، وخطب وله ست عشرة سنة، وشهد عند الحكام سنة ست وأربعمائة، وولي الحكم سنة تسع وأربعمائة، وأقام خطيباً بجامع المنصور وجامع الرصافة ستاً وسبعين سنة، وحكم ستاً وخمسين سنة، وتوفي في سلخ ذي القعدة من هذه السنة وقد جاوز تسعين سنة، وكان يوم جنازته يوماً مشهوداً، ورئيت له منامات صالحة حسنة، رحمه الله وسامحه ورحمنا وسامحنا، إنه قريب مجيب، رحيم ودود‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/133‏)‏

 ثم دخلت سنة ست وستين وأربعمائة

في صفر منها جلس الخليفة جلوساً عاماً وعلى رأسه حفيده الأمير عدة الدين، أبو القاسم عبد الله ابن المهتدي بالله، وعمره يومئذ ثماني عشرة سنة، وهو في غاية الحسن، وحضر الأمراء والكبراء فعقد الخليفة بيده لواء السلطان ملكشاه، كثر الزحام يومها، وهنأ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة‏.‏

 غرق بغداد

في جمادى الآخرة نزل مطر عظيم وسيل قوي كثير، وسالت دجلة وزادت حتى غرقت جانباً كبيراً من بغداد، حتى خلص ذلك إلى دار الخلافة، فخرج الجواري حاسرات عن وجوههن، حتى صرن إلى الجانب الغربي، وهرب الخليفة من مجلسه، فلم يجد طريقاً يسلكه فحمله بعض الخدم إلى التاج، وكان ذلك يوماً عظيماً، وأمراً هائلاً، وهلك للناس أموال كثيرة جداً‏.‏

ومات تحت الردم خلق كثير من أهل بغداد والغرباء، وجاء على وجه السيل من الأخشاب والأحطاب والوحوش والحيات شيء كثير جداً، وسقطت دور كثيرة في الجانبين، وغرقت قبور كثيرة، من ذلك قبر الخيزران، ومقبرة أحمد بن حنبل‏.‏

ودخل الماء من شبابيك المارستان العضدي وأتلف السيل في الموصل شيئاً كثيراً، وصدم سور سنجار فهدمه‏:‏ وأخذ بابه من موضعه إلى مسيرة أربعة فراسخ‏.‏

وفي ذي الحجة منها جاءت ريح شديدة في أرض البصرة فانجعف منها نحو من عشرة آلاف نخلة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن الحسن السمناني

الحنفي الأشعري، قال ابن الجوزي‏:‏ وهذا من الغريب، تزوج قاضي القضاة ابن الدامغاني ابنته، وولاه نيابة القضاة، وكان ثقة نبيلاً من ذوي الهيئات، جاوز الثمانين‏.‏

 عبد العزيز بن أحمد بن علي

ابن سليمان، أبو محمد الكتاني الحافظ الدمشقي، سمع الكثير، وكان يملي من حفظه، وكتب عنه الخطيب حديثاً واحداً، وكان معظماً ببلده، ثقة نبيلاً جليلاً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/134‏)‏

الماوردية

ذكر ابن الجوزي أنها كانت عجوزاً صالحة من أهل البصرة تعظ النساء بها، وكانت تكتب وتقرأ، ومكثت خمسين سنة من عمرها لا تفطر نهاراً ولا تنام ليلاً، وتقتات بخبز الباقلا، وتأكل من التين اليابس لا الرطب، وشيئاً يسيراً من العنب والزيت، وربما أكلت من اللحم اليسير، وحين توفيت تبع أهل البلد جنازتها ودفنت في مقابر الصالحين‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وأربعمائة

في صفر منها مرض الخليفة القائم بأمر الله مرضاً شديداً، انتفخ منه حلقه، وامتنع من الفصد، فلم يزل الوزير فخر الدولة عليه حتى افتصد وانصلح الحال، وكان الناس قد انزعجوا ففرحوا بعافيته‏.‏

وجاء في هذا الشهر سيل عظيم قاسى الناس منه شدة عظيمة، ولم تكن أكثر أبنية بغداد تكاملت من الغرق الأول، فخرج الناس إلى الصحراء فجلسوا على رؤوس التلول تحت المطر‏.‏

ووقع وباء عظيم بالرحبة، فمات من أهلها قريب من عشرة آلاف، وكذلك وقع بواسط والبصرة وخوزستان وأرض خراسان وغيرها، والله أعلم‏.‏

 موت الخليفة القائم بأمر الله

لما افتصد في يوم الخميس الثامن والعشرين من رجب من بواسير كانت تعتاده من عام الغرق، ثم نام بعد ذلك فانفجر فصاده، فاستيقظ وقد سقطت قوته، وحصل الإياس منه فاستدعى بحفيده، وولي عهده عدة الدين أبي القاسم عبد الله بن محمد بن القائم، وأحضر إليه القضاة والفقهاء وأشهدهم عليه ثانياً بولاية العهد له من بعده، فشهدوا ثم كانت وفاته ليلة الخميس الثالث عشر من شعبان عن أربع وتسعين سنة، وثمانية أشهر، وثمانية أيام، وكانت مدة خلافته أربعاً وأربعين سنة وثمانية أشهر وخمسة وعشرين يوماً، ولم يبلغ أحد من العباسيين قبل هذه المدة، وقد جاوزت خلافة أبيه قبله أربعين سنة، فكان مجموع أيامهما خمساً وثمانين سنة وأشهراً، وذلك مقاوم لدولة بني أمية جميعها‏.‏

وقد كان القائم بأمر الله جميلاً مليحاً، حسن الوجه، أبيض مشرباً بحمرة، فصيحاً ورعاً زاهداً، أديباً كاتباً بليغاً، شاعراً، كما تقدم ذكر شيء من شعره، وهو بحديثة عانة سنة خمسين، وكان عادلاً كثير الإحسان إلى الناس، رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/135‏)‏

وغسله الشريف، أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي عن وصية الخليفة بذلك، فلما غسله عرض عليه ما هنالك من الأثاث والأموال، فلم يقبل منه شيئاً، وصلى على الخليفة في صبيحة يوم الخميس المذكور، ودفن عند أجداده، ثم نقل إلى الرصافة، فقبره يزار إلى الآن وغلقت الأسواق لموته، وعلقت المسوح، وناحت عليه نساء الهاشميين وغيرهم، وجلس الوزير ابن جهير وابنه للعزاء على الأرض، وخرق الناس ثيابهم، وكان يوماً عصيباً، واستمر الحال كذلك ثلاثة أيام، وقد كان من خيار بني العباس ديناً واعتقاداً ودولة، وقد امتحن من بينهم بفتنة البساسيري التي اقتضت إخراجه من داره ومفارقته أهله وأولاده ووطنه، فأقام بحديثة عانة سنة كاملة، ثم أعاد الله تعالى نعمته وخلافته‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم * إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر

وقد تقدم له في ذلك سلف صالح كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 34‏]‏ وقد ذكرنا ملخص ما ذكره المفسرون في سورة ص وبسطنا الكلام عليه في هذه القصة العباسية، والفتنة البساسيرية في سنة خمسين، وإحدى وخمسين وأربعمائة‏.‏

 خلافة المقتدي بأمر الله

وهو أبو القاسم عدة الدين عبد الله بن الأمير، ذخيرة الدين أبي القاسم محمد بن الخليفة القائم بأمر الله بن القادر العباسي، وأمه أرمنية تسمى أرجوان، وتدعى قرة العين، وقد أدركت خلافة ولدها هذا، وخلافة ولديه من بعده المستظهر والمسترشد‏.‏

وقد كان أبوه توفي وهو حمل، فحين ولد ذكراً فرح به جده والمسلمون فرحاً شديداً، إذ حفظ الله على المسلمين بقاء الخلافة في البيت القادري، لأن من عداهم كانوا يتبذلون في الأسواق، ويختلطون مع العوام، وكانت القلوب تنفر من تولية مثل أولئك الخلافة على الناس، ونشأ هذا في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، ويدربه على أحسن السجايا، ولله الحمد‏.‏

وقد كان المقتدي حين ولي الخلافة عمره عشرين سنة، وهو في غاية الجمال خَلقاً وخُلُقاً، وكانت بيعته يوم الجمعة الثالث عشر من شعبان من هذه السنة، وجلس في دار الشجرة، بقميص أبيض، وعمامة بيضاء لطيفة، وطرحة قصب أدريه، وجاء الوزراء والأمراء والأشراف ووجوه الناس فبايعوه، فكان أول من بايعه الشريف أبو جعفر بن أبي موسى الحنبلي، وأنشد قول الشاعر‏:‏

إذا سيد منا مضى قام سيد *

ثم ارتج عليه فلم يدر ما بعده، فقال الخليفة‏:‏

قؤول بما قال الكرام فعول *

وبايعه من شيوخ العلم الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والشيخ أبو نصر بن الصباغ، الشافعيان، والشيخ أبو محمد التميمي الحنبلي، وبرز فصلى بالناس العصر ثم بعد ساعة أخرج تابوت جده بسكون ووقار من غير صراخ ولا نوح، فصلى عليه وحمل إلى المقبرة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/136‏)‏

وقد كان المقتدي شهماً شجاعاً أيامه كلها مباركة، والرزق دار والخلافة معظمة جداً، وتصاغرت الملوك له، وتضاءلوا بين يديه، وخطب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، واستوزر ابن جهير ثم أبا شجاع، ثم أعاد ابن جهير وقاضيه الدامغاني، ثم أبو بكر الشاشي، وهؤلاء من خيار القضاة والوزراء، ولله الحمد‏.‏

وفي شعبان منها أخرج المفسدات من الخواطئ من بغداد، وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات، ودور الزواني والمغاني، وأسكنهن الجانب الغربي مع الذل والصغار، وخرب أبرجة الحمام ومنع اللعب بها، وأمر الناس باحتراز عوراتهم في الحمامات، ومنع أصحاب الحمامات أن يصرفوا فضلاتها إلى دجلة، وألزمهم بحفر آبار لتلك المياه القذرة صيانة لماء الشرب‏.‏

وفي شوال منها وقعت نار في أماكن متعددة في بغداد، حتى في دار الخلافة، فأحرقت شيئاً كثيراً من الدور والدكاكين، ووقع بواسط حريق في تسعة أماكن، واحترق فيها أربعة وثمانون داراً وستة خانات، وأشياء كثيرة غير ذلك، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وفيها‏:‏ عمل الرصد للسلطان ملكشاه اجتمع عليه جماعة من أعيان المنجمين، وأنفق عليه أموالاً كثيرة، وبقي دائراً حتى مات السلطان فبطل‏.‏

وفي ذي الحجة منها أعيدت الخطب للمصريين، وقطعت خطبة العباسيين، وذلك لما قوي أمر صاحب مصر بعد ما كان ضعيفاً بسبب غلاء بلده، فلما رخصت تراجع الناس إليها، وطاب العيش بها، وقد كانت الخطبة للعباسيين بمكة منذ أربعين سنة وخمسة أشهر، وستعود كما كانت على ما سيأتي بيانه في موضعه‏.‏

وفي هذا الشهر انجفل أهل السواد من شدة الوباء وقلة ماء دجلة ونقصها‏.‏

وحج بالناس الشريف أبو طالب الحسيني بن محمد الزينبي، وأخذ البيعة للخليفة المقتدي بالحرمين‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 الخليفة القائم بأمر الله

عبد الله، وقد ذكرنا شيئاً من ترجمته عند وفاته‏.‏

 الداوودي

راوي ‏(‏صحيح البخاري‏)‏، عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن محمد بن داود، أبو الحسن، بن أبي طلحة الداوودي، ولد سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، سمع الكثير وتفقه على الشيخ أبي حامد الإسفرايني، وأبي بكر القفال، وصحب أبا علي الدقاق وأبا عبد الرحمن السلمي، وكتب الكثير ودرس وأفتى وصنف، ووعظ الناس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/137‏)‏

وكانت له يد طولى في النظم والنثر، وكان مع ذلك كثير الذكر، لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى، دخل يوماً عليه الوزير نظام الملك فجلس بين يديه فقال له الشيخ‏:‏ إن الله قد سلطك على عباده فانظر كيف تجيبه إذا سألك عنهم‏.‏

وكانت وفاته ببوشنج في هذه السنة وقد جاوز التسعين‏.‏

ومن شعره الجيد القوي قوله‏:‏

كان في الاجتماع بالناس نور * ذهب النور وادلهم الظلام

فسد الناس والزمان جميعاً * فعلى الناس والزمان السلام

 أبو الحسن علي بن الحسن

ابن علي بن أبي الطيب الباخَرْزيّ الشاعر المشهور، اشتغل أولاً على الشيخ أبي محمد الجويني ثم ترك ذلك وعمد إلى الكتابة والشعر، ففاق أقرانه، وله ديوان مشهور فمنه‏:‏

وإني لأشكو لسع أصداغك التي * عقاربها في وجنتيك نجوم

وأبكي لدر الثغر منك ولي أب * فكيف نديم الضحك وهو يتيم

 ثم دخلت سنة ثمان وستين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ جاء جراد في شعبان بعدد الرمل والحصا، فأكل الغلات، وآذى الناس، وجاعوا فطحن الخروب بدقيق الدخن فأكلوه، ووقع الوباء، ثم منع الله الجراد من الفساد، وكان يمر ولا يضر، فرخصت الأسعار‏.‏

قال‏:‏ ووقع غلاء شديد بدمشق، واستمر ثلاث سنين‏.‏

وفيها‏:‏ ملك نصر ابن محمود بن صالح بن مرداس مدينة منبج، وأجلى عنها الروم، ولله الحمد والمنة، في ذي القعدة منها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك الإقسيس مدينة دمشق، وانهزم عنها المعلى بن حيدر نائب المستنصر العبيدي إلى مدينة بانياس، وخطب فيها للمقتدي، وقطعت خطبة المصريين عنها إلى الآن، ولله الحمد والمنة‏.‏

فاستدعى المستنصر نائبه فحبسه عنده إلى أن مات في السجن‏.‏

قلت‏:‏ الاقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، ويلقب بالملك المعظم، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بحي على خير العمل، بعد أن كان يؤذن به على منابر دمشق وسائر الشام مائة وست سنين، كان على أبواب الجوامع والمساجد مكتوب لعنة الصحابة رضي الله عنهم، فأمر هذا السلطان المؤذنين والخطباء أن يترضوا عن الصحابة أجمعين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/138‏)‏

ونشر العدل وأظهر السنة، وهو أول من أسس القلعة بدمشق، ولم يكن فيها قبل ذلك معقل يلتجئ إليه المسلمون من العدو، فبناها في محلتها هذه التي هي فيها اليوم، وكان موضعها بباب البلد يقال له‏:‏ باب الحديد، وهو تجاه دار رضوان منها، وكان ابتداء ذلك في السنة الآتية، وإنما أكملها بعده الملك المظفر تتش بن ألب أرسلان السلجوقي كما سيأتي بيانه‏.‏

وحج بالناس فيها مقطع الكوفة، وهو الأمير السكيني جنفل التركي، ويعرف بالطويل، وكان قد شرد خفاجة في البلاد وقهرهم، ولم يصحب معه سوى ستة عشر تركياً، فوصل إلى مكة سالماً، ولما نزل ببعض دورها كبسه بعض العبيد‏.‏

فقتل منهم مقتلة عظيمة، وهزمهم هزيمة شنيعة، ثم إنه بعد ذلك إنما كان ينزل بالزاهر‏.‏

قاله ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏، وأعيدت الخطبة في هذه السنة للعباسيين في ذي الحجة منها، وقطعت خطبة المصريين ولله الحمد والمنة‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 محمد بن علي

ابن أحمد بن عيسى بن موسى، أبو تمام ابن أبي القاسم ابن القاضي أبي علي الهاشمي، نقيب الهاشميين، وهو ابن عم الشريف أبي جعفر بن أبي موسى الفقيه الحنبلي، روى الحديث وسمع منه أبو بكر بن عبد الباقي، ودفن بباب حرب‏.‏

 محمد بن القاسم

ابن حبيب بن عبدوس، أبو بكر الصفار من أهل نيسابور؛ سمع الحاكم وأبا عبد الرحمن السلمي وخلقاً، وتفقه على الشيخ أبي محمد الجويني، وكان يخلفه في حلقته‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الحسين البيضاوي الشافعي، ختن أبي الطيب الطبري على ابنته، سمع الحديث وكان ثقة خيراً، توفي في شعبان منها، وتقدم للصلاة عليه الشيخ أبو نصر بن الصباغ، وحضر جنازته أبو عبد الله الدامغاني مأموماً، ودفن بداره في قطيعة الكرخ‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/139‏)‏

 محمد بن نصر بن صالح

ابن أمير حلب، وكان قد ملكها في سنة تسع وخمسين، وكان من أحسن الناس شكلاً وفعلاً‏.‏

 مسعود بن المحسن

ابن الحسن بن عبد الرزاق بن جعفر البياضي الشاعر، ومن شعره‏:‏

ليس لي صاحب معين سوى اللـ * ـيل إذا طال بالصدود عليا

أنا أشكو بعد الحبيب إليه * وهو يشكو بعد الصباح إلينا

وله أيضاً‏:‏

يا من لبست لهجره طول الضنا * حتى خفيت إذاً عن العواد

وأنست بالسهر الطويل فأنسيت * أجفان عيني كيف كان رقادي

إن كان يوسف بالجمال مقطع الـ * ـأيدي فأنت مفتت الأكباد

 الواحدي المفسر

علي بن حسن بن أحمد بن علي بن بويه الواحدي، قال ابن خلكان‏:‏ ولا أدري هذه النسبة إلى ماذا، وهو صاحب التفاسير الثلاثة‏:‏ ‏(‏البسيط‏)‏، و‏(‏الوسيط‏)‏، و‏(‏الوجيز‏)‏‏.‏

قال‏:‏ ومنه أخذ الغزالي أسماء كتبه‏.‏

قال‏:‏ وله ‏(‏أسباب النزول‏)‏، و‏(‏التحبير‏)‏ في شرح الأسماء الحسنى، وقد شرح ديوان المتنبي، وليس في شروحه مع كثرتها مثله‏.‏

قال‏:‏ وقد رزق السعادة في تصانيفه، وأجمع الناس على حسنها وذكرها المدرسون في دروسهم، وقد أخذ التفسير عن الثعالبي، وقد مرض مدة، ثم كانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة منها‏.‏

 ناصر بن محمد

ابن علي أبو منصور التركي الصافري، وهو والد الحافظ محمد بن ناصر، قرأ القرآن، وسمع الكثير، وهو الذي تولى قراءة التاريخ على الخطيب بجامع المنصور، وكان ظريفاً صبيحاً، مات شاباً دون الثلاثين سنة في ذي القعدة منها، وقد رثاه بعضهم بقصيدة طويلة أوردها كلها في ‏(‏المنتظم‏)‏ ابن الجوزي‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/140‏)‏

 يوسف بن محمد بن الحسن

أبو القاسم الهمداني، سمع وجمع وصنف وانتشرت عنه الرواية، توفي في هذه سنة وقد قارب التسعين‏.‏

 ثم دخلت سنة تسع وستين وأربعمائة

فيها‏:‏ كان ابتداء عمارة قلعة دمشق، وذلك أن الملك المعظم أتسز بن أوف الخوارزمي لما انتزع دمشق من أيدي العبيديين في السنة الماضية، شرع في بناء هذا الحصن المنيع بدمشق في هذه السنة، وكان في مكان القلعة اليوم أحد أبواب البلد باب، يعرف بباب الحديد، وهو الباب المقابل لدار رضوان منها اليوم، داخل البركة البرانية منها، وقد ارتفع بعض أبرجتها فلم يتكامل حتى انتزع ملك البلد منه الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأكملها وأحسن عمارتها، وابتنى بها دار رضوان للملك‏.‏

واستمرت على ذلك البناء في أيام نور الدين محمود بن زنكي، فلما كان الملك صلاح الدين بن يوسف بن أيوب جدد فيها شيئاً، وابتنى له نائبه ابن مقدم فيها داراً هائلة للمملكة، ثم إن الملك العادل أخا صلاح الدين، اقتسم هو وأولاده أبرجتها، فبنى كل ملك منهم برجاً منها جدده وعلاه وأطده وأكده‏.‏

ثم جدد الملك الظاهر بيبرس منها البرج الغربي القبلى، ثم ابتنى بعده في دولة الملك الأشرف خليل بن المنصور، نائبه الشجاعي، الطارمة الشمالية والقبة الزرقاء وما حولها‏.‏

وفي المحرم منها مرض الخليفة مرضاً شديداً فأرجف الناس به، فركب حتى رآه الناس جهرة فسكنوا‏.‏

وفي جمادى الآخرة منها زادت دجلة زيادة كثيرة، إحدى عشرين ذراعاً ونصفاً، فنقل الناس أموالهم وخيف على دار الخلافة، فنقل تابوت القائم بأمر الله ليلاً إلى الترب بالرصافة‏.‏

وفي شوال منها وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية، وذلك أن ابن القشيري قدم بغداد فجلس يتكلم في النظامية وأخذ يذم الحنابلة وينسبهم إلى التجسيم، وساعده أبو سعد الصوفي، ومال معه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، وكتب إلى نظام الملك يشكو إليه الحنابلة ويسأله المعونة عليهم، وذهب جماعة إلى الشريف أبي جعفر بن أبي موسى شيخ الحنابلة، وهو في مسجده فدافع عنه آخرون، واقتتل الناس بسبب ذلك وقتل رجل خياط من سوق التبن، وجرح آخرون، وثارت الفتنة‏.‏

وكتب الشيخ أبو إسحاق وأبو بكر الشاشي إلى نظام الملك في كتابه إلى فخر الدولة ينكر ما وقع، ويكره أن ينسب إلى المدرسة التي بناها شيء من ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/141‏)‏

وعزم الشيخ أبو إسحاق على الرحلة من بغداد غضباً مما وقع من الشر، فأرسل إليه الخليفة يسكنه، ثم جمع بينه وبين الشريف أبي جعفر وأبي سعد الصوفي، وأبى نصر بن القشيري، عند الوزير، فأقبل الوزير على أبي جعفر يعظمه في الفعال والمقال، وقام إليه الشيخ أبو إسحاق فقال‏:‏ أنا ذلك الذي كنت تعرفه وأنا شاب، وهذه كتبي في الأصول، ما أقول فيها خلافاً للأشعرية‏.‏

ثم قبّل رأس أبي جعفر، فقال له أبو جعفر‏:‏ صدقت، إلا أنك لما كنت فقيراً لم تظهر لنا ما في نفسك، فلما جاء الأعوان والسلطان وخواجه بزك - يعني نظام الملك - وشبعت، أبديت ما كان مختفياً في نفسك‏.‏

وقام الشيخ أبو سعد الصوفي وقبل رأس الشريف أبي جعفر أيضاً وتلطف به، فالتفت إليه مغضباً وقال‏:‏ أيها الشيخ أما الفقهاء إذا تكلموا في مسائل الأصول فلهم فيها مدخل، وأما أنت فصاحب لهو وسماع وتغبير، فمن زاحمك منا على باطلك ‏؟‏

ثم قال‏:‏ أيها الوزير أنى تصلح بيننا‏؟‏ وكيف يقع بيننا صلح ونحن نوجب ما نعتقده وهم يحرمون ويكفرون‏؟‏ وهذا جد الخليفة القائم والقادر قد أظهرا اعتقادهما للناس على رؤوس الأشهاد على مذهب أهل السنة والجماعة والسلف، ونحن على ذلك كما وافق عليه العراقيون والخراسانيون‏.‏

وقرىء على الناس في الدواوين كلها، فأرسل الوزير إلى الخليفة يعلمه بما جرى، فجاء الجواب بشكر الجماعة وخصوصاً الشريف أبا جعفر، ثم استدعى الخليفة أبا جعفر إلى دار الخلافة للسلام عليه، والتبرك بدعائه‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي ذي القعدة منها كثرت الأمراض في الناس ببغداد وواسط والسواد، وورد الخبر بأن الشام كذلك‏.‏

وفي هذا الشهر أزيلت المنكرات والبغايا ببغداد، وهرب الفساق منها‏.‏

وفيها‏:‏ ملك حلب نصر بن محمود بن مرداس بعد وفاة أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ تزوج الأمير على بن أبي منصور بن قرامز بن علاء الدولة بن كالويه الست أرسلان خاتون بنت داود عم السلطان ألب أرسلان، وكانت زوجة القائم بأمر الله‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر الاقسيس صاحب دمشق مصر وضيق على صاحبها المستنصر بالله، ثم كر راجعاً إلى دمشق‏.‏ وحج بالناس فيها الأمير جنفل التركي مقطع الكوفة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/142‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 اسفهدوست بن محمد بن الحسن أبو منصور الديلمي

الشاعر، لقي أبا عبد الله بن الحجاج وعبد العزيز بن نباتة وغيرهما من الشعراء، وكان شيعياً فتاب، وقال في قصيدة له في ذلك قوله في اعتقاده‏:‏

وإذا سئلت عن اعتقادي قلت ما * كانت عليه مذاهب الأبرار

وأقول خير الناس بعد محمد * صديقه وأنيسه في الغار

ثم الثلاثة بعده خير الورى * أكرم بهم من سادة أطهار

هذا اعتقادي والذي أرجو به * فوزي وعتقي من عذاب النار

 طاهر بن أحمد بن بابشاذ

أبو الحسن البصري النحوي، سقط من سطح جامع عمرو بن العاص بمصر فمات من ساعته في رجب من هذه السنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان بمصر إمام عصره في النحو، وله المصنفات المفيدة من ذلك مقدمته وشرحها، وشرح الجمل للزجاجي‏.‏

قال‏:‏ وكانت وظيفته بمصر أنه لا تكتب الرسائل في ديوان الإنشاء إلا عرضت عليه فيصلح منها ما فيه خلل ثم تنفذ إلى الجهة التي عينت لها، وكان له على ذلك معلوم وراتب جيد‏.‏

قال‏:‏ فاتفق أنه كان يأكل يوماً مع بعض أصحابه طعاماً، فجاءه قط فرموا له شيئاً فأخذه وذهب سريعاً، ثم أقبل فرموا له شيئاً أيضاً فانطلق به سريعاً، ثم جاء فرموا له شيئاً أيضاً فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتتبعوه، فإذا هو يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك، فتعجبوا من ذلك، فقال الشيخ‏:‏ يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقني وأنا عبده وأعبده‏.‏

ثم ترك ما كان له من الراتب وجمع حواشيه وأقبل على العبادة والاشتغال والملازمة في غرفة في جامع عمرو بن العاص إلى أن مات كما ذكرنا‏.‏

وقد جمع تعليقه في النحو وكان قريباً من خمسة عشر مجلداً، فأصحابه كابن بري وغيره ينقلون منها وينتفعون بها، ويسمونها تعليق الغرفة‏.‏

 عبد الله بن محمد بن عبد الله

ابن عمر بن أحمد بن المجمع بن محمد بن يحيى بن معبد بن هزار مرد، أبو محمد الصريفيني، ويعرف بابن المعلم، أحد مشايخ الحديث المسندين المشهورين، تفرد فيه عن جماعة من المشايخ لطول عمره، وهو آخر من حدث بالجعديات عن ابن حبانة عن أبى القاسم البغوي عن على بن الجعد، وهو سماعنا، ورحل إليه الناس بسببه، وسمع عليه جماعة من الحفاظ منهم الخطيب، وكان ثقة محمود الطريقة، صافي الطوية، توفي بصريفين في جمادى الأولى عن خمس وثمانين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/143‏)‏

 حيان بن خلف

ابن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبي، مولى بني أمية، صاحب ‏(‏تاريخ المغرب‏)‏ في ستين مجلداً، أثنى عليه الحافظ، أبو علي الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته‏.‏

قال‏:‏ وسمعته يقول‏:‏ التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ توفي في ربيع الأول منها، ورآه بعضهم في المنام فسأله عن حاله فقال‏:‏ غفر لي، وأما التاريخ فندمت عليه، ولكن الله بلطفه أقالني وعفا عني‏.‏

 أبو نصر السجزي الوابلي

نسبة إلى قرية من قرى سجستان يقال لها‏:‏ وابل، سمع الكثير وصنف وخرج وأقام بالحرم، وله كتاب ‏(‏الإبانة‏)‏ في الأصول، وله في الفروع أيضاً‏.‏

ومن الناس من كان يفضله في الحفظ على الصوري‏.‏

 محمد بن علي بن الحسين

أبو عبد الله الأنماطي، المعروف بابن سكينة، ولد سنة تسعين وثلاثمائة، وكان كثير السماع، ومات عن تسع وسبعين سنة، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة سبعين وأربعمائة

قال ابن الجوزي‏:‏ في ربيع الأول منها وقعت صاعقة بمحلة النوبة من الجانب الغربي، على نخلتين في مسجد فأحرقت أعاليهما، وصعد الناس فأطفأوا النار، ونزلوا بالسعف وهو يشتعل ناراً‏.‏

قال‏:‏ وورد كتاب من نظام الملك إلى الشيخ أبي إسحاق الشيرازي في جواب كتابه إليه في شأن الحنابلة، ثم سرده ابن الجوزي ومضمونه‏:‏ أنه لا يمكن تغيير المذاهب ولا نقل أهلها عنها، والغالب على تلك الناحية هو مذهب الإمام أحمد، ومحله معروف عند الأئمة والناس، وقدره معلوم في السنة‏.‏

في كلام طويل‏.‏

قال‏:‏ وفي شوال منها وقعت فتنة بين الحنابلة وبين فقهاء النظامية، وحمى لكل من الفريقين طائفة من العوام، وقتل بينهم نحو من عشرين قتيلاً، وجرح آخرون، ثم سكنت الفتنة‏.‏

قال‏:‏ وفى تاسع عشر شوال ولد للخليفة المقتدي ولده المستظهر أبو العباس أحمد، وزينت البلاد وجلس الوزير للهناء، ثم في يوم الأحد السادس والعشرين من شوال ولد له ولد آخر وهو أبو محمد هارون‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/144‏)‏

قال‏:‏ ولي تاج الدولة أرسلان الشام وحاصر حلب‏.‏

وحج بالناس جنفل مقطع الكوفة، وذكر ابن الجوزي‏:‏ أن الوزير ابن جهير كان قد عمل منبراً هائلاً لتقام عليه الخطبة بمكة، فحين وصل إليها إذا الخطبة قد أعيدت للمصريين، فكسر ذلك المنبر وأحرق‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن أحمد بن يعقوب

ابن أحمد أبو بكر اليربوعي المقري آخر من حدث عن أبي الحسين بن سمعون، وقد كان ثقة متعبداً حسن الطريقة، كتب عند الخطيب وقال‏:‏ كان صدوقاً‏.‏

توفي في هذه السنة عن سبع وثمانين سنة‏.‏

 أحمد بن محمد

ابن أحمد بن عبد الله أبو الحسن ابن النقور البزاز، أحد المسندين المعمرين تفرد بنسخ كثيرة عن ابن حبان عن البغوي عن أشياخه، كنسخة هدبة وكامل بن طلحة وعمرو بن زرارة وأبي السكن البكري، وكان متكثراً متبحراً وكان يأخذ على إسماع حديث طالوت بن عبادة ديناراً، وقد أفتاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي بجواز أخذ الأجرة على إسماع الحديث، لاشتغاله به عن الكسب‏.‏

توفي عن تسع وثمانين سنة‏.‏

 أحمد بن عبد الملك

ابن علي بن أحمد، أبو صالح المؤذن النيسابوري الحافظ، كتب الكثير وجمع وصنف، كتب عن ألف شيخ، وكان يعظ ويؤذن، مات وقد جاوز الثمانين‏.‏

عبد الله بن الحسن بن علي

أبو القاسم بن أبي محمد الحلالي، آخر من حدث عن أبي حفص الكتاني، وقد سمع الكثير، روى عنه الخطيب ووثقه، توفي عن خمس وثمانين سنة ودفن بباب حرب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/145‏)‏

 عبد الرحمن بن منده

ابن محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن إبراهيم، أبو القاسم بن أبي عبد الله الإمام، سمع أباه وابن مردويه وخلقاً في أقاليم شتى، سافر إليها وجمع شيئاً كثيراً، وكان ذا وقار وسمت حسن، واتباع للسنة وفهم جيد، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان مسعد ابن محمد الريحاني يقول‏:‏ حفظ الله الإسلام به، وبعبد الله الأنصاري الهروي‏.‏

توفي ابن منده هذا بأصبهان عن سبع وثمانين سنة، وحضر جنازته خلق كثير لا يعلمهم إلا الله عز وجل‏.‏

 عبد الملك بن محمد

ابن عبد العزيز بن محمد بن المظفر بن علي أبو القاسم الهمداني، أحد الحفاظ الفقهاء الأولياء، كان يلقب ببجير، وقد سمع الكثير، وكان يكثر للطلبة ويقرأ لهم، توفي بالري في المحرم من هذه السنة، ودفن إلى جانب إبراهيم الخواص‏.‏

 الشريف أبو جعفر الحنبلي

عبد الخالق بن عيسى بن أحمد بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن معبد بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي بن أبي موسى الحنبلي العباسي، كان أحد الفقهاء العلماء العباد الزهاد المشهورين بالديانة والفضل والعبادة والقيام في الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة، واشتغل على القاضي أبي يعلى بن الفراء، وزكاه شيخه عند ابن الدامغاني فقبله، ثم ترك الشهادة بعد ذلك‏.‏

وكان مشهوراً بالصلاح والديانة، وحين احتضر الخليفة القائم بأمر الله أوصى أن يغسله الشريف أبو جعفر هذا، وأوصى له بشيء كثير، ومال جزيل، فلم يقبل من ذلك شيئاً‏.‏

وحين وقعت الفتنة بين الحنابلة والأشعرية بسبب ابن القشيري اعتقل هو في دار الخلافة مكرماً معظماً، يدخل عليه الفقهاء وغيرهم، ويقبلون يده ورأسه، ولم يزل هناك حتى اشتكى فأذن له في المسير إلى أهله فتوفى عندهم ليلة الخميس النصف في صفر منها، ودفن إلى جانب الإمام أحمد، فاتخذت العامة قبره سوقاً كل ليلة أربعاء، يترددون إليه ويقرؤون الختمات عنده حتى جاء الشتاء، وكان جملة ما قرئ عليه وأهدي له عشرة آلاف ختمة، والله أعلم‏.‏

 محمد بن محمد بن عبد الله

أبو الحسن البيضاوي، أحد الفقهاء الشافعيين، بربع الكرخ ودفن عند والده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/146‏)‏

 ثم دخلت سنة إحدى وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ملك السلطان الملك المظفر تاج الملوك تتش بن ألب أرسلان السلجوقي دمشق، وقتل ملكها إقسيس، وذلك أن إقسيس بعث إليه يستنجده على المصريين، فلما وصل إليه لم يركب لتلقيه، فأمر بقتله فقتل لساعته، ووجد في خزائنه حجر ياقوت أحمر وزنه سبعة عشر مثقالاً، وستين حبة لؤلؤ كل حبة منها أزيد من مثقال، وعشرة آلاف دينار ومائتي سرج ذهب وغير ذلك‏.‏

وقد كان إقسيس هذا هو أتسز بن أوف الخوارزمي، كان يلقب بالمعظم، وكان من خيار الملوك وأجودهم سيرة، وأصحهم سريرة، أزال الرفض عن أهل الشام، وأبطل الأذان بحي على خير العمل، وأمر بالترضي عن الصحابة أجمعين، وعمر بدمشق القلعة التي هي معقل الإسلام بالشام المحروس، فرحمه الله وبل بالرحمة ثراه، وجعل جنة الفردوس مأواه‏.‏

وفيها‏:‏ عزل الوزير ابن جهير بإشارة نظام الملك، بسبب ممالأته على الشافعية، ثم كاتب المقتدي نظام الملك في إعادته فأعيد ولده وأطلق هو‏.‏

وفيها‏:‏ قدم سعد الدولة جوهراً أميراً إلى بغداد، وضرب الطبول على بابه في أوقات الصلوات، وأساء الأدب على الخليفة، وضرب طوالات الخيل على باب الفردوس، فكوتب السلطان بأمره فجاء الكتاب من السلطان بالإنكار عليه‏.‏

وحج بالناس مقطع الكوفة جنفل التركي، أثابه الله‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 سعد بن علي

ابن محمد بن علي بن الحسين أبو القاسم الزنجاني، رحل إلا الآفاق، وسمع الكثير، وكان إماماً حافظاً متعبداً، ثم انقطع في آخر عمره بمكة، وكان الناس يتبركون به‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ويقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود‏.‏

 سليم بن الجوزي

نسبة إلى قرية من قرى دجيل، كان عابداً زاهداً يقال‏:‏ إنه مكث مدة يتقوت كل يوم بزبيبة، وقد سمع الحديث وقرئ عليه رحمه الله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/147‏)‏

 عبد الله بن شمعون

أبو أحمد الفقيه المالكي القيرواني، توفي ببغداد ودفن بباب حرب، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ملك محمود بن مسعود بن محمود بن سبكتكين صاحب غزنة قلاعاً كثيرة حصينة من بلاد الهند، ثم عاد إلى بلاده سالماً غانماً‏.‏

وفيها‏:‏ ولد الأمير أبو جعفر بن المقتدي بالله، وزينت له بغداد، وفيها ملك صاحب الموصل الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران العقيلي بعد وفاة أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ ملك منصور بن مروان بلاد بكر بعد أبيه‏.‏

وفيها‏:‏ أمر السلطان بتغريق ابن علان اليهودي ضامن البصرة، وأخذ من ذخائره أربعمائة ألف دينار، فضمن خمارتكين البصرة بمائة ألف دينار ومائة فرس في كل سنة‏.‏

وفيها‏:‏ فتح عبيد الله بن نظام الملك تكريت‏.‏

وحج بالناس جنفل التركي، وقطعت خطبة المصريين بمكة وخطب للمقتدي وللسلطان ملكشاه السلجوقي‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الملك بن الحسن بن أحمد بن حيرون

أبو نصر، سمع الكثير وكان زاهداً عابداً، يسرد الصوم، ويختم في كل ليلة ختمة رحمه الله‏.‏

 محمد بن محمد بن أحمد

ابن الحسين بن عبد العزيز بن مهران العكبري، سمع هلال الحفار، وابن زرقويه والحمامي وغيرهم، وكان فاضلاً جيد الشعر، فمن شعره قوله‏:‏

أطيل فكري في أي ناس * مضوا قدماً وفيمن خلفونا

هم الأحياء بعد الموت ذكراً * ونحن من الخمول الميتونا

توفي في رمضان منها وله سبعون سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/148‏)‏

 هياج بن عبد الله

الخطيب الشامي، سمع الحديث وكان أوحد زمانه زهداً وفقهاً واجتهاداً في العبادة، أقام بمكة مدة يفتي أهلها ويعتمر في كل يوم ثلاث مرات على قدميه، ولم يلبس نعلاً منذ أقام بمكة، وكان يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة ماشياً، وكذلك كان يزور قبر ابن عباس بالطائف، وكان لا يدخر شيئاً، ولا يلبس إلا قميصاً واحداً، ضربه بعض أمراء مكة في بعض فتن الروافض فاشتكى أياماً ومات، وقد نيّف على الثمانين رحمه الله، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ استولى تكش أخو السلطان ملك شاه على بعض بلاد خراسان‏.‏

وفيها‏:‏ أذن للوعاظ في الجلوس للوعظ، وكانوا قد منعوا في فتنة ابن القشيري‏.‏

وفيها‏:‏ قبض على جماعة من الفتيان كانوا قد جعلوا عليهم رئيساً يقال له‏:‏ عبد القادر الهاشمي، وقد كاتبوه من الأقطار، وكان الساعي له رجلاً يقال له‏:‏ ابن رسول، وكانوا يجتمعون عند جامع براثا، فخيف من أمرهم أن يكونوا ممالئين للمصريين، فأمر بالقبض عليهم‏.‏

وحج بالناس جنفل‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 أحمد بن محمد بن عمر

ابن محمد بن إسماعيل، أبو عبد الله بن الأخضر المحدث، سمع علي بن شاذان، وكان على مذهب الظاهرية، وكان كثير التلاوة حسن السيرة، متقللاً من الدنيا قنوعاً، رحمه الله‏.‏

 الصليحي

المتغلب على اليمن، أبو الحسن علي بن محمد بن علي الملقب بالصليحي، كان أبوه قاضياً باليمن، وكان سنياً، ونشأ هذا فتعلم العلم وبرع في أشياء كثيرة من العلوم، وكان شيعياً على مذهب القرامطة، ثم كان يدل بالحجيج مدة خمس عشرة سنة، وكان اشتهر أمره بين الناس أنه سيملك اليمن، فنجم ببلاد اليمن بعد قتله نجاح صاحب تهامة، واستحوذ على بلاد اليمن بكمالها في أقصر مدة، واستوثق له الملك بها سنة خمس وخمسين، وخطب للمستنصر العبيدي صاحب مصر، فلما كان في هذا العام خرج إلى الحج في ألفي فارس، فاعترضه سعيد بن نجاح بالموسم، في نفر يسير، فقاتلهم فقتل هو وأخوه واستحوذ سعيد بن نجاح على مملكته وحواصله‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/149‏)‏

ومن شعر الصليحي هذا قوله‏:‏

أنكحت بيض الهند سمر رماحهم * فرؤوسهم عرض النثار نثار

وكذا العلا لا يستباح نكاحها * إلا بحيث تطلّق الأعمار

 محمد بن الحسين

ابن عبد الله بن أحمد بن يوسف بن الشِّبْلِيِّ، أبو علي الشاعر البغدادي، أسند الحديث، وله الشعر الرائق فمنه قوله‏:‏

لا تظهرن لعاذل أو عاذر * حاليك في السراء والضراء

فلرحمة المتوجعين مرارة * في القلب مثل شماتة الأعداء

وله أيضاً‏:‏

يفني البخيل يجمع المال مدته * وللحوادث والوراث ما يدع

كدودة القز ما تبنيه يخنقها * وغيرها بالذي تبنيه ينتفع

 يوسف بن الحسن

ابن محمد بن الحسن، أبو القاسم العسكري، من أهل خراسان من مدينة زنجان، ولد سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وتفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وكان من أكبر تلاميذه، وكان عابداً ورعاً خاشعاً، كثير البكاء عند الذكر، مقبلاً على العبادة، مات وقد قارب الثمانين‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ ولي أبو كامل منصور بن نور الدولة دُبيس ما كان يليه أبوه من الأعمال، وخلع عليه السلطان والخليفة‏.‏

وفيها‏:‏ ملك شرف الدولة مسلم بن قريش حران، وصالح صاحب الرهاء‏.‏

وفيها‏:‏ فتح تتش بن ألب أرسلان صاحب دمشق مدينة انطرطوس‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/150‏)‏

وفيها‏:‏ أرسل الخليفة ابن جهير إلى السلطان ملك شاه يتزوج ابنته فأجابت أمها بذلك، بشرط أن لا يكون له زوجة ولا سرية سواها، وأن يكون سبعة أيام عندها، فوقع الشرط على ذلك‏.‏

