فصل: الحديث الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الرَّابِع:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يمنعن أحدكُم جَاره أَن يضع خَشَبَة عَلَى جِدَاره. قَالَ: فَنَكس الْقَوْم. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين، وَالله لأرمينها بَين أكتافكم- أَي: لأرمين هَذِه السّنة بَين أظْهركُم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ من حَدِيث مَالك بن شهَاب، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يمْنَع أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره. ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة: مَا لي أَرَاكُم عَنْهَا معرضين؟! وَالله لأرمين بهَا بَين أكتافكم».
هَذَا لفظ مُسلم، وَلَفظ البُخَارِيّ كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «لَا يمْنَع جَار جَاره» وَقَالَ: «لأرمينها» بدل «لأرمين بهَا» وَأخرجه الشَّافِعِي عَن مَالك كَمَا سلف، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من طرق: مِنْهَا من حَدِيث سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بِهِ بِلَفْظ «إِذا اسْتَأْذن أحدكُم جَاره أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ» فَلَمَّا حَدثهمْ طأطئوا رُءُوسهم، فَقَالَ: مَا لي أَجِدكُم معرضين، وَالله لأرمين بهَا بَين أكتافكم. ثمَّ عزاهُ إِلَى مُسلم وَهُوَ فِيهِ سندًا لَا متْنا.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من هَذَا الْوَجْه، وَلَفظ أبي دَاوُد: «إِذا اسْتَأْذن أحدكُم أَخَاهُ أَن يغرز خَشَبَة فِي جِدَاره فَلَا يمنعهُ. فنكسوا فَقَالَ: مَا لي أَرَاكُم قد أعرضتم لألقينها بَين أكتافكم» وَلَفظ ابْن مَاجَه كَلَفْظِ الْبَيْهَقِيّ أَعْلَاهُ، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ ثمَّ قَالَ: حسن صَحِيح. قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن ابْن عَبَّاس وَمجمع بن جَارِيَة.
قلت: هما فِي سنَن ابْن مَاجَه وَقد ذكرت لحَدِيث أبي هُرَيْرَة طرقًا فِي تخريجي لأحاديث الْمُهَذّب فَرَاجعهَا مِنْهُ.

