فصل: سنة إحدى وستين وخمسمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **


 ثم دخلت سنة إحدى وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ فتح نور الدين محمود حصن المنيطرة من الشام وقتل عنده خلق كثير من الفرنج، وغنم أموالاً جزيلة‏.‏

وفيها‏:‏ هرب عز الدين بن الوزير ابن هبيرة من السجن، ومعه مملوك تركي، فنودي عليه في البلد من رده فله مائة دينار، ومن وجد عنده هدمت داره وصلب على بابها، وذبحت أولاده بين يديه، فدلهم رجل من الأعراب عليه فأخذ من بستان فضرب ضرباً شديداً وأعيد إلى السجن وضيق عليه‏.‏

وفيها‏:‏ أظهر الروافض سب الصحابة وتظاهروا بأشياء منكرة، ولم يكونوا يتمكنون منها في هذه الأعصار المتقدمة، خوفاً من ابن هبيرة، ووقع بين العوام كلام فيما يتعلق بخلق القرآن‏.‏

وحج بالناس برغش‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/313‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 الحسن بن العباس

ابن أبي الطيب بن رستم أبو عبد الله الأصبهاني، كان من كبار الصالحين البكائين، قال‏:‏ حضرت يوماً مجلس ما شاده وهو يتكلم على الناس فرأيت رب العزة في هذه الليلة وهو يقول لي‏:‏ وقفت على مبتدع وسمعت كلامه‏؟‏ لأحرمنك النظر في الدنيا‏.‏

فأصبح لا يبصر وعيناه مفتوحتان كأنه بصير‏.‏

 عبد العزيز بن الحسن

ابن الحباب الأغلبي السعدي القاضي، أبو المعالي البصري، المعروف بابن الجليس، لأنه كان يجالس صاحب مصر، وقد ذكره العماد في الخريدة، وقال‏:‏ كان له فضل مشهور وشعر مأثور فمن ذلك قوله‏:‏

ومن عجب أن السيوف لديهم * تحيض دماء والسيوف ذكور

وأعجب من ذا أنها في أكفهم * تأجج ناراً والأكف بحور

 الشيخ عبد القادر الجيلي

ابن أبي صالح أبو محمد الجيلي، ولد سنة سبعين وأربعمائة، ودخل بغداد فسمع الحديث وتفقه على أبي سعيد المخرمي الحنبلي، وقد كان بنى مدرسة ففوضها إلى الشيخ عبد القادر، فكان يتكلم على الناس بها، ويعظهم، وانتفع به الناس انتفاعاً كثيراً‏.‏

وكان له سمت حسن، وصمت غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان فيه تزهد كثير وله أحوال صالحة ومكاشفات، ولأتباعه وأصحابه فيه مقالات، ويذكرون عنه أقوالاً وأفعالاً ومكاشفات أكثرها مغالاة، وقد كان صالحاً ورعاً، وقد صنف كتاب ‏(‏الغنية‏)‏ و‏(‏فتوح الغيب‏)‏ وفيهما أشياء حسنة، وذكر فيهما أحاديث ضعيفة وموضوعة، وبالجملة كان من سادات المشايخ، توفي وله تسعون سنة ودفن بالمدرسة التي كانت له‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/314‏)‏

 ثم دخلت سنة ثنتين وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ أقبلت الفرنج في جحافل كثيرة إلى الديار المصرية، وساعدهم المصريون فتصرفوا في بعض البلاد، فبلغ ذلك أسد الدين شيركوه فاستأذن الملك نور الدين في العود إليها، وكان كثير الحنق على الوزير شاور، فأذن له فسار إليها في ربيع الآخر ومعه ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وقد وقع في النفوس أنه سيملك الديار المصرية، وفي ذلك يقول عرقلة المسمى بحسان الشاعر‏:‏

أقول والأتراك قد أزمعت * مصر إلى حرب الأعاريب

رب كما ملكها يوسف الصـ* ـدّيق من أولاد يعقوب فملكها في عصرنا يوسف الصـ* ـادق من أولاد أيوب

من لم يزل ضرّاب هام العدا * حقاً وضراب العراقيب

ولما بلغ الوزير شاور قدوم أسد الدين والجيش معه بعث إلى الفرنج فجاؤوا من كل فج إليه، وبلغ أسد الدين ذلك من شأنهم، وإنما معه ألفا فارس، فاستشار من معه من الأمراء فكلهم أشار عليه بالرجوع إلى نور الدين، لكثيرة الفرنج، إلا أميراً واحداً يقال له‏:‏ شرف الدين برغش، فإنه قال‏:‏ من خاف القتل والأسر فليقعد في بيته عند زوجته، ومن أكل أموال الناس فلا يسلم بلادهم إلى العدو‏.‏

وقال مثل ذلك ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، فعزم الله لهم فساروا نحو الفرنج فاقتتلوا هم وإياهم قتالاً عظيماً، فقتلوا من الفرنج مقتلة عظيمة، وهزموهم، ثم قتلوا منهم خلقاً لا يعلمهم إلا الله عز وجل، ولله الحمد‏.‏

 فتح الإسكندرية على يدي أسد الدين شيركوه

ثم أشار أسد الدين بالمسير إلى الإسكندرية فملكها وجبى أموالها، واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين يوسف وعاد إلى الصعيد فملكه، وجمع منه أموالاً جزيلة جداً، ثم إن الفرنج والمصريين اجتمعوا على حصار الإسكندرية ثلاثة أشهر لينتزعوها من يد صلاح الدين، وذلك في غيبة عمه في الصعيد، وامتنع فيها صلاح الدين أشد الامتناع، ولكن ضاقت عليهم الأقوات وضاق عليهم الحال جداً، فسار إليهم أسد الدين فصالحه شاور الوزير عن الإسكندرية بخمسين ألف دينار، فأجابه إلى ذلك، وخرج صلاح الدين منها وسلمها إلى المصريين، وعاد إلى الشام في منتصف شوال‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/315‏)‏

وقرر شاور للفرنج على مصر في كل سنة مائة ألف دينار، وأن يكون لهم شحنة بالقاهرة، وعادوا إلى بلادهم بعد أن كان الملك نور الدين أعقبهم في بلادهم، وفتح من بلادهم حصوناً كثيرة، وقتل منهم خلقاً من الرجال، وأسر جماً غفيراً من النساء والأطفال، وغنم شيئاً كثيراً من الأمتعة والأموال، ولله الحمد‏.‏

وكان معه أخوه قطب الدين مودود فأطلق له الرقة فسار فتسلمها‏.‏

وفيها‏:‏ في شعبان منها كان قدوم العماد الكاتب من بغداد إلى دمشق، وهو أبو حامد محمد بن محمد الأصبهاني، صاحب ‏(‏الفتح القدسي‏)‏، و‏(‏البرق الشامي‏)‏، و‏(‏الخريدة‏)‏، وغير ذلك من المصنفات‏.‏

فأنزله قاضي القضاة كمال الدين الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية داخل باب الفرج، فنسبت إليه لسكناه بها، فيقال لها‏:‏ العمادية، ثم ولي تدريسها في سنة سبع وستين بعد الشيخ الفقيه ابن عبد، و أول من جاء للسلام عليه نجم الدين أيوب كانت له وبه معرفة من تكريت، فامتدحه العماد بقصيدة ذكرها أبو شامة، وكان أسد الدين وصلاح الدين بمصر فبشره فيها بولاية صلاح الدين الديار المصرية حيث يقول‏:‏

ويستقر بمصر يوسف، وبه * تقر بعد التنائي عين يعقوب

ويتلقى يوسف فيها بإخوته * والله يجمعهم من غير تثريب

ثم تولى عماد الدين كتابة الإنشاء للملك نور الدين محمود‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 برغش أمير الحاج سنين متعددة

كان مقدماً على العساكر، خرج من بغداد لقتال شملة التركماني فسقط عن فرسه فمات‏.‏

 أبو المعالي الكاتب

محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون، صاحب ‏(‏التذكرة الحمدونية‏)‏، وقد ولي ديوان الزمام مدة، توفي في ذي القعدة ودفن بمقابر قريش‏.‏

 الرشيد الصدفي

كان يجلس بين يدي العبادي على الكرسي، كانت له شيبة وسمت ووقار، وكان يدمن حضور السماعات، ويرقص، فاتفق أنه مات وهو يرقص في بعض السماعات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/316‏)‏

 ثم دخلت سنة ثلاث وستين وخمسمائة

في صفر منها وصل شرف الدين أبو جعفر ابن البلدي من واسط إلى بغداد، فخرج الجيش لتلقيه والنقيبان والقاضي، ومشى الناس بين يديه إلى الديوان فجلس في دست الوزارة، وقرئ عهده ولقب بالوزير شرف الدين جلال الإسلام معز دولة سيد الوزراء صدر الشرق والغرب‏.‏

وفيها‏:‏ أفسدت خفاجة في البلاد ونهبوا القرى، فخرج إليهم جيش من بغداد فهربوا في البراري فانحسر الجيش عنهم خوفاً من العطش، فكروا على الجيش فقتلوا منهم خلقاً وأسروا آخرين، وكان قد أسر الجيش منهم خلقاً فصلبوا على الأسوار‏.‏

وفي شوال منها وصلت امرأة الملك نور الدين محمود بن زنكي إلى بغداد تريد الحج من هناك، وهي الست عصمت الدين خاتون بنت معين الدين، ومعها الخدم والخدام، وفيهم صندل الخادم، وحملت لها الإمامات وأكرمت غاية الإكرام‏.‏

وفيها‏:‏ مات قاضي قضاة بغداد جعفر، فشغر البلد عن حاكم ثلاثاً وعشرين يوماً، حتى ألزموا روح بن الحدثني قاضي القضاة في رابع رجب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 جعفر بن عبد الواحد

أبو البركات الثقفي، قاضي قضاة بغداد بعد أبيه، ولد سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وسبب وفاته أنه طلب منه مال وكلمه الوزير ابن البلدي كلاماً خشناً فخاف فرمي الدم ومات‏.‏

 أبو سعد السمعاني

عبد الكريم بن محمد بن منصور، أبو سعد السمعاني، رحل إلى بغداد فسمع بها وذيّل على تاريخها للخطيب البغدادي، وقد ناقشه ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏، وذكر عنه أنه كان يتعصب على أهل مذهبه، ويطعن في جماعة منهم، وأنه يترجم بعبارة عامية، مثل قوله عن بعض الشيخات‏:‏ إنها كانت عفيفة‏.‏

وعن الشاعر المشهور بحيص بيص إنه كانت له أخت يقال لها‏:‏ دخل خرج، وغير ذلك‏.‏

 عبد القاهر بن محمد

ابن عبد الله أبو النجيب السهروردي، كان يذكر أنه من سلالة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، سمع الحديث وتفقه وأفتى ودرس بالنظامية وابتنى لنفسه مدرسة ورباطاً، وكان مع ذلك متصوفاً يعظ الناس، ودفن بمدرسته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/317‏)‏

 محمد بن عبد الحميد

ابن أبي الحسين أبو الفتح الرازي، المعروف بالعلاء العالم، وهو من أهل سمرقند، وكان من الفحول في المناظرة، وله طريقة في الخلاف والجدل، يقال لها‏:‏ التعليقة العالمية‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد قدم بغداد وحضر مجلسي‏.‏

وقال أبو سعد السمعاني‏:‏ كان يدمن شرب الخمر‏.‏

قال‏:‏ وكان يقول ليس في الدنيا أطيب من كتاب المناظرة وباطية من خمر أشرب منها‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ ثم بلغني عنه أنه أقلع عن شرب الخمر والمناظرة وأقبل على النسك والخير‏.‏

 يوسف بن عبد الله

ابن بندار الدمشقي مدرس النظامية ببغداد، تفقه على أسعد الميهني، وبرع في المناظرة، وكان يتعصب للأشعرية، وقد بعث رسولاً في هذه السنة إلى شملة التركماني فمات في تلك البلاد‏.‏

 ثم دخلت سنة أربع وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ كان فتح مصر على يدي الأمير أسد الدين شيركوه‏.‏

وفيها‏:‏ طغت الفرنج بالديار المصرية، وذلك أنهم جعلوا شاور شحنة لهم بها، وتحكموا في أموالها ومساكنها أفواجاً أفواجاً، ولم يبق شيء من أن يستحوذوا عليها ويخرجوا منها أهلها من المسلمون، وقد سكنها أكثر شجعانهم، فلما سمع الفرنج بذلك جاؤوا إليها من كل فج وناحية صحبة ملك عسقلان في جحافل هائلة، فأول ما أخذوا مدينة بلبيس وقتلوا من أهلها خلقاً وأسروا آخرين، ونزلوا بها وتزكوا بها أثقالهم، وجعلوها موئلاً ومعقلاً لهم‏.‏

ثم ساروا فنزلوا على القاهرة من ناحية باب البرقية، فأمر الوزير شاور الناس أن يحرقوا مصر، وأن ينتقل الناس منها إلى القاهرة، فنهبوا البلد وذهب للناس أموال كثيرة جداً وبقيت النار تعمل في مصر أربعة وخمسين يوماً، فعند ذلك أرسل صاحبها العاضد يستغيث بنور الدين، وبعث إليه بشعور نسائه يقول‏:‏ أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنج‏.‏

والتزم له بثلث خراج مصر على أن يكون أسد الدين مقيماً بها عندهم، والتزم له بإقطاعات زائدة على الثلث، فشرع نور الدين في تجهيز الجيوش إلى مصر، فلما استشعر الوزير شاور بوصول المسلمين أرسل إلى ملك الفرنج يقول‏:‏ قد عرفت محبتي ومودتي لكم، ولكن العاضد والمسلمين لا يوافقوني على تسليم البلد، وصالحهم ليرجعوا عن البلد بألف ألف دينار، وعجل لهم من ذلك ثمانمائة ألف دينار‏.‏

فانشمروا راجعين إلى بلادهم خوفاً من عساكر نور الدين، وطمعاً في العودة إليها مرة ثانية ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 54‏]‏‏.‏

ثم شرع الوزير شاور في مطالبة الناس بالذهب الذي صالح به الفرنج وتحصيله، وضيق على الناس مع ما نالهم من الضيق والحريق والخوف، فجبر الله مصابهم بقدوم عساكر المسلمين عليهم وهلاك الوزير على يديهم‏.‏

وذلك أن نور الدين استدعى الأمير أسد الدين من حمص إلى حلب فساق إليه هذه المسافة وقطعها في يوم واحد، فإنه قام من حمص بعد أن صلى وسلم الصبح ثم دخل منزله فأصاب فيه شيئاً من الزاد، ثم ركب وقت طلوع الشمس فدخل حلب على السلطان نور الدين من آخر ذلك اليوم، و يقال‏:‏ إن هذا لم يتفق لغيره إلا للصحابة، فسر بذلك نور الدين فقدمه على العساكر وأنعم عليه بمائتي ألف دينار وأضاف إليه من الأمراء الأعيان، كل منهم يبتغي بمسيره رضى الله والجهاد في سبيله، وكان من جملة الأمراء ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، ولم يكن منشرحاً لخروجه هذا بل كان كارهاً

له، وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏:‏ 26‏]‏ وأضاف إليه ستة آلاف من التركمان، وجعل أسد الدين مقدماً على هذه العساكر كلها، فسار بهم من حلب إلى دمشق ونور الدين معهم، فجهزه من دمشق إلى الديار المصرية، وأقام نور الدين بدمشق‏.‏

ولما وصلت الجيوش النورية إلى الديار المصرية وجدوا الفرنج قد انشمروا عن القاهرة راجعين إلى بلادهم بالصفقة الخاسرة، وكان وصوله إليها في سابع ربيع الآخر، فدخل الأمير أسد الدين على العاضد في ذلك اليوم فخلع عليه خلعة سنية فلبسها وعاد إلى مخيمه بظاهر البلد، وفرح المسلمون بقدومه، وأجريت عليهم الجرايات، وحملت إليهم التحف والكرامات، وخرج وجوه الناس إلى المخيم خدمة لأسد الدين‏.‏

وكان فيمن جاء إليه المخيم الخليفة العاضد متنكراً، فأسر إليه أموراً مهمة منها قتل الوزير شاور، وقرر ذلك معه وأعظم أمر الأمير أسد الدين، ولكن شرع يماطل بما كان التزمه للملك نور الدين، وهو مع ذلك يتردد إلى أسد الدين، ويركب معه، وعزم على عمل ضيافة له فنهاه أصحابه عن الحضور خوفاً عليه من غائلته، وشاوروه في قتل شاور فلم يمكنهم الأمير أسد الدين من ذلك‏.‏

فلما كان في بعض الأيام جاء شاور إلى منزل أسد الدين فوجده قد ذهب لزيارة قبر الشافعي، وإذا ابن أخيه يوسف هنالك فأمر صلاح الدين يوسف بالقبض على الوزير شاور، ولم يمكنه قتله إلا بعد مشاورة عمه أسد الدين وانهزم أصحابه فأعلموا العاضد لعله يبعث ينقذه، فأرسل العاضد إلى الأمير أسد الدين يطلب منه رأسه، فقتل شاور وأرسلوا برأسه إلى العاضد في سابع عشر ربيع الآخر، ففرح المسلمون بذلك‏.‏

وأمر أسد الدين بنهب دار شاور فنهبت، ودخل أسد الدين على العاضد فاستوزره وخلع عليه خلعة عظيمة، ولقبه الملك المنصور، فسكن دار شاور وعظم شأنه هنالك‏.‏

ولما بلغ نور الدين خبر فتح مصر فرح بذلك وقصدته الشعراء بالتهنئة، غير أنه لم ينشرح لكون أسد الدين صار وزيراً للعاضد، وكذلك لما انتهت الوزارة إلى ابن أخيه صلاح الدين، فشرع نور الدين في إعمال الحيلة في إزالة ذلك فلم يتمكن، ولا قدر عليه، ولا سيما أنه بلغه أن صلاح الدين استحوذ على خزائن العاضد كما سيأتي بيانه إن شاء الله، والله أعلم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/319‏)‏

وأرسل أسد الدين إلى القصر يطلب كاتباً فأرسلوا إليه القاضي الفاضل رجاء أن يقبل منه إذا قال وأفاض فيما كانوا يؤملون، وبعث أسد الدين العمال في الأعمال وأقطع الإقطاعات، وولى الولايات، وفرح بنفسه أياماً معدودات، فأدركه حمامه في يوم السبت الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكانت ولايته شهرين وخمسة أيام، فلما توفي أسد الدين رحمه الله، أشار الأمراء الشاميون على العاضد بتولية صلاح الدين يوسف الوزارة بعد عمه، فولاه العاضد الوزارة وخلع عليه خلعة سنية، ولقبه الملك الناصر‏.‏

 صفة الخلعة التي لبسها صلاح الدين

مما ذكره أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏ عمامة بيضاء تنيسي بطرف ذهب، وثوب ديبقي بطراز ذهب، وجبة بطراز ذهب، وطيلسان بطراز مذهبة، وعقد جوهر بعشرة آلاف دينار، وسيف محلى بخمسة آلاف دينار، وحجزة بثمانية آلاف دينار، وعليها طوق ذهب، وسرفسار ذهب مجوهر، وفي رأسها مائتا حبة جوهر، وفي قوائمها أربعة عقود جوهر، وفي رأسها قصبة ذهب فيها تندة بيضاء بأعلام بيض، ومع الخلعة عدة بقج، وخيل وأشياء أخر، ومنشور الوزارة ملفوف بثوب أطلس أبيض، وذلك في يوم الاثنين الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، وكان يوماً مشهوداً‏.‏

وسار الجيش بكماله في خدمته، لم يتخلف عنه سوى عين الدولة الياروقي، وقال‏:‏ لا أخدم يوسف بعد نور الدين‏.‏

ثم سار بجيشه إلى الشام فلامه نور الدين على ذلك، وأقام الملك صلاح الدين بمصر بصفة نائب للملك نور الدين، يخطب له على المنابر بالديار المصرية، ويكاتبه بالأمير الإسفهسلار صلاح الدين ويتواضع له صلاح الدين في الكتب والعلامة، لكن قد التفت عليه القلوب، وخضعت له النفوس، واضطهد العاضد في أيامه غاية الاضطهاد، وارتفع قدر صلاح الدين بين العباد بتلك البلاد، وزاد في إقطاعات الذين معه فأحبوه واحترموه وخدموه‏.‏

وكتب إليه نور الدين يعنفه على قبول الوزارة بدون مرسومه، وأمره أن يقيم حساب الديار المصرية، فلم يلتفت صلاح الدين إلى ذلك وجعل نور الدين يقول في غضون ذلك‏:‏ ملك ابن أيوب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/320‏)‏

وأرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلب منه أهله وإخوته وقرابته، فأرسلهم إليه وشرط عليهم السمع والطاعة له، فاستقر أمره بمصر وتوطأت دولته بذلك، وكمل أمره وتمكن سلطانه وقويت أركانه‏.‏

وقد قال بعض الشعراء في قتل صلاح الدين لشاور الوزير‏:‏

هيا لمصر حور يوسف ملكها * بأمر من الرحمن كان موقوتا

وما كان فيها قتل يوسف شاورا * يماثل إلا قتل داود جالوتا

قال أبو شامة‏:‏ وقتل العاضد في هذه السنة أولاد شاور وهم شجاع الملقب بالكامل، والطاري الملقب بالمعظم، وأخوهما الآخر الملقب بفارس المسلمين، وطيف برؤوسهم ببلاد مصر‏.‏

 ذكر قتل الطواشي

مؤتمن الخلافة وأصحابه على يدي صلاح الدين، وذلك أنه كتب من دار الخلافة بمصر إلى الفرنج ليقدموا إلى الديار المصرية ليخرجوا منها الجيوش الإسلامية الشامية، وكان الذي يفد بالكتاب إليهم الطواشي مؤتمن الخلافة، مقدم العساكر بالقصر، وكان حبشياً وأرسل الكتاب مع إنسان أمن إليه فصادفه في بعض الطريق من أنكر حاله، فحمله إلى الملك صلاح الدين فقرره، فأخرج الكتاب ففهم صلاح الدين الحال فكتمه‏.‏

واستشعر الطواشي مؤتمن الدولة أن صلاح الدين قد اطلع على الأمر فلازم القصر مدة طويلة خوفاً على نفسه، ثم عنّ له في بعض الأيام أن خرج إلى الصيد، فأرسل صلاح الدين إليه من قبض عليه وقتله وحمل رأسه إليه، ثم عزل جميع الخدام الذين يلون خدمة القصر، واستناب على القصر عوضهم بهاء الدين قراقوش، وأمره أن يطالعه بجميع الأمور، صغارها وكبارها‏.‏

 وقعة السودان

وذلك أنه لما قتل الطواشي مؤتمن الخلافة الحبشي، وعزل بقية الخدام غضبوا لذلك، واجتمعوا قريباً من خمسين ألفاً، فاقتتلوا هم وجيش صلاح الدين بين القصرين، فقتل خلق كثير من الفريقين، وكان العاضد ينظر من القصر إلى المعركة، وقد قذف الجيش الشامي من القصر بحجارة، وجاءهم منه سهام فقيل‏:‏ كان ذلك بأمر العاضد، وقيل‏:‏ لم يكن بأمره‏.‏

ثم إن أخا الناصر نورشاه شمس الدولة - وكان حاضراً للحرب قد بعثه نور الدين لأخيه ليشد أزره - أمر بإحراق منظرة العاضد، ففتح الباب ونودي‏:‏ إن أمير المؤمنين يأمركم أن تخرجوا هؤلاء السودان من بين أظهركم ومن بلادكم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/321‏)‏

فقوي الشاميون وضعف جأش السودان جداً، وأرسل السلطان إلى محلة السودان المعروفة بالمنصورة، التي فيها دورهم وأهلوهم بباب زويلة فأحرقها، فولوا عند ذلك مدبرين، وركبهم السيف فقتل منهم خلقاً كثيراً، ثم طلبوا الأمان فأجابهم إلى ذلك، وأخرجهم إلى الجيزة، ثم خرج لهم شمس الدولة نورشاه أخو الملك صلاح الدين فقتل أكثرهم أيضاً، ولم يبق منهم إلا القليل، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا‏.‏

وفيها‏:‏ افتتح نور الدين قلعة جعبر وانتزعها من يد صاحبها شهاب الدين مالك بن علي العقيلي، وكانت في أيديهم من أيام السلطان ملكشاه‏.‏

وفيها‏:‏ احترق جامع حلب فجدده نور الدين‏.‏

وفيها‏:‏ مات ماروق الذي تنسب إليه المحلة بظاهر حلب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 سعد الله بن نصر بن سعيد الدجاجي

أبو الحسن الواعظ الحنبلي، ولد سنة ثمانين وأربعمائة، وسمع الحديث وتفقه ووعظ، وكان لطيف الوعظ، وقد أثنى عليه ابن الجوزي في ذلك، وذكر أنه سئل مرة عن أحاديث الصفات فنهى عن التعرض لذلك وأنشد‏:‏

أبى الغائب الغضبان يا نفس أن ترضى * وأنت الذي صيرت طاعته فرضا

فلا تهجري من لا تطيقين هجره * وإن هم بالهجران خديك والأرضا

وذكر ابن الجوزي عنه أنه قال‏:‏ خفت مرة من الخليفة فهتف بي هاتف في المنام وقال لي‏:‏ اكتب‏:‏

ادفع بصبرك حادث الأيام * وترج لطف الواحد العلام

لا تيأسن وإن تضايق كربها * ورماك ريب صروفها بسهام

فله تعالى بين ذلك فرجة * تخفى على الأفهام والأوهام

كم من نجا من بين أطراف القنا * وفريسة سلمت من الضرغام

توفي في شعبان منها عن أربع وثمانين سنة، ودفن عند رباط الزوري، ثم نقل إلى مقبرة الإمام أحمد‏.‏

 شاور بن مجير الدين

أبو شجاع السعدي، الملقب أمير الجيوش، وزير الديار المصرية أيام العاضد، وهو الذي انتزع الوزارة من يدي رزيك، وهو أول من استكتب القاضي الفاضل، استدعى به من إسكندرية من باب السدرة فحظي عنده وانحصر منه الكتاب بالقصر، لما رأوا من فضله وفضيلته‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/322‏)‏

وقد امتدحه الشعراء منهم عمارة اليمني حيث يقول‏:‏

ضجر الحديد من الحديد وشاور * من نصر دين محمد لم يضجر

حلف الزمان ليأتين بمثله * حنثت بيمينك يا زمان فكفر

ولم يزل أمره قائماً إلى أن ثار عليه الأمير ضرغام بن سوار فالتجأ إلى نور الدين فأرسل معه الأمير أسد الدين شيركوه، فنصروه على عدوه، فنكث عهده فلم يزل أسد الدين حنقاً عليه حتى قتله في هذه السنة، على يدي ابن أخيه صلاح الدين، ضرب عنقه بين يدي الأمير جردنك في السابع عشر من ربيع الآخر، واستوزر بعده أسد الدين، فلم تطل مدته بعده إلا شهرين وخمسة أيام‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ هو أبو شجاع شاور بن مجير الدين بن نزار بن عشائر بن شاس بن مغيث بن حبيب بن الحارث بن ربيعة بن مخيس بن أبي ذؤيب عبد الله وهو والد حليمة السعدية، كذا قال، وفيما قال نظر لقصر هذا النسب لبعد المدة، والله أعلم‏.‏

 شيركوه بن شادي

أسد الدين الكردي الزرزاري وهم أشرف شعوب الأكراد، وهو من قرية يقال لها‏:‏ درين من أعمال أذربيجان، خدم هو وأخوه نجم الدين أيوب - وكان الأكبر - الأمير مجاهد الدين نهروز الخادم شحنة العراق، فاستناب نجم الدين أيوب على قلعة تكريت، فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي هارباً من قراجا الساقي، فأحسنا إليه وخدماه‏.‏

ثم اتفق أنه قتل رجلاً من العامة فأخرجهما نهروز من القلعة، فصارا إلى زنكي بحلب فأحسن إليهما، ثم حظيا عند ولده نور الدين محمود، فاستناب أيوب على بعلبك، وأقره ولده نور الدين، وصار أسد الدين عند نور الدين أكبر أمرائه، وأخصهم عنده، وأقطعه الرحبة وحمص مع ماله عنده من الإقطاعات، وذلك لشهامته وشجاعته وصرامته وجهاده في الفرنج، في أيام معدودات ووقعات معتبرات، ولا سيما يوم فتح دمشق، وأعجب من ذلك ما فعله بديار مصر، بل الله بالرحمة ثراه وجعل الجنة مأواه، وكانت وفاته يوم السبت فجأة بخانوق حصل له، وذلك في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة، رحمه الله‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وإليه تنسب الخانقاة الأسدية بالشرق القبلي‏.‏

ثم آل الأمر من بعده إلى ابن أخيه صلاح الدين يوسف، ثم استوسق له الملك والممالك هنالك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/323‏)‏

 محمد بن عبد الله بن عبد الواحد

ابن سليمان المعروف بابن البطي، سمع الحديث الكثير، وأسمع ورحل إليه وقارب التسعين‏.‏

محمد الفارقي

أبو عبد الله الواعظ، يقال‏:‏ إنه كان يحفظ ‏(‏نهج البلاغة‏)‏ ويعبر ألفاظه، وكان فصيحاً بليغاً يكتب كلامه ويروي عنه كتاب يعرف بـ‏(‏الحكم الفارقية‏)‏‏.‏

 المعمر بن عبد الواحد

ابن رجار أبو أحمد الأصبهاني، أحد الحفاظ الوعاظ، روى عن أصحاب أبي نعيم، وكانت له معرفة جيدة بالحديث، توفي وهو ذاهب إلى الحج بالبادية، رحمه الله‏.‏

 ثم دخلت سنة خمس وستين وخمسمائة

في صفر منها حاصرت الفرنج مدينة دمياط من بلاد مصر خمسين يوماً، بحيث ضيقوا على أهلها، وقتلوا أمماً كثيرة، جاؤوا إليها من البر والبحر رجاء أن يملكوا الديار المصرية وخوفاً من استيلاء المسلمين على القدس، فكتب صلاح الدين إلى نور الدين يستنجده عليهم، ويطلب منه أن يرسل إليه بأمداد من الجيوش، فإنه إن خرج من مصر خلفه أهلها بسوء، وإن قعد عن الفرنج أخذوا دمياط وجعلوها معقلاً لهم يتقوون بها على أخذ مصر‏.‏

فأرسل إليه نور الدين ببعوث كثيرة، يتبع بعضها بعضاً‏.‏

ثم إن نور الدين اغتنم غيبة الفرنج عن بلدانهم فصمد إليهم في جيوش كثيرة، فجلس خلال ديارهم، وغنم من أموالهم وقتل وسبى شيئاً كثيراً، وكان من جملة من أرسله إلى صلاح الدين أبوه الأمير نجم الدين أيوب، في جيش من تلك الجيوش، ومعه بقية أولاده، فتلقاه الجيش من مصر، وخرج العاضد لتلقيه إكراماً لولده، وأقطعه إسكندرية ودمياط وكذلك لبقية أولاده‏.‏

وقد أمد العاضد صلاح الدين في هذه الكائنة بألف ألف دينار حتى انفصلت الفرنج عن دمياط، وأجلت الفرنج عند مياط لأنه بلغهم أن نور الدين قد غزا بلادهم، وقتل خلقاً من رجالهم، وسبى كثيراً من نسائهم وأطفالهم، وغنم من أموالهم، فجزاه الله عن المسلمين خيراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/324‏)‏

ثم سار نور الدين في جمادى الآخرة إلى الكرخ ليحاصرها - وكانت من أمنع البلاد - وكاد أن يفتحها ولكن بلغه أن مقدمين من الفرنج قد أقبلا نحو دمشق، فخاف أن يلتف عليهما الفرنج فترك الحصار وأقبل نحو دمشق فحصنها، ولما انجلت الفرنج عن دمياط فرح نور الدين فرحاً شديداً، وأنشد الشعراء كل منهم في ذلك قصيداً، وقد كان الملك نور الدين شديد الاهتمام قوي الاغتمام بذلك، حتى قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءاً في ذلك فيه حديث مسلسل بالتبسم، فطلب منه أن يبتسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال‏:‏ إني لأستحي من الله أن يراني مبتسماً والمسلمون يحاصرهم الفرنج بثغر دمياط‏.‏

وقد ذكر الشيخ أبو شامة أن إمام مسجد أبي الدرداء بالقلعة المنصورة رأى في تلك الليلة التي أجلي فيها الفرنج عن دمياط رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول‏:‏ سلم على نور الدين وبشره بأن الفرنج قد رحلوا عن دمياط‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله بأي علامة ‏؟‏

فقال‏:‏ بعلامة ما سجد يوم تل حارم وقال في سجوده‏:‏ اللهم انصر دينك ومن هو محمود الكلب ‏؟‏‏.‏

فلما صلى نور الدين عنده الصبح بشره بذلك وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر من هو محمود الكلب انقبض من قول ذلك، فقال له نور الدين‏:‏ قل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقال ذلك‏.‏

فقال‏:‏ صدقت‏.‏

وبكى نور الدين تصديقاً وفرحاً بذلك، ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام‏.‏

قال العماد الكاتب‏:‏ وفي هذه السنة عمر الملك نور الدين جامع داريا، وعمر مشهد أبي سليمان الداراني بها، وشتى بدمشق‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر الكرك أربعة أيام، وفارقه من هناك نجم الدين أيوب والد صلاح الدين، متوجهاً إلى ابنه بمصر، وقد وصاه نور الدين أن يأمر ابنه صلاح الدين أن يخطب بمصر للخليفة المستنجد بالله العباسي، وذلك أن الخليفة بعث يعاتبه في ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ قدم الفرنج من السواحل ليمنعوا الكرك مع ثبيب بن الرقيق وابن القنقري، وكانا أشجع فرسان الفرنج، فقصدهما نور الدين ليقابلهما، فحادا عن طريقه‏.‏

وفيها‏:‏ كانت زلزلة عظيمة بالشام والجزيرة وعمت أكثر الأرض، وتهدمت أسوار كثيرة بالشام، وسقطت دور كثيرة على أهلها، ولا سيما بدمشق وحمص وحماه وحلب وبعلبك، سقطت أسوارها وأكثر قلعتها، فجدد نور الدين عمارة أكثر ما وقع بهذه الأماكن‏.‏

و فيها توفي‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/325‏)‏

 الملك قطب الدين مودود بن زنكي

أخو نور الدين محمود صاحب الموصل، وله من العمر أربعون سنة، ومدة ملكه منها إحدى وعشرون سنة، وكان من خيار الملوك محبباً إلى الرعية، عطوفاً عليهم، محسناً إليهم، حسن الشكل‏.‏

وتملك من بعده ولده سيف الدين غازي من الست خاتون بنت تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق أصحاب ماردين، وكان مدبر مملكته والمتحكم فيها فخر الدين عبد المسيح، وكان ظالماً غاشماً‏.‏

وفيها‏:‏ كانت حروب كثيرة بين ملوك الغرب بجزيرة الأندلس، وكذلك كانت حروب كثيرة بين ملوك الشرق أيضاً‏.‏

وحج بالناس فيها وفيما قبلها الأمير برغش الكبير، ولم أر أحداً من أكابر الأعيان توفي فيها‏.‏

 ثم دخلت سنة ست وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ كانت وفاة المستنجد وخلافة ابنه المستضيء، وذلك أن المستنجد كان قد مرض في أول هذه السنة، ثم عوفي فيما يبدو للناس فعمل ضيافة عظيمة بسبب ذلك، وفرح الناس بذلك، ثم أدخله الطبيب إلى الحمام وبه ضعف شديد فمات في الحمام، ويقال‏:‏ إن ذلك كان بإشارة بعض الدولة على الطبيب، استعجالاً لموته‏.‏

توفي يوم السبت بعد الظهر ثاني ربيع الآخر عن ثمان وأربعين سنة، وكانت مدة خلافته إحدى عشرة سنة وشهراً، وكان من خيار الخلفاء وأعدلهم وأرفقهم بالرعايا، ومنع عنهم المكوس والضرائب، ولم يترك بالعراق مكساً، وقد شفع إليه بعض أصحابه في رجل شرير، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة‏:‏ أنا أعطيك عشرة آلاف دينار وائتني بمثله لأريح المسلمين من شره‏.‏

وكان المستنجد أسمر طويل اللحية، وهو الثاني والثلاثين من العباسيين وذلك في الجمل لام باء، ولهذا قال فيه بعض الأدباء‏:‏

أصبحت لب بني العباس جملتها * إذا عددت حساب الجمل الخلفا

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/326‏)‏

وكان أماراً بالمعروف نهاء عن المنكر، وقد رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له‏:‏ قل اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، دعاء القنوت بتمامه‏.‏

وصلي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودفن بدار الخلافة، ثم نقل إلى الترب من الرصافة، رحمه الله تعالى‏.‏

 خلافة المستضيء

وهو أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد بن المقتفي، وأمه أرمنية تدعى عصمت، وكان مولده في شعبان سنة ست وثلاثين وخمسمائة‏.‏

بويع بالخلافة يوم مات أبوه بكرة الأحد تاسع ربيع الآخر، وبايعه الناس ولم يل الخلافة أحد اسمه الحسن بعد الحسن بن علي غير هذا، ووافقه في الكنية أيضاً، وخلع يومئذ على الناس أكثر من ألف خلعة، وكان يوماً مشهوداً، وولي قضاء قضاة بغداد الروح بن الحدثني يوم الجمعة حادي عشرين ربيع الآخر، وخلع على الوزير وهو الأستاذ عضد الدولة، وضربت على بابه الدبابات ثلاثة أوقات الفجر والمغرب والعشاء، وأمر سبعة عشر أميراً من المماليك وأذن للوعاظ فتكلموا بعد ما منعوا مدة طويلة، لما كان يحدث بسبب ذلك من الشرور الطويلة، ثم كثر احتجاجه، ولما جاءت البشارة بولايته إلى الموصل، قال العماد الكاتب‏:‏

قد أضاء الزمان بالمستضيء * وارث البرد وابن عم النبي

جاء بالحق والشريعة والعد * ل فيا مرحباً بهذا المحيي

فهنيئاً لأهل بغداد فازوا * بعد بؤس بكل عيش هني

ومضى إن كان في الزمن المظـ * ـلم بالعود في الزمان المضي

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين إلى الرقة فأخذها، وكذا نصيبين والخابور وسنجار، وسلمها إلى زوج ابنته ابن أخيه مودود بن عماد الدين، ثم سار إلى الموصل فأقام بها أربعة وعشرين يوماً، وأقرها على ابن أخيه سيف الدين غازي بن قطب الدين مودود، مع الجزيرة، وزوجه ابنته الأخرى، وأمر بعمارة جامعها وتوسعته، ووقف على تأسيسه بنفسه، وجعل له خطيباً ودرساً للفقه، وولي التدريس للفيقه أبي بكر البرقاني، تلميذ محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وكتب له منشوراً بذلك، ووقف على الجامع قرية من قرى الموصل، وذلك كله بإشارة الشيخ صالح العابد عمر الملا، وقد كانت له زاوية يقصد فيها، وله في كل سنة دعوة في شهر المولد، يحضر فيه عنده الملوك والأمراء والعلماء والوزراء ويحتفل بذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/327‏)‏

وقد كان الملك نور الدين صاحبه، وكان يستشيره في أموره، وممن يعتمده في مهماته وهو الذي أشار عليه في مدة مقامه في الموصل بجميع ما فعله من الخيرات، فلهذا حصل بقدومه لأهل الموصل كل مسرة، واندفعت عنهم كل مضرة، وأخرج من بين أظهرهم الظالم الغاشم فخر الدين عبد المسيح وسماه عبد الله وأخذه معه إلى دمشق فأقطعه إقطاعاً حسناً، وقد كان عبد المسيح هذا نصرانياً، فأظهر الإسلام وكان يقال‏:‏ إن له كنيسة في جوف داره، وكان سيء السيرة خبيث السريرة في حق العلماء والمسلمين خاصة‏.‏

ولما دخل نور الدين الموصل كان الذي استأمن له نور الدين الشيخ عمر الملا، وحين دخل نور الدين الموصل خرج إليه ابن أخيه فوقف بين يديه فأحسن إليه وأكرمه، وألبسه خلعة جاءته من الخليفة فدخل فيها إلى البلد في أبهة عظيمة، ولم يدخل نور الدين الموصل حتى قوي الشتاء فأقام بها كما ذكرنا، فلما كان في آخر ليلة من إقامته بها رأى رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول له‏:‏ طابت لك بلدك وتركت الجهاد وقتال أعداء الله‏؟‏

فنهض من فوره إلى السفر، وما أصبح إلا سائراً إلى الشام، واستقضى الشيخ ابن أبي عصرون، وكان معه على سنجار ونصيبين والخابور، فاستناب فيها ابن أبي عصرون نواباً وأصحاباً‏.‏

وفيها‏:‏ عزل صلاح الدين قضاة مصر لأنهم كانوا شيعة، وولى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قضاة شافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية، واشترى ابن أخيه تقي الدين عمر داراً تعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة للشافعية ووقف عليها الروضة وغيرها‏.‏

وعمر صلاح الدين أسوار البلد، وكذلك أسوار إسكندرية، وأحسن إلى الرعايا إحساناً كثيراً، وركب فأغار على بلاد الفرنج بنواحي عسقلان وغزة وضرب قلعة كانت لهم على أيلة وقتل خلقاً كثيراً من مقاتلتهم، وتلقى أهله وهم قادمون من الشام، واجتمع شمله بهم بعد فرقة طويلة‏.‏

وفيها‏:‏ قطع صلاح الدين الأذان بحي على خير العمل من ديار مصر كلها، وشرع في تمهيد الخطبة لبني العباس على المنابر‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/328‏)‏

 من الأعيان‏:‏

 طاهر بن محمد بن طاهر

أبو زرعة المقدسي، الأصل الرازي، المولد الهمداني الدار، ولد سنة إحدى وثمانين وأربعمائة وأسمعه والده الحافظ محمد بن طاهر الكثير، ومما كان يرويه مسند الشافعي، توفي بهمدان يوم الأربعاء سابع ربيع الآخر، وقد قارب التسعين‏.‏

 يوسف القاضي

أبو الحجاج بن الخلال صاحب ‏(‏ديوان الإنشاء‏)‏ بمصر، وهو شيخ القاضي الفاضل في هذا الفن، اشتغل عليه فيه فبرع حتى قدر أنه صار مكانه حين ضعف عن القيام بأعباء الوظيفة لكبره، وكان القاضي الفاضل يقوم به وبأهله حتى مات، ثم كان بعد موته كثير الإحسان إلى أهله، رحمهم الله‏.‏

 يوسف بن الخليفة

المستنجد بالله بن المقتفي بن المستظهر، تقدم ذكر وفاته وترجمته، وقد توفي بعده عمه أبو نصر بن المستظهر بأشهر، ولم يبق بعده أحد من ولد المستظهر، وكانت وفاته يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ذي القعدة منها‏.‏

 ثم دخلت سنة سبع وستين وخمسمائة

فيها كانت وفاة‏:‏

 العاضد صاحب مصر‏.‏

في أول جمعة منها، فأمر صلاح الدين بإقامة الخطبة لبني العباس بمصر وأعمالها في الجمعة الثانية، وكان يوماً مشهوداً، ولما انتهى الخبر إلى الملك نور الدين أرسل إلى الخليفة يعلمه بذلك، مع ابن أبي عصرون شهاب الدين أبي المعالي، فزينت بغداد وغلقت الأسواق، وعملت القباب، وفرح المسلمون فرحاً شديداً، وكانت قد قطعت الخطبة لبني العباس من ديار مصر سنة تسع وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع العباسي، حين تغلب الفاطميون على مصر أيام المعز الفاطمي، باني القاهرة، إلى هذا الآن، وذلك مائتا سنة وثمان سنين‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وقد ألفت في ذلك كتاباً سميته ‏(‏النصر على مصر‏)‏‏.‏

 موت العاضد آخر خلفاء العبيديين

والعاضد في اللغة‏:‏ القاطع، لا يعضد شجرها‏:‏ لا يقطع، وبه قطعت دولتهم، واسمه عبد الله ويكنى بأبي محمد بن يوسف الحافظ بن المستنصر بن الحاكم بن العزيز بن المعز بن المنصور القاهري، أبي الغنائم بن المهدي أولهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/329‏)‏