 وفيها توفي من الأعيان‏:‏

 داود بن السلطان بن ملك شاه

فوجد عليه أبوه وجداً كثيراً، بحيث إنه كاد أو همّ أن يقتل نفسه، فمنعه الأمراء من ذلك، وانتقل عن ذلك البلد وأمر النساء بالنوح عليه‏.‏

ولما وصل الخبر لبغداد جلس وزير الخليفة للعزاء‏.‏

 القاضي أبو الوليد الباجي

سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب التجيبي الأندلسي الباجي الفقيه المالكي، أحد الحفاظ المكثيرين في الفقه والحديث، سمع الحديث ورحل فيه إلى بلاد المشرق سنة ست وعشرين وأربعمائة، فسمع هناك الكثير، واجتمع بأئمة ذلك الوقت، كالقاضي أبي الطيب الطبري، وأبي إسحاق الشيرازي، وجاور بمكة ثلاث سنين مع الشيخ أبي ذر الهروي، وأقام ببغداد ثلاث سنين، وبالموصل سنة عند أبي جعفر السمناني قاضيها، فأخذ عنه الفقه والأصول، وسمع الخطيب البغدادي وسمع منه الخطيب أيضاً، وروى عنه هذين البيتين الحسنين‏:‏

إذا كنت أعلم علماً يقيناً * بأن جميع حياتي كساعة

فلم لا أكون كضيف بها * وأجعلها في صلاح وطاعة

ثم عاد إلى بلده بعد ثلاث عشرة سنة، وتولى القضاء هناك، ويقال‏:‏ إنه تولى قضاء حلب أيضاً، قاله ابن خلكان‏.‏

قال‏:‏ وله مصنفات عديدة منها ‏(‏المنتقى في شرح الموطأ‏)‏، و‏(‏إحكام الفصول في أحكام الأصول‏)‏، و‏(‏الجرح والتعديل‏)‏، وغير ذلك، وكان مولده سنة ثلاث وأربعمائة، وتوفي ليلة الخميس بين العشاءين التاسع والعشرين من رجب من هذه السنة، رحمه الله‏.‏

 أبو الأغر دبيس بن علي بن مَزيَد

الملقب نور الدولة، توفي في هذه السنة عن ثمانين سنة‏:‏ مكث منها أميراً نيفاً وستين سنة‏.‏

وقام بالأمر من بعده ولده أبو كامل، ولقب بهاء الدولة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/151‏)‏

 عبد الله بن أحمد بن رضوان

أبو القاسم البغدادي، كان من الرؤساء، ومرض بالشقيقة ثلاث سنين، فمكث في بيت مظلم لا يرى ضوءاً ولا يسمع صوتاً‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وسبعين وأربعمائة

فيها‏:‏ قدم مؤيد الملك فنزل في مدرسة أبيه، وضربت الطبول على بابه في أوقات الصلوات الثلاث‏.‏

وفيها‏:‏ نفِّذ الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رسولاً إلى السلطان ملكشاه والوزير نظام الملك، وكان أبو إسحاق كلما مر على بلدة خرج أهلها يتلقونه بأولادهم ونسائهم، يتبركون به ويتمسحون بركابه، وربما أخذوا من تراب حافر بغلته‏.‏

ولما وصل إلى ساوة خرج إليه أهلها، وما مر بسوق منها إلا نثروا عليه من لطيف ما عندهم، حتى اجتاز بسوق الأساكفة، فلم يكن عندهم إلا مداساة الصغار فنثروها عليه، فجعل يتعجب من ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ جددت الخطبة لبنت السلطان ملكشاه من جهة الخليفة، فطلبت أمها أربعمائة ألف دينار، ثم اتفق الحال على خمسين ألف دينار‏.‏

وفيها‏:‏ حارب السلطان أخاه تتش، فأسره ثم أطلقه، واستقرت يده على دمشق وأعمالها‏.‏

وحج بالناس جنفل‏.‏

 و توفي فيها من الأعيان‏:‏

 عبد الوهاب بن محمد

ابن إسحاق بن محمد بن يحيى بن منده، أبو عمر الحافظ من بيت الحديث، رحل إلى الآفاق، وسمع الكثير، وتوفي بأصبهان‏.‏

 ابن ماكولا

الأمير أبو نصر على بن الوزير أبي القاسم هبة الله بن علي بن جعفر بن علكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف التميمي، الأمير سعد الملك، أبو نصر بن ماكولا، أحد أئمة الحديث وسادات الأمراء، رحل وطاف وسمع الكثير، وصنف ‏(‏الإكمال في المشتبه من أسماء الرجال‏)‏، وهو كتاب جليل لم يسبق إليه، ولا يلحق فيه، إلا ما استدرك عليه ابن نقطة في كتاب سماه ‏(‏الاستدراك‏)‏‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/152‏)‏

قتله مماليكه في كرمان في هذه السنة، وكان مولده في سنة عشرين وأربعمائة، وعاش خمساً وخمسين سنة‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ وقيل‏:‏ إنه قتل في سنة تسع وسبعين، وقيل‏:‏ في سنة سبع وثمانين‏.‏

قال‏:‏ وقد كان أبوه وزير القائم بأمر الله، وعمه عبد الله بن الحسين ولي قضاء بغداد‏.‏

قال‏:‏ ولم أدر لم سمي الأمير إلا أن يكون منسوباً إلى جده الأمير أبي دلف، وأصله من جرباذقان، وولد في عكبرا في شعبان سنة إحدى وعشرين وأربعمائة‏.‏

قال‏:‏ وقد كان الخطيب البغدادي صنف كتاب ‏(‏المؤتنف‏)‏ جمع فيه بين كتابي الدارقطني وعبد الغني بن سعيد في المؤتلف والمختلف، فجاء ابن ماكولا وزاد على الخطيب وسماه كتاب ‏(‏الإكمال‏)‏، وهو في غاية الإفادة ورفع الالتباس والضبط‏.‏

ولم يوضع مثله، ولا يحتاج هذا الأمير بعده إلى فضلية أخرى، ففيه دلالة على كثرة اطلاعه وضبطه وتحريره وإتقانه‏.‏

ومن الشعر المنسوب إليه قوله‏:‏

قوّضْ خيامك عن أرض تهان بها * وجانب الذل إن الذل يجتنب

وارحل إذا كان في الأوطان منقصة * فالمندل الرطب في أوطانه حطب