.الحديث الخَامِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نَفْس مِنْهُ».
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من طَرِيق ابْن عَبَّاس رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي خطبَته: أَلا وَإِن الْمُسلم أَخُو الْمُسلم لَا يحل لَهُ دَمه وَلَا شَيْء من مَاله إِلَّا بِطيب نَفسه، أَلا هَل بلغت؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من حَدِيث يَحْيَى بن أبي بكير ثَنَا أَبُو يُوسُف، عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ. وَمُحَمّد هَذَا هُوَ الْعَرْزَمِي سَاقِط، وَله طَرِيق آخر جيد رَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه فِي أَوَائِل كتاب الْعلم مِنْهُ من حَدِيث أبي أويس، عَن ثَوْر بن زيد الديلِي، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خطب النَّاس فِي حجَّة الْوَدَاع فَقَالَ: لَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه إِلَّا مَا أعطَاهُ عَن طيب نَفْس» وَهُوَ حَدِيث طَوِيل وَهَذَا طرف مِنْهُ، ثمَّ قَالَ: قد احْتج البُخَارِيّ بِأَحَادِيث عِكْرِمَة وَمُسلم بِأبي أويس، وَسَائِر رُوَاته مُتَّفق عَلَيْهِم.
قلت: وثور هَذَا اتّفق الشَّيْخَانِ عَلَى الِاحْتِجَاج بِهِ، واتهمه ابْن البرقي بِالْقدرِ، وَكَأَنَّهُ يشْتَبه عَلَيْهِ بثور بن يزِيد.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَمْرو بن يثربي عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «لَا يحل لامرئ من مَال أَخِيه شَيْء إِلَّا بِطيب نَفْس مِنْهُ»
رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ: قَالَ البُخَارِيّ: عَمْرو هَذَا هُوَ عبد الرَّحْمَن بن سعد بن مَالك، وَهُوَ ابْن أبي سعيد الْخُدْرِيّ. وَقَالَ فِي الْمعرفَة بعد أَن ذكره من هَذِه الطَّرِيق وَغَيره: أصح مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيث أبي حميد.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي حميد السَّاعِدِيّ رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يحل لامرئ أَن يَأْخُذ عَصا أَخِيه بِغَيْر طيب نَفْس مِنْهُ». وَذَلِكَ لشدَّة مَا حرم الله مَال الْمُسلم عَلَى الْمُسلم.
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه كَذَلِك.
وَكَذَا الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه رَوَاهُ من حَدِيث سُهَيْل بن أبي صَالح عَن عبد الرَّحْمَن بن سعد عَن أبي حميد. وَقَالَ غَيره: ابْن سعيد. وَرَوَاهُ غَيرهمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد، عَن عمَارَة بن حَارِثَة الضمرِي عَن عَمْرو بن يثربي. ثمَّ نقل عَن ابْن الْمَدِينِيّ أَنه قَالَ: الحَدِيث عِنْدِي حَدِيث سُهَيْل.
الطَّرِيق الرَّابِع: من حَدِيث أنس بن مَالك رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا بِطيب نَفسه».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحَارِث بن مُحَمَّد الفِهري، عَن يَحْيَى بن سعيد عَن أنس بِهِ، والْحَارث هَذَا لَا أعرف حَاله.
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق آخر من حَدِيث دَاوُد بن الزبْرِقَان، عَن حميد، عَن أنس مَرْفُوعا: «لَا يشربن أحدكُم مَاء أَخِيه إِلَّا بِطيب نَفسه».
وَدَاوُد هَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد: مَتْرُوك. وَقَالَ البُخَارِيّ: مُتَقَارب الحَدِيث.
الطَّرِيق الْخَامِس: من حَدِيث أبي حرَّة الرقاشِي عَن عَمه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «لَا يحل مَال امْرِئ مُسلم إِلَّا عَن طيب نَفسه».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن عَلّي بن زيد بن جدعَان عَن أبي حرَّة.
وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده وعليّ هَذَا من رجال مُسلم وَلَقَد لين، وَأَبُو حرَّة الرقاشِي اسْمه: حنيفَة، ضعفه أَبُو حَاتِم، وَعَمه لَا يحضرني اسْمه.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه فِي كتاب الْغَصْب، وَقَالَ عَن أبي وحرة بدل أبي حرَّة ذكره بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء.
الطَّرِيق السَّادِس: من حَدِيث عبد الله بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يَأْخُذ أحدكُم مَتَاع أَخِيه لاعبًا وَلَا جادًّا وَمن أَخذ عَصا أَخِيه فليردها».
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب من سنَنه كَذَلِك سَوَاء، وَالتِّرْمِذِيّ فِي جامعه بِلَفْظ: «لَا يَأْخُذ أحدكُم عَصا أَخِيه لاعبًا وَلَا جادًّا، فَمن أَخذ عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ» ثمَّ قَالَ: حَدِيث حسن غَرِيب، لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب، والسائب بن يزِيد لَهُ صُحْبَة، سمع من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ غُلَام، وقُبض النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن سبع سِنِين، ووالده يزِيد لَهُ أَحَادِيث رَوَاهَا عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ من الصَّحَابَة.
وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عبد الله قَالَ: وَفِي رِوَايَة ابْن بَشرَان: عَن عبد الله بن السَّائِب بن يزِيد، عَن أَبِيه، عَن جده مَرْفُوعا: «لَا يَأْخُذ أحدكُم مَتَاع أَخِيه لاعبًا وَلَا جادًّا، وَإِذا أَخذ أحدكُم عَصا أَخِيه فليردها إِلَيْهِ» قَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَحْمد يُسأل عَن حَدِيث ابْن أبي ذِئْب عَن عبد الله هَذَا «لَا يَأْخُذ أحدكُم عَصا أَخِيه»: تعرفه من غير حَدِيث ابْن أبي ذِئْب؟ قَالَ: لَا، وَهُوَ ابْن يزِيد بن أُخْت نمر، وَلَا أعرف لَهُ غَيره، وَأما السَّائِب فقد رَأَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي الخلافيات: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث حسن. قَالَ: وَحَدِيث أبي حرَّة يضم إِلَيْهِ حَدِيث عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس وخطبة النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرِوَايَة عَمْرو بن يثربي فيقوى. وَكَذَا قَالَ فِي الْمعرفَة: وروينا فِي حَدِيث عَمْرو بن يثربي... فَذكره كَمَا سلف، ثمَّ قَالَ: روينَا فِي ذَلِكَ أَيْضا عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا، وَعَن أبي حرَّة الرقاشِي عَن عَمه مَرْفُوعا، وَإِذا ضم بعضه إِلَى بعض صَار قويًّا، وَأَصَح مَا رُوِيَ فِيهِ حَدِيث أبي حميد، وروينا فِي الحَدِيث الثَّابِت عَن أبي بكرَة وَغَيره عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم «أَنه قَالَ فِي خطبَته بمنى: أَلا إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام؛ كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا، فِي شهركم هَذَا، فِي بلدكم هَذَا».
تَنْبِيه: الرَّافِعِيّ حمل حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف قبل هَذَا عَلَى الِاسْتِحْبَاب لأجل هَذَا الحَدِيث، وَفِيه نظر؛ لِأَنَّهُ يُقَال أَنه خص من ذَلِكَ الْعَام.

