فصل: الحديث الحَادِي عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث الخَامِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فميتته جَاهِلِيَّة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من خرج من الطَّاعَة وَفَارق الْجَمَاعَة فَمَاتَ مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة وَمن قَاتل تَحت راية عمِّيَّةٍ يغْضب لعصبة، أَو يَدْعُو إِلَى عصبَة، أَو ينصر عصبَة، فقُتل فقتلة جَاهِلِيَّة، وَمن خرج عَلَى أمتِي يضْرب برهَا وفاجرها لَا يتحاشى من مؤمنها، وَلَا يَفِي بِعَهْد ذِي عهد، فَلَيْسَ مني وَلست مِنْهُ». وَأخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من كره من أميره شَيْئا فليصبر، فَإِنَّهُ من خرج من السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فليصبر عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ من فَارق الْجَمَاعَة شبْرًا فَمَاتَ فميتة جَاهِلِيَّة». وَأخرجه مُسلم فِي أَفْرَاده عَن نَافِع قَالَ: «جَاءَ عبد الله بن عمر إِلَى عبد الله بن مُطِيع، حِين كَانَ من أَمر الْحرَّة مَا كَانَ زمن يزِيد بن مُعَاوِيَة فَقَالَ: اطرحوا لأبي عبد الله وسَادَة، فَقَالَ: إِنِّي لم آتِك لأجلس أَتَيْتُك لأحدثك، سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من خلع يدا من طَاعَة لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة ووَلَا حجَّة لَهُ، وَمن مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة».
فَائِدَة: «العَمِّيّة»: بِكَسْر الْعين وَفتحهَا لُغَتَانِ، وَالْمِيم مَكْسُورَة مُشَدّدَة، وَالْيَاء مُشَدّدَة أَيْضا: هِيَ الْجَهَالَة والضلالة وَهِي فعلية من الْعَمى. وَقَوله: «فميتته جَاهِلِيَّة». هِيَ بِكَسْر الْمِيم. أَي عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ أهل الْجَاهِلِيَّة قبل المبعث من الْجَهَالَة والضلالة. وَقَوله: «يغْضب لعصبة أَو يدعوا إِلَى عصبَة أَو ينصر عصبَة» كل هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاث بِالْعينِ وَالصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ، وَحَكَى القَاضِي عِيَاض: اعجامها، وَالصَّوَاب الأول.

.الحديث السَّادِس:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش».
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق:
أَحدهَا: من حَدِيث أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي كتاب الْقَضَاء من سنَنه من رِوَايَة شُعْبَة، عَن عَلّي أبي الْأسد، عَن بكير بن وهب الْجَزرِي، عَن أنس مَرْفُوعا بِهِ سَوَاء، قَالَ: هَكَذَا يَقُول شُعْبَة: عَن عَلّي أبي الْأسد. وَرَوَى عَنهُ الْأَعْمَش فَقَالَ: عَن سهل أبي الْأسد. قلت: وَبُكَيْر هَذَا، قَالَ الْأَزْدِيّ: لَيْسَ بِذَاكَ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يعرف حَاله. وَتَبعهُ الذَّهَبِيّ فِي الْمِيزَان فَقَالَ: يجهل. وَهَذَا عَجِيب مِنْهُمَا فَهُوَ مَعْرُوف الْعين وَالْحَال، فقد رَوَى عَنهُ عَلّي أَبُو الْأسد الثِّقَة، كَمَا قَالَ ابْن معِين، وَأَثْنَى عَلَيْهِ شُعْبَة وَرَوَى عَنهُ أَبُو صَالح الْحَنَفِيّ. كَمَا أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب الدُّعَاء من رِوَايَة الْأَعْمَش عَنهُ، عَن بكير، عَن أنس وَأَبُو صَالح هَذَا اسْمه عبد الرَّحْمَن بن قيس ثِقَة أخرج لَهُ مُسلم وَوَثَّقَهُ ابْن معِين.
