فصل: الحديث الأول:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّالِث عشر:

«أَن أعرابيًّا وهب للنَّبِي نَاقَة؛ فأثابه عَلَيْهَا وَقَالَ: أرضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده وَقَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد هممتُ أَن لَا أتهب إِلَّا من قرشي أَو أَنْصَارِي أَو ثقفي».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عَبَّاس: «أَن أعرابيًّا وهب للنَّبِي هبة، فأثابه عَلَيْهَا، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: لَا. فزاده، قَالَ: رضيت؟ قَالَ: نعم. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لقد هَمَمْت...» وَذكر بَاقِي الحَدِيث.
كَذَا أَخْرجَاهُ بِذكر عدم الرِّضَا مرَّتين، وَوَقع فِي الرَّافِعِيّ مرّة كَمَا أسلفناه عَنهُ.
وَلِهَذَا الحَدِيث طَرِيق ثَان من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصرا عَن مُحَمَّد بن عَمرو الرَّازِيّ، ثَنَا سَلمَة- يَعْنِي: ابْن الْفضل- ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «وَايْم الله، لَا أقبل بعد يومي هَذَا من أحد هَدِيَّة، إِلَّا أَن يكون مُهَاجرا، أَو قرشيًّا، أَو أنصاريًّا، أَو دوسيًّا، أَو ثقفيًّا» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ مطولا عَن أَحْمد بن منيع، ثَنَا يزِيد بن هَارُون، ثَنَا أَيُّوب، عَن سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن أعرابيًّا أهْدَى إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بكرَة، فَعوضهُ مِنْهَا سِتّ بكرات، فسخط، فَبلغ ذَلِك رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَحَمدَ الله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: إِن فلَانا أهْدَى إليَّ بكرَة، فعوضته مِنْهَا سِتّ بكرات، ويظل ساخطًا؟! وَلَقَد هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة إِلَّا من قرشيّ أَو أنصاريّ، أَو ثقفيّ، أَو دوسيّ».
ثمَّ رَوَاهُ مطولا أَيْضا عَن البُخَارِيّ، عَن أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي، عَن ابْن إِسْحَاق، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة: «أهْدَى رجل من بني فَزَارَة إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَة من إبِله الَّتِي كَانُوا أَصَابُوا بِالْغَابَةِ، فَعوضهُ مِنْهَا بعض الْعِوَض، فتسخطه؛ فسمعتُ رَسُول الله يَقُول عَلَى الْمِنْبَر: إِن رجَالًا من الْعَرَب يُهدي أحدهم الْهَدِيَّة، فأعوضه مِنْهَا بِقدر مَا عِنْدِي، ثمَّ يتسخطه فَيظل يتسخط عَلّي، وَايْم الله؛ لَا أقبل بعد مقَامي هَذَا من رجل من الْعَرَب هَدِيَّة، إِلَّا من قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي، أَو دوسي» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن وَهُوَ أصح من حَدِيث يزِيد بن هَارُون. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا مُخْتَصرا عَن خشيش بن أَصْرَم، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن معمر عَن ابْن عجلَان عَن سعيد، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة: أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لقد هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة...» إِلَى آخِره، كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه عَن أبي الْحُسَيْن الْقَنْطَرِي، ثَنَا أَبُو قلَابَة، وَعَن عَمرو بن نجيد، ثَنَا أَبُو مُسلم، ثَنَا أَبُو عَاصِم، عَن ابْن عجلَان، عَن المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة: «أَن رجلا أهْدَى إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لقحة، فأثابه مِنْهَا بست بكرات؛ فسخطها الرجل، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: من يعذرني من فلَان أهْدَى إليَّ لقحة، فَكَأَنِّي أنظر إِلَيْهَا فِي وَجه بعض أَهلِي، فأثبته مِنْهَا بست بكرات فسخطها، لقد هَمَمْت أَن لَا أقبل هَدِيَّة، إِلَّا أَن تكون من قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي، أَو دوسي» قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث أبي معشر، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة، كَمَا أخرجه التِّرْمِذِيّ بِزِيَادَة: «أُهدي إليَّ نَاقَة، وَهِي نَاقَتي، أعرفهَا كَمَا أعرف بعض أَهلِي، ذهبت مني يَوْم زغابات، فعوضته....» الحَدِيث.
وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة هَذَا؛ فَقَالَ: يروي طَاوس عَن أبي هُرَيْرَة مُتَّصِلا مَرْفُوعا، وَعَن طَاوس مُرْسلا وَهُوَ الْأَصَح. وَهَذَا طَرِيق آخر لهَذَا الحَدِيث غير مَا أسلفناه، وَلما ذكر عبد الْحق طريقي التِّرْمِذِيّ وَأبي دَاوُد السالفين بِتَغَيُّر قَالَ: إسنادهما لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَاعْتَرضهُ ابْن الْقطَّان وَقَالَ: هَذَا قَول تبع فِيهِ التِّرْمِذِيّ، وَكم حديثٍ قد احْتج بِهِ من رِوَايَة ابْن إِسْحَاق، وَأحمد بن خَالِد الْوَهْبِي أفرط ابْن حزم القَوْل فِيهِ، وَنسبه إِلَى الْجَهَالَة، وَهُوَ ثِقَة، وَقد ردَّ عَلَيْهِ عبدُ الْحق ذَلِك فِي حَدِيث زيد بن ثَابت: «نهَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أَن تبَاع السّلع حَيْثُ تبْتَاع حَتَّى يحوزها التُّجَّار» فَحق الحَدِيث أَنه حسنٌ من طَرِيقَته، والمقبري سمع من أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن أبي هُرَيْرَة، كَمَا سمع أَبوهُ، وَقَول التِّرْمِذِيّ: «إِنَّه أصح من حَدِيث يزِيد بن هَارُون» هُوَ بِاعْتِبَار ثُبُوت وَالِد سعيد بَينه وَبَين أبي هُرَيْرَة، وَلَا يفهم مِنْهُ تَضْعِيف الحَدِيث.
قلت: وَطَرِيق النَّسَائِيّ وَالْحَاكِم خَالِيَة من ابْن إِسْحَاق ومِنَ الْوَهْبِي هَذَا، فَلَا شكّ فِي صِحَّتهَا، وَللَّه الْحَمد.
ثمَّ للْحَدِيث طَرِيق ثَالِث أخرجه الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي كِتَابه معرفَة الصَّحَابَة من حَدِيث بكار بن عبد الله بن مُحَمَّد بن سِيرِين، عَن أَيمن بن نابل الْمَكِّيّ، عَن أَبِيه: «أَن رجلا كالأعرابي أهْدَى إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ناقتين؛ فَعوضهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلم يرض عوضه، فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لقد هممتُ أَن لَا أتهب هبة إِلَّا من قرشي، أَو أَنْصَارِي، أَو ثقفي» قَالَ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى: رَوَاهُ جمَاعَة عَن بكار.
قلت: وبكار هَذَا ذَاهِب الحَدِيث؛ كَمَا قَالَه أَبُو زرْعَة، وأيمن بن نابل بِالْبَاء الْمُوَحدَة، قَالَ ابْن عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ.
فَائِدَة: إِنَّمَا اسْتثْنى هَؤُلَاءِ؛ لأَنهم أكْرم الْعَرَب، وَقيل: لِأَنَّهُ لَيْسَ فيهم غلظ الْبَادِيَة؛ لأَنهم حَاضِرَة.
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنّه، وَذكر فِيهِ من الْآثَار أثرين:
أَحدهمَا:
«أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه نحل عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها جادَّ عشْرين وسْقا، فَلَمَّا مرض قَالَ: وددت أَنَّك حُزْتِيهِ أَو قبضتيه، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث».
هَذَا الْأَثر صَحِيح، رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن ابْن شهَاب، عَن عُرْوَة، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «نَحَلَنِي أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه جادَّ عشْرين وسْقا من مَال الغابة، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية مَا من النَّاس أحبُّ إليَّ غِنىً مِنْك بعدِي، وَلَا أعز عليَّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنتُ نَحَلْتُكِ جادّ عشْرين وسْقا، وَلَو كنت جددتيه واحتزتيه لَكَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْم مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك؛ فَاقْتَسمُوهُ عَلَى كتاب الله. قَالَت: فَقلت: يَا أَبَت، لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته؛ إِنَّمَا هِيَ أَسمَاء؛ فَمن الْأُخْرَى؟! قَالَ: ذُو بطن ابْنة خَارِجَة. أَرَاهَا جَارِيَة».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الحكم أبنا ابْن وهب، عَن مَالك بن أنس وَيُونُس بن يزِيد وَغَيرهمَا من أهل الْعلم، أَن ابْن شهَاب أخْبرهُم عَن عُرْوَة بن الزبير، عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: «إِن أَبَا بكر الصّديق نحلهَا جدَاد عشْرين وسْقا من مَال بِالْغَابَةِ، فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة قَالَ: وَالله يَا بنية، مَا من النَّاس أحد أحب إليَّ غِنىً بعدِي مِنْك، وَلَا أعز عليَّ فقرا بعدِي مِنْك، وَإِنِّي كنت نحلتكِ من مَالِي جدَاد عشْرين وسْقا، فَلَو كنت جددتيه واحتزتيه كَانَ لَك ذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ مَال الْوَارِث، وَإِنَّمَا هما أَخَوَاك وَأُخْتَاك، فَاقْتَسمُوهُ عَلَى كتاب الله تَعَالَى فَقَالَت: يَا أبه، وَالله لَو كَانَ كَذَا وَكَذَا لتركته، إِنَّمَا هِيَ أَسمَاء؛ فَمن الْأُخْرَى؟ قَالَ: ذُو بطن بنت خَارِجَة. أَرَاهَا جَارِيَة».