.كتاب الْحِوَالَة:

كتاب الْحِوَالَة:
ذكر فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث:

.أَحدهَا:

مَا رَوَاهَا الشَّافِعِي عَن مَالك، عَن أبي الزِّنَاد، عَن الْأَعْرَج، عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا اتبع أحدكُم عَلَى مليءٍ فَليتبعْ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث مَالك بِهِ، رَوَاهُ خَ عَن عبد الله بن يُوسُف، عَن مَالك، عَن يَحْيَى بن يَحْيَى عَنهُ، وَأَبُو دَاوُد عَن القعْنبِي عَنهُ، وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَنهُ، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام من سنَنه عَن هِشَام بن عمار، وَالنَّسَائِيّ فِي الْبيُوع من سنَنه أَيْضا عَن قُتَيْبَة كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن أبي الزِّنَاد بِهِ. وَله شَاهد من حَدِيث ابْن عمر أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ: «مطل الْغَنِيّ ظلم، وَإِذا أحلّت عَلَى مليءٍ فَاتبعهُ» رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام من سنَنه من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن تَوْبَة عَن هشيم، عَن يُونُس بن عبيد، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر مَرْفُوعا بِهِ.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عبد الله الْحَافِظ عَن هشيم بِهِ، وَهَذَا إِسْنَاد جيد لَكِن نقل الضياء فِي أَحْكَامه عَن الإِمَام أَحْمد أَنه قَالَ: لم يسمع يُونُس بن عبيد من نَافِع؛ إِنَّمَا سمع من ابْن نَافِع. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى «فَإِذا أُحِيل أحدكُم عَلَى مليءٍ فَليَحْتَلْ» وَهُوَ بِمَعْنى اللَّفْظ الأول.
قلت: هُوَ كَمَا قَالَ وَقد أخرجه بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور أَحْمد فِي مُسْنده.
فَائِدَة: المطل المدافعة. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: إِنَّه إطالة المدافعة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض وَغَيره: إِنَّه تَأْخِير قَضَاء مَا اسْتحق أَدَاؤُهُ. والمليء بِالْهَمْز: الْغَنِيّ المكثر. قَالَه فِي المستغرب والأزهري قَالَ: إِنَّه الْغَنِيّ. وَقد ورد كَذَلِك فِي رِوَايَة سليم والبندنيجي من أَصْحَابنَا بدل قَوْله: «مليءٍ» وَكَذَا عبارَة صَاحب المستغرب: إِنَّه الْغَنِيّ. قَالَ: وَأَصله الْوَاسِع الطَّوِيل. وَقَوله: «فَليتبعْ» هُوَ بِإِسْكَان الْمُثَنَّاة فَوق، وَعَن بعض الْمُحدثين بتشديدها، حَكَاهُ القَاضِي عِيَاض فِي شَرحه وَنَقله الْخطابِيّ عَن أَصْحَاب الحَدِيث، ثمَّ غلطهم فِيهِ وَصوب الإسكان. وَقَوله: «فَإِذا أتبع» قَالَ صَاحب الْبَحْر من أَصْحَابنَا: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: «اتبع» بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ غلط، وَصَوَابه بِأَلف مَضْمُومَة وباء مُخَفّفَة.
قلت: و«اتبع» يتَعَدَّى بِنَفسِهِ، وعدى هُنَا بِعلَى تصحيبًا لَهُ بِمَعْنى أُحِيل، وَنقل الرَّافِعِيّ عَن الْجَوْهَرِي أَنه قَالَ: يُقَال: أتبع فلَان بفلان؛ أَي: أُحِيل لَهُ عَلَيْهِ، والتبيع الَّذِي لَك عَلَيْهِ مَال وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَهُوَ كَذَلِك فِيمَا قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ الْأَشْهر فِي الرِّوَايَة «وَإِذا أُحِيل أحدكُم» بِالْوَاو. قلت: هِيَ رِوَايَة الشَّافِعِي وم وت. قَالَ: وَيروَى: «فَإِذا أُحِيل أحدكُم» بِالْفَاءِ. قلت: هِيَ رِوَايَة خَ لكنه قَالَ: «فَإِذا أتبع» بدل «فَإِذا أُحِيل». قَالَ: فعلَى التَّقْدِير الأول هُوَ مَعَ قَوْله: «مطل الْغَنِيّ ظلم» جملتان لَا تعلق للثَّانِيَة بِالْأولَى؛ كَقَوْلِه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «الْعَارِية مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم» وَعَلَى الثَّانِي يجوز أَن يكون الْمَعْنى فِي التَّرْتِيب أَنه إِذا كَانَ المطل ظلما من الْغَنِيّ فليقبل من حيل بِدِينِهِ عَلَيْهِ فَإِن الظَّاهِر أَنه يحْتَرز عَن الظُّلم وَلَا يمطل. وَهَذَا إِذا كَانَ الْوَصْف بِالْمَعْنَى يعود إِلَى من عَلَيْهِ الدَّين، وَقد قيل: إِنَّه يعود إِلَى من لَهُ الدَّين، وَعَلَى هَذَا لَا يحْتَاج أَن يذكر فِي التَّقْدِير من الْغَنِيّ. نبه عَلَيْهِ صَاحب الْمطلب قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ قَوْله: «فَليَحْتَلْ» أَو «فَليتبعْ» أَمر اسْتِحْبَاب، وَعند أَحْمد للْوُجُوب. قلت: وَعند غَيرهمَا للْإِبَاحَة.

.الحديث الثَّانِي:

قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ «الْعَارِية مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم».
هَذَا الحَدِيث سَيَأْتِي بَيَانه عَلَى الإثر- إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.الحديث الثَّالِث:

النَّهْي عَن بيع الدَّين بِالدّينِ.
هَذَا الحَدِيث تقدم الْكَلَام عَلَيْهِ وَاضحا فِي بَاب الْقَبْض وَأَحْكَامه فَرَاجعه من ثَمَّ.

.كتاب الضَّمَان:

كتاب الضَّمَان:
ذكر فِيهِ أَرْبَعَة أَحَادِيث:

.الحديث الأول:

عَن أبي أُمَامَة رَضي اللهُ عَنهُ أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْعَارِية مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم».
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه فِي سُنَنهمْ من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم» هَذَا لفظ أَحْمد وَلَفظ أبي دَاوُد فِي الْبيُوع مثله إِلَّا أَنه لم يذكر «والمنحة مَرْدُودَة» وَلَفظ التِّرْمِذِيّ فِي الْبيُوع والوصايا مثل لفظ أبي دَاوُد فِي الْبيُوع «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع» وَلَفظ ابْن مَاجَه فِي الْأَحْكَام: «الْعَارِية مُؤَدَّاة والمنحة مَرْدُودَة».
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه فِي الْعَارِية من حَدِيث حَاتِم بن حُرَيْث الْحِمصِي، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا بِمثل لفظ ابْن مَاجَه، وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه من هَذِه الطَّرِيق بِزِيَادَة عَلَيْهِ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث الْحجَّاج بن الفرافصة حَدَّثَني مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن أبي عَامر الرصافي، عَن أبي أُمَامَة مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة...» الحَدِيث، ومداره خلا طريقي النَّسَائِيّ عَلَى إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش الْحِمصِي كَمَا أسلفته لَك، ورده أَبُو مُحَمَّد بن حزم فِي محلاه بِهِ فَقَالَ: إِنَّه ضَعِيف. وَقد أسلفت لَك أَقْوَال الْأَئِمَّة فِيهِ فِي بَاب الْغسْل وحكينا عَن الإِمَام أَحْمد وَغَيره صِحَة مَا رَوَاهُ عَن الشاميين دون مَا رَوَاهُ عَن الْحِجَازِيِّينَ، وَهَذَا الحَدِيث من رِوَايَته عَن الشاميين؛ فَإِن إِسْمَاعِيل حمصي من أهل الشَّام فَيكون صَحِيحا عَلَى رَأْي هَؤُلَاءِ، لَا جرم أَن الْمُنْذِرِيّ حسنه هُنَا، وَفِي الْوَصَايَا قَالَ هُنَا: وَقد رُوِيَ عَن أبي أُمَامَة عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا من غير هَذَا الْوَجْه. وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي إلمامه عَن التِّرْمِذِيّ أَيْضا تَصْحِيحه، وَالَّذِي رَأَيْته فِي عدَّة نسخ مِنْهُ تحسينه فَقَط. وَصرح بِتَصْحِيحِهِ أَيْضا الْقُرْطُبِيّ فِي تَفْسِيره فِي أَوَائِل تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة عِنْد قَوْله تَعَالَى: {وَقُلْنَا يَا آدم اسكن} الْآيَة، وَأغْرب ابْن حزم فَادَّعَى فِي محلاه فِي بَاب الْحجر أَن شُرَحْبِيل بن مُسلم مَجْهُول لَا يُدْرَى من هُوَ، وَلَو استحضر هَذَا هُنَا لرد الحَدِيث بِهِ، وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَنهُ جمَاعَة، وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: هُوَ من ثِقَات الْمُسلمين. وَوَثَّقَهُ أَيْضا ابْن معِين وَالْعجلِي، وأعل طَريقَة النَّسَائِيّ الأولَى بحاتم بن حُرَيْث فَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهَذَا نَحْو قَول أبي حَاتِم: شيخ مَجْهُول. وَقَالَ ابْن معِين: لَا نعرفه. نعم قد عرفه غَيرهم، فروَى عَن خلق، وَعنهُ الْجراح بن مليح وَمُعَاوِيَة بن صَالح، وَقَالَ عُثْمَان الدَّارمِيّ: ثِقَة. لَا جرم أخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه كَمَا سلف، وأعل طَرِيقه الثَّانِي بالحجاج بن الفرافصة فَقَالَ: إِنَّه مَجْهُول. وَهُوَ وهم مِنْهُ؛ فقد رَوَى عَن ابْن سِيرِين وَجَمَاعَة، وَعنهُ الثَّوْريّ وَجَمَاعَة. قَالَ يَحْيَى بن معِين: لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: شيخ صَالح متعبد. نعم قَالَ أَبُو زرْعَة: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. عَلَى أَن لحَدِيث أبي أُمَامَة هَذَا شَوَاهِد:
أَحدهَا: من حَدِيث أنس رَضي اللهُ عَنهُ رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث مُحَمَّد بن شُعَيْب عَن عبد الرَّحْمَن بن يزِيد، عَن سعيد بن أبي سعيد عَنهُ مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة» قَالَ أَبُو طَاهِر: إِسْنَاده مُتَّصِل.
ثَانِيهَا: حَدِيث سُوَيْد بن جبلة الْفَزارِيّ، رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي مُعْجم الصَّحَابَة فِي تَرْجَمَة سُوَيْد هَذَا من حَدِيث بَقِيَّة عَن الزبيدِيّ عَن رَاشد بن سعد عَنهُ مَرْفُوعا: «الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة، والزعيم غَارِم» وَبَقِيَّة حَالَته مَعْلُومَة سلفت، وَرَاشِد هَذَا وثقوه، وشذ ابْن حزم فضعفه، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لَا يعْتَبر بِهِ، وَفِي مُخْتَصر الصَّحَابَة للذهبي سُوَيْد بن جبلة الْفَزارِيّ لَا تصح لَهُ صُحْبَة، شَامي حَدِيثه مُرْسل. وَبَعْضهمْ يَقُول: لَهُ صُحْبَة رَوَى عَنهُ لُقْمَان بن عَامر وَأَبُو المصبح المقرائي.
ثَالِثهَا: من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن عبد الله بن حبَان اللَّيْثِيّ، عَن رجل، عَن آخر مِنْهُم من قَالَ: «إِنِّي لتَحْت نَاقَة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصِيبنِي لُعَابهَا ويسيل عَلَى جرنها حِين قَالَ: الْعَارِية مُؤَدَّاة والمنحة مَرْدُودَة».
رَوَاهُ الْحَافِظ أَبُو بكر الْخَطِيب فِي تلخيصه من حَدِيث ابْن لَهِيعَة بِهِ، وَابْن لَهِيعَة حَالَته مَعْلُومَة سلفت. وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِإِسْنَاد آخر عَن ابْن إِسْحَاق عَن ابْن الْمُبَارك، عَن عبد الله بن يزِيد بن جَابر، عَن سعيد بن أبي سعيد، عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَلا إِن الْعَارِية مُؤَدَّاة، والمنحة مَرْدُودَة، وَالدّين مقضي، والزعيم غَارِم».
فَائِدَة: الزعيم: الْكَفِيل. الْغَارِم: الضَّامِن. والمنحة: النَّاقة أَو الشَّاة يُعْطِيهَا صَاحبهَا غَيره لينْتَفع بهَا ثمَّ يُعِيدهَا.
تَنْبِيه: رُبمَا يَقع فِي بعض نسخ الرَّافِعِيّ فِي هَذَا الحَدِيث عَن أبي قَتَادَة بدل أبي أُمَامَة وَلَا شكّ أَنه من تَحْرِيف النساخ.

.الحديث الثَّانِي:

عَن أبي سعد الْخُدْرِيّ رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي جَنَازَة، فَلَمَّا وضعت قَالَ: هَل عَلَى صَاحبكُم من دين؟ قَالُوا: نعم؛ دِرْهَمَانِ. قَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ عَلّي رَضي اللهُ عَنهُ: هما عليّ يَا رَسُول الله وَأَنا لَهما ضَامِن. فَقَامَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصَلى عَلَيْهِ، ثمَّ أقبل عَلَى عليّ وَقَالَ: جَزَاك الله عَن الْإِسْلَام خيرا، وَفك رهانك كَمَا فَككت رهان أَخِيك».
هَذَا الحَدِيث ذكره كَذَلِك تبعا للمختصر، وَقد أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه من هَذَا الْوَجْه- أَعنِي: من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من طرق إِلَيْهِ- إِلَّا أَن فِيهِ أَن الدَّين كَانَ دينارين، خلاف مَا ذكره تبعا للمختصر. وَفِي بَعْضهَا: «لَيْسَ من عبد يقْضِي عَن أَخِيه دينا إِلَّا فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة. فَقَامَ رجل من الْأَنْصَار فَقَالَ: يَا رَسُول الله، لعليّ هَذَا خَاصَّة؟ فَقَالَ: لعامة الْمُسلمين» وَفِي بعض رواياته: «إِنَّه لَيْسَ من ميت يَمُوت وَعَلِيهِ دين إِلَّا وَهُوَ مُرْتَهن بِدِينِهِ، وَمن فك رهان ميت فك الله رهانه يَوْم الْقِيَامَة. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا لعليّ خَاصَّة أم للْمُسلمين عَامَّة؟ فَقَالَ: بل للْمُسلمين عَامَّة» وَفِي إِسْنَاده ضعفاء:
أَوَّلهمْ: عَطاء بن عجلَان الْعَطَّار أَبُو مُحَمَّد الْحَنَفِيّ الْبَصْرِيّ وَقد وهّوه، قَالَ خَ: مُنكر الحَدِيث. وَقَالَ يَحْيَى وَغَيره: كَذَّاب.
ثانيهم: عَطِيَّة بن سعد أَبُو الْحسن الْكُوفِي وَقد ضَعَّفُوهُ.
ثالثهم: عبيد الله بن الْوَلِيد الْوَصَّافِي الْكُوفِي من ولد وصاف بن عَامر الْعجلِيّ، وَقد ضَعَّفُوهُ، قَالَ النَّسَائِيّ وَغَيره: مَتْرُوك قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: هَذَا الحَدِيث يَدُور عَلَى عبيد الله الْوَصَّافِي، وَهُوَ ضَعِيف جدًّا. قَالَ: وَرُوِيَ من وَجه آخر عَن عَلّي بِإِسْنَاد ضَعِيف، فِيهِ عَطاء بن عجلَان؛ وَهُوَ ضَعِيف. قَالَ: وَالرِّوَايَات فِي تحمل أبي قَتَادَة دين الْمَيِّت أصح. وَسَيَأْتِي بعْدهَا بِطرقِهِ.

.الحديث الثَّالِث:

«أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِجنَازَة ليُصَلِّي عَلَيْهَا، فَقَالَ: هَل عَلَى صَاحبكُم من دين؟ فَقَالُوا: نعم دِينَارَانِ. فَقَالَ أَبُو قَتَادَة: هما عليَّ يَا رَسُول الله. قَالَ: فَصَلى عَلَيْهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع رَضي اللهُ عَنهُ قَالَ: «كُنَّا جُلُوسًا عِنْد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ أُتِي بِجنَازَة فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا، فَقَالَ: عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا. فَصَلى عَلَيْهِ. ثمَّ أُتِي بِجنَازَة أُخْرَى فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، صل عَلَيْهَا. قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قيل: نعم. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير. فَصَلى عَلَيْهَا، ثمَّ أُتِي بثالثة فَقَالُوا: صل عَلَيْهَا. قَالَ: هَل ترك شَيْئا؟ قَالُوا: لَا. قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: ثَلَاثَة دَنَانِير. قَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ: أَبُو قَتَادَة: صل عَلَيْهِ يَا رَسُول الله وعليَّ دينه. فَصَلى عَلَيْهِ» وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْجِنَازَة الأولَى بعد قَوْله «ثَلَاثَة دَنَانِير قَالَ: ثَلَاث كيات».
وَأخرجه أَحْمد وأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث جَابر، وَفِيه أَن الدَّين كَانَ دينارين وَفِي رِوَايَة أَحْمد: «فَلَمَّا فتح الله- عَزَّ وجَلَّ- عَلَى رَسُوله، قَالَ: أَنا أولَى بِكُل مُؤمن من نَفسه؛ من ترك دينا فعليَّ، وَمن ترك مَالا فلورثته» وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ النَّسَائِيّ من حَدِيث أبي قَتَادَة بِدُونِ تعْيين قدر الدَّين. وَأخرجه أَحْمد وَابْن مَاجَه من حَدِيثه أَيْضا بِتَعْيِين مِقْدَاره، وَهُوَ تِسْعَة عشر أَو ثَمَانِيَة عشر درهما وَفِيه: «أَن الْمَيِّت رجل من الْأَنْصَار». وَرَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «سَبْعَة عشر» بدل «تِسْعَة عشر» ولعلها تصحيفًا. وَفِي رِوَايَتَيْنِ لَهُ من هَذَا الْوَجْه «أَن الدَّين كَانَ دينارين».
وأخرجها أَحْمد أَيْضا، وَأخرج رِوَايَة ثَالِثَة وَهِي الْجَزْم بِكَوْنِهِ «ثَمَانِيَة عشر درهما» وَفِي ثِقَات ابْن حبَان عبد الْملك بن رَاشد قَالَ: سَمِعت أَبَا أُمَامَة يَقُول: «توفّي رجل عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتي بِهِ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فَقَالَ: هَل ترك عَلَيْهِ دينا؟ قَالُوا: نعم، ترك دينارين. فَقَالَ: صلوا عَلَى صَاحبكُم. فَقَالَ رجل من الْقَوْم: أَنا أقضيها عَنهُ يَا رَسُول الله. فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: قَضَاء غير بَقَاء؟ فَقَالَ الرجل: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ». رَوَى عَنهُ بَقِيَّة بن الْوَلِيد، وَقَالَ بَقِيَّة: «غير بَقَاء غير مطل».
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَجَاء فِي رِوَايَة أَن عليًّا لما قَضَى عَنهُ دينه قَالَ: «الْآن برَّدت عَلَيْهِ جلده».
قلت: هَذَا غَرِيب، وَالْمَعْرُوف أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ قَالَ ذَلِكَ لأبي قَتَادَة. كَذَا رَوَاهُ الْأَئِمَّة أَحْمد فِي مُسْنده وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمَا من حَدِيث جَابر رَضي اللهُ عَنهُ، وَقَالَ الْحَاكِم: إِنَّه حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَلَفظ الدَّارَقُطْنِيّ «قَبره» بدل «جلده». وَالْمُصَنّف تبع الْغَزالِيّ؛ فَإِنَّهُ أوردهُ كَذَلِك فِي الْوَصَايَا من وسيطه وَنبهَ النَّوَوِيّ فِي تهذيبه عَلَى أَنه من أَوْهَامه وَأَن صَوَابه قَالَ لأبي قَتَادَة كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي رِوَايَة للدارقطني وَالْحَاكِم فِي حَدِيث جَابر هَذَا «فَجعل النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأبي قَتَادَة: هما عَلَيْك وَفِي مَالك، وَالْمَيِّت مِنْهُمَا بَرِيء. فَقَالَ: نعم». قَالَ الرَّافِعِيّ: وَفِي رِوَايَة لَهُ «أَنه لما ضمن أَبُو قَتَادَة الدينارين عَن الْمَيِّت قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: هما عَلَيْك حق الْغَرِيم وَبرئ الْمَيِّت. قَالَ: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ».
قلت: هَذِه الرِّوَايَة أخرجهَا الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل قَالَ: قَالَ جَابر: «توفّي رجل فغسلناه وكفناه، ثمَّ أَتَيْنَا بِهِ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ليُصَلِّي عَلَيْهِ، فتخطى خطا ثمَّ قَالَ: هَل عَلَيْهِ دين؟ قَالُوا: نعم. قَالَ: فَانْصَرف، فتحملها أَبُو قَتَادَة، فأتيناه فَقَالَ أَبُو قَتَادَة: الديناران عليَّ. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: حق الْغَرِيم وَبرئ مِنْهُمَا الْمَيِّت. قَالَ: نعم. فَصَلى عَلَيْهِ...» ثمَّ ذكر بَاقِي الحَدِيث، وَفِي آخِره: «الْآن برَّدت عَلَيْهِ جلده- حِين ذكر أَنه قضاهما» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد أخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ فِي هَذِه الراوية أَنه بِالْقضَاءِ برد عَلَيْهِ جلده.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقَوله: «حق الْغَرِيم...» إِلَى آخِره إِن كَانَ حفظه ابْن عقيل؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا عني- وَالله أعلم- للْغَرِيم مطالبتك بهما وَحدك إِن شَاءَ، كَمَا لَو كَانَ لَهُ عَلَيْك حق من وَجه آخر، وَالْمَيِّت مِنْهُ بَرِيء كَانَ لَهُ مطالبتك بِهِ وَحدك إِن شَاءَ.
فَائِدَة: قَوْله: «برَّدت عَلَيْهِ جلده» هُوَ بتَشْديد الرَّاء، قَالَ النَّوَوِيّ فِي الْجَنَائِز من خلاصته فِي الْأَحْكَام: وَإِنَّمَا ضبطتها لِأَن بعض المصنفين غلط فِي ضَبطهَا. قَالَ الرَّافِعِيّ: ثمَّ نقل الْعلمَاء أَن هَذَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام لم يكن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي عَلَى من لم يخلف وَفَاء من المديونين؛ لِأَن صلَاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ شَفَاعَة مُوجبَة للمغفرة، وَلم يكن حِينَئِذٍ فِي المَال سَعَة، فَلَمَّا فتح الله- عَزَّ وجَلَّ- الْفتُوح قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ: «أَنا أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم» وَهُوَ كَمَا قَالَ، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَاضحا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة.