كان مولد العاضد في سنة ست وأربعين، فعاش إحدى وعشرين سنة وكانت سيرته مذمومة، وكان شيعياً خبيثاً، لو أمكنه قتل كل من قدر عليه من أهل السنة، واتفق أنه لما استقر أمر الملك صلاح الدين رسم بالخطبة لبني العباس عن مرسوم الملك نور الدين، وذلك أن الخليفة بعث إلى نور الدين فعاتبه في ذلك قبل وفاته، وكان المستنجد إذ ذاك مدنفاً مريضاً، فلما مات تولى بعده ولده، فكانت الخطبة بمصر له، ثم إن العاضد مرض فكانت وفاته في يوم عاشوراء، فحضر الملك صلاح الدين جنازته وشهد عزاه، وبكى عليه وتأسف وظهر منه حزن كثير عليه، وقد كان مطيعاً له فيما يأمره به، وكان العاضد كريماً جواداً، سامحه الله‏.‏

ولما مات استحوذ صلاح الدين على القصر بما فيه، وأخرج منه أهل العاضد إلى دار أفردها لهم، وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات الهنية، والعيشة الرضية، عوضاً عما فاتهم من الخلافة، وكان صلاح يتندم على إقامة الخطبة لبني العباس بمصر قبل وفاة العاضد، وهلا صبر بها إلى بعد وفاته، ولكن كان ذلك قدراً مقدوراً‏.‏

ومما نظمه العماد في ذلك‏:‏

توفي العاضد الدعيّ فما * يفتح ذو بدعة بمصر فما

وعصر فرعونها انقضى وغدا * يوسفها في الأمور محتكما

قد طفئت جمرة الغواة وقد * داخ من الشرك كل ما اضطرما

وصار شمل الصلاح ملتئماً * بها، وعقد السداد منتظما

لما غدا مشعراً شعار بني الـ * ـعباس حقاً والباطل اكتتما

وبات داعي التوحيد منتظراً * ومن دعاة الإشراك منتقماً

وظل أهل الضلال في ظلل * داجية من غبائة وعمى وارتكس الجاهلون في ظلم * لما أضاءت منابر العلما

وعاد بالمستضيء معتلياً * بناء حق بعد ما كان منهدماً

أعيدت الدولة التي اضطهدت * وانتصر الدين بعدما اهتضما

واهنز عطف الإسلام من جلل * وافتر ثغر الإسلام وابتسما

واستبشرت أوجه الهدى فرحاً * فليقرع الكفر سنه ندما

عاد حريم الأعداء منتهك الـ * ـحمى وفي الطغاة منقسما

قصور أهل القصور أخربها * عامر بيت من الكمال سما

أزعج بعد السكوت ساكنها * ومات ذلاً وأنفه رغما

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/330‏)‏

ومما قيل من الشعر ببغداد يبشر الخليفة المستضيء بالخطبة له بمصر وأعمالها‏:‏

ليهنيك يا مولاي فتح تتابعت * إليك به خوض الركائب توجف

أخذت به مصراً وقد حال دونها * من الشرك يأس في لها الحق يقذف

فعادت بحمد الله باسم إمامنا * تتيه على كل البلاد وتشرف

ولا غرو إن ذلت ليوسف مصره * وكانت إلى عليائه تتشوف

فشابهه خلقاً وخلقاً وعفة * وكل عن الرحمن في الأرض يخلف

كشفت بها عن آل هاشم سبة * وعاراً أبى إلا بسيفك يكشف

وقد ذكر ذلك أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏، وهى أطول من هذه، وذكر أن أبا الفضائل الحسين بن محمد بن بركات الوزير أنشدها للخليفة عند موته بعد منام رآه، وأراد بيوسف الثاني المستنجد‏.‏

وهكذا ذكر ابن الجوزي‏:‏ أنها أنشدت في حياة المستنجد، ولم يخطب بها إلا لابنه المستضيء، فجرى المقال باسم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد أرسل الخليفة إلى الملك نور الدين معظمة لما بشر بالخطبة له بمصر، وكذلك للملك صلاح الدين إلى الديار المصرية ومعها أعلام سود ولواء معقود، ففرقت على الجوامع بالشام وبمصر‏.‏

قال ابن أبي طي في كتابه‏:‏ ولما تفرغ صلاح الدين من توطيد المملكة وإقامة الخطبة والتعزية، استعرض حواصل القصرين فوجد فيهما من الحواصل والأمتعة والآلات والملابس والمفارش شيئاً باهراً، وأمراً هائلاً، من ذلك سبعمائة يتيمة من الجوهر، وقضيب زمرد طوله أكثر من شبر وسمكه نحو الإبهام، وحبل من ياقوت، وإبريق عظيم من الحجر المانع، وطبل للقولنج إذا ضرب عليه أحد فيه ريح غليظة أو غيرها خرج منه ذلك الريح من دبره، وينصرف عنه ما يجده من القولنج، فاتفق أن بعض أمراء الأكراد أخذه في يده ولم يدر ما شأنه فضرب عليه فحبق - أي‏:‏ ضرط -، فألقاه من يده على الأرض فكسره، فبطل أمره‏.‏

وأما القضيب الزمرد فإن صلاح الدين كسره ثلاث فلق فقسمه بين نسائه، وقسم بين الأمراء شيئاً كثيراً من قطع البلخش والياقوت والذهب والفضة والأثاث والأمتعة وغير ذلك، ثم باع ما فضل عن ذلك وجمع عليه أعيان التجار، فاستمر البيع فيما بقي هنالك من الأثاث والأمتعة نحواً من عشر سنين‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/331‏)‏

وأرسل إلى الخليفة ببغداد من ذلك هدايا سنية نفيسة، وكذلك إلى الملك نور الدين، أرسل إليه من ذلك جانباً كثيراً صالحاً، ولم يدخر لنفسه شيئاً مما حصل له من الأموال، بل كان يعطي ذلك من حوله من الأمراء وغيرهم، فكان مما أرسله إلى نور الدين ثلاث قطع بلخش زنة الواحدة إحدى وثلاثون مثقالاً، والأخرى ثمانية عشر مثقالاً، والثالثة عشرة مثاقيل، وقيل‏:‏ أكثر مع لآلئ كثيرة، وستون ألف دينار، وعطر لم يسمع بمثله، ومن ذلك حمارة وفيل عظيم جداً، فأرسلت الحمارة إلى الخليفة في جملة هدايا‏.‏

قال ابن أبي طي‏:‏ ووجد خزانة كتب ليس لها في مدائن الإسلام نظير، تشتمل على ألفي ألف مجلد، قال‏:‏ ومن عجائب ذلك أنه كان بها ألف ومائتان وعشرون نسخة من ‏(‏تاريخ الطبري‏)‏، وكذا قال العماد الكاتب‏:‏ كانت الكتب قريبة من مائة وعشرين ألف مجلد‏.‏

وقال ابن الأثير‏:‏ كان فيها من الكتب بالخطوط المنسوبة مائة ألف مجلد، وقد تسلمها القاضي الفاضل، فأخذ منها شيئاً كثيراً مما اختاره وانتخبه‏.‏

قال‏:‏ وقسم القصر الشمالي بين الأمراء فسكنوه، وأسكن أباه نجم الدين أيوب في قصر عظيم على الخليج، يقال له‏:‏ اللؤلؤة، الذي فيه بستان الكافوري، وأسكن أكثر الأمراء في دور من كان ينتمي إلى الفاطميين، ولا يلقى أحد من الأتراك أحداً من أولئك الذين كانوا بها من الأكابر إلا شلحوه ثيابه ونهبوا داره، حتى تمزق كثير منهم في البلاد، وتفرقوا شذرمذر وصاروا أيدي سبأ‏.‏

وقد كانت مدة ملك الفاطميين مائتين وثمانين سنة وكسراً، فصاروا كأمس الذاهب كأن لم يغنوا فيها‏.‏

وكان أول من ملك منهم المهدي، وكان من سلمية حداداً اسمه عبيد، وكان يهودياً، فدخل بلاد المغرب وتسمى بعبيد الله، وادعى أنه شريف علوي فاطمي، وقال عن نفسه‏:‏ إنه المهدي كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء والأئمة بعد الأربعمائة كما قد بسطنا ذلك فيما تقدم، والمقصود أن هذا الدعي الكذاب راج له ما افتراه في تلك البلاد، ووازره جماعة من الجهلة، وصارت له دولة وصولة، ثم تمكن إلى أن بنى مدينة سماها المهدية نسبة إليه، وصار ملكاً مطاعاً، يظهر الرفض وينطوي على الكفر المحض‏.‏

ثم كان من بعده ابنه القائم محمد، ثم ابنه المنصور إسماعيل، ثم ابنه المعز معد، وهو أول من دخل ديار مصر منهم، وبنيت له القاهرة المعزية والقصران، ثم ابنه العزيز نزار، ثم ابنه الحاكم منصور، ثم ابنه الظاهر علي، ثم ابنه المستنصر معد، ثم ابنه المستعلي أحمد، ثم ابنه الآمر منصور، ثم ابن عمه الحافظ عبد المجيد، ثم ابنه الظافر إسماعيل، ثم الفائز عيسى، ثم ابن عمه العاضد عبد الله وهو آخرهم، فجملتهم أربعة عشر ملكاً، ومدتهم مائتان ونيف وثمانون سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/332‏)‏

وكذلك عدة خلفاء بني أمية أربعة عشر أيضاً، ولكن كانت مدتهم نيفاً وثمانين سنة، وقد نظمت أسماء هؤلاء وهؤلاء بأرجوزة تابعة لأرجوزة بني العباس عند انقضاء دولتهم ببغداد، في سنة ست وخمسين وستمائة، كما سيأتي‏.‏

وقد كان الفاطميون أغنى الخلفاء وأكثرهم مالاً، وكانوا من أغنى الخلفاء وأجبرهم وأظلمهم، وأنجس الملوك سيرة، وأخبثهم سريرة، ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات وكثر أهل الفساد، وقل عندهم الصالحون من العلماء والعباد، وكثر بأرض الشام النصرانية والدرزية والحشيشية، وتغلب الفرنج على سواحل الشام بكماله، حتى أخذوا القدس ونابلس وعجلون والغور وبلاد غزة وعسقلان وكرك الشوبك وطبرية وبانياس وصور وعكا وصيدا وبيروت وصفد وطرابلس وإنطاكية وجميع ما وإلى ذلك، إلى بلاد إياس وسيس، واستحوذوا على بلاد آمد والرها ورأس العين وبلاد شتى غير ذلك‏.‏

وقتلوا من المسلمين خلقاً وأمماً لا يحصيهم إلا الله، وسبوا ذراري المسلمين من النساء والولدان ما لا يحد ولا يوصف، وكل هذه البلاد كانت الصحابة قد فتحوها، وصارت دار إسلام، وأخذوا من أموال المسلمين ما لا يحد ولا يوصف، وكادوا أن يتغلبوا على دمشق، ولكن الله سلم، وحين زالت أيامهم وانتقض إبرامهم أعاد الله عز وجل هذه البلاد كلها إلى المسلمين بحوله وقوته وجوده ورحمته، وقد قال الشاعر المعروف عرقلة‏:‏

أصبح الملك بعد آل علي * مشرقاً بالملوك من آل شادي

وغدا الشرق يحسد الغر * ب للقوم فمصر تزهو على بغداد

ما حووها إلا بعزم وحزم * وصليل الفولاذ في الأكباد

لا كفرعون والعزيز ومن * كان بها كالخطيب والأستاد

قال أبو شامة‏:‏ يعني بالأستاد‏:‏ كأنه نور الدين الأخشيدي، وقوله‏:‏ آل علي يعني‏:‏ الفاطميين على زعمهم ولم يكونوا فاطميين، وإنما كان ينسبون إلى عبيد، وكان اسمه سعيداً، وكان يهودياً حداداً بسلمية، ثم ذكر ما ذكرناه من كلام الأئمة فيهم وطعنهم في نسبهم‏.‏

قال‏:‏ وقد استقصيت الكلام في ‏(‏مختصر تاريخ دمشق‏)‏ في ترجمة عبد الرحمن بن إلياس، ثم ذكر في ‏(‏الروضتين‏)‏ في هذا الموضع أشياء كثيرة في غضون ما سقته من قبائحهم، وما كانوا يجهرون به في بعض الأحيان من الكفريات، وقد تقدم من ذلك شيء كثير في تراجمهم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/333‏)‏

قال أبو شامة‏:‏ وقد أفردت كتاباً سميته ‏(‏كشف ما كان عليه بنو عبيد من الكفر والكذب والمكر والكيد‏)‏، وكذا صنف العلماء في الرد عليهم كتباً كثيرة، من أجل ما وضع في ذلك كتاب القاضي أبو بكر الباقلاني الذي سماه ‏(‏كشف الأسرار وهتك الأستار‏)‏، وما أحسن ما قاله بعض الشعراء في بني أيوب يمدحهم على ما فعلوه بديار مصر‏:‏

أبدتم من بلى دولة الكفر من * بني عبيد بمصر إن هذا هو الفضل

زنادقة، شيعية، باطنية * مجوس وما في الصالحين لهم أصل

يسرون كفراً، يظهرون تشيعاً * ليستروا سابور عمهم الجهل

وفيها‏:‏ أسقط الملك صلاح الدين عن أهل مصر المكوس والضرائب، وقرئ المنشور بذلك على رؤوس الأشهاد يوم الجمعة بعد الصلاة ثالث صفر‏.‏

وفيها‏:‏ حصلت نفرة بين نور الدين وصلاح الدين، وذلك أن نور الدين غزا في هذه السنة بلاد الفرنج في السواحل فأحل بهم بأساً شديداً، وقرر في أنفسهم منه نقمة ووعيداً، ثم عزم على محاصرة الكرك، وكتب إلى صلاح الدين يلتقيه بالعساكر المصرية إلى بلاد الكرك، ليجتمعا هنالك ويتفقا على المصالح التي يعود نفعها على المسلمين، فتوهم من ذلك صلاح الدين وخاف أن يكون لهذا الأمر غائلة يزول بها ما حصل له من التمكن من بلاد مصر، ولكنه مع ذلك ركب في جيشه من مصر لأجل امتثال المرسوم، فسار أياماً، ثم كر راجعاً معتلاً بقلة الظهر، والخوف على اختلال الأمور إذا بعد عن مصر واشتغل عنها، وأرسل يعتذر إلى نور الدين‏.‏

فوقع في نفسه منه، واشتد غضبه عليه، وعزم على الدخول إلى مصر وانتزاعها من صلاح الدين وتوليتها غيره، ولما بلغ هذا الخبر صلاح الدين ضاق بذلك ذرعه، وذكر ذلك بحضرة الأمراء والكبراء، فبادر ابن أخيه تقي الدين عمر، وقال‏:‏ والله لو قصدنا نور الدين لنقاتلنه‏.‏