قَالَ ابْن عبد الحكم: وأبنا ابْن وهب أَخْبرنِي عبد الله بن عمر، عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة بذلك. وأبنا ابْن وهب قَالَ: سَمِعت حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان يحدث أَنه سمع الْقَاسِم بن مُحَمَّد يحدث بذلك أَيْضا إِلَّا أَنه قَالَ: أَرضًا يُقَال لَهَا: تمرد، وَكَانَت عِنْده لم يقبضهَا.
وَقد أوضحت الْكَلَام عَلَى أَلْفَاظ هَذَا الْأَثر فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعه مِنْهُ تَجِد نفائس.
الْأَثر الثَّانِي:
عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَنه قَالَ: «من وهب هبة يَرْجُو ثَوَابهَا فَهُوَ رد عَلَى صَاحبهَا مَا لم يُثَبْ مِنْهَا».
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ عَن دَاوُد بن الْحصين عَن أبي غطفان بن طريف المري أَن عمر بن الْخطاب قَالَ: «من وهب هبة لصلة رحم أَو عَلَى وَجه صَدَقَة؛ فَإِنَّهُ لَا يرجع فِيهَا، وَمن وهب هبة يرَى أَنه إِنَّمَا أَرَادَ بهَا الثَّوَاب فَهُوَ عَلَى هِبته، يرجع فِيهَا مَا لم يرض بهَا».
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من حَدِيث ابْن وهب، عَن حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان الجُمَحِي، عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «من وهب هبة لوجه الله فَذَلِك لَهُ، وَمن وهب هبة يُرِيد ثَوَابهَا؛ فَإِنَّهُ يرجع فِيهَا إِن لم يرض بهَا». قَالَ: وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظ. قَالَ: وَرَوَاهُ عبيد الله بن مُوسَى عَن حَنْظَلَة، عَن سَالم، عَن ابْن عُمر مَرْفُوعا: «من وهب هبة فَهُوَ أَحَق بهَا مَا لم يثب مِنْهَا» وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَلّي بن سهل بن الْمُغيرَة عَن عبد الله، وَهُوَ وهم، إِنَّمَا الْمَحْفُوظ الأول. قَالَ: وَقد قيل: عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل بن مجمع، عَن عَمرو بن دِينَار، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «الْوَاهِب أَحَق بَهته مَا لم يثب مِنْهَا».
وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا الْمَتْن بِهَذَا الْإِسْنَاد أليق، وَإِبْرَاهِيم ضَعِيف عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ، وعَمرو بن دِينَار عَن أبي هُرَيْرَة مُنْقَطع، وَالْمَحْفُوظ عَن عَمرو بن دِينَار عَن سَالم عَن أَبِيه عَن عُمر قَالَ: «من وهب هبة فَلم يثب فَهُوَ أَحَق بهبته إِلَّا لذِي محرم» قَالَ البُخَارِيّ: هَذَا أصح. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن الْحسن عَن سَمُرَة مَرْفُوعا: «إِذا كَانَت الْهِبَة لذِي رحم محرم لم يرجع» وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ الْحَاكِم لما أخرجه فِي مُسْتَدْركه: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط البُخَارِيّ. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فرواته كلهم ثِقَات، وَعبد الله بن جَعْفَر الْمَذْكُور فِي إِسْنَاده هُوَ الرقي، وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ وَأَخْطَأ ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه حَيْثُ قَالَ: ضَعَّفُوهُ. فَإِن الَّذِي ضَعَّفوه هُوَ الْمَدِينِيّ والدُ عَلّي، وَهُوَ مُتَقَدم عَلَى هَذَا، وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عمر مَرْفُوعا مثل حَدِيث عمر السالف، وَرُوَاته ثِقَات، وَلَكِن جعله وهما عَلَى مَا نَقله عبدُ الْحق وَغَيره عَنهُ وَأَن الصَّوَاب عَن ابْن عمر عَن عُمر قَوْله، وَخَالف ابْن حزم فصححه مَرْفُوعا، وَكَذَا الْحَاكِم لما أخرجه فِي مُسْتَدْركه مَرْفُوعا قَالَ: إِنَّه حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ إِلَّا أَن يكون الْحمل فِيهِ عَلَى شَيخنَا إِسْحَاق بن مُحَمَّد بن خَالِد الْهَاشِمِي. وَلما رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن شَيْخه الْحَاكِم بِسَنَدِهِ قَالَ: إِنَّه وهم، وَإِن الْمَحْفُوظ مَا سلف. وَلما ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه من هَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة: ابْن عمر، وَأبي هُرَيْرَة، وَسمرَة، قَالَ: كلهَا ضِعَاف لَيْسَ فِيهَا مَا يَصح.
