فصل: الحديث التَّاسِع بعد الْعشْرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث العشْرُونَ:

عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ وخَالِد بن الْوَلِيد- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما- «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى بالسلب للْقَاتِل، وَلم يُخمس السَّلب».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن صَفْوَان بن عَمرو، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ وخَالِد... فَذكره. وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشاميين.
قلت: وَلم ينْفَرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، بل تَابعه عَلَيْهِ أَبُو الْمُغيرَة، رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَتَابعه أَيْضا الْوَلِيد بن مُسلم، قَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه: أبنا عمر بن مُحَمَّد الْهَمدَانِي، ثَنَا عَمرو بن عُثْمَان ثَنَا الْوَلِيد بن مُسلم، عَن صَفْوَان بن عَمرو، عَن عبد الرَّحْمَن بن جُبَير بن نفير، عَن أَبِيه، عَن عَوْف بن مَالك: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام لم يُخمس السَّلب».
وَرَوَاهَا أَيْضا الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه بِلَفْظ: «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام جعل السَّلب للْقَاتِل، وَلم يُخمسه» وَعَزاهَا صَاحب الْإِلْمَام إِلَى رِوَايَة الْحَافِظ أبي بكر البرقاني أَن عَوْف بن مَالك قَالَ: «إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يُخمس السَّلب».
وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظ ثَابت فِي صَحِيح مُسلم من هَذَا الْوَجْه فِي قصَّة طَوِيلَة بِلَفْظ: «قَالَ عَوْف: فقلتُ: يَا خَالِد، أمَا علمت أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى بالسلب للْقَاتِل؟ قَالَ: بلَى، وَلَكِنِّي استكثرته».
وَهِمَ المحبُّ الطَّبَرِيّ فَعَزاهُ إِلَى البُخَارِيّ أَيْضا، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.

.الحديث الحَادِي وَالثَّانِي وَالثَّالِث بعد العِشْرين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَتجوز قِسْمة الْغَنَائِم فِي دَار الْحَرْب من غير كَرَاهَة؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام قَسَّم غَنَائِم بدر بشِعْب مِنْ شعاب الصَّفْرَاء قريبٌ مِنْ بدر، وَقسم غَنَائِم بني المصطلق عَلَى مِيَاههمْ، وقسَّم غَنَائِم حُنَيْن بأوطاس وَهُوَ وَادي حُنَيْن، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا تُقَسَّم الْغَنَائِم بدار الْحَرْب. هَذَا آخرُ كَلَامه.
أما قِسْمَتُه عَلَيْهِ السَّلَام غَنَائِم بدر بشعب من شعاب الصَّفْرَاء قريبٌ من بدر فمشهور، وَمِمَّنْ ذكره ابْن إِسْحَاق، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فَقَالَ: «وَمَضَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فلمَّا خرج مِنْ مضيق يُقَال لَهُ: الصَّفْرَاء؛ خرج مِنْهُ عَلَى كثيب يُقَال لَهُ: سير، عَلَى مسيرَة لَيْلَة من بدر أَو أَكثر؛ فقسم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم النَّفْل بَين الْمُسلمين عَلَى ذَلِك الْكَثِيب». قَالَ الشَّافِعِي: وَمن حول سَير وَأَهله مشركون.
فَائِدَة: بدر عَلَى أَربع مراحل من الْمَدِينَة، وَكَانَت يَوْم الْجُمُعَة كَمَا ثَبت فِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود، وَأبْعد من قَالَ: كَانَت يَوْم الِاثْنَيْنِ. حَكَاهُ ابْن عَسَاكِر أَنَّهَا كَانَت يَوْم السبت، وَهُوَ غَرِيب جدًّا.
«قِسْمَتُه عَلَيْهِ السَّلَام غَنَائِم بني المصطلق عَلَى مِيَاههمْ» فَذكره الشافعيُّ فِي الْأُم فَقَالَ: وَقسم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمْوَال بني المصطلق وَسَبْيهمْ فِي الْموضع الَّذِي غنمها فِيهِ قبل أَن يتَحَوَّل مِنْهُ، وَمَا حوله كُله بِلَاد شرك، وَقسم أَمْوَال أهل بدر بسير عَلَى أميالٍ من بدر وَمن حول سير وَأَهله مشركون.
قَالَ: وَأكْثر مَا قسم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وأمراءُ سراياه مَا غنموا بِبِلَاد الْمغرب وَذَلِكَ مَعْرُوف عِنْد أَهله، لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ.
وَأما قسْمَة غَنَائِم حنين بأوطاس- وَهُوَ وَاد بهَا- فغريبٌ؛ وَإِنَّمَا قَسَّمَهَا بالجعرانة، كَمَا أخرجه البخاريُّ وغيرُه؛ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لمَّا نَصره الله بِحُنَيْن عَلَى هوَازن لم يصنع شَيْئا فِي أمْر الْغَنَائِم حَتَّى غزا الطائِفَ، ثمَّ عَاد ولمَّا يُفتح لَهُ، إِلَى أَن نزل بالجعرانة، فَأَتَاهُ هُنَاكَ وَفْدُ هوَازن مُسلمين داعيين، فخيَّرهم بَين عِيَالهمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَبَين أَمْوَالهم، فَاخْتَارُوا أَمْوَالهم، ثمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَام وَأَصْحَابه كلَّ ذَلِك عَلَيْهِم.. الْقِصَّة بِطُولِهَا، وَكَانَ سَبْيُ هوَازن سِتَّة آلَاف إِنْسَان.