فشتمه الأمير نجم الدين أيوب والد صلاح الدين وسبه وأسكته ثم قال لابنه‏:‏ اسمع ما أقول لك والله ما ههنا أحد أشفق عليك مني ومن خالك هذا -يعني‏:‏ شهاب الدين الحارمي - ولو رأينا نور الدين لبادرنا إليه ولقبلنا الأرض بين يديه، وكذلك بقية الأمراء والجيش، ولو كتب إلي أن أبعثك إليه مع نجاب لفعلت‏.‏

ثم أمر من هنالك بالانصراف والذهاب، فلما خلى بابنه قال له‏:‏ أما لك عقل‏؟‏ تذكر مثل هذا بحضرة هؤلاء، فيقول عمر مثل هذا الكلام فتقره عليه، فلا يبقى عند نور الدين أهم من قصدك وقتالك وخراب ديارنا، وأعمارنا، ولو قد رأى الجيش كلهم نور الدين لم يبق معك واحد منهم، ولذهبوا كلهم إليه، ولكن ابعث إليه وترفق له وتواضع عنده، وقل له‏:‏ وأي حاجة إلى مجيء مولانا السلطان إلى قتالي‏؟‏ ابعث إلي بنجاب أو جمال حتى أجيء معه إلى بين يديك‏.‏

فبعث إليه بذلك فلما سمع نور الدين مثل هذا الكلام، لان قلبه له، وانصرفت همته عنه، واشتغل بغيره، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/334‏)‏

وفيها‏:‏ اتخذ نور الدين الحمام الهوادي، وذلك لامتداد مملكته واتساعها، فإنه ملك من حد النوبة إلى همذان لا يتخللها إلا بلاد الفرنج، وكلهم تحت قهره وهدنته، ولذلك اتخذ في كل قلعة وحصن الحمام التي تحمل الرسائل إلى الآفاق في أسرع مدة، وأيسر عدة، وما أحسن ما قال فيهن القاضي الفاضل الحمام ملائكة الملوك، وقد أطنب ذلك العماد الكاتب، وأطرب وأعجب وأغرب‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 عبد الله بن أحمد

ابن أحمد بن أحمد أبو محمد بن الخشاب، قرأ القرآن وسمع الحديث، واشتغل بالنحو حتى ساد أهل زمانه فيهما، وشرح ‏(‏الجمل‏)‏ لعبد القاهر الجرجاني، وكان رجلاً صالحاً متطوعاً، وهذا نادر في النحاة، توفي في شعبان من هذه السنة ودفن قريباً من الإمام أحمد، ورئي في المنام، فقيل له‏:‏ ما فعل الله بك ‏؟‏

فقال‏:‏ غفر لي وأدخلني الجنة إلا أنه أعرض عني وعن جماعة من العلماء تركوا العمل واشتغلوا بالقول‏.‏

قال ابن خلكان‏:‏ كان مطرحاً للكلفة في مأكله وملبسه، وكان لا يبالي بمن شرق أو غرب‏.‏

محمد بن محمد بن محمد

أبو المظفر الدوي، تفقه على محمد بن يحيى تلميذ الغزالي، وناظر ووعظ ببغداد، وكان يظهر مذهب الأشعري، ويتكلم في الحنابلة، مات في رمضان منها‏.‏

 ناصر بن الجوني الصوفي

كان يمشي في طلب الحديث حافياً، توفي ببغداد‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وفيها توفي‏.‏

 نصر الله بن عبد الله أبو الفتوح

الإسكندري المعروف بابن قلاقس الشاعر بعيذاب، توفي عن خمس وأربعين سنة‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/335‏)‏

والشيخ أبو بكر يحيى بن سعدون القرطبي، نزيل الموصل المقري النحوي، قال‏:‏ وفيها ولد العزيز والظاهر ابنا صلاح الدين، والمنصور محمد بن تقي الدين عمر‏.‏

 ثم دخلت سنة ثمان وستين وخمسمائة

فيها‏:‏ أرسل نور الدين إلى صلاح الدين - وكان الرسول الموفق خالد بن القيسراني - ليقيم حساب الديار المصرية، وذلك لأن نور الدين استقل الهدية التي أرسل بها إليه من خزائن العاضد، ومقصوده أن يقرر على الديار المصرية خراجاً منها في كل عام‏.‏

وفيها‏:‏ حاصر صلاح الدين الكرك والشوبك فضيق على أهلها وخرب أماكن كثيرة من معاملاتها، ولكن لم يظفر بها عامه ذلك‏.‏

وفيها‏:‏ اجتمعت الفرنج بالشام لقصد زرع، فوصلوا إلى سمسكين فبرز إليهم نور الدين فهربوا منه إلى الغور، ثم إلى السواد، ثم إلى الشلالة، فبعث سرية إلى طبرية فعاثوا هنالك وسبوا وقتلوا وغنموا وعادوا سالمين، ورجع الفرنج خائبين‏.‏

وفيها‏:‏ أرسل السلطان صلاح الدين أخاه شمس الدولة نور شاه إلى بلاد النوبة فافتتحها، واستحوذ على معقلها وهو حصن يقال له‏:‏ إبريم، ولما رآها بلدة قليلة الجدوى لا يفي خراجها بكلفتها، استخلف على الحصن المذكور رجلاً من الأكراد يقال له‏:‏ إبراهيم، فجعله مقدماً مقرراً بحصن إبريم، وانضاف إليه جماعة من الأكراد البطالين، فكثرت أموالهم وحسنت أحوالهم هنالك، وشنوا الغارات وحصلوا على الغنائم‏.‏

وفيها‏:‏ كانت وفاة الأمير نجم الدين أيوب بن شادي والد صلاح الدين، سقط عن فرسه فمات، وسنأتي على ترجمته في الوفيات‏.‏

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين إلى بلاد عز الدين قلج أرسلان بن مسعود بن قلج أرسلان بن سليمان السلجوقي، وأصلح ما وجده فيها من الخلل‏.‏

ثم سار فافتح مرعش وبهسا، وعمل في كل منهما بالحسنى‏.‏

قال العماد‏:‏ وفيها‏:‏ وصل الفقيه الإمام الكبير قطب الدين النيسابوري، وهو فقيه عصره ونسيج وحده، فسر به نور الدين وأنزله بحلب بمدرسة باب العراق، ثم أتى به إلى دمشق فدرس بزاوية جامع الغربية المعروفة بالشيخ نصر المقدسي، ثم نزل بمدرسة الجاروق، ثم شرع نور الدين بإنشاء مدرسة كبيرة للشافعية، فأدركه الأجل قبل ذلك‏.‏

قال أبو شامة‏:‏ وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعد ذلك الملك العادل أبو بكر بن أيوب‏.‏

وفيها‏:‏ رجع شهاب الدين بن أبي عصرون من بغداد وقد أدى الرسالة بالخطبة العباسية بالديار المصرية، ومعه توقيع من الخلافة بإقطاع درب هارون وصريفين لنور الدين، وقد كانتا قديماً لأبيه عماد الدين زنكي، فأراد نور الدين أن ينشئ ببغداد مدرسة على حافة الدجلة، ويجعل هذين المكانين وقفاً عليها فعاقه القدر عن ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/336‏)‏

وفيها‏:‏ وقعت بناحية خوارزم حروب كثيرة بين سلطان شاه وبين أعدائه، استقصاها ابن الأثير وابن الساعي‏.‏

وفيها‏:‏ هزم ملك الأرمن مليح بن ليون عساكر الروم، وغنم منهم شيئاً كثيراً، وبعث إلى نور الدين بأموال كثيرة، وثلاثين رأساً من رؤوس كبارهم، فأرسلها نور الدين إلى الخليفة المستضيء‏.‏

وفيها‏:‏ بعث صلاح الدين سرية صحبه قراقوش مملوك تقي الدين عمر ابن شاهنشاه إلى بلاد إفريقية، فملكوا طائفة كثيرة منها، من ذلك مدينة طرابلس الغرب وعدة مدن معها‏.‏

 من الأعيان‏:‏

 إيلدكز التركي الأتابكي

صاحب أذربيجان وغيرها، كان مملوكاً للكمال السميرمي وزير السلطان محمود، ثم علا أمره وتمكن وملك بلاد أذربيجان وبلاد الجبل وغيرها، وكان عادلاً منصفاً شجاعاً محسناً إلى الرعية، توفي بهمدان‏.‏

 الأمير نجم الدين أبو الشكر أيوب بن شادي

ابن مروان، زاد بعضهم بعد مروان بن يعقوب، والذي عليه جمهورهم أنه لا يعرف بعد شادي أحد في نسبهم، وأغرب بعضهم وزعم أنهم من سلالة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية، وهذا ليس بصحيح، والذي نسب إليه ادعاء هذا هو أبو الفداء إسماعيل بن طغتكين بن أيوب بن شادي ويعرف بابن سيف الإسلام، وقد ملك اليمن بعد أبيه فتعاظم في نفسه وادعى الخلافة وتلقب بالإمام الهادي بنور الله، ولهجوا بذلك، وقال هو في ذلك‏:‏

وأنا الهادي الخليفة والذي * أدوس رقاب الغلب بالضمر الجرد

ولا بد من بغداد أطوي ربوعها * وأنشرها نشر الشماس على البرد

وأنصب أعلامي على شرفاتها * وأحيي بها ما كان أسه جدي

ويخطب لي فيها على كل منبر * وأظهر أمر الله في الغور والنجد

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/337‏)‏

وما ادعاه ليس بصحيح، ولا أصل له يعتمد عليه، ولا مستند يستند إليه، والمقصود أن الأمير نجم الدين كان أسن من أخيه أسد الدين شيركوه، ولد بأرض الموصل، كان الأمير نجم الدين شجاعاً، خدم الملك محمد بن ملكشاه فرأى فيه شهامة وأمانة، فولاه قلعة تكريت، فحكم فيها فعدل، وكان من أكرم الناس، ثم أقطعها الملك مسعود لمجاهد الدين نهروز شحنة العراق، فاستمر فيها، فاجتاز به في بعض الأحيان الملك عماد الدين زنكي منهزماً من قراجا الساقي فآواه وخدمه خدمة بالغة تامة، وداوى جراحاته وأقام عنده مدة خمسة عشر يوماً، ثم ارتحل إلى بلده الموصل‏.‏

ثم اتفق أن نجم الدين أيوب عاقب رجلاً نصرانياً فقتله، وقيل‏:‏ إنما قتله أخوه أسد الدين شيركوه، وهذا بخلاف الذي ذكره ابن خلكان، فإنه قال‏:‏ رجعت جارية من بعض الخدم فذكرت له أنه تعرض لها اسفهسلار الذي بباب القلعة، فخرج إليه أسد الدين فطعنه بحربة فقتله، فحبسه أخوه نجم الدين وكتب إلى مجاهد الدين نهروز يخبره بصورة الحال، فكتب إليه يقول‏:‏ إن أباكما كانت له علي خدمة، وكان قد استنابه في هذه القلعة قبل ابنه نجم الدين أيوب، وإني أكره أن أسوءكما، ولكن انتقلا منها‏.‏

فأخرجهما نهروز من قلعته‏.‏

وفي ليلة خروجه منها ولد له الملك الناصر صلاح الدين يوسف‏.‏

قال‏:‏ فتشاءمت به لفقدي بلدي ووطني‏.‏

فقال له بعض الناس‏:‏ قد نرى ما أنت فيه من التشاؤم بهذا المولود فما يؤمنك أن يكون هذا المولود ملكاً عظيماً له صيت‏؟‏

فكان كما قال، فاتصلا بخدمة الملك عماد الدين زنكي أبي نور الدين، ثم كانا عند نور الدين متقدمان عنده، وارتفعت منزلتهما وعظما، فاستناب نور الدين نجم الدين أيوب على بعلبك، وكان أسد الدين من أكبر أمرائه، ولما تسلم بعلبك أقام مدة طويلة، وولد له فيها أكثر أولاده، ثم كان من أمره ما ذكرناه في دخوله الديار المصرية‏.‏

ثم إنه في ذي الحجة سقط عن فرسه فمات بعد ثمانية أيام في اليوم السابع والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وكان ابنه صلاح الدين محاصر الكرك غائباً عنه، فلما بلغه خبر موته تألم لغيبته عن حضوره، وأرسل يتحرق ويتحزن، وأنشد‏:‏

وتخطفه يد الردى في غيبتي * هبني حضرت، فكنت ماذا أصنع ‏؟‏

وقد كان نجم الدين أيوب كثير الصلاة والصدقة والصيام، كريم النفس جواداً ممدحاً، قال ابن خلكان‏:‏ وله خانقاه بالديار المصرية، ومسجد وقناة خارج باب النصر من القاهرة، وقفها في سنة ست وستين‏.‏

قلت‏:‏ وله بدمشق خانقاه أيضاً، تعرف بالنجمية، وقد استنابه ابنه على الديار المصرية حين خرج إلى الكرك، وحكمه في الخزائن، وكان من أكرم الناس، وقد امتدحه الشعراء كالعماد وغيره، ورثوه بمراث كثيرة، وقد ذكر ذلك مستقصى الشيخ أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏، ودفن مع أخيه أسد الدين بدار الإمارة، ثم نقلا إلى المدينة النبوية في سنة ثمانين، فدفنا بتربة الوزير جمال الدين الموصلي، الذي كان مواخياً لأسد الدين شيركوه، وهو الجمال المتقدم ذكره الذي ليس بين تربته ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا مقدار سبعة عشر ذراعاً، فدفنا عنده‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/338‏)‏

قال أبو شامة‏:‏ وفي هذه السنة توفي ملك الرافضة والنحاة‏.‏

 الحسن بن صافي بن بزدن التركي

كان من أكابر أمراء بغداد المتحكمين في الدولة، ولكنه كان رافضياً خبيثاً متعصباً للروافض، وكانوا في خفارته وجاهه، حتى أراح الله المسلمين منه في هذه السنة في ذي الحجة منها، ودفن بداره ثم نقل إلى مقابر قريش، فلله الحمد والمنة‏.‏

وحين مات فرح أهل السنة بموته فرحاً شديداً، وأظهروا الشكر لله، فلا تجد أحداً منهم إلا يحمد الله، فغضب الشيعة من ذلك، ونشأت بينهم فتنة بسبب ذلك، وذكر ابن الساعي في ‏(‏تاريخه‏)‏‏:‏ أنه كان في صغره شاباً حسناً مليحاً معشوقاً للأكابر من الناس‏.‏

قال‏:‏ ولشيخنا أبي اليمن الكندي فيه، وقد رمدت عينه‏:‏

بكل صباح لي وكل عشية * وقوف على أبوابكم وسلام

وقد قيل لي يشكو سقاماً بعينه * فها نحن منها نشتكي ونضام

 ثم دخلت سنة تسع وستين وخمسمائة

قال ابن الجوزي في ‏(‏المنتظم‏)‏‏:‏ إنه سقط عندهم ببغداد برد كبار كالنارنج، ومنه ما وزنه سبعة أرطال، ثم أعقب ذلك سيل عظيم، وزيادة عظيمة في دجلة، لم يعهد مثلها أصلاً، فخرب أشياء كثيرة من العمران والقرى والمزارع، حتى القبور، وخرج الناس إلى الصحراء، وكثر الضجيج والابتهال إلى الله حتى فرج الله عز وجل، وتناقصت زيادة الماء بحمد الله ومنه‏.‏