قلت: وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا بإسنادٍ واهٍ.

.كتاب اللّقطَة:

كتاب اللُّقطة:
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ من الْأَحَادِيث ثَلَاثَة عشر حَدِيثا:

.الحديث الأول:

عَن زيد بن خَالِد الجُهَني رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَسَأَلَهُ عَن اللّقطَة، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: اعرف عفاصها ووكاءها، ثمَّ عرِّفها سنة؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فشأنك بهَا. قَالَ: فضَالة الْغنم؟ قَالَ: هِيَ لَك أَو لأخيك أَو للذئب. قَالَ: فضَالة الْإِبِل؟ قَالَ: مَا لَك وَلها؟! دعها، مَعهَا حذاؤها وسقاؤها، تَرِدُ المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها ربُّها».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن، عَن يزِيد مولَى المنبعث، عَن زيد بِهِ، وَهُوَ كَذَلِك فِي موطئِهِ.
وَأخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك بِهِ، وَفِي لفظ لَهما: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَن لقطَة الذَّهَب أَو الْوَرق، فَقَالَ: اعرف وكاءها وعفاصها، ثمَّ عرِّفها سنة؛ فَإِن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وَدِيعَة عنْدك، فَإِن جَاءَ طالبها يَوْمًا من الدَّهْر فأدِّها إِلَيْهِ. وَسَأَلَهُ عَن ضَالَّة الْإِبِل، فَقَالَ: مَا لَك وَلها؟! دعها فَإِن مَعهَا حذاءها وسقاءها، ترد المَاء وتأكل الشّجر حَتَّى يلقاها رَبهَا. وَسَأَلَهُ عَن الشَّاة، فَقَالَ: خُذْهَا؛ فَإِنَّمَا هِيَ لَك، أَو لأخيك، أَو للذئب».
وَلَهُمَا أَلْفَاظ أُخر أَيْضا.
فَائِدَة: العفاص- بِكَسْر الْعين وبالفاء-: الْوِعَاء الَّذِي فِيهِ النَّفَقَة سَوَاء أَكَانَ من جلد أَو خرقَة أم من غَيرهمَا، قَالَ الْأَزْهَرِي: وَلِهَذَا تسَمَّى الْجلْدَة الَّتِي تلبس رَأس القارورة عفاصًا؛ لِأَنَّهُ كالوعاء لَهَا، وَلَيْسَ بالصمام، إِنَّمَا الصمام الَّذِي يُسَدُّ بِهِ فَم القارورة من خشب كَانَ أَو من خرقةٍ مَجْمُوعَة. وَعَن الْخطابِيّ: أَن أصل العفاص من الْجلْدَة الَّتِي تلبس رَأس القارورة، وأُطلق عَلَى الْوِعَاء عَلَى طَرِيق التوسُّع، وَالْجُمْهُور عَلَى الأول. و«الوكاء»- ممدودٌ، وَوهم من قصره-: الْخَيط الَّذِي يُشَدُّ بِهِ رَأس الْكيس والجراب والقربة وَنَحْو ذَلِك. و«شَأْنك»: مَنْصُوب بإضمار فعل، وَيجوز رَفعه عَلَى الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره مُبَاح أَو جَائِز. و«الْحذاء»: الْخُف. و«السقاء»: الْجوف؛ لِأَنَّهَا تَأْخُذ مَاء كثيرا فِي جوفها، فتبقي عَلَيْهِ أَكثر مَا تبقي سَائِر الْحَيَوَانَات، قَالَه الْأَزْهَرِي، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: أَرَادَ أعناقها الَّتِي تتوصل بهَا إِلَى المَاء فَلَا تحْتَاج إِلَى تقريب الرَّاعِي ومعونته.