.الحديث الرَّابِع بعد الْعشْرين:

«أَن السَّرَايَا كَانَت تخرج من الْمَدِينَة عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَتَغْنم وَلَا يشاركهم المقيمون بهَا».
هَذَا مَشْهُور مَعْرُوف، وَمِمَّنْ رَوَاهُ الربيعُ عَن الشَّافِعِي، كَمَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة عَنهُ.

.الحديث الخَامِس بعد الْعشْرين:

رُوي «أَن جَيش الْمُسلمين تفَرقُوا، فغنم بَعضهم بأوطاس وَبَعْضهمْ بحنين؛ فشركوهم».
هَذَا صَحِيح، قَالَ الشَّافِعِي- فِيمَا نَقله عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي السّنَن والْمعرفَة-: مَضَت خيل الْمُسلمين فَغنِمت بأوطاس غَنَائِم كَثِيرَة، وَأكْثر الْعَسْكَر بحُنَيْن، فشركوهم وهم مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ سَاق فِي السّنَن حَدِيث أبي مُوسَى الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ قَالَ: «لمَّا فرغ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم من حنين بعث أَبَا عَامر عَلَى جَيش أَوْطَاس، فلقي دُرَيْد بن الصمَّة، فَقتل دُرَيْد، وَهزمَ الله أَصْحَابه...» وَذكر الحَدِيث.

.الحديث السَّادِس بعد الْعشْرين:

عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ضرب للْفرس بسهمين، وللفارس بسَهْمٍ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَقَالا: «للرَّاجِل» بدل «للفارس».
وَقد أوضحت طرقه والجوابَ عمَّا عارَضَه فِي تَخْرِيج أَحَادِيث الْوَسِيط.

.الحديث السَّابِع بعد الْعشْرين:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْخَيل مَعْقُود فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة: الْأجر، والمغنم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث عُرْوَة بن الْجَعْد الْبَارِقي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأَخْرَجَاهُ أَيْضا من حَدِيث ابْن عمر، وَأنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَأخرجه ت س من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، د وَأَبُو مُسلم الْكَجِّي فِي سُنَنهمَا من حَدِيث عتبَة بن عَبدٍ السّلمِيّ، د م من رِوَايَة جرير، وَأحمد من حَدِيث أَسمَاء بنت يزِيد وَجَابِر، وَالْبَزَّار من حَدِيث حُذَيْفَة، وَأحمد من حَدِيث سَلمَة بن نفَيْل، وَابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث نعيم بن زِيَاد أَنه سمع أَبَا كَبْشَة بِزِيَادَة: «وَأَهْلهَا مُعَانون عَلَيْهَا، والمنْفِق عَلَيْهَا كالباسط يَده بِالصَّدَقَةِ». وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه من هَذِه الطَّرِيق، وَمن طَرِيق سوَادَة الْجرْمِي وَأبي أُمَامَة، وَأخرجه ابْن مَنْدَه فِي الصَّحَابَة، وابْن سعد فِي الطَّبَقَات من طَرِيق يزِيد بن عبد الله بن عريب الْمليكِي، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا.
فَهَؤُلَاءِ أَرْبَعَة عشر صحابِيًّا رووا هَذَا الْمَتْن عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَالَ الإِمَام أَبُو الْفضل: وَهُوَ من كَلَامه عَلَيْهِ السَّلَام البليغ، وتحسينه الْأَلْفَاظ العذبة السهلة بَعْضهَا بِبَعْض.

.الحديث الثَّامِن بعد الْعشْرين:

رُوي «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يُعطِ الزبير إِلَّا لفرس واحدٍ، وَقد حضر يَوْم خَيْبَر بأفراس».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم عَلَى مَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ، عَن عبد الْوَهَّاب الْخفاف عَن الْعمريّ عَن أَخِيه: «أَن الزبير وَافى بأفراسٍ يَوْم خَيْبَر، فَلم يُسْهم لَهُ إِلَّا لفرسٍ واحدٍ».
قَالَ الشَّافِعِي: وَحدث مَكْحُول عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَن الزبير حضر خَيْبَر بفرسين، فَأعْطَاهُ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة أسْهم؛ سَهْما لَهُ، وَأَرْبَعَة أسْهم لفرسَيِه»- فَهُوَ حَدِيث مُنْقَطع لَا تقوم بِهِ حُجَّة- قَالَ الشَّافِعِي: وَلَو كَانَ كَمَا حدث مَكْحُول «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام حضر خَيْبَر بفرسَيْن، وَأخذ خَمْسَة أسْهم» كَانَ وَلَده أعرف بحَديثه وأحرص عَلَى مَا فِيهِ زِيَادَة من غَيرهم.
قلت: وَفِي مُسْند أَحْمد وسنَن النَّسَائِيّ من حَدِيث يَحْيَى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن جده قَالَ: «ضرب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر للزبير أَرْبَعَة أسْهم، سَهْمًا للزبير، وسَهْمًا لذِي الْقُرْبَى لصفية بنت عبد الْمطلب أم الزبير وسهمين للْفرس».
تَنْبِيه: وَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ «حنين» بدل «خَيْبَر» وَهُوَ من تَحْرِيف النساخ؛ فاجتنبه.

.الحديث التَّاسِع بعد الْعشْرين:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَالَ أَحْمد: يعْطى لفرسَيْن وَلَا يُزَاد؛ لحديثٍ ورد فِيهِ، وَرَوَاهُ راوون قولا للشَّافِعِيّ.
هَذَا الحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، رَوَاهُ سعيد بن مَنْصُور فِي سنَنه عَلَى مَا ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه وغيرُه عَنهُ عَن ابْن عَيَّاش عَن الْأَوْزَاعِيّ: «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُسْهم للخيل، وَكَانَ لَا يُسهم للرجل فَوْقَ فرسَيْن وَإِن كَانَ مَعَه عشرَة أَفْرَاس».
وَهُوَ مُرْسل كَمَا ترَى؛ لكنه مُرْسل جَيِّد، فَإِنَّهُ من رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن الشاميين، وَهُوَ حجَّة إِذن.
وَذكره الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر بِغَيْر إِسْنَاد، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة عَنهُ، فَقَالَ: قَالَ الشَّافِعِي فِي رِوَايَة الرّبيع: وَلَيْسَ فِيمَا قلت من أَن لَا يُسهم إِلَّا لفرسٍ واحدٍ، وَلَا خِلَافه خبر يثبت مثله. قَالَ الْبَيْهَقِيّ:
وَفِيه أَحَادِيث مُنْقَطِعَة، أشبههَا أَن يكون ثَابتا. ثمَّ سَاق حديثَ يَحْيَى بن عباد بن عبد الله بن الزبير «أَن الزبير...» فَذكره كَمَا سبق، ثمَّ رَوَاهُ عَن جدّه كَمَا سبق، ثمَّ ذكر حديثَ مَكْحُول السَّابِق، وَكَذَا حَدِيث عبد الْوَهَّاب، ثمَّ قَالَ: ورُوي عَن عبد الله بن رَجَاء، عَن عبد الله بن عمر الْعمريّ عَن الزبير «أَنه غزا مَعَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بأفراس لَهُ فَلم يقسم إِلَّا لفرسين» والعمري غير مُحْتَج بِهِ، ورُوي عَن الْحسن عَن بعض الصَّحَابَة قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقسم إِلَّا لفرسين». وَهَذَا مُنْقَطع.
قلت: ورُوي مَوْقُوفا عَلَى عمر أَيْضا، قَالَ سعيد بن مَنْصُور: ثَنَا فرج بن فضَالة، ثَنَا مُحَمَّد بن الْوَلِيد الزبيدِيّ، عَن الزُّهْرِيّ «أَن عمر بن الْخطاب كتب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح: أَن أَسْهِمْ للْفرس سَهْمَيْنِ، وللفرسين أَرْبَعَة أسْهم، ولصاحبها سَهْما؛ فَذَلِك خَمْسَة أسْهم، وَمَا كَانَ فَوق الفرسين فَهِيَ جنائب».
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنِّه.

.وَأما آثاره:

فأحد عشر أثرا:

.أَحدهَا:

«أَن الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كَانَ يَأْخُذ من سهم ذَوي الْقُرْبَى، وَكَانَ غنيًّا».
هُوَ كَمَا قَالَ، وَقد تبع فِيهِ إِمَامه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَهَذَا نَصُّه: «فقد أعْطى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَا الْفضل الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب، وَهُوَ كَمَا وصُف فِي كَثْرَة المَال بقول عامَّة بني الْمطلب، ويتفضل عَلَى غَيرهم».

.الأُثر الثَّانِي:

يُرْوى «أَن الزبير كَانَ يَأْخُذ لأُمِّه».
هَذَا الْأَثر تبع فِيهِ الماروديَّ؛ فَإِنَّهُ قَالَ: «إِن الزبير كَانَ يَأْخُذ سهم أُمِّه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عَمَّةِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم». ولمَّا ذكر ابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة مقاسم خَيْبَر قَالَ: «ثمَّ قسم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الكتيبة بَيْنَ قرَابَته، وَبَين نِسَائِهِ، وَبَين رجالٍ من الْمُسلمين وَنسَاء، أَعْطَاهُم مِنْهَا، فقسم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لفاطمة ابْنَته مِائَتي وسق» وَذكر جمَاعَة، إِلَى أَن قَالَ: «ولأُمِّ الزبير أَرْبَعِينَ وسْقا». فَذكرهَا فِيمَن ذكر.

.الْأَثر الثَّالِث:

عَن ابْن عَبَّاس رَضِي اللهُ عَنْهما «أَن أهل الْفَيْء كَانُوا فِي زمَان رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بمعزل عَن الصَّدَقَة، وَأهل الصَّدَقَة كَانُوا بمعزل عَن الْفَيْء».
وَهَذَا رَوَاهُ الْمُزنِيّ عَن ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكره الرافعيُّ سَوَاء، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ فِي الْمعرفَة، ثمَّ قَالَ: وروينا عَن عُثْمَان بْنِ عَفَّان مَا دلَّ عَلَى ذَلِك.
قلت: وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث بُرَيْدَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَعْرَاب الْمُسلمين: «لَيْسَ لَهُم من الْفَيْء وَالْغنيمَة شَيْء، إِلَّا أَن يجاهدوا مَعَ الْمُسلمين».

.الْأَثر الرَّابِع:

عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: «كَانَ النَّاس يُعطون النَّفْل من الخُمْس».
وَهَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد أَنه سمع سعيد بن الْمسيب يَقُول... فَذكره. وَهُوَ فِي الأُمِّ كَذَلِك، وَذكره فِي الْمُخْتَصر بِغَيْر إسنادٍ.

.الْأَثر الْخَامِس:

عَن عُمر فِي تدوين الدَّوَاوِين.
وَهُوَ مَشْهُور عَنهُ، فِيمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من وَجه آخر ذكره عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة فليراجَعْ مِنْهُ.

.الْأَثر السَّادِس؛ إِلَى التَّاسِع:

«أَن أَبَا بكر وعليًّا ذَهَبا إِلَى التَّسْوِيَة بَين النَّاس فِي الْقِسْمَة، وَأَن عُمر كَانَ يفضِّل بَينهم» وَعَن عُثْمَان مثْله.
وَهَذِه الْآثَار ذكرهَا الشَّافِعِي، خلا أثر عُثْمَان، قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة: روينَا عَن عُثْمَان مَا دلَّ عَلَى ذَلِك.

.الْأَثر الْعَاشِر وَالْحَادِي عشر:

قَالَ الرَّافِعِيّ: رُوي مَرْفُوعا عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وموقوفًا عَلَى أبي بكر وَعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «أَن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة».
قلت: أما رَفعه فغريبٌ، كَمَا سلف فِي أثْنَاء الْبَاب. وَأما وقْفه عَلَيْهِمَا فَهُوَ الْمَعْرُوف، وَقد ذكره الشافعيُّ عَنْهُمَا، فَقَالَ: وَمَعْلُوم عِنْد غير واحدٍ مِمَّن لقِيت من أهل الْعلم بالغزوات أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «إِن الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة».
قَالَ الشَّافِعِي حِكَايَة عَن أبي يُوسُف: عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق، عَن يزِيد بن عبد الله بن قسيط: «أَن أَبَا بكر الصدِّيق بعث عِكْرِمَة بن أبي جهل فِي خَمْسمِائَة من الْمُسلمين مدَدا لزياد بن لبيد وللمهاجر بن أبي أُميَّة، فوافقهم الْجند قد افتتحوا النُّجَيْر بِالْيمن فَأَشْركهُمْ زِيَاد بن لبيد وَهُوَ مِمَّن شهد بَدْرًا فِي الْغَنِيمَة».
قَالَ الشَّافِعِي: «فَإِن زيادًا كتب فِيهِ إِلَى أبي بكر، فَكتب أَبُو بكر: إِنَّمَا الْغَنِيمَة لمن شهد الْوَقْعَة. وَلم يَرَ لعكرمة شَيْئا؛ لِأَنَّهُ لم يشْهد الْوَقْعَة، فَكلم زيادٌ أصحابَهُ، فطابوا أنفسًا بِأَن أشركوا عِكْرِمَة وَأَصْحَابه متطوعين عَلَيْهِم». وَهَذَا قولُنا.
وَحكي فِي الْقَدِيم- عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة عَنهُ- حَدِيث حجاج، عَن شُعْبَة، عَن قيس بن مُسلم، عَن طَارق بن شهَاب الأحمسي قَالَ: «أمدَّ أهلُ الْكُوفَة أهلَ الْبَصْرَة وَعَلَيْهِم عمار بن يَاسر؛ فَجَاءُوا وَقد غنموا، فَكتب عمرُ: أَن الْغَنِيمَة لمَنْ شهد الْوَقْعَة». قَالَ الشَّافِعِي: وَأما مَا رَوَاهُ أَبُو يُوسُف عَن المجالد، عَن عَامر وَزِيَاد بن علاقَة: «أَن عمر كتب إِلَى سعد بن أبي وَقاص: قد أمْدَدْتُك بقومٍ، فَمَنْ أَتَاك مِنْهُم قَبْلَ أَن تَفَقَّأ الْقَتْلَى فأشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَة». فَهُوَ غير ثَابت عَن عمر، وَلَو ثَبت عَنهُ كُنَّا أسْرع إِلَى قبُوله مِنْهُ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَهَذَا حَدِيث مُنْقَطع، وروايةُ مجَالد، وَهُوَ ضَعِيف، وَحَدِيث طَارق إِسْنَاده صَحِيح لَا شكّ فِيهِ. قَالَ الشافعيِ: وَقد رُوي عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم شيءٌ يَثْبُتُ فِي مَعْنَى مَا رُوِيَ عَن أبي بكرٍ وعُمر، لَا يَحْضُرُني حِفْظُهُ.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: أَرَادَ- وَالله أعلم- حديثَ أبي هُرَيْرَة فِي قصَّة أبان بن سعيد بن الْعَاصِ حِين قَدِمَ مَعَ أَصْحَابه عَلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِخَيْبَر بعد أَن فتحهَا، فَلم يقسم لَهُم.

.كتاب قسم الصَّدقَات:

كتاب قسم الصَّدقَات:
ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أحاديثَ وآثارًا:

.أما الْأَحَادِيث:

فَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا:

.الحديث الأول:

«أَن رجلَيْنِ أَتَيَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألانه الصَّدَقَة؛ فَقَالَ: إِن شئتما أعطيتكما، فَلَا حَظَّ فِيهَا لَغَنِيّ، وَلَا لذِي مرّة سوي» وَهِي الْقُوَّة، وَيروَى: «وَلَا لذِي قُوَّة مكتسب».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي الشافعيُّ وأحمدُ فِي مسنديهما، وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمْ بإسنادٍ صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث عبيد الله بن عدي بن الْخِيَار: «أَن رجلَيْنِ أخبراه: أَنَّهُمَا أَتَيَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يسألانه الصَّدَقَة، فَقَلَّبَ فيهمَا النّظر، ورآهما جَلِدَيْنِ فَقَالَ: إِن شِئتُما أعطيتكما، ولاحظَّ فِيهَا لغنيّ وَلَا لقويّ مكتسب».
هَذَا لفظ أَحْمد، وَلَفظ البَاقِينَ عَن عبيد الله الْمَذْكُور قَالَ: «أَخْبرنِي رجلَانِ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ فِي حَجَّة الْوَدَاع، وَهُوَ يُقَسِّم الصَّدَقَة، فَسَأَلَاهُ مِنْهَا، فَرفع فيهمَا النّظر وخفضه...» ثمَّ ذكرُوا الحديثَ كَمَا سلف.
وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي بَيَان الْمُشكل فَقَالَ: «رجلَانِ من قومِي» وَفِي روايةٍ: «جَلِدَيْن قَوِيَّيْن» وَفِي رِوَايَة للبيهقي: «فصعَّد فِينَا النظرَ وصوَّب» وَفِي رِوَايَة: «الْبَصَر» بدل «النّظر».
قَالَ أَحْمد: مَا أجوده من حديثٍ، وَقَالَ: هُوَ أحْسَنُهَا إِسْنَادًا. وَوَقع فِي المهذَّب: بدل «عدي» «عبد الله» وَهُوَ وهْم، كَمَا بَيَّنْتُه فِي تخريجي لأحاديثه. وَأما اللَّفْظ الأول، وَهُوَ: «وَلَا لذِي مرّة سويّ». فَلم أره فِي هَذَا الحَدِيث، نعم هُوَ فِي أَحَادِيث أُخر:
أَحدهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَة لغنيّ وَلَا لذِى مرّة سوىّ».
حَدِيث صَحِيح، كل رِجَاله ثِقَات، رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده والنسائى، وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمَا وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه وَرَوَاهُ جماعاتٌ عَن أبي هُرَيْرَة: أَبُو حَازِم وَأَبُو صَالح وَسَالم بن أبي الْجَعْد. وَقَالَ أَحْمد: سَالم لم يسمع من أبي هُرَيْرَة شَيْئا، وَطَرِيق أبي حَازِم وَأبي صَالح يقوِّيه. وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من طَرِيق أبي حَازِم، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قَالَ: وشاهدُه حديثُ عَبْدِ الله بن عَمْرو «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم...» فَذكره لكنه قَالَ: «لذِي مرّة قوي» بدل «مرّة سوي» وَهَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّانِي من الْأَحَادِيث الَّتِي أَشَرنَا إِلَيْهَا، وَهُوَ حَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد مَرْفُوعا وموقوفًا: وَأخرجه التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا وَقَالَ: حسن. وَذكر عَن شُعْبَة أَنه لم يرفعهُ.
قلت: وَمَعَ ذَلِك فَفِي إِسْنَاده ريحَان بن يزِيد قَالَ ابْن معِين وَابْن حبَان: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ: شيخ مَجْهُول.
ثَالِثهَا: وَهُوَ شَاهد لحَدِيث أبي هُرَيْرَة أَيْضا وَكَذَا مَا سأذكره بعد حَدِيث طَلْحَة بن عبيد الله رَفعه «لَا تحل الصَّدَقَة لغنى وَلَا لذِي مرّة سوي» سُئل عَنهُ الدَّارَقُطْنِيّ فَأجَاب فِي علله بِأَنَّهُ يرويهِ نَافِع عَن ابْن عمر عَنهُ، وَنَافِع عَن أسلم مولَى عمر، عَن طَلْحَة، قَالَ: وَالثَّانِي أشبه بِالصَّوَابِ.
رَابِعهَا: حَدِيث حبشِي بن جُنَادَة رَفعه «إِن الْمَسْأَلَة لَا تحل لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي إِلَّا لذِي فقر مدقع أَو غرم مفظع» رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب من هَذَا الْوَجْه.
قلت: وَفِيه مُجَاهِد هَذَا.
خَامِسهَا: حَدِيث جَابر قَالَ: «جَاءَت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة فَرَكبهُ النَّاس فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تصلح لَغَنِيّ، وَلَا لصحيح سوي، وَلَا لعامل قوي» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَفِي إِسْنَاده الْوَازِع بن نَافِع، وَقد ضَعَّفُوهُ.
سادسها: حَدِيث أبي زميل سماك، عَن رجل من بني هِلَال سَمِعت رَسُول الله يَقُول: «لَا تصلح الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي» رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده.
فَائِدَة: الْمرة- بِكَسْر الْمِيم- الْقُوَّة، كَمَا سلف عَن الرَّافِعِيّ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَأَصلهَا من شدَّة فتل الْحَبل.
والسوي الصَّحِيح الْأَعْضَاء، وَقَالَ الْهَرَوِيّ: «وَلَا لذِي مرّة سوي» أَي ذُو عقل وَشدَّة. وَقَالَ غَيره: هِيَ هَاهُنَا الْقُوَّة عَلَى الْكسْب وَالْعَمَل.

.الحديث الثَّانِي:

«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أعْطى لمن سَأَلَ الصَّدَقَة وَهُوَ غير زمن».
هُوَ كَمَا قَالَ، فَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث أنس بن مَالك قَالَ: «كنت أَمْشِي مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَلِيهِ رِدَاء نجراني غليظ الْحَاشِيَة، فأدركه أَعْرَابِي فجبذ بردائه جبذة شَدِيدَة- نظرت إِلَى صفحة عنق رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد أثرت بِهِ حَاشِيَة الرِّدَاء من شدَّة جبذته- ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد، مُرْ لي من مَال الله الَّذِي عنْدك. فَالْتَفت إِلَيْهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَضَحِك، ثمَّ أَمر لَهُ بعطاء» وَفِي رِوَايَة «ثمَّ جبذه إِلَيْهِ جبذة رَجَعَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نحر الْأَعرَابِي» وَفِي رِوَايَة «فجاذبه حَتَّى انْشَقَّ البرُد وَحَتَّى بقيت حَاشِيَته فِي عنق رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».

.الحديث الثَّالِث:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا تحل الصَّدَقَة إِلَّا لثَلَاثَة فَذكر رجلا أَصَابَته جَائِحَة فاجتاحت مَاله فَحلت لَهُ الصَّدَقَة حَتَّى يُصِيب سدادًا من عَيْش».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم كَمَا سلف بَيَانه وَاضحا فِي بَاب التَّفْلِيس لَكِن بِلَفْظ الْمَسْأَلَة فِي الثَّانِيَة.

.الحديث الرَّابِع وَالْخَامِس:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم استعاذ من الْفقر وَقَالَ: اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا».
أما استعاذته عَلَيْهِ السَّلَام من الْفقر فثابت، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الكسل والهرم، والمأثم والمغرم، وَمن فتْنَة الْقَبْر وَعَذَاب الْقَبْر، وَمن فتْنَة النَّار وَعَذَاب النَّار وَمن شَرّ فتْنَة الْغِنَى، وَمن شَرّ فتْنَة الْفقر، وَأَعُوذ بك من شَرّ فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال» وَفِي سنَن أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وصَحِيح ابْن حبَان وَالْحَاكِم وَقَالَ: إِنَّه صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْفقر والْقلَّة والذلة، وَأَعُوذ بك أَن أَظلم أَو أُظلم» وَفِي صحيحي ابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث أبي بكرَة «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَقُول فِي دبر الصَّلَاة: أعوذ بك من الْكفْر والفقر وَعَذَاب الْقَبْر»
قَالَ الْحَاكِم: هَذَا صَحِيح عَلَى شَرط مُسلم- فقد احْتج بِإِسْنَادِهِ سَوَاء «سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد خير فِيهَا من الْقَائِم» وَلم يخرجَاهُ.
وَأما قَوْله «اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا» فَأخْرجهُ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه فِي أَبْوَاب الزّهْد فِي بَاب مَا جَاءَ أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم من حَدِيث أنس أَن رَسُول قَالَ: «اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا، واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين يَوْم الْقِيَامَة. قَالَت عَائِشَة: لِمَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: إِنَّهُم يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِأَرْبَعِينَ خَرِيفًا، يَا عَائِشَة لَا تَرُدِّي الْمِسْكِين وَلَو بشق تَمْرَة، يَا عَائِشَة أحبي الْمَسَاكِين وقربيهم فَإِن الله يقربك يَوْم الْقِيَامَة» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غَرِيب.
قلت: وَضَعِيف أَيْضا قَالَ: فِي إِسْنَاده الْحَارِث بن النُّعْمَان اللَّيْثِيّ ابْن أُخْت سعيد بن جُبَير، قَالَ أَبُو حَاتِم فِيهِ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُنكر الحَدِيث. قلت: لَكِن لَهُ شَاهد من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي أَبْوَاب الزّهْد من سنَنه فِي بَاب مجالسة الْفُقَرَاء قَالَ: «أَحبُّوا الْمَسَاكِين فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين» وَإِسْنَاده أَيْضا ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ من رِوَايَة يزِيد بن سِنَان الرهاوي- وَقد ضَعَّفُوهُ- عَن أبي الْمُبَارك- وَهُوَ مَجْهُول، كَمَا قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ وَالتِّرْمِذِيّ، لَكِن ذكره ابْن حبَان فِي الثِّقَات- عَن عَطاء، عَن أبي سعيد عَنهُ. وغلا ابْن الْجَوْزِيّ فَذكر حَدِيث أبي سعيد هَذَا وَحَدِيث أنس السالف فِي مَوْضُوعَاته وَعلله بِمَا ذَكرْنَاهُ وَلم يذكر تَوْثِيق أبي الْمُبَارك، وَإِنَّمَا اقْتصر عَلَى من جَهله، وَالْحق أَن يذكر فِي الْأَحَادِيث الضعيفة، وَقد أخرجه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه- وَكَذَا أَعنِي حَدِيث أبي سعيد- بِدُونِ ذكر هذَيْن الرجلَيْن، وَحكم بِصِحَّتِهِ، قَالَ فِي أَوَائِل مُسْتَدْركه فِي أثْنَاء كتاب الرقَاق: حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْقَارئ، ثَنَا عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ، ثَنَا أَبُو أَيُّوب سُلَيْمَان بن عبد الرَّحْمَن الدِّمَشْقِي، ثَنَا خَالِد بن يزِيد بن أبي مَالك، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «أحيني مِسْكينا وتوفني مِسْكينا واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين، وَإِن أَشْقَى الأشقياء من اجْتمع عَلَيْهِ فقر الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة» ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ.
قلت: لَكِن هَذَا مُخْتَلف فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى تَضْعِيفه، وَله شَاهد من حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت قَالَ: «كَانَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: اللَّهُمَّ أحيني مِسْكينا واحشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مُوسَى بن مُحَمَّد مولَى عُثْمَان بن عَفَّان، ثَنَا معقل بن زِيَاد أبنا عبد الله بن زِيَاد ثَنَا جناد بن أبي أُميَّة قَالَ: سَمِعت عبَادَة... فَذكره، وَرَوَى حَدِيث أبي سعيد السالف بِسَنَد الْحَاكِم لَكِن بمتابع قَالَ: أبنا أَبُو الْحُسَيْن بن الْفضل الْقطَّان بِبَغْدَاد، أَنا أَبُو سهل بن زِيَاد بن الْقطَّان، ثَنَا مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل التِّرْمِذِيّ، ثَنَا سُلَيْمَان بن شُرَحْبِيل، ثَنَا خَالِد بن يزِيد بن أبي مَالك، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن أبي رَبَاح قَالَ: سَمِعت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ يَقُول: «يَا أَيهَا النَّاس، اتَّقوا الله، وَلَا تحملنكم الْغيرَة عَلَى أَن تَطْلُبُوا الرزق من غير حلّه، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: اللَّهُمَّ احشرني فِي زمرة الْمَسَاكِين وَلَا تحشرني فِي زمرة الْأَغْنِيَاء، فَإِن أَشْقَى الأشقياء من اجْتمع عَلَيْهِ فقر الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة». قَالَ الْبَيْهَقِيّ. قَالَ أَصْحَابنَا: فقد استعاذ عَلَيْهِ السَّلَام من الْفقر. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ فِي حَدِيث شَيبَان عَن قَتَادَة، عَن أنس، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم «أَنه استعاذ من المسكنة والفقر» فَلَا يجوز أَن يكون استعاذته من الْحَال الَّتِي شرفها فِي أَخْبَار كَثِيرَة، وَلَا من الْحَال الَّتِي سَأَلَ أَن يَحْيَى ويُثَاب عَلَيْهَا، وَلَا يجوز أَن يكون مَسْأَلته مُخَالفَة لما مَاتَ عَلَيْهِ السَّلَام فقد مَاتَ مكفيًا بِمَا أَفَاء الله عَلَيْهِ. قَالَ: وَوجه هَذِه الْأَحَادِيث عِنْدِي وَالله أعلم، أَنه استعاذ من فتْنَة الْفقر والمسكنة اللَّذين يرجع مَعْنَاهُمَا إِلَى الْقلَّة كَمَا استعاذ من فتْنَة الْغِنَى. قَالَ: وَذَلِكَ بَين، ثمَّ رَوَى بِإِسْنَادِهِ حَدِيث عَائِشَة السالف ثمَّ قَالَ: وَفِيه دلَالَة عَلَى أَنه إِنَّمَا استعاذ من فتْنَة الْفقر دون حَال الْفقر، وَمن فتْنَة الْغِنَى دون حَال الْغِنَى. قَالَ: وَأما قَوْله: «أحيني مِسْكينا وأمتني مِسْكينا» فَهُوَ إِن صَحَّ طَرِيقه فَفِيهِ نظر، فَالَّذِي يدل عَلَيْهِ حَاله عِنْد وَفَاته أَنه لم يسْأَل حَال المسكنة الَّتِي يرجع مَعْنَاهَا إِلَى الْقلَّة إِنَّمَا سَأَلَ المسكنة الَّتِي يرجع مَعْنَاهَا إِلَى الإخبات والتواضع فَكَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام سَأَلَ الله تَعَالَى أَن لَا يَجعله من الجبارين المتكبرين وَأَن لَا يحشره فِي زمرة الْأَغْنِيَاء المسرفين. قَالَ القيبي: والمسكنة حرف مَأْخُوذ من السّكُون، يُقَال: «تمسكن الرجل» إِذا لَان وتواضع وخشع، وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام للْمُصَلِّي: «تبأس وتمسكن» يُرِيد تخشع وتواضع لله.