قال‏:‏ وأما الموصل فإنه كان بها نحو ما كان ببغداد وانهدم بالماء نحو من ألفي دار، واستهدم بسببه مثل ذلك، وهلك تحت الردم خلق كثير، وكذلك الفرات زادت زيادة عظيمة، فهلك بسببها شيء كثير من القرى، وغلت الأسعار بالعراق في هذه السنة في الزروع والثمار، ووقع الموت في الغنم، وأصيب كثير ممن أكل منها بالعراق وغيرها‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفي شوال منها توالت الأمطار بديار بكر والموصل أربعين يوماً وليلة، لم يروا الشمس سوى مرتين لحظتين يسيرتين، ثم تستتر بالغيوم، فتهدمت بيوت كثيرة ومساكن على أهلها، وزادت الدجلة بسبب ذلك زيادة عظيمة، وغرق كثير من مساكن بغداد والموصل، ثم تناقص الماء بإذن الله‏.‏

قال ابن الجوزي‏:‏ وفي رجب وصل ابن الشهرزوري من عند نور الدين ومعه ثياب مصرية، وحمارة ملونة جلدها مخطط مثل الثوب العتابي‏.‏

وفيها‏:‏ عزل ابن الشامي عن تدريس النظامية ووليها أبو الخير القزويني‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/339‏)‏

قال‏:‏ وفي جمادى الآخرة اعتقل المجير الفقيه ونسب إلى الزندقة والانحلال وترك الصلاة والصوم، فغضب له ناس وزكوه وأخرج، وذكر أنه وعظ بالحديثة فاجتمع عنده قريباً من ثلاثين ألفاً‏.‏

قال ابن الساعي‏:‏ وفيها سقط أحمد بن أمير المؤمنين المستضيء من قبة شاهقة إلى الأرض فسلم، ولكن نبت يده اليمنى وساعده اليسرى، وانسلخ شيء من أنفه، وكان معه خادم أسود يقال له‏:‏ نجاح، فلما رأى سيده قد سقط ألقى هو نفسه أيضاً خلفه، وقال‏:‏ لا حاجة لي في الحياة بعده، فسلم أيضاً، فلما صارت الخلافة إلى أبي العباس الناصر - وهو هذا الذي قد سقط - لم ينسها لنجاح هذا، فحكمه في الدولة وأحسن إليه، وقد كانا صغيرين لما سقطا‏.‏

وفيها‏:‏ سار الملك نور الدين نحو بلاد الروم وفي خدمته الجيش وملك الأرمن وصاحب ملطية، وخلق من الملوك والأمراء، وافتتح عدة من حصونهم، وحاصر قلعة الروم فصالحه صاحبها بخمسين ألف دينار جزية، ثم عاد إلى حلب وقد وجد النجاح في كل ما طلب، ثم أتى دمشق مسروراً محبوراً‏.‏

وفيها‏:‏ كان فتح بلاد اليمن للملك صلاح الدين، وكان سبب ذلك أن صلاح الدين بلغه أن بها رجلاً يقال له‏:‏ عبد النبي بن مهدي، وقد تغلب عليها ودعا إلى نفسه وتسمى بالإمام، وزعم أنه سيملك الأرض كلها‏.‏

وقد كان أخوه علي بن مهدي قد تغلب قبله عليها، وانتزعها من أيدي أهل زبيد، ومات سنة ستين فملكها بعد أخوه هذا، وكل منهما كان سيء السيرة والسريرة، فعزم صلاح الدين لكثرة جيشه وقوته على إرسال سرية إليه، وكان أخوه الأكبر شمس الدولة شجاعاً مهيباً بطلاً، وكان ممن يجالس عمارة اليمني الشاعر، وكان عمارة ينعت له بلاد اليمن وحسنها وكثرة خيرها، فحداه ذلك على أن خرج في تلك السرية في رجب من هذه السنة، فورد مكة فاعتمر بها ثم سار منها إلى زبيد، فخرج إليه عبد النبي فهزمه توران شاه، وأسره وأسر زوجته الحرة، وكانت ذات أموال جزيلة فاستقرها على أشياء جزيلة، وذخائر جليلة، ونهب الجيش زبيد، ثم توجه إلى عدن فقاتله ياسر ملكها فهزمه وأسره، وأخذ البلد بيسير من الحصار، ومنع الجيش من نهبها، وقال‏:‏ ما جئنا لنخرب البلاد، وإنما جئنا لعمارتها وملكها‏.‏

ثم سار في الناس سيرة حسنة عادلة فأحبوه، ثم تسلم بقية الحصون والمعاقل والمخالف، واستوسق له ملك اليمن بحذافيره وألقى إليه أفلاذ كبده ومطاميره، وخطب للخليفة العباسي المستضيء، وقتل الدعي المسمى بعبد النبي، وصفت اليمن من أكدارها، وعادت إلى ما سبق من مضمارها، وكتب بذلك إلى أخيه الملك الناصر يخبره بما فتح الله عليه، وأحسن إليه، فكتب الملك صلاح الدين بذلك إلى نور الدين، فأرسل نور الدين بذلك إلى الخليفة يبشره بفتح اليمن والخطبة بها له‏.‏

وفيها‏:‏ خرج الموفق خالد بن القيسراني من الديار المصرية، وقد أقام بها الملك الناصر حساب الديار المصرية وما خرج من الحواصل حسب ما رسم به الملك نور الدين كما تقدم، وقد كاد صلاح الدين لما جاءته الرسالة بذلك يظهر شق العصا، ويواجه بالمخالفة والإباء، لكنه عاد إلى طباعه الحسنة وأظهر الطاعة المستحسنة، وأمر بكتابة الحساب وتحرير الكتاب والجواب، فبادر إلى ذلك جماعة الدواوين والحساب والكتاب، وبعث مع ابن القيسراني بهدية سنية وتحف هائلة هنية، فمن ذلك‏:‏ خمس ختمات شريفات مغطات بخطوط مستويات، ومائة عقد من الجواهر النفيسات، خارجاً عن قطع البلخش واليواقيت، والفصوص والثياب الفاخرات، والأواني والأباريق والصحاف الذهبيات والفضيات، والخيول المسومات، والغلمان والجواري الحسان والحسنات، ومن الذهب عشرة صناديق مقفلات مختومات، مما لا يدرى كم فيها من مئين ألوف ومئات، من الذهب المصري المعد للنفقات‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/340‏)‏

فلما فصلت العير من الديار المصرية لم تصل إلى الشام حتى أن نور الدين مات رحمه الله رب الأرضين والسموات، فأرسل صلاح الدين من ردها إليه وأعادها عليه، ويقال‏:‏ إن منها ما عدي عليه وعلم بذلك حين وضعت بين يديه‏.‏

 مقتل عمارة بن أبي الحسن

ابن زيدان الحكمي من قحطان، أبو محمد الملقب بنجم الدين اليمني الفقيه الشاعر الشافعي، وسبب قتله أنه اجتمع جماعة من رؤس الدولة الفاطمية الذين كانوا فيها حكاماً فاتفقوا بينهم أن يردوا الدولة الفاطمية، فكتبوا إلى الفرنج يستدعونهم إليهم، وعينوا خليفة من الفاطميين، ووزيراً وأمراء، وذلك في غيبة السلطان ببلاد الكرك، ثم اتفق مجيئه فحرض عمارة اليمني شمس الدولة توران شاه على المسير إلى اليمن ليضعف بذلك الجيش عن مقاومة الفرنج، إذا قدموا لنصرة الفاطميين‏.‏

فخرج توران شاه ولم يخرج معه عمارة، بل أقام بالقاهرة يفيض في هذا الحديث، ويداخل المتكلمين فيه ويصافيهم، وكان من أكابر الدعاة إليه والمحرضين عليه، وقد أدخلوا معهم فيه بعض من ينسب إلى صلاح الدين، وذلك من قلة عقولهم وتعجيل دمارهم، فخانهم أحوج ما كانوا إليه وهو الشيخ زين الدين علي بن نجا الواعظ، فإنه أخبر السلطان بما تمالؤا وتعاقدوا عليه، فأطلق له السلطان أموالاً جزيلة، وأفاض عليه حللاً جميلة‏.‏

ثم استدعاهم السلطان واحداً واحداً فقررهم فأقروا بذلك، فاعتقلهم ثم استفتى الفقهاء في أمرهم فأفتوه بقتلهم، ثم عند ذلك أمر بقتل رؤسهم وأعيانهم، دون أتباعهم وغلمانهم، وأمر بنفي من بقي من جيش العبيدين إلى أقصى البلاد، وأفرد ذرية العاضد وأهل بيته في دار، فلا يصل إليه إصلاح ولا إفساد، وأجرى عليهم ما يليق بهم من الأرزاق والثياب‏.‏

وكان عمارة معادياً للقاضي الفاضل، فلما حضر عمارة بين يدي السلطان قام القاضي الفاضل إلى السلطان ليشفع فيه عنده فتوهم عمارة أنه يتكلم فيه، فقال‏:‏ يا مولانا السلطان لا تسمع منه‏.‏

فغضب الفاضل وخرج من القصر، فقال له السلطان‏:‏ إنه إنما كان يشفع فيك، فندم ندماً عظيماً‏.‏

ولما ذهب به ليصلب مر بدار الفاضل فطلبه فتغيب عنه فأنشد‏:‏

عبد الرحيم قد احتجب * إن الخلاص هو العجب

قال ابن أبي طي‏:‏ وكان الذين صلبوا الفضل بن الكامل القاضي، وهو أبا القاسم هبة الله ابن عبد الله بن كامل قاضي قضاة الديار المصرية زمن الفاطميين، ويلقب بفخر الأمناء، فكان أول من صلب فيما قاله العماد، وقد كان ينسب إلى فضيلة وأدب، وله شعر رائق، فمن ذلك قوله في غلام رفاء‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/341‏)‏

يا رافيا خرق كل ثوب * وما رفا حبه اعتقادي

عسى بكف الوصال ترفو * ما مزق الهجر من فؤادي

وابن عبد القوي داعي الدعاة، وكان يعلم بدفائن القصر فعوقب ليدل عليها، فامتنع من ذلك فمات واندرست‏.‏

والعويرس ووهو ناظر الديوان، وتولى مع ذلك القضاء‏.‏

وشبريا وهو كاتب السر‏.‏

وعبد الصمد الكاتب وهو أحد أمراء المصريين، ونجاح الحمامي، ومنجم نصراني، كان قد بشرهم بأن هذا الأمر يتم بعلم النجوم‏.‏

وعمارة اليمني الشاعر

وكان عمارة شاعراً مطيقاً بليغاً فصيحاً، لا يلحق شأوه في هذا الشأن، وله ديوان شعر مشهور وقد ذكرته في ‏(‏طبقات الشافعية‏)‏ لأنه كان يشتغل بمذهب الشافعي، وله مصنف في الفرائض، وكتاب‏(‏الوزراء الفاطميين‏)‏، وكتاب جمع سيرة نفيسة التي كان يعتقدها عوام مصر، وقد كان أديباً فاضلاً فقيهاً، غير أنه كان ينسب إلى موالاة الفاطميين، وله فيهم وفي وزرائهم وأمرائهم مدائح كثيرة جداً، وأقل ما كان ينسب إلى الرفض، وقد اتهم بالزندقة والكفر المحض، وذكر العماد في الخريدة‏:‏ أنه قال في قصيدته التي يقول في أولها‏:‏

العلم مذ كان محتاج إلى العلم * وشفرة السيف تستغني عن القلم

وهي طويلة جداً، فيها كفر وزندقة كثيرة‏.‏

قال‏:‏ وفيها‏:‏

قد كان أول هذا الدين من رجل * سعى إلى أن دعوه سيد الأمم

قال العماد‏:‏ فأفتى أهل العلم من أهل مصر بقتله، وحرضوا السلطان على المثلة به وبمثله، قال‏:‏ ويجوز أن يكون هذا البيت معمولاً عليه، والله أعلم‏.‏

وقد أورد ابن الساعي شيئاً من رقيق شعره، فمن ذلك قوله يمدح بعض الملوك‏:‏

إذا قابلت بشرى جبينه * فارقته والبشر فوق جبيني

وإذا لثمت يمينه وخرجت من * بابه لثم الملوك يميني

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/342‏)‏

ومن ذلك قوله‏:‏

لي في هوى الرشا العذري إعذار * لم يبق لي مدا قسر الدمع إنكار

لي في القدود وفي لثم الخدو * د وفي ضم النهود لبانات وأوطار

هذا اختياري فوافق إن رضيت به * وإلا فدعني لما أهوى وأختار

ومما أنشده الكندي في عمارة اليمني حين صلب‏:‏

عمارة في الإسلام أبدى جناية * وبايع فيها بيعة وصليبا

وأمسى شريك الشرك في بعض أحمد * وأصبح في حب الصليب صليبا

سيلقى غداً ما كان يسعى لنفسه * ويسقى صديداً في لظى وصليبا

قال الشيخ أبو شامة‏:‏ فالأول صليب النصارى، والثاني بمعنى مصلوب، والثالث بمعنى القوي، والرابع ودك العظام‏.‏

ولما صلب الملك الناصر هؤلاء يوم السبت الثاني من شهر رمضان من هذه السنة بين القصرين من القاهرة، كتب إلى الملك نور الدين يعلمه بما وقع منهم وبهم من الخزي والنكال‏.‏

قال العماد‏:‏ فوصل الكتاب بذلك يوم توفي الملك نور الدين، رحمه الله تعالى‏.‏

وكذلك قتل صلاح الدين رجلاً من أهل الإسكندرية يقال له‏:‏ قديد القفاجي، كان قد افتتن به الناس، وجعلوا له جزءاً من أكسابهم، حتى النساء من أموالهن، فأحيط به فأراد القفاجي الخلاص ولات حين مناص، فقتل أسوة فيمن سلف، ومما وجد من شعر عمارة يرثي العاضد ودولته وأيامه‏:‏

أسفي على زمان الإمام العاضد * أسف العقيم على فراق الواحد

لهفي على حجرات قصرك إذ خلت * يا بن النبي من ازدحام الوافد

وعلى انفرادك من عساكرك التي * كانوا كأمواج الخضم الراكد

قلدت مؤتمن أمرهم فكبا * وقصر عن صلاح الفاسد

فعسى الليالي أن ترد إليكم * ما عودتكم من جميل عوائد

وله من جملة قصيدة‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/343‏)‏

يا عاذلي في هوى أبناء فاطمة * لك الملامة إن قصرت في عذلي

بالله زر ساحة القصرين وابك معي * لا على صفين ولا الجمل

وقل لأهلها والله ما التحمت * فيكم قروحي ولا جرحى بمندمل

ماذا ترى كانت الإفرنج فاعلة * في نسل ابني أمير المؤمنين علي

وقد أورد له الشيخ أبو شامة في ‏(‏الروضتين‏)‏ أشعارا كثيرة من مدائحه في الفاطميين، وكذا ابن خلكان‏.‏