تَنْبِيه: قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي الْبَاب أَحَادِيث أخر نأتي بِبَعْضِهَا فِي الْأَثْنَاء. هُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد قَالَ التِّرْمِذِيّ: فِي الْبَاب عَن أبي بن كَعْب وَعبد الله بن عَمْرو والجارود بن الْمُعَلَّى وَجَرِير بن عبد الله.

.الحديث الثَّانِي:

عَن عِيَاض بن حمَار رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من الْتقط لقطَة فليشهد عَلَيْهَا ذَا عدل، أَو ذَوي عدل».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمْ وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور وَزِيَادَة: «ثمَّ لَا يكتم وَلَا يُغَيِّب فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَال الله يُؤتيه من يَشَاء».
وَزَاد الْبَيْهَقِيّ بعد قَوْله «ثمَّ لَا يكتم»: «وليعرِّفه» وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده بِلَفْظ: «فليشهد ذَوي عدلٍ، وليحفظ عفاصها ووكاءها؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فَلَا يكتم، وَهُوَ أَحَق بهَا، وَإِن لم يجِئ صاحبُها فَإِنَّهُ مَال الله يؤتيه من يَشَاء» وَأَشَارَ إِلَيْهِ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه وَلم يسق مَتنه، وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير من طرق إِلَى عِيَاض، فِي بَعْضهَا ذكر الْإِشْهَاد، وَفِي بَعْضهَا «شَاهِدين ذَوي عدل» من غير شكّ. قَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه: أضمر فِي الْخَبَر: «إِن لم يجِئ صَاحبهَا، وَإِلَّا فَهُوَ مَال الله يؤتيه من يَشَاء». قلت: هَذَا لَا شكّ فِيهِ، وَقد صرح بِهِ الطَّبَرَانِيّ فِي بعض رواياته فِي أكبر معاجمه فَقَالَ: «إِن لم تَجِد صَاحبهَا فَهُوَ مَال الله يؤتيه من يَشَاء».
فَائِدَة: حمَار هَذَا هُوَ عَلَى لفظ الْحمار الْمَعْرُوف وَضَبطه، ووالده ابْن أبي حمَار، وَقيل: ابْن عرْفجَة، وعياض صَحَابِيّ مجاشعي بَصرِي، كَانَ صديقا لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدِيما، وَله غير هَذَا الحَدِيث، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة عِيَاض بن حمَار غَيره، وَفِي أَفْرَاد الصَّحَابَة أَيْضا حمَار لقب الَّذِي كَانَ يُهْدي لرَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم العكة من السّمن وَالْعَسَل ويضحكه.
فَائِدَة ثَانِيَة: رَوَى مَالك بن عُمير عَن أَبِيه نَحوا من هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه: أنَّهُ سَأَلَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن اللّقطَة؛ فَقَالَ: «عرِّفها؛ فَإِن وجدت من يعرفهَا فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فاستمتع بهَا، وَأشْهد بهَا عَلَيْك، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فادفعها إِلَيْهِ، وَإِلَّا فَهُوَ مَال الله تَعَالَى يؤتيه من يَشَاء».
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة.

.الحديث الثَّالِث:

رُوي فِي بعض الْأَخْبَار: «من الْتقط لقطَة يسيرَة فليعرفها ثَلَاثَة أَيَّام».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه وَالْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من حَدِيث عمر بن عبد الله بن يعْلى، عَن جدَّته حُكيمة- بِضَم الْحَاء- عَن يعْلى بن مُرة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «من الْتقط لقطَة يسيرَة، حبلاً أَو درهما أَو شبه ذَلِك فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام؛ فَإِن كَانَ فَوق ذَلِك فليعرِّفْه سِتَّة أَيَّام» هَذَا لفظ الْبَيْهَقِيّ، وَلَفظ أَحْمد «من الْتقط لقطَة يسيرَة درهما أَو حبلاً أَو شبه ذَلِك فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن كَانَ فَوق ذَلِك فليعرفه سَبْعَة أَيَّام» وَلَفظ الطَّبَرَانِيّ: «من الْتقط لقطَة يسيرَة ثوب أَو شبهه فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام، وَمن الْتقط أَكثر من ذَلِك سِتَّة أَيَّام؛ فَإِن جَاءَ صَاحبهَا، وَإِلَّا فليتصدق بهَا، فَإِن جَاءَ صَاحبهَا فليخبره».