وَرَوَى عَنهُ أَيْضا سهل أَبُو الْأسد. أخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من رِوَايَة مسعر بن كدام، عَنهُ، عَن بكير بِهِ. وَسَهل هَذَا ذكره أَبُو حَاتِم فِي كِتَابه وَنقل توثيقه عَن ابْن معِين وَأبي زرْعَة، وَذكره ابْن حبَان فِي ثِقَات التَّابِعين، وَكَلَام مُسلم فِي كِتَابه يَقْتَضِي أَن سهلاً أَبَا الْأسد وعليًّا أَبَا الْأسود وَاحِد، فقد عرفت أَن ثَلَاثَة رووا عَنهُ، وَأما حَاله فَذكره ابْن حبَان فِي ثقاته عَلَى أَنه لم ينْفَرد بل تَابعه عَلَيْهِ خلق أَوَّلهمْ سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَنهُ. رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَإِسْنَاده عَلَى شَرط البُخَارِيّ، وَلما رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده عَن مُحَمَّد بن معمر، ثَنَا أَبُو دَاوُد، ثَنَا إِبْرَاهِيم بن سعد، عَن أَبِيه، عَن أنس بن مَالك أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش مَا عمِلُوا بِثَلَاث: إِذا استرحموا رحموا، وَإِذا عَاهَدُوا وفوا، وَإِذا حكمُوا عدلوا». قَالَ: لَا نعلم أسْند سعد بن إِبْرَاهِيم، عَن أنس إِلَّا هَذَا الحَدِيث.
قلت: وَرِجَاله رجال الصَّحِيح أَبُو دَاوُد احْتج بِهِ مُسلم، وَعلي احْتج بِهِ البُخَارِيّ، وَالْبَاقُونَ احتجا بهم. لَكِن رَوَى ابْن عدي، عَن سُلَيْمَان بن الْأَشْعَث قَالَ: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يُسأل عَن حَدِيث إِبْرَاهِيم هَذَا فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا فِي كتب إِبْرَاهِيم، لَا يَنْبَغِي أَن يكون لَهُ أصل. ثانيهم: حبيب بن أبي ثَابت وَهُوَ ثِقَة أخرج لَهُ البُخَارِيّ. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب الدُّعَاء من رِوَايَة عبد الله بن فروخ الْخُرَاسَانِي، وَفِيه مقَال، قَالَ البُخَارِيّ: تعرف وتنكر. وَقَالَ الْجوزجَاني: أَحَادِيثه مَنَاكِير، لَكِن أَثْنَى عَلَيْهِ سعيد بن أبي مَرْيَم، وَهُوَ رَاوِي هَذَا الحَدِيث عَنهُ، فَقَالَ: هُوَ أَرْضَى أهل الأَرْض عِنْدِي، عَن ابْن جريج، عَن حبيب. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث حبيب من وَجه آخر عَن أنس، وَفِيه يَحْيَى بن عِيسَى الرَّمْلِيّ، أخرج لَهُ مُسلم، وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ، وَتكلم فِيهِ غَيرهمَا، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ تَعْلِيقا. ثالثهم: قَتَادَة، عَن أنس، لَكِن بِلَفْظ: «إِن الْملك فِي قُرَيْش». وَفِيه: سعيد بن بشير وَفِيه مقَال. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ بعد أَن أخرجه من حَدِيث الْأَعْمَش، عَن سهل، عَن بكير الْجَزرِي، عَن أنس قَالَ: «دخل علينا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَنحن فِي بَيت فِي نفر من الْمُهَاجِرين قَالَ: فَجعل كل رجل منا يوسِّع لَهُ يَرْجُو أَن يجلس إِلَى جنبه، فَقَامَ عَلَى بَاب الْبَيْت فَقَالَ: الْأَئِمَّة من قُرَيْش، ولي عَلَيْكُم حق عَظِيم، وَلَهