فصل: الحديث الثَّالِث:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الثَّانِي:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم تحلل بالإحصار عَام الْحُدَيْبِيَة وَكَانَ محرما بِعُمْرَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث ابْن عمر رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «خرجنَا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فحال كفار قُرَيْش دون الْبَيْت، فَنحر النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم هداياه، وَحلق وَقصر أَصْحَابه». وَمن حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: «أحْصر النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فحلق رَأسه وجامع نِسَاءَهُ وَنحر هَدْيه حَتَّى اعْتَمر قَابلا» قَالَ الشَّافِعِي: وَالْحُدَيْبِيَة مَوضِع من الأَرْض مِنْهُ مَا هُوَ فِي الْحل وَمِنْه مَا هُوَ فِي الْحرم فَإِنَّمَا نحر الْهَدْي عندنَا فِي الْحل وَفِيه مَسْجِد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي بُويِعَ فِيهِ تَحت الشَّجَرَة فَأنْزل الله فِيهِ لقد رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة.
فَائِدَة: الْحُدَيْبِيَة بتَخْفِيف الْيَاء وتشديدها كَمَا سلف وَكَانَت قصَّة الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة.

.الحديث الثَّالِث:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لضباعة بنت الزبير: أَتُرِيدِينَ الْحَج؟ فَقَالَت: أَنا شاكية، فَقَالَ: حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث عَائِشَة رَضي اللهُ عَنها قَالَت: «دخل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى ضباعة بنت الزبير فَقَالَ لَهَا: لَعَلَّك أردْت الْحَج؟ فَقَالَت: وَالله مَا أجدني إلاَّ وجعة. فَقَالَ: حجي واشترطي، وَقَوْلِي: اللَّهُمَّ محلي حَيْثُ حبستني وَكَانَت تَحت الْمِقْدَاد» وَفِي رِوَايَة لمُسلم قَالَت عَائِشَة: دخل النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد الْحَج وَأَنا شاكية. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «حجي واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني» وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس أَيْضا «أَن ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب أَتَت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: إِنِّي امْرَأَة ثَقيلَة، وَإِنِّي أُرِيد الْحَج، فَمَا تَأْمُرنِي؟ قَالَ: أَهلِي بِالْحَجِّ واشترطي أَن محلي حَيْثُ حبستني. قَالَ: فأدركت».
وَفِي رِوَايَة «أَن ضباعة أَرَادَت الْحَج، فَأمرهَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تشْتَرط. فَفعلت ذَلِكَ عَن أَمر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ بأسانيد صَحِيحَة «أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِنِّي أُرِيد الْحَج أفأشترط؟ قَالَ: نعم. قَالَت: كَيفَ أَقُول؟ قَالَ: قولي: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، محلي من الأَرْض حَيْثُ تحبسني» زَاد النَّسَائِيّ: «فَإِن لَك عَلَى رَبك مَا استثنيت» قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي علله: إِنَّه رُوِيَ مُسْندًا ومرسلاً وَهُوَ أصح. وَقَالَ الْأصيلِيّ: لَا يثبت فِي الِاشْتِرَاط إِسْنَاد صَحِيح. وَهُوَ عجب مِنْهُ؛ فَالْحَدِيث مَشْهُور ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَسنَن أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَسَائِر كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة من طرق مُتعَدِّدَة بأسانيد كَثِيرَة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَا أعلم أسْندهُ عَن الزُّهْرِيّ غير معمر. وَقَالَ فِي مَوضِع آخر: لم يسْندهُ عَن معمر غير عبد الرَّزَّاق فِيمَا أعلم. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي كتاب الْمَنَاسِك وَهُوَ من الْجَدِيد: لَو ثَبت حَدِيث عُرْوَة عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الِاسْتِثْنَاء لم أعده إِلَى غَيره؛ لِأَنَّهُ لَا يحل عِنْدِي خلاف مَا ثَبت عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد ثَبت هَذَا الحَدِيث من أوجه عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. ثمَّ ذكر مَا سبق، وَقَالَ الْعقيلِيّ: رَوَى ابْن عَبَّاس قصَّة ضباعة بأسانيد ثَابِتَة جِيَاد انْتَهَى. وَثَبت عَن ابْن عمر «أَنه كَانَ يُنكر الِاشْتِرَاط فِي الْحَج» كَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: عِنْدِي أَنه لَو بلغه حَدِيث ضباعة لصار إِلَيْهِ وَلم يُنكر الِاشْتِرَاط كَمَا لم يُنكره أَبوهُ فِيمَا روينَا عَنهُ.
فَائِدَة: محلي- بِكَسْر الْحَاء- أَي مَكَان محلي، هُوَ الْمَكَان الَّذِي حَبَسَنِي فِيهِ الْمَرَض.
وضباعة- بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة، وَبعدهَا بَاء مُوَحدَة، وَبعد الْألف عين مُهْملَة، وتاء تَأْنِيث- لَهَا صُحْبَة، وَهِي بنت عَم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وكنيتها أم حَكِيم، كَذَلِك ذكر كنيتها الشَّافِعِي فِيمَا رَوَاهُ عَنهُ الْبَيْهَقِيّ فِي مناقبه وَقَول الْغَزالِيّ فِي وسيطه: ضباعة الأسْلَمِيَّة غلط، كَمَا نبه عَلَيْهِ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه ومَجْمُوعَة، وَصَوَابه الهاشمية، فَإِنَّهَا ضباعة بنت الزبير بن عبد الْمطلب بن هَاشم بنت عَم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.

.الحديث الرَّابِع:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أُحصر عَام الْحُدَيْبِيَة فذبح بهَا وَهِي من الْحل».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف، وَسلف كَلَام الشَّافِعِي أَيْضا فِيهِ.

.الحديث الخَامِس:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر سَعْدا أَن يتَصَدَّق عَن أمه بعد مَوتهَا».
هَذَا مَرْوِيّ من طَرِيقين إِحْدَاهمَا: عَن الْحسن الْبَصْرِيّ عَن سعد بن عبَادَة «أَن أمه مَاتَت فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أفأتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. فَتلك سِقَايَة سعد بِالْمَدِينَةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَهُوَ مُرْسل، الْحسن لم يدْرك سَعْدا فَإِن الْحسن ولد سنة إِحْدَى وَعشْرين، وَسعد بن عبَادَة أقل مَا فِيهِ أَنه توفّي سنة خمس عشرَة، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من هَذِه الطَّرِيق، وَهَذَا لَفظه: «يَا رَسُول الله، دلَّنِي عَلَى صَدَقَة؟ قَالَ: اسْقِ المَاء» وَفِيه مبارك بن فضَالة، ضعفه أَحْمد وَالنَّسَائِيّ، وَكَانَ يُدَلس.
ثَانِيهمَا: عَن سعيد بن الْمسيب عَن سعد بن عبَادَة: «أَنه أَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أفأتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَابْن حبَان بِلَفْظ: «قلت: يَا رَسُول الله، أَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء» وَهُوَ مُرْسل أَيْضا، سعيد لم يدْرك سَعْدا، قَالَه يَحْيَى الْقطَّان فَإِن سعيدًا ولد سنة خمس عشرَة، وَتُوفِّي سعد بن عبَادَة بِالشَّام سنة خَمْسَة عشرَة وَقيل: سنة أَربع عشرَة. وَقيل سنة إِحْدَى عشرَة، فَكيف يُدْرِكهُ. قَالَه الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد الْمُنْذِرِيّ وَغَيره، وَأما الْحَافِظ ضِيَاء الدَّين الْمَقْدِسِي فِي أَحْكَامه، فَقَالَ: أَظُنهُ أدْركهُ. وَلَعَلَّه أَخذه من تَصْحِيح ابْن حبَان بحَديثه هَذَا من الطَّرِيق الْمَذْكُور، فَإِن من شَرطه الِاتِّصَال كَمَا شَرط فِي خطْبَة كِتَابه، وَأخرجه الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه من الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورين، فَأخْرجهُ من حَدِيث قَتَادَة، عَن سعيد بن الْمسيب، وَالْحسن، عَن سعد بن عبَادَة «أَنه أَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَي الصَّدَقَة أعجب إِلَيْك؟ قَالَ: سقِِي المَاء» ذكر لَهُ مُتَابعًا من حَدِيث قَتَادَة عَن سعيد «أَن سَعْدا....» الحَدِيث، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. قلت: وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده وَفِيه سَمِعت الْحسن يحدث عَن سعد بن عبَادَة- وَهُوَ غَرِيب- «أَن أمه مَاتَت فَقَالَ: يَا رَسُول الله، إِن أُمِّي مَاتَت أَتصدق عَنْهَا؟ قَالَ: نعم. قَالَ: فَأَي الصَّدَقَة أفضل؟ قَالَ: سقِِي المَاء. قَالَ فَتلك سِقَايَة سعد بِالْمَدِينَةِ» قلت: وَله طَرِيق ثَالِث من حَدِيث حميد بن أبي الصعب عَن سعد بن عبَادَة «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: يَا سعد، أَلا أدلك عَلَى صَدَقَة يسيرَة مؤنتها، عَظِيم أجرهَا؟ قَالَ: بلَى. قَالَ: سقِِي المَاء. فسقى سعد المَاء» رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث ضرار بن صرد أبي نعيم الطَّحَّان ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد، عَن عمَارَة بن غزيَّة، عَن حميد، وَضِرَار هَذَا مَتْرُوك.
فَائِدَة: اسْم أم سعد عمْرَة بنت مَسْعُود بن قيس بن عَمْرو بن زيد مَنَاة بن عدي بن عَمْرو بن مَالك بن النجار، قَالَه ابْن حبَان فِي ثقاته، وَكَذَا ذكره ابْن باطيش وَغَيره أَن اسْمهَا عمْرَة بنت مَسْعُود، أسلمت وبايعت وَتوفيت سنة خمس.

.الحديث السَّادِس:

رُوِيَ «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي امْرَأَة لَهَا زوج وَلها مَال وَلَا يَأْذَن لَهَا زَوجهَا فِي الْحَج لَيْسَ لَهَا أَن تَنْطَلِق إِلَّا بِإِذن زَوجهَا».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه عَن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد القرميسيني، ثَنَا الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن مجاشع، ثَنَا مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب، ثَنَا حسان بن إِبْرَاهِيم، ثَنَا إِبْرَاهِيم الصَّائِغ قَالَ: قَالَ نَافِع، عَن ابْن عمر... فَذكره مَرْفُوعا بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور سَوَاء، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أَصْغَر معاجمه كَذَلِك ثمَّ قَالَ: لم يروه عَن إِبْرَاهِيم إِلَّا حسان، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وخلافياته كَذَلِك وَقَالَ فِي مَعْرفَته: تفرد بِهِ حسان.
قلت: لَا يضرّهُ فقد أخرج لَهُ الشَّيْخَانِ وَهُوَ ثِقَة، وَإِن قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَأعله عبد الْحق بِأَن قَالَ فِي إِسْنَاده: رجل مَجْهُول يُقَال لَهُ مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب الْكرْمَانِي رَوَاهُ عَن حسان بن إِبْرَاهِيم الْكرْمَانِي قَالَ ابْن الْقطَّان: تبع فِي ذَلِكَ أَبَا حَاتِم الرَّازِيّ نصًّا وَالْبُخَارِيّ إِشَارَة، ورد الْخَطِيب عَلَى البُخَارِيّ وبيَّن أَنه مُحَمَّد بن إِسْحَاق بن يَعْقُوب الْكرْمَانِي وَهُوَ ثِقَة وَثَّقَهُ ابْن معِين، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي جامعه قَالَ: وَالْبُخَارِيّ فِي تَارِيخه وهِم فِي ذَلِكَ فَجَعلهَا ترجمتين مُحَمَّد بن أبي يَعْقُوب الْكرْمَانِي وَمُحَمّد بن إِسْحَاق بن أبي يَعْقُوب الْكرْمَانِي. قَالَ الْخَطِيب: وهما وَاحِد. قَالَ ابْن الْقطَّان: فَإِذا ثَبت هَذَا عرف أَن هَذِه الْعلَّة كَلَا عِلة وَإِنَّمَا الْعلَّة الْجَهْل بِحَال الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن مجاشع فَإِنَّهُ لَا يعرف حَاله.
قلت: وَتَابعه أَحْمد بن مُحَمَّد الْأَزْرَقِيّ كَمَا أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من حَدِيثه عَن حسان بِهِ وَلم يعله الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقَته بل بوب لَهُ وَاحْتج بِهِ.

.الحديث السَّابِع:

«أَن رجلا اسْتَأْذن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجِهَاد فَقَالَ: أَلَك أَبَوَانِ؟ قَالَ: نعم. قَالَ: استأذنتهما؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ففيهما فَجَاهد».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ رَضي اللهُ عَنهما قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فاستأذنه فِي الْجِهَاد، فَقَالَ: أحيّ والداك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: ففيهما فَجَاهد» وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان «أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول الله، أتأذن لي فِي الْجِهَاد؟ قَالَ: أَلَك والدان؟ قَالَ: نعم. قَالَ: اذْهَبْ فبرهما. فَذهب وَهُوَ يحمل الركاب» وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه «إِنِّي جِئْت أُرِيد الْجِهَاد مَعَك وَلَقَد أتيت وَإِن والديَّ يَبْكِيَانِ. قَالَ: فَارْجِع فأضحكهما كَمَا أبكيتهما» وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم ابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه بِهَذَا اللَّفْظ الْأَخير إِلَّا أَنَّهُمَا قَالَا «الْهِجْرَة» بدل الْجِهَاد ثمَّ قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: لَكِن فِي سَنَده عَطاء بن السَّائِب وَقد أسلفنا فِي بَاب الْأَحْدَاث أَنه تغير بِأخرَة وَأَن جَمِيع من رَوَى عَنهُ رَوَى عَنهُ فِي الِاخْتِلَاط إِلَّا شُعْبَة وسُفْيَان وَغَيرهمَا من الأكابر كَمَا عَيناهُ هُنَاكَ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَة سُفْيَان عَنهُ عِنْد أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالْحَاكِم، وَمن رِوَايَة شُعْبَة عَنهُ عِنْد الْحَاكِم أَيْضا، وَمن رِوَايَة عبد الرَّحْمَن الْمحَاربي عَنهُ عِنْد ابْن مَاجَه، وَمن رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَنهُ عِنْد أَحْمد وَمن رِوَايَة ابْن جريج عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَابْن عُيَيْنَة وَحَمَّاد بن سَلمَة عَنهُ، وَرَوَى نَحوه أَبُو دَاوُد وَابْن حبَان من رِوَايَة أبي سعيد، وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن جاهمة، ورواهما الْحَاكِم وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
قلت: فِي الأول دراج وَقد ضَعَّفُوهُ، لَكِن التِّرْمِذِيّ صحّح حَدِيثه فَلَهُمَا بِهِ أُسْوَة، وَقَالَ ابْن الْقطَّان: الْحق أَنَّهَا حسان لِأَنَّهُ مُخْتَلف فِيهِ.

.الحديث الثَّامِن:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْحَج عَرَفَة، من لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس وَابْن عمر مَرْفُوعا وَلَفظه فِي الأول: «من فَاتَهُ عَرَفَات فَاتَهُ الْحَج فليحلل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل». وَلَفظه فِي الثَّانِي: «من فَاتَهُ عَرَفَات بلَيْل فقد فَاتَهُ الْحَج» وَضعفهمَا ابْن الْجَوْزِيّ فِي تَحْقِيقه فَقَالَ: هَذَانِ الحديثان ضعيفان، فِي الأول يَحْيَى بن عِيسَى، وَتفرد بِالثَّانِي رَحْمَة بن مُصعب، قَالَ يَحْيَى بن معِين: ليسَا بِشَيْء. فَأَما تَعْلِيله بِيَحْيَى بن عِيسَى فَلَيْسَ بجيد فَإِنَّهُ من رجال مُسلم وَهُوَ صَدُوق، وَلكنه يهم، وَضَعفه يَحْيَى بن معِين، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، ويروي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن أبي لَيْلَى. وَهُوَ صَدُوق سيئ الْحِفْظ. وَأما تَعْلِيله برحمة بن مُصعب فَأصَاب فِيهِ، وَرَوَاهُ عَن ابْن أبي لَيْلَى أَيْضا، وَأما ابْن الْقطَّان فَقَالَ: رَحْمَة هَذَا لَا أعرفهُ مَذْكُورا كَمَا سَاقه الدَّارَقُطْنِيّ، فَإِنَّهُ كناه فِي الْإِسْنَاد أَبَا هَاشم ونعته بالفراء. وَإِنَّمَا ذكر الْعقيلِيّ رَحْمَة بن مُصعب أَبَا مُصعب الوَاسِطِيّ وسَاق عَن ابْن معِين أَنه قَالَ: لَيْسَ بِشَيْء. يحدث عَن عزْرَة بن ثَابت، رَوَى عَنهُ الْقَاسِم بن عِيسَى، فَالَّذِي فِي الْإِسْنَاد مَجْهُول- وَالله أعلم- إِن كَانَ هُوَ إِيَّاه، وَدَاوُد بن جُبَير الرَّاوِي عَنهُ لَا أعرفهُ أَيْضا مَذْكُورا، ولسعيد بن جُبَير أَخ يُقَال لَهُ: دَاوُد بن جُبَير، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال أَيْضا، وَلَيْسَت هَذِه طبقته قلت: وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه من حَدِيث القعْنبِي، ثَنَا عمر بن قيس، عَن عَطاء، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: «من أدْرك عَرَفَة قبل طُلُوع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج» وَعمر هَذَا هُوَ سندول، وَيُقَال: سندل تَرَكُوهُ، وَقَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الشَّافِعِي، أبنا أنس بن عِيَاض، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: «من أدْرك لَيْلَة النَّحْر من الْحَاج فَوقف بجبال عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد أدْرك الْحَج، وَمن لم يدْرك عَرَفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج فليأت الْبَيْت فليطف بِهِ سبعا، وَيَطوف بَين الصَّفَا والمروة سبعا، ثمَّ ليحلق أَو يقصر إِن شَاءَ، وَإِن كَانَ مَعَه هَدْيه فلينحره قبل أَن يحلق، فَإِذا فرغ من طَوَافه وسعيه فليحلق أَو يقصر ثمَّ ليرْجع إِلَى أَهله، فَإِن أدْركهُ الْحَج من قَابل فليحج إِن اسْتَطَاعَ وليهد، فَإِن لم يجد هَديا فليصم عَنهُ ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ لأَهله».

.الحديث التَّاسِع:

«أَن الَّذين صدوا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحُدَيْبِية كَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة، وَالَّذين اعتمروا مَعَه فِي عمْرَة الْقَضَاء كَانُوا نَفرا يَسِيرا وَلم يَأْمر النَّاس بِالْقضَاءِ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم بِالْعُمْرَةِ سنة سِتّ وَمَعَهُ ألف وَأَرْبَعمِائَة، ثمَّ عَاد فِي السّنة الْآخِرَة وَمَعَهُ جمع يسير» قَالَ الْبَيْهَقِيّ قَالَ الشَّافِعِي، قَالَ الله تَعَالَى-: فَإِن أحصرتم فَمَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي، وَلم يذكر قَضَاء. قَالَ: وَالَّذِي أَعقل فِي أَخْبَار أهل الْمَغَازِي شَبيه مَا ذكرت من ظَاهر الْآيَة، وَذَلِكَ أَنا قد علمنَا فِي متواطئ أَحَادِيثهم أَن قد كَانَ مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَام الْحُدَيْبِيَة رجال معروفون بِأَسْمَائِهِمْ، ثمَّ اعْتَمر رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عمْرَة الْقَضِيَّة، وتخلف بَعضهم بِالْمَدِينَةِ من غير ضَرُورَة، وَلَو لَزِمَهُم الْقَضَاء لأمرهم رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن شَاءَ الله- بِأَن لَا يتخلفوا عَنهُ. وَقَالَ الإِمَام مَالك بِنَحْوِ مِمَّا قَالَه الشَّافِعِي، قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَأكْثر مَا قيل: إِن الَّذين اعتمروا مَعَه فِي الْعَام الْقَابِل سَبْعمِائة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَأكْثر الرِّوَايَات أَن أهل الْحُدَيْبِيَة كَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة. وَيُؤَيّد مَا قَالَه مَا رَوَى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن جَابر قَالَ: «قَالَ لنا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنْتُم خير أهل الأَرْض، وكنّا ألفا وَأَرْبَعمِائَة» وَقيل: كَانُوا ألفا وَخَمْسمِائة وَصَححهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَقيل: كَانُوا ألفا وثلاثمائة، وَقد رويت هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث فِي الصَّحِيح، وَكَانَت عمْرَة الْقَضَاء، وَيُقَال لَهَا: الْقَضِيَّة، فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ، فصده الْمُشْركُونَ فَصَالحهُمْ وقاضى سُهَيْل بن عَمْرو عَلَى الْهُدْنَة، ثمَّ اعْتَمر فِي السّنة السَّابِعَة، وَقيل لَهَا: عمْرَة الْقَضَاء والقضية؛ لمقاضاة سُهَيْل بن عَمْرو، لَا أَنَّهَا قَضَاء عمْرَة سنة سِتّ لما ذَكرْنَاهُ، وَوَقعت عمْرَة سنة سبع فرضا، وَأما سنة سِتّ فحسبت عمْرَة فِي الثَّوَاب، فقد جَاءَت الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بِأَن عمره عَلَيْهِ السَّلَام أَربع:- مِنْهَا- عمْرَة الْحُدَيْبِيَة سنة سِتّ، وَعمرَة الْقَضَاء سنة سبع، وَعمرَة الْجِعِرَّانَة سنة ثَمَان، وَعمرَة مَعَ حجَّته سنة عشر كَمَا سلف فِي بَاب الْمَوَاقِيت.

.الحديث العَاشِر:

حَدِيث كَعْب بن عجْرَة «أَنه عَلَيْهِ السَّلَام رَآهُ وَرَأسه يتهافت قملاً».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف فِي الْبَاب قبله.

.الحديث الحَادِي عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من رَاح فِي السَّاعَة الأولَى فَكَأَنَّمَا قرب بَدَنَة، وَمن رَاح فِي السَّاعَة الثَّانِيَة فَكَأَنَّمَا قرب بقرة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح كَمَا سلف وَاضحا فِي بَاب صَلَاة الْجُمُعَة.

.الحديث الثَّانِي عشر:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشَارَ إِلَى مَوضِع النَّحْر من منى، وَقَالَ: هَذَا المنحر وكل فجاج مَكَّة منحر».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث جَابر، قَالَ: «لما وقف رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة، وَقَالَ: وقفت هَاهُنَا وعرفة كلهَا موقف، ووقفت هَاهُنَا بِجمع وَجمع كلهَا موقف، ونحرت هَاهُنَا وَمنى كلهَا منحر فَانْحَرُوا فِي رحالكُمْ». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بِنَحْوِ من لفظ الرَّافِعِيّ وَهَذَا لَفظه أَنه عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ: «كل عَرَفَة موقف وكل منى منحر، وكل مُزْدَلِفَة موقف، وكل فجاج مَكَّة طَرِيق ومنحر».
هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله ومنِّه.

.وَأما آثاره:

فَأَرْبَعَة:

.أَولهَا:

عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو».
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن ابْن طَاوس، عَن أَبِيه، عَن ابْن عَبَّاس. وَعَن عَمْرو بن دِينَار، عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: «لَا حصر إِلَّا حصر الْعَدو» زَاد أَحدهمَا: «ذهب الْحصْر الْآن». قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا إِسْنَاد عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.

.ثَانِيهَا:

عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن أَبَا أَيُّوب الْأنْصَارِيّ خرج حاجًّا حَتَّى إِذا كَانَ بالنازية من طَرِيق مَكَّة ضلت رَاحِلَته، فَقدم عَلَى عمر بن الْخطاب يَوْم النَّحْر فَذكر ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهُ عمر: اصْنَع كَمَا يصنع الْمُعْتَمِر، ثمَّ قد حللت، فَإِذا أدْركْت الْحَج قَابلا فاحجج وأهد مَا اسْتَيْسَرَ من الْهَدْي».
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ ثمَّ الشَّافِعِي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ الرَّافِعِيّ: واشتهر ذَلِكَ فِي الصَّحَابَة وَلم يُنكره مُنكر. والنازية بنُون ثمَّ زَاي ثمَّ مثناة تَحت، ثمَّ هَاء كَذَا ضَبطه صَاحب الإِمَام وَسَبقه إِلَيْهِ الْبكْرِيّ فِي مُعْجَمه فَقَالَ: النازية عَلَى وزن فاعلة مَوضِع.

.الْأَثر الثَّالِث:

عَن عمر رَضي اللهُ عَنهُ «أَنه أَمر الَّذين فاتهم الْحَج بِالْقضَاءِ من قَابل، فَقَالَ: فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ».
وَهَذَا الْأَثر صَحِيح رَوَاهُ مَالك فِي الْمُوَطَّأ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيح عَن سُلَيْمَان بن يسَار «أَن هَبَّار بن الْأسود جَاءَ يَوْم النَّحْر وَعمر بن الْخطاب ينْحَر هَدْيه فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ، أَخْطَأنَا الْعدة كُنَّا نرَى أَن هَذَا الْيَوْم يَوْم عَرَفَة. فَقَالَ عمر: اذْهَبْ إِلَى مَكَّة فَطُفْ أَنْت وَمن مَعَك وانحروا هَديا إِن كَانَ مَعكُمْ، ثمَّ احْلقُوا أَو قصروا وَارْجِعُوا إِذا كَانَ عَاما قَابلا فحجوا وأهدوا، فَمن لم يجد فَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام فِي الْحَج وَسَبْعَة إِذا رَجَعَ» وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن الْأسود قَالَ: «سَأَلت عمر عَن رجل فَاتَهُ الْحَج، قَالَ: يهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل، ثمَّ خرجت الْعَام الْمقبل فَلَقِيت زيد بن ثَابت فَسَأَلته عَن رجل فَاتَهُ الْحَج قَالَ: يهل بِعُمْرَة وَعَلِيهِ الْحَج من قَابل».
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَرُوِيَ عَن إِدْرِيس الأودي عَنهُ فَقَالَ: «ويهريق دَمًا». قَالَ: وَرَوَاهُ الْأسود قَالَ: «ويهل بِعُمْرَة ويحج من قَابل وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدي. قَالَ: فَلَقِيت زيد بن ثَابت بعد عشْرين سنة فَقَالَ مثل قَول عمر» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْأسود قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى عمر قد فَاتَهُ الْحَج قَالَ عمر: اجْعَلْهَا عمْرَة وَعَلَيْك الْحَج من قَابل» وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن الْحَارِث بن عبد الله بن أبي ربيعَة قَالَ: «سَمِعت عمر وجاءه رجل فِي وسط أَيَّام التَّشْرِيق وَقد فَاتَهُ الْحَج فَقَالَ لَهُ عمر: طف بِالْبَيْتِ وَبَين الصَّفَا والمروة وَعَلَيْك الْحَج من قَابل. وَلم يهد هَديا» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذِه الرِّوَايَة وَمَا قبلهَا عَن الْأسود عَن عمر متصلتان، وَرِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار عَنهُ مُنْقَطِعَة. قَالَ الشَّافِعِي: الحَدِيث الْمُتَّصِل عَن عمر يُوَافق حديثنا عَن عمر وَيزِيد حديثنا عَلَيْهِ الْهَدْي، وَالَّذِي يزِيد فِي الحَدِيث أولَى بِالْحِفْظِ من الَّذِي لم يَأْتِ بِالزِّيَادَةِ ورويناه عَن ابْن عمر كَمَا قُلْنَا مُتَّصِلا، وَفِي رِوَايَة إِدْرِيس الأودي- إِن صحت- «ويهريق دَمًا» وَهِي تشهد لرِوَايَة سُلَيْمَان بن يسَار بِالصِّحَّةِ، وَرَوَى إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، عَن مُوسَى بن عقبَة، عَن نَافِع، عَن سُلَيْمَان بن يسَار، عَن هَبَّار بن الْأسود أَنه حَدثهُ «أَنه فَاتَهُ الْحَج...» فَذكره مَوْصُولا.

.الْأَثر الرَّابِع:

عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ أَنه قَالَ: «الْأَيَّام المعلومات أَيَّام الْعشْر، والمعدودات أَيَّام التَّشْرِيق».
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَنهُ بِإِسْنَاد صَحِيح، وَصَححهُ ابْن السكن وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور عَنهُ، وَإِنَّمَا نقل صَاحب الْبَيَان عَنهُ أَنه قَالَ: «إِن الْأَيَّام المعلومات أَرْبَعَة: يَوْم عَرَفَة والنحر ويومان بعده». فَغَرِيب، وَالْمَعْرُوف عَنهُ مَا تقدم، وَنقل صَاحب الْبَيَان مثله عَن عَلّي، وَاتفقَ الْعلمَاء عَلَى أَن الْأَيَّام المعدودات هِيَ أَيَّام التَّشْرِيق، وَهِي ثَلَاثَة بعد يَوْم النَّحْر. قَالَ: ومذهبنا أَن الْأَيَّام المعلومات هِيَ الْعشْر الأول من ذِي الْحجَّة آخرهَا يَوْم النَّحْر. وَقَالَ مَالك: وَهِي ثَلَاثَة أَيَّام، يَوْم النَّحْر ويومان بعده. فالحادي عشر وَالثَّانِي عشر عِنْده من المعلومات والمعدودات. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: ثَلَاثَة أَيَّام: يَوْم عَرَفَة، والنحر، وَالْحَادِي عشر. كَذَا نَقله عَنهُ، وَنقل الزَّمَخْشَرِيّ فِي كشافه عَنهُ وَعَن صَاحِبيهِ كمذهبنا قَالَ صَاحب الْبَيَان: وَفَائِدَة الْخلاف أَن عندنَا يجوز ذبح الْهَدَايَا والضحايا فِي أَيَّام التَّشْرِيق كلهَا، وَعند مَالك لَا يجوز فِي الْيَوْم الثَّالِث. وَقَالَ: فِي الْعِيد فَائِدَة وَصفه بِأَنَّهُ مَعْلُوم جَوَاز النَّحْر فِيهِ وَفَائِدَة أَنه مَعْدُود، انْقِطَاع الرَّمْي فِيهِ.

.باب الْهَدْي:

ذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث:

.أَحدهَا:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أهْدَى مائَة بَدَنَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث عَلّي وَمُسلم من حَدِيث جَابر الطَّوِيل رَضي اللهُ عَنهما.

.الحديث الثَّانِي:

عَن ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهما: «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم صَلَّى الظّهْر بِذِي الحليفة، ثمَّ دَعَا ببدنة فأشعرها فِي صفحة سنامها الْأَيْمن».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم بِهَذَا اللَّفْظ إِلَّا أَنه قَالَ: «نَاقَته» بدل «بَدَنَة» وَزَاد: «وسلت الدَّم وقلدها نَعْلَيْنِ، ثمَّ ركب رَاحِلَته، فَلَمَّا اسْتَوَت عَلَى الْبَيْدَاء أهلَّ بِالْحَجِّ». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «ثمَّ دَعَا ببدنة» كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ وَقَالَ: «ثمَّ سلت الدَّم عَنْهَا بِيَدِهِ» وَفِي رِوَايَة «بِأُصْبُعِهِ» وَفِي رِوَايَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا «أَنه أشعر بَدَنَة من الْجَانِب الْأَيْسَر» قَالَ ابْن عبد الْبر: هَذَا مُنكر فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَالصَّحِيح رِوَايَة مُسلم.
فَائِدَة: هَذِه الصَّلَاة كَانَت فِي الْيَوْم الثَّانِي من خُرُوجه عَلَيْهِ السَّلَام من الْمَدِينَة نَقله عبد الْحق عَن حجَّة الْوَدَاع لِابْنِ حزم.
فَائِدَة أُخْرَى: مَعْنَى «سلت الدَّم»: أماطه بِأُصْبُعِهِ، وأصل السلت: الْقطع، وَيُقَال سلت الله أنف فلَان أَي جدعه. والإشعار: الْإِعْلَام، وَهُوَ أَن يطعن فِي سنامها حَتَّى يسيل دَمهَا فَيكون ذَلِكَ عَلامَة عَلَى أَنَّهَا هدي.

.الحديث الثَّالِث:

«أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أهْدَى مرّة غنما ملقدة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح أخرجه مُسلم كَذَلِك من حَدِيث عَائِشَة، وَالْبُخَارِيّ بِمَعْنَاهُ.

.الحديث الرَّابِع:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي الْهَدْي إِذا عطب: لَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت وَلَا أحد من أهل رفقتك».
هَذَا الحَدِيث انْفَرد مُسلم بِإِخْرَاجِهِ من طَرِيقين: أَحدهمَا عَن أبي التياح عَن مُوسَى بن سَلمَة بن المحبق الْهُذلِيّ قَالَ: «انْطَلَقت أَنا وَسنَان بن سَلمَة معتمرين. قَالَ: وَانْطَلق سِنَان مَعَه ببدنة يَسُوقهَا. فأزحفت عَلَيْهِ بِالطَّرِيقِ فَعِييَ بشأنها إِن هِيَ أبدعت كَيفَ يَأْتِي بهَا، فَقَالَ: لَئِن قدمت الْمَدِينَة لأستحفين عَن ذَلِكَ. قَالَ: فأضحيت. قَالَ: فنزلنا الْبَطْحَاء، قَالَ: انْطلق بِنَا إِلَى ابْن عَبَّاس نتحدث لَهُ: فَذكر لَهُ شَأْن بدنته. فَقَالَ: عَلَى الْخَبِير سَقَطت، بعث رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بست عشرَة بَدَنَة مَعَ رجل وأمَّره فِيهَا، قَالَ: فَمَضَى ثمَّ رَجَعَ، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، كَيفَ أصنع بِمَا أبدع عليّ مِنْهَا؟ قَالَ: انحرها ثمَّ اصبغ نعليها فِي دَمهَا. ثمَّ اجْعَلْهُ عَلَى صفحتها، وَلَا تَأْكُل مِنْهَا أَنْت وَلَا أحد من أهل رفقتك».
وَفِي رِوَايَة لَهُ «ثَمَان عشرَة بَدَنَة».
وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده من حَدِيث ابْن عليَّة، عَن أبي التياح، عَن مُوسَى بِهِ، ثمَّ قَالَ: لم يسمع ابْن عليَّة من أبي التياح غير هَذَا الحَدِيث، وَمَعْنى أزحفت: وقفت من الكلال. وأبدعت: كلت أَيْضا. ولأستحفين- بِالْحَاء الْمُهْملَة- أَي: لأسألن سؤالاً بليغًا عَن ذَلِكَ. وأضحيت: نزلت فِي وَقت الضُّحَى.
ثَانِيهمَا: عَن قَتَادَة عَن سِنَان بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس وَقد ذكره صَاحب الْمُهَذّب من هَذَا الْوَجْه وأوضحت الْكَلَام عَلَيْهِ فِي تخريجي لأحاديثه، قَالَ: قَالَ الْحَافِظ رشيد الدَّين الْعَطَّار: وَإِسْنَاده غير مُتَّصِل عِنْد جمَاعَة من أهل النَّقْل، فَإِن قَتَادَة لم يسمع هَذَا الحَدِيث من سِنَان بن سَلمَة، قَالَه الإمامان يَحْيَى بن سعيد الْقطَّان وَيَحْيَى بن معِين، وناهيك بهما جلالة وَمَعْرِفَة بِهَذَا الشَّأْن، وَذكر الْحَافِظ أَبُو الْفضل الْمَقْدِسِي أَيْضا أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول من ثَلَاثَة أوجه: عُمْدَ تُها مَا قَالَه يَحْيَى الْقطَّان وَابْن معِين، قَالَ الْحَافِظ رشيد الدَّين: وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِكَ أَن سِنَان بن سَلمَة هَذَا هُوَ سِنَان بن سَلمَة بن المحبق مَعْدُود فِي الصَّحَابَة، وَله أَيْضا رِوَايَة عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد نَص أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ عَلَى أَن قَتَادَة لم يلق من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا أنس بن مَالك وَعبد الله بن سرجس، وَذكر البُخَارِيّ فِي تَارِيخه أَنه سمع أنسا وَأَبا الطُّفَيْل وَلم يذكر من الصَّحَابَة غَيرهمَا والعذر لمُسلم إِنَّمَا أخرج هَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْإِسْنَاد فِي الشواهد ليبين أَنه قد رُوِيَ من غير وَجه عَن ابْن عَبَّاس وَإِلَّا فقد أخرجه قبل ذَلِكَ من حَدِيث أبي التياح عَن مُوسَى بن سَلمَة عَن ابْن عَبَّاس مُتَّصِلا فَثَبت اتِّصَاله.
قلت: وَرَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة وَابْن حبَان وَالْحَاكِم من حَدِيث نَاجِية الْأَسْلَمِيّ رَضي اللهُ عَنهُ بِنَحْوِهِ، وَقَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ.
فَائِدَة: الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث أَنه لَا يجوز لفقراء الرّفْقَة الْأكل مِنْهَا، وَفِيه نظر لاحْتِمَال أَن المُرَاد بالرفقة الْأَغْنِيَاء فَهِيَ وَاقعَة عين لَا عُمُوم فِيهَا.