رَوَاهُ أَحْمد عَن يزِيد بن هَارُون، ثَنَا إِسْرَائِيل بن يُونُس، عَن عمر وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبيد الله بن مُوسَى، عَن إِسْرَائِيل، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن إِسْرَائِيل كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ عمر هَذَا، وَقد ضعفه يَحْيَى بن معِين، ورماه جرير بن عبد الحميد وغيرُه بِشرب الْخمر. وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِنَّه مَتْرُوك. وَجزم بضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا، وَقَالَ عبد الْحق: إِنَّه مُنكر الحَدِيث ضعيفه، ذكره ابْن أبي حَاتِم بعد أَن رَوَاهُ عَن حُكيمة عَن أَبِيهَا أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من الْتقط لقطَة يسيرَة درهما أَو حبلاً أَو شبه ذَلِك فليعرفه ثَلَاثَة أَيَّام» وَقَالَ: يُقَال: هِيَ حُكيمة بنت غيلَان الثقفية.
قلت: تروي عَن زَوجهَا يعْلى فَقَط، وَفِي مُسْند أَحْمد رِوَايَتهَا هَذَا الحَدِيث عَن أَبِيهَا يعْلى، وَهُوَ فِي الطَّبَرَانِيّ والْبَيْهَقِيّ رِوَايَته عَنْهَا عَن يعْلى، من غير تعْيين أَنه والدها، فَلْيتَأَمَّل ذَلِك. وَأما ابْن الْقطَّان: فَقَالَ فِي كِتَابه الْوَهم والإِيهام: حكيمة وأبوها مَجْهُولَانِ. وَهُوَ عجيبٌ مِنْهُ، وَتبع فِي ذَلِك ابْن حزم؛ فَإِنَّهُ لما ذكر هَذَا الحديثَ فِي محلاه قَالَ: لَا شَيْء، إِسْرَائِيل ضَعِيف، وَعمر بن عبد الله مَجْهُول، وحُكيمة عَن أَبِيهَا أنكر وَأنكر، ظلمات بَعْضهَا فَوق بعض. هَذَا لَفظه، وَقَوله فِي إِسْرَائِيل عَجِيب؛ فقد احْتج بِهِ الشَّيْخَانِ وَالنَّاس، وَرَوَاهُ عَنهُ يزِيد بن هَارُون وَعبيد الله بن مُوسَى، كَمَا سلف وَقَوله فِي عُمر أعجب مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَنهُ جماعات، نعم هُوَ ضَعِيف، وَقَوله فِي حكيمة قد عرفت مَا فِيهَا، وَقَوله فِي يعْلى أغرب وَأغْرب، فقد أسلفنا من عِنْد أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ أَنه يعْلى بن مُرَّة، وَهُوَ صَحَابِيّ مَشْهُور، وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث أَحْمد فِي مُسْنده كَمَا أسلفناه، وَتَبعهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جامعه.
وَكَأن الرَّافِعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ لمَّا استشعر ضعف هَذَا الحَدِيث قَالَ: إِنَّه رُوي فِي بعض الْأَخْبَار. وَتبع فِي ذَلِك الإِمَام؛ فَإِنَّهُ قَالَ فِي نهايته: إِن بعض المصنِّفين وعنى بِهِ الفوراني فِي الْإِبَانَة اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا إِن صَحَّ مُعْتَمد ظَاهر.

.الحديث الرَّابِع:

عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «مَا كَانَت الْأَيْدِي تقطع فِي عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الشَّيْء التافه».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي شيبَة من حَدِيثهَا أَنَّهَا قَالَت: «لم تكن تُقْطع يَد السَّارِق عَلَى عهد النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أدنَى من ثمن الْمِجَن ترس أَو حجفة، وكَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا ذُو ثمن، وَإِن يَد السَّارِق لم تكن تقطع فِي زمن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الشَّيْء التافه» وَرَوَاهُ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا إِلَى قَوْله: «ذُو ثمن» وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ الثَّانِي من كَلَام عُرْوَة، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا اللَّفْظ من قَول عُرْوَة، فقد رَوَاهُ عَبدة بن سُلَيْمَان، وميز كَلَام عُرْوَة من كَلَام عَائِشَة، فَجعل الْقطعَة الْأَخِيرَة من كَلَامه، والقطعة الأولَى من كَلَام رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
تَنْبِيه: وَقع فِي كَلَام ابْن معِين أَن حَدِيث عَائِشَة هَذَا رَوَاهُ مُسلم، وَمرَاده أَصله لَا كُله، وَوَقع فِي الْمُفْهم للقرطبي عزو حَدِيث: «لم يكن يَد السَّارِق تقطع فِي الشَّيْء التافه» إِلَى البُخَارِيّ، وَلَيْسَ هُوَ فِيهِ، وَإِنَّمَا فِيهِ أَصله كَمَا أعلمتك، فَتنبه لذَلِك.