.الحديث الرَّابِع:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَنقل عَنهُ «أَنه قَالَ فِي خطبَته: من خلف مَالا أَو حقًّا فلورثته، وَمن خلَّف كلا أَو دين فكلَّه إليَّ وَدينه عليَّ. قيل: يَا رَسُول الله، وَعَلَى كل إِمَام بعْدك؟ قَالَ: وَعَلَى كل إِمَام بعدِي».
هَذَا تبع فِي إِيرَاده كَذَلِك الإِمَام وَالْقَاضِي حُسَيْن، وصدره ثَابت فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضي اللهُ عَنهُ «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُؤْتَى بِالرجلِ الْمُتَوفَّى وَعَلِيهِ الدَّين فَيسْأَل: هَل ترك لدينِهِ قَضَاء؟ فَإِن حدث أَنه ترك وَفَاء صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ للْمُسلمين: صلوا عَلَى صَاحبكُم. قَالَ: فَلَمَّا فتح الله عَلَى رَسُوله كَانَ يُصَلِّي وَلَا يسْأَل عَن الدَّين، وَكَانَ يَقُول: أَنا أولَى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم؛ فَمن توفّي من الْمُؤمنِينَ فَترك دينا أَو كلا أَو ضيَاعًا فعليَّ وإليَّ، وَمن ترك مَالا فلورثته» وثابت أَيْضا من حَدِيث جَابر كَمَا أسلفته لَك فِي الحَدِيث الثَّالِث قَرِيبا، وَأما عَجزه وَهُوَ قَوْله: «يَا رَسُول الله...» إِلَى آخِره فتعبت عَلَيْهِ دهرًا إِلَى أَن وَجدتهَا فِي حَدِيث آخر فِي المعجم الْكَبِير للطبراني رَوَاهُ من حَدِيث أبي الصَّباح عبد الغفور بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن أبي هَاشم الرماني، عَن زَاذَان، عَن سُلَيْمَان قَالَ: «أمرنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن نفدي سَبَايَا الْمُسلمين ونعطي سائلهم. ثمَّ قَالَ: من ترك مَالا فلورثته، وَمن ترك دينا فعليَّ وَعَلَى الْوُلَاة من بعدِي من بَيت مَال الْمُسلمين».
وعبد الغفور هَذَا تَرَكُوهُ وَنسب إِلَى الْوَضع.
فَائِدَة: «الكَلّ» فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة- بِفَتْح الْكَاف وَتَشْديد اللَّام-: الْعِيَال والضياع أَيْضا، وَهُوَ بِفَتْح الضَّاد أَيْضا، وَرُوِيَ بِكَسْرِهَا، جمع ضائع، كَمَا يُقَال: جَائِع وجياع. قَالَ الْخطابِيّ: وَالْمَحْفُوظ الأول. وَقَالَ ابْن بري: من رَوَاهُ بِالْفَتْح فَمَعْنَاه من ترك ضائعة، فَأَقَامَ الْمصدر مقَام اسْم الْفَاعِل، كَمَا يُقَال: مَاء غور؛ أَي: غائر، وَأما من كسر فَظَاهر.