 ابن قسرول

صاحب كتاب ‏(‏مطالع الأنوار‏)‏، وضعه على كتاب ‏(‏مشارق الأنوار‏)‏ للقاضي عياض، وكان من علماء بلاده وفضلائهم المشهورين، مات فجأة بعد صلاة الجمعة سادس شوال منها عن أربع وستين سنة‏.‏

قاله ابن خلكان، والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 فصل

في وفاة الملك نور الدين محمود زنكي، وذكر شيء من سيرته العادلة‏.‏

هو الملك العادل نور الدين أبو القاسم محمود بن الملك الأتابك قسيم الدولة عماد الدين أبي سعيد زنكي، الملقب بالشهيد بن الملك آقسنقر الأتابك، الملقب بقسيم الدولة التركي السلجوقي مولاهم، ولد وقت طلوع الشمس من يوم الأحد السابع عشر من شوال سنة إحدى عشرة وخمسمائة بحلب، ونشأ في كفالة والده صاحب حلب والموصل وغيرهما من البلدان الكثيرة الكبيرة، وتعلم القرآن والفروسية والرمي، وكان شهماً شجاعاً ذا همة عالية، وقصد صالح، وحرمة وافرة وديانة بينة‏.‏

فلما قتل أبوه سنة إحدى وأربعين وهو محاصر جعبر كما ذكرنا، صار الملك بحلب إلى ابنه نور الدين هذا، وأعطاه أخوه سيف الدين غازي الموصل، ثم تقدم، ثم افتتح دمشق في سنة تسع وأربعين فأحسن إلى أهلها وبنى لهم المدارس والمساجد والربط، ووسع لهم الطرق على المارة، وبنى عليها الرصافات ووسع الأسواق، ووضع المكوس بدار الغنم والبطيخ والعرصد، وغير ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/344‏)‏

وكان حنفي المذهب يحب العلماء والفقراء ويكرمهم ويحترمهم، ويحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتباع الشرع المطهر، ويعقد مجالس العدل ويتولاها بنفسه، ويجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمفتيون من سائر المذاهب، ويجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلق الذي بالكشك، ليصل إليه كل واحد من المسلمين وأهل الذمة، حتى يساويهم، وأحاط السور على حارة اليهود، وكان خراباً، وأغلق باب كسان وفتح باب الفرج، ولم يكن هناك قبله باب بالكلية‏.‏

وأظهر ببلاده السنة وأمات البدعة، وأمر بالتأذين بحي على الصلاة حي على الفلاح، ولم يكن يؤذن بهما في دولتي أبيه وجده، وإنما كان يؤذن بحي على خير العمل لأن شعار الرفض كان ظاهراً بها، وأقام الحدود وفتح الحصون، وكسر الفرنج مراراً عديدة، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من معاقل المسلمين، كما تقدم بسط ذلك في السنين المتقدمة‏.‏

وأقطع العرب إقطاعات لئلا يتعرضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستاناً لم يبن في الشام قبله مثله ولا بعده أيضاً، ووقف وقفاً على من يعلم الأيتام الخط والقراءة، وجعل لهم نفقة وكسوة، وعلى المجاورين بالحرمين وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير، وعلى الأرامل والمحاويج‏.‏

وكان الجامع دائراً فولى نظره القاضي كمال الدين محمد بن عبد الله الشهزوري الموصلي، الذي قدم به فولاه قضاء قضاة دمشق، فأصلح أموره وفتح المشاهد الأربعة، وقد كانت حواصل الجامع بها من حين احترقت في سنة إحدى وستين وأربعمائة، وأضاف إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقاف التي لا يعرف واقفوها، ولا يعرف شروطهم فيها، وجعلها قلما واحداً، وسمى مال المصالح، ورتب عليه لذوي الحاجات والفقراء والمساكين والأرامل والأيتام وما أشبه ذلك‏.‏

وقد كان رحمه الله حسن الخط كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، محباً لفعل الخيرات، عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس، حتى قيل‏:‏ إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلا نفقة منه من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا، ولم يسمع منه كلمة فحش قط، في غضب ولا رضى، صموتاً وقوراً‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ لم يكن بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه، وكانت له دكاكين بحمص قد اشتراها مما يخصه من المغانم، فكان يقتات منها، وزاد امرأته من كراها على نفقتها عليها، واستفتى العلماء في مقدار ما يحل له من بيت المال فكان يتناوله ولا يزيد عليه شيئاً، ولو مات جوعاً، وكان يكثر اللعب بالكرة فعاتبه رجل من كبار الصالحين في ذلك فقال‏:‏ إنما الأعمال بالنيات، وإنما أريد بذلك تمرين الخيل على الكر والفر، وتعليمها ذلك، ونحن لا نترك الجهاد‏.‏

وكان لا يلبس الحرير، وكان يأكل من كسب يده بسيفه ورمحه، وركب يوماً مع بعض أصحابه والشمس في ظهورهما والظل بين أيديهما لا يدركانه ثم رجعا فصار الظل وراءهما، ثم ساق نور الدين فرسه سوقاً عنيفاً وظله يتبعه، فقال لصاحبه‏:‏ أتدري ما شبهت هذا الذي نحن فيه ‏؟‏

شبهته بالدنيا تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها‏.‏

وقد أنشد بعضهم في هذا المعنى‏:‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/345‏)‏

مثل الرزق الذي تطلبه * مثل الظل يمشي معك

أنت لا تدركه مستعجلاً * فإذا وليت عنه تبعك

وكان فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان كثير الصلاة بالليل من وقت السحر إلى أن يركب‏:‏

جمع الشجاعة والخشوع لديه * ما أحسن الشجعان في المحراب

وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون بنت الأتابك معين الدين تكثر القيام في الليل، فنامت ذات ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها فذكرت نومها الذي فوت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب طبلخانة في القلعة وقت السحر لتوقظ النائم ذلك الوقت لقيام الليل، وأعطى الضارب على الطبلخانة أجراً جزيلاً، وجراية كثيرة‏:‏

فألبس الله هاتيك العظام وإن * بلين تحت الثرى عفواً وغفرانا

سقى ثرى أودعوه رحمة ملأت * مثوى قبورهم روحاً وريحانا

وذكر ابن الأثير‏:‏ أن الملك نور الدين بينما هو ذات يوم يلعب بالكرة إذ رأى رجلاً يحدث آخر ويومئ إلى نور الدين، فبعث الحاجب ليسأله ما شأنه، فإذا هو رجل معه رسول من جهة الحاكم، وهو يزعم أن له على نور الدين حقاً يريد أن يحاكمه عند القاضي، فلما رجع الحاجب إلى نور الدين وأعلمه بذلك ألقى الجوكان من يده، وأقبل مع خصمه ماشياً إلى القاضي الشهرزوري، وأرسل نور الدين إلى القاضي‏:‏ أن لا تعاملني إلا معاملة الخصوم‏.‏

فحين وصلا وقف نور الدين مع خصمه بين يدي القاضي، حتى انفصلت الخصومة والحكومة، ولم يثبت للرجل على نور الدين حق، بل ثبت الحق للسلطان على الرجل، فلما تبين ذلك قال السلطان‏:‏ إنما جئت معه لئلا يتخلف أحد عن الحضور إلى الشرع إذا دعي إليه، فإنما نحن معاشر الحكام أعلانا وأدنانا شجنكية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولشرعه، فنحن قائمون بين يديه طوع مراسيمه، فما أمر به امتثلناه، وما نهانا عنه اجتنبناه، وأنا أعلم أنه لا حق للرجل عندي، ومع هذا أشهدكم أني قد ملكته ذلك الذي ادعى به ووهبته له‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو أول من ابتنى داراً للعدل، وكان يجلس فيها في الأسبوع مرتين، وقيل‏:‏ أربع مرات، وقيل‏:‏ خمس‏.‏

ويحضر القاضي والفقهاء من سائر المذاهب، ولا يحجبه يومئذ حاجب ولا غيره، بل يصل إليه القوي والضعيف، فكان يكلم الناس ويستفهمهم ويخاطبهم بنفسه، فيكشف المظالم، وينصف المظلوم من الظالم‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/346‏)‏

وكان سبب ذلك أن أسد الدين شيركوه بن شادي كان قد عظم شأنه عند نور الدين، حتى صار كأنه شريكه في المملكة، واقتنى الأملاك والأموال والمزارع والقرى، وكان ربما ظلم نوابه جيرانه في الأراضي والأملاك العدل، وكان القاضي كمال الدين ينصف كل من استعداه على جميع الأمراء إلا أسد الدين هذا فما كان يهجم عليه، فلما ابتنى نور الدين دار العدل تقدم أسد إلى نوابه أن لا يدعوا لأحد عنده ظلامة، وإن كانت عظيمة، فإن زوال ماله عنده أحب إليه من أن يراه نور الدين بعين ظالم، أو يوقفه مع خصم من العامة، ففعلوا ذلك‏.‏

فلما جلس نور الدين بدار العدل مدة متطاولة ولم ير أحداً يستعدي على أسد الدين، سأل القاضي عن ذلك فأعلمه بصورة الحال، فسجد نور الدين شكرا لله، وقال‏:‏ الحمد لله الذي أصحابنا ينصفون من أنفسهم‏.‏

وأما شجاعته فيقال‏:‏ إنه لم ير على ظهر فرس قط أشجع ولا أثبت منه، وكان حسن اللعب بالكرة، وكان ربما ضربها ثم يسوق وراءها ويأخذها من الهوى بيده، ثم يرميها إلى آخر الميدان، ولم ير جوكانة يعلو على رأسه، ولا يرى الجوكان في يده، لأن الكم ساتر لها، ولكنه استهانة بلعب الكرة، وكان شجاعاً صبوراً في الحرب، يضرب المثل به في ذلك، وكان يقول‏:‏ قد تعرضت للشهادة غير مرة فلم يتفق لي ذلك، ولو كان فيّ خير ولي عند الله قيمة لرزقنيها، والأعمال بالنية‏.‏

وقال له يوماً قطب الدين النيسابوري‏:‏ بالله يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فإنك لو قتلت قتل جميع من معك، وأخذت البلاد، وفسد حال المسلمين‏.‏

فقال له‏:‏ اسكت يا قطب الدين فإن قولك إساءة أدب على الله، ومن هو محمود‏؟‏ من كان يحفظ الدين والبلاد قبلي غير الذي لا إله إلا هو‏؟‏ ومن هو محمود ‏؟‏

قال‏:‏ فبكى من كان حاضراً، رحمه الله‏.‏

وقد أسر بنفسه في بعض الغزوات بعض ملوك الإفرنج، فاستشار الأمراء فيه هل يقتله أو يأخذ ما يبذل له من المال ‏؟‏

وكان قد بذل له في فداء نفسه مالاً كثيراً، فاختلفوا عليه ثم حسن في رأيه إطلاقه وأخذ الفداء منه، فبعث إلى بلده من خلاصته من يأتيه بما افتدى به نفسه، فجاء به سريعاً فأطلقه نور الدين، فحين وصل إلى بلاده مات ذلك الملك ببلده، فأعجب ذلك نور الدين وأصحابه، وبنى من ذلك المال المارستان الذي بدمشق، وليس له في البلاد نظير، ومن شرطه أنه على الفقراء والمساكين، وإذا لم يوجد بعض الأدوية التي يعز وجودها إلا فيه فلا يمنع منه الأغنياء، ومن جاء إليه فلا يمنع من شرابه، ولهذا جاء إليه نور الدين وشرب من شرابه، رحمه الله‏.‏

قلت‏:‏ ويقول بعض الناس‏:‏ إنه لم تخمد منه النار منذ بني إلى زماننا هذا، فالله أعلم‏.‏

وقد بنى الخانات الكثيرة في الطرقات والأبراج، ورتب الخفراء في الأماكن المخوفة، وجعل فيها الحمام الهوادي التي تطلعه على الأخبار في أسرع مدة، وبنى الربط والخانقات، وكان يجمع الفقهاء عنده والمشايخ والصوفية ويكرمهم ويعظمهم، وكان يحب الصالحين، وقد نال بعض الأمراء مرة عنده من بعض الفقهاء، وهو قطب الدين النيسابوري، فقال له نور الدين‏:‏ ويحك إن كان ما تقول حقاً فله من الحسنات الكثيرة الماحية لذلك ما ليس عندك مما يكفر عنه سيئات ما ذكرت إن كنت صادقاً، على أني والله لا أصدقك، وإن عدت ذكرته أو أحداً غيره عندي بسوء لأوذينك‏.‏

فكف عنه ولم يذكره بعد ذلك‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/347‏)‏

وقد ابتنى بدمشق داراً لاستماع الحديث وإسماعه‏.‏

قال ابن الأثير‏:‏ وهو أول من بنى دار حديث، وقد كان مهيباً وقوراً شديد الهيبة في قلوب الأمراء، لا يتجاسر أحد أن يجلس بين يديه إلا بإذنه، ولم يكن أحد من الأمراء يجلس بلا إذن سوى الأمير نجم الدين أيوب، وأما أسد الدين شيركوه ومجد الدين بن الداية نائب حلب، وغيرهما من الأكابر فكانوا يقفون بين يديه، ومع هذا كان إذا دخل أحد من الفقهاء أو الفقراء قام له ومشى خطوات وأجلسه معه على سجادته في وقار وسكون، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً مستكثراً يقول‏:‏ هؤلاء جند الله وبدعائهم ننصر على الأعداء، ولهم في بيت المال حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا‏.‏

وقد سمع عليه جزء حديث وفيه ‏(‏‏(‏فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متقلداً السيف‏)‏‏)‏ فجعل يتعجب من تغيير عادات الناس لما ثبت عنه عليه السلام، وكيف يربط الأجناد والأمراء على أوساطهم ولا يفعلون كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أمر الجند بأن لا يحملوا السيوف إلا متقلديها، ثم خرج هو في اليوم الثاني إلى الموكب وهو متقلد السيف، وجميع الجيش كذلك، يريد بذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحمه الله‏.‏

وقص عليه وزيره موفق الدين خالد بن محمد بن نصر القيسراني الشاعر أنه رأى في منامه كأنه يغسل ثياب الملك نور الدين، فأمره بأن يكتب مناشير بوضع المكوس والضرائب عن البلاد، وقال له‏:‏ هذا تأويل رؤياك‏.‏

وكتب إلى الناس ليكون منهم في حل مما كان أخذ منهم، ويقول لهم‏:‏ إنما صرف ذلك في قتال أعدائكم من الكفرة والذب عن بلادكم ونسائكم وأولادكم‏.‏