.الحديث الخَامِس:

«أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجد دِينَارا، فَسَأَلَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَذَا رزقك؛ فاشتر بِهِ دَقِيقًا وَلَحْمًا. فَأكل مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وعليٌّ وَفَاطِمَة، ثمَّ جَاءَ صاحبُ الدِّينَار يُنشد الدِّينَار، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عَلّي، أَدِّ الدِّينَار».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث عبيد الله بن مقسم، عَن رجل، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وجد دِينَارا، فَأَتَى بِهِ فَاطِمَة فَسَأَلت عَنهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: هُوَ رزق الله فَأكل مِنْهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأكل عَلّي وفاطمةُ، فلمَّا كَانَ بعد ذَلِك أَتَتْهُ امْرَأَة تُنشد الدِّينَار، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عَلّي، أدِّ الدِّينَار».
وَرجل هَذَا مَجْهُول، لَا يعرف من هُوَ.
ثَانِيهَا: من حَدِيث بِلَال بن يَحْيَى الْعَبْسِي عَن عَلّي: «أَنه الْتقط دِينَارا فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا، فَعرفهُ صَاحب الدَّقِيق؛ فردَّ عَلَيْهِ الدِّينَار، فَأَخذه عَلّي فَقطع مِنْهُ قيراطين، فَاشْتَرَى بِهِ لَحْمًا».
وبلال هَذَا رَوَى عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مُرْسلا، وَعَن عمر بن الْخطاب، وَهُوَ مَشْهُور بالرواية عَن حُذَيْفَة، وَقيل عَنهُ بَلغنِي عَن حُذَيْفَة، وَفِي سَمَاعه مِنْ عَلّي نظر. قَالَه كُله الْمُنْذِرِيّ.
ثَالِثهَا: من حَدِيث مُوسَى بن يَعْقُوب الزمعِي عَن أبي حَازِم، عَن سهل بن سعد: «أَن عَلّي بن أبي طَالب دخل عَلَى فَاطِمَة، وَحسن وحسين يَبْكِيَانِ، فَقَالَ: مَا يبكيهما؟! قَالَت: الْجُوع! فَخرج عَلّي فَوجدَ دِينَارا بِالسوقِ، فجَاء إِلَى فَاطِمَة فَأَخْبرهَا، فَقَالَت: اذْهَبْ إِلَى فلَان الْيَهُودِيّ فَخذ لنا دَقِيقًا. فجَاء إِلَى الْيَهُودِيّ فَاشْتَرَى بِهِ دَقِيقًا، فَقَالَ الْيَهُودِيّ: أَنْت ختن هَذَا الَّذِي يزْعم أَنه رَسُول الله؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَخذ دينارك وَلَك الدَّقِيق. فَخرج عَلّي حَتَّى جَاءَ بِهِ فَاطِمَة فَأَخْبرهَا، فَقَالَت: اذْهَبْ إِلَى فلَان الجَزَّار فَخذ لنا مِنْهُ بدرهم لَحْمًا. فَذهب فرهن الدِّينَار بدرهم لحم، فجَاء بِهِ، فعجنت ونصبت وخبزت، وَأرْسلت إِلَى أَبِيهَا فَجَاءَهُمْ فَقَالَ: يَا رَسُول الله، أذكرُ لَك، فَإِن رَأَيْته حَلَالا أكلنَا وأكلت مَعنا، من شَأْنه كَذَا وَكَذَا فَقَالَ: كُلُوا بِسم الله. فَأَكَلُوا مِنْهُ، فَبينا هم مكانهم إِذا غلامٌ ينشد الله وَالْإِسْلَام الدِّينَار، فَأمر بِهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فدعي لَهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سقط مِني فِي السُّوق. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا عَلّي، اذْهَبْ إِلَى الجزار فَقل لَهُ: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لَك: أرسل إليَّ بالدينار ودرهمك عليَّ. فَأرْسل بِهِ، فَدفعهُ إِلَيْهِ». ومُوسَى هَذَا وَثَّقَهُ يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ وبرواياته عِنْدِي. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَذكره من هَذَا الطَّرِيق صاحبُ الْإِلْمَام.
وَله طَرِيق رَابِع: أخرجه عبد الرَّزَّاق عَن أبي بكر بن أبي سُبْرَة، عَن شريك بن عبد الله، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ: «أَن عليًّا جَاءَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِدِينَار وجده فِي السُّوق، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: عرِّفه ثَلَاثًا. فَفعل فَلم يجد أحدا يعرفهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كُله...» وَذكر الحَدِيث، وَفِي آخِره: «فَجعل أجل الدِّينَار وَشبهه ثَلَاثَة أَيَّام».
وَهَذَا إِسْنَاد واه، أَبُو بكر بن أبي سُبْرَة وضَّاع، كَمَا قَالَه أَحْمد وَغَيره، وَشريك هُوَ ابْن عبد الله بن أبي نمر، وَقد تُكلم فِيهِ، لكنه من رجال الصَّحِيحَيْنِ.
وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم من هَذَا الْوَجْه، فَقَالَ: أَنا الدَّرَاورْدِي، عَن شريك بن عبد الله بن أبي نمر، عَن عَطاء بن يسَار، عَن عَلّي: «أَنه وجد دِينَارا عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمره أَن يعرِّفه فَلم يُعرف، فَأمره أَن يَأْكُلهُ، ثمَّ جَاءَ صَاحبه، فَأمره أَن يغرمه».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: كَذَا فِي رِوَايَة الشَّافِعِي التَّعْرِيف، وَقد رُوي فِي حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَسَهل بن سعد مَا دلّ عَلَى أَنه فِي الْوَقْت اشْتَرَى بِهِ طَعَاما، ثمَّ فِي حَدِيث أبي سعيد «أَن امْرَأَة أَتَت تُنشد الدِّينَار» وَفِي حَدِيث سهل: «إِذا غُلَام ينشده، فَأمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ بِأَدَائِهِ» قَالَ: وَالْأَحَادِيث فِي اشْتِرَاط المُدَّة أَكثر وَأَصَح إِسْنَادًا من هَاتين الرِّوَايَتَيْنِ، وَلَعَلَّه إِنَّمَا أنفقهُ قبل مُضي مُدَّة التَّعْرِيف للضَّرُورَة، وَفِي حَدِيثهمَا مَا دلّ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي سنَنه: ظَاهر حَدِيث عَلّي هَذَا يدل عَلَى أَنه أنفقهُ قبل التَّعْرِيف فِي الْوَقْت قَالَ: وَقد روينَا عَن عَطاء بن يسَار، عَن عَلّي فِي هَذِه الْقِصَّة: «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ أمره أَن يعرِّفه فَلم يعْتَرف؛ فَأمره أَن يَأْكُلهُ» قَالَ: وَظَاهر تِلْكَ الرِّوَايَة أَنه شَرط التَّعْرِيف فِي الْوَقْت، وأباح أكله قبل مُضِي السَّنة، وَالْأَحَادِيث الَّتِي وَردت فِي اشْتِرَاط التَّعْرِيف سنة فِي جَوَاز الْأكل أصح وَأكْثر، فَهِيَ أولَى. قَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون إِنَّمَا أَبَاحَ لَهُ إِنْفَاقه قبل مُضِي سنة لوُقُوع الِاضْطِرَار إِلَيْهِ والقصة تدل عَلَيْهِ. قَالَ: وَيحْتَمل أَنه لم يشْتَرط مُضِي سَنَة فِي قَلِيل اللّقطَة. قَالَ: وَفِي متن هَذَا الحَدِيث اخْتِلَاف، وَفِي إِسْنَاده ضعف.
قلت: وَالِاحْتِمَال الأول جزم بِهِ القَاضِي أَبُو الطّيب، فَقَالَ: لَعَلَّ عليًّا لم يُعَرِّفه لاضطراره إِلَيْهِ، والمضطر يجوز لَهُ الِانْتِفَاع من مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه. وَقَالَ غَيرهمَا: لَعَلَّ تَأْوِيله أَن التَّعْرِيف لَيْسَ لَهُ صِيغَة يتعبد بهَا، فمراجعة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى مَلأ من النَّاس إعلانٌ بِهِ، وَهَذَا يُؤَكد الِاكْتِفَاء بالتعريف مَرَّةً وَاحِدَة، قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَإِنَّمَا أول لِأَنَّهُ لم يضر أحدا إِلَى إِسْقَاط أصل التَّعْرِيف.