وكتب بذلك إلى سائر ممالكه وبلدان سلطانه، وأمر الوعاظ أن يستحلوا له من التجار، وكان يقول في سجوده‏:‏ اللهم ارحم المكاس العشار الظالم محمود الكلب‏.‏

وقيل‏:‏ إن برهان الدين البلخي أنكر على الملك نور الدين في استعانته في حروب الكفار بأموال المكوس، وقال له مرة‏:‏ كيف تنصرون وفي عساكركم الخمور والطبول والزمور ‏؟‏

ويقال‏:‏ إن سبب وضعه المكوس عن البلاد أن الواعظ أبا عثمان المنتخب بن أبي محمد الواسطي - وكان من الصالحين الكبار، وكان هذا الرجل ليس له شيء ولا يقبل من أحد شيئاً، إنما كانت له جبة يلبسها إذا خرج إلى مجلس وعظه، وكان يجتمع في مجلس وعظه الألوف من الناس - أنشد نور الدين أبياتاً تتضمن ما هو متلبس في ملكه، وفيها تخويف وتحذير شديد له‏:‏

مثل وقوفك أيها المغرور * يوم القيامة والسماء تمور

إن قيل نور الدين رحت مسلماً * فاحذر بأن تبقى وما لك نور

أنهيت عن شرب الخمور وأنت في * كأس المظالم طائش مخمور

عطلت كاسات المدام تعففاً * وعليك كاسات الحرام تدور

ماذا تقول إذا نقلت إلى البلى * فرداً وجاءك منكر ونكير

‏(‏ج/ص‏:‏ 12/348‏)‏

ماذا تقول إذا وقفت بموقف * فرداً ذليلاً والحساب عسير

وتعلقت فيك الخصوم وأنت في * يوم الحساب مسلسل مجرور

وتفرقت عنك الجنود وأنت في * ضيق القبور موسد مقبور

ووددت أنك ما وليت ولاية * يوماً ولا قال الأنام أمير

وبقيت بعد العز رهن حفيرة * في عالم الموتى وأنت حقير

وحشرت عرياناً حزيناً باكياً * قلقاً وما لك في الأنام مجير

أرضيت أن تحيا وقلبك دارس * عافى الخراب وجسمك المعمور

أرضيت أن يحظى سواك بقربه * أبداً وأنت معذب مهجور

مهد لنفسك حجة تنجو بها * يوم المعاد ويوم تبدو العور

فلما سمع نور الدين هذه الأبيات بكى بكاء شديداً، وأمر بوضع المكوس والضرائب في سائر البلاد‏.‏

وكتب إليه الشيخ عمر الملا من الموصل - وكان قد أمر الولاة والأمراء بها أن لا يفصلوا بها أمراً حتى يعلموا الملا به، فما أمرهم به من شيء امتثلوه، وكان من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل إليه بفتيت ورقاق فيفطر عليه جميع رمضان - فكتب إليه الشيخ عمر بن الملا هذا‏:‏ إن المفسدين قد كثروا، ويحتاج إلى سياسة ومثل هذا لا يجيء إلا بقتل وصلب وضرب، وإذا أخذ إنسان في البرية من يجيء يشهد له ‏؟‏

فكتب إليه الملك نور الدين على ظهر كتابه‏:‏ إن الله خلق الخلق وشرع لهم شريعة وهو أعلم بما يصلحهم، ولو علم أن في الشريعة زيادة في المصلحة لشرعها لنا، فلا حاجة بنا إلى الزيادة على ما شرعه الله تعالى، فمن زاد فقد زعم أن الشريعة ناقصة فهو يكملها بزيادته، وهذا من الجرأة على الله وعلى ما شرعه، والعقول المظلمة لا تهتدي، والله سبحانه يهدينا وإياك إلى صراط مستقيم‏.‏

فلما وصل الكتاب إلى الشيخ عمر الملا جمع الناس بالموصل وقرأ عليهم الكتاب، وجعل يقول‏:‏ انظروا إلى كتاب الزاهد إلى الملك، وكتاب الملك إلى الزاهد‏.‏

وجاء إليه أخو الشيخ أبي البيان يستعديه على رجل أنه سبه ورماه بأنه يرائي وأنه وأنه، وجعل يبالغ في الشكاية عليه‏.‏

فقال له السلطان‏:‏ أليس الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏{‏وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏‏.‏

فسكت الشيخ ولم يحر جواباً‏.‏

وقد كان نور الدين يعتقده ويعتقد أخاه أبا البيان، وأتاه زائراً مرات، ووقف عليه وقفاً‏.‏

وقال الفقيه أبو الفتح الأشري معيد النظامية ببغداد، وكان قد جمع سيرة مختصرة لنور الدين، قال‏:‏ وكان نور الدين محافظاً على الصلوات في أوقاتها، في جماعة بتمام شروطها والقيام بها بأركانها، والطمأنينة في ركوعها وسجودها، وكان كثير الصلاة بالليل، كثير الابتهال في الدعاء والتضرع إلى الله عز وجل في أموره كلها‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/349‏)‏

قال‏:‏ وبلغنا عن جماعة من الصوفية ممن يعتمد على قولهم أنهم دخلوا بلاد القدس للزيارة أيام أخذ القدس الفرنج فسمعهم يقولون‏:‏ إن القسيم ابن القسيم - يعنون نور الدين - له مع الله سر، فإنه لم يظفر وينصر علينا بكثرة جنده وجيشه، وإنما يظفر علينا وينصر بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو فإنه يستجيب له ويعطيه سؤله فيظفر علينا‏.‏

قال‏:‏ فهذا كلام الكفار في حقه‏.‏

وحكى الشيخ أبو شامة‏:‏ أن نور الدين وقف بستان الميدان سوى الغيضة التي تليه نصفه على تطييب جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنيفة، والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة، وهي مسجد الصالحين بجبل قيسون وجامع القلعة، ومسجد عطية، ومسجد ابن لبيد بالعسقار، ومسجد الرماحين المعلق، ومسجد العباس بالصالحية، ومسجد دار البطيخ المعلق، والمسجد الذي جدده نور الدين جوار بيعة اليهود، لكل من هذه المساجد جزء من إحدى عشر جزء من النصف‏.‏

ومناقبه ومآثره كثيرة جداً، وقد ذكرنا نبذة من ذلك يستدل بها على ما وراءها‏.‏

وقد ذكر الشيخ شهاب الدين في أول ‏(‏الروضتين‏)‏ كثيراً من محاسنه، وذكر ما مدح به من القصائد، وذكر أنه لما فتح أسد الدين الديار المصرية ثم مات، ثم تولى صلاح الدين هم بعزله عنها، واستنابة غيره فيها غير مرة، ولكن يعوقه عن ذلك ويصده قتال الفرنج، واقتراب أجله، فلما كان في هذه السنة - وهي سنة تسع وستين وخمسمائة - وهي آخر مدته، أضمر على الدخول إلى الديار المصرية وصمم عليه، وأرسل إلى عساكر بلاد الموصل وغيرها ليكونوا ببلاد الشام حفظاً لها من الفرنج في غيبته ويركب هو في جمهور الجيش إلى مصر، وقد خاف منه الملك صلاح الدين خوفاً شديداً‏.‏

فلما كان يوم عيد الفطر من هذه السنة ركب إلى الميدان الأخضر القبلي، وصلى فيه صلاة عيد الفطر، وكان ذلك نهار الأحد، ورمى القبق في الميدان الأخضر الشمالي، والقدر يقول له‏:‏ هذا آخر أعيادك‏.‏

ومد في ذلك اليوم سماطاً حافلاً، وأمر بانتهابه، وطهر ولده الملك الصالح إسماعيل في هذا اليوم، وزينت له البلد، وضربت البشائر للعيد والختان، ثم ركب في يوم الاثنين وأكب على العادة ثم لعب بالكرة في ذلك اليوم، فحصل له غيظ من بعض الأمراء - ولم يكن ذلك من سجيته - فبادر إلى القلعة وهو كذلك في غاية الغضب، وانزعج ودخل في حيز سوء المزاج، واشتغل بنفسه وأوجاعه، وتنكرت عليه جميع حواسه وطباعه، واحتبس أسبوعاً عن الناس، والناس في شغل عنه بما هم فيه من اللعب والانشراح في الزينة التي نصبوها لأجل طهور ولده، فهذا يجود بروحه، وهذا يجود بموجوده، سروراً بذلك، فانعكست تلك الأفراح بالأتراح، ونسخ الجد ذلك المزاح، وحصلت للملك خوانيق في حلقه منعته من النطق، وهذا شأن أوجاع الحلق، وكان قد أشير عليه بالفصد فلم يقبل، وبالمبادرة إلى المعالجة فلم يفعل، وكان أمر الله قدراً مقدوراً‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/350‏)‏

فلما كان يوم الأربعاء الحادي عشر من شوال من هذه السنة قبض إلى رحمة الله تعالى عن ثمان وخمسين سنة، مكث منها في الملك ثمان وعشرين سنة رحمه الله، وصلي عليه بجامع القلعة بدمشق، ثم حول إلى تربته التي أنشأها للحنفية بين باب الخواصين، وباب الخيميين على الدرب، وقبره بها يزار، ويحلق بشباكه ويطيب ويتبرك به كل مار، فيقول‏:‏ قبر نور الدين الشهيد، لما حصل له في حلقه من الخوانيق، وكذا كان يقال لابنه الشهيد ويلقب بالقسيم، وكانت الفرنج تقول له‏:‏ القسيم ابن القسيم‏.‏

وقد رثاه الشعراء بمراث كثيرة قد أوردها أبو شامة، وما أحسن ما قاله العماد‏:‏

عجبت من الموت لما أتى * إلى ملك في سجايا ملك

وكيف ثوى الفلك المستد * ير في الأرض وسط فلك

وقال حسان الشاعر الملقب بالعرقلة في مدرسة نور الدين لما دفن بها، رحمه الله تعالى‏:‏

ومدرسة ستدرس كل شيء * وتبقى في حمى علم ونسك

تضوع ذكرها شرقاً وغرباً * بنور الدين محمود بن زنكي

يقول وقوله حق وصدق * بغير كناية وبغير شك

دمشق في المدائن بيت ملكي * وهذي في المدارس بنت ملكي

 صفة نور الدين رحمه الله تعالى

كان طويل القامة أسمر اللون حلو العينين واسع الجبين، حسن الصورة، تركي الشكل، ليس له لحية إلا في حنكه، مهيباً متواضعاً عليه جلالة ونور، يعظم الإسلام وقواعد الدين، ويعظم الشرع‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/351‏)‏

 فصل

فلما مات نور الدين في شوال من هذه السنة بويع من بعده بالملك لولده الصالح إسماعيل، وكان صغيراً، وجعل أتابكه الأمير شمس الدين بن مقدم، فاختلف الأمراء وحادت الآراء وظهرت الشرور، وكثرت الخمور، وقد كانت لا توجد في زمنه ولا أحد يجسر أن يتعاطى شيئاً منها، ولا من الفواحش، وانتشرت الفواحش وظهرت حتى أن ابن أخيه سيف الدين غازي بن مودود صاحب الموصل لما تحقق موته - وكان محصوراً منه - نادى مناديه بالبلد بالمسامحة باللعب واللهو والشراب والمسكر والطرب، ومع المنادي دف وقدح ومزمار الشيطان، فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

وقد كان ابن أخيه هذا وغيره من الملوك والأمراء الذين له حكم عليهم، لا يستطيع أحد منهم أن يفعل شيئاً من المناكر والفواحش، فلما مات مرح أمرهم وعاثوا في الأرض فساداً وتحقق قول الشاعر‏:‏

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر * ولا تسقني سراً وقد أمكن الجهر

وطمعت الأعداء من كل جانب في المسلمين، وعزم الفرنج على قصد دمشق وانتزاعها من أيدي المسلمين، فبرز إليهم ابن مقدم الأتابك فواقعهم عند بانياس فضعف عن مقاومتهم، فهادنهم مدة، ودفع إليهم أموالاً جزيلة عجلها لهم، ولولا أنه خوفهم بقدوم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب لما هادنوه‏.‏

ولما بلغ ذلك صلاح الدين كتب إلى الأمراء وخاصة ابن مقدم يلومهم على ما صنعوا من المهادنة ودفع الأموال إلى الفرنج، وهم أقل وأذل، وأخبرهم أنه على عزم قصد البلاد الشامية ليحفظها من الفرنج، فردوا إليه كتاباً فيه غلظة، وكلام فيه بشاعة، فلم يلتفت إليهم ومن شدة خوفهم منه كتبوا إلى سيف الدين غازي صاحب الموصل ليملكوه عليهم ليدفع عنهم كيد الملك الناصر صلاح الدين صاحب مصر، فلم يفعل لأنه خاف أن يكون مكيدة منهم له، وذلك أنه كان قد هرب منه الطواشي سعد الدولة مستكين الذي كان قد جعله الملك نور الدين عيناً عليه، وحافظاً له من تعاطي ما لا يليق من الفواحش والخمر واللعب واللهو‏.‏

فلما مات نور الدين ونادى في الموصل تلك المناداة القبيحة خاف منه الطواشي المذكور أن يمسكه فهرب منه سراً، فلما تحقق غازي موت عمه بعث في إثر هذا الخادم ففاته فاستحوذ على حواصله، ودخل الطواشي حلب ثم سار إلى دمشق فاتفق مع الأمراء على أن يأخذوا ابن نور الدين الملك الصالح إسماعيل إلى حلب فيربيه هنالك مكان ربي والده، وتكون دمشق مسلمة إلى الأتابك شمس الدولة بن مقدم، والقلعة إلى الطواشي جمال الدين ريحان‏.‏

فلما سار الملك الصالح من دمشق خرج معه الكبراء والأمراء من دمشق إلى حلب، وذلك في الثالث والعشرين من ذي الحجة من هذه السنة، وحين وصلوا حلب جلس الصبي على سرير ملكها واحتاطوا على بني الداية شمس الدين بن الداية أخو مجد الدين الذي كان رضيع نور الدين، وإخوته الثلاثة، وقد كان شمس الدين علي بن الداية يظن أن ابن نور الدين يسلم إليه فيربيه، لأنه أحق الناس بذلك، فخيبوا ظنه وسجنوه وإخوته في الجب‏.‏ ‏(‏ج/ص‏:‏ 12/352‏)‏

فكتب الملك صلاح الدين إلى الأمراء يلومهم على ما فعلوا على ما فعلوا من نقل الولد من دمشق إلى حلب، ومن حبسهم بني الداية وهم من خيار الأمراء ورؤس الكبراء، ولم لا يسلموا الولد إلى مجد الدين بن الداية الذي هو أحظى عند نور الدين وعند الناس منهم‏.‏

فكتبوا إليه يسيئون الأدب عليه، وكل ذلك يزيده حنقاً عليهم، ويحرضه على القدوم إليهم، ولكنه في الوقت في شغل شاغل لما دهمه ببلاد مصر من الأمر الهائل، كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في أول السنة الآتية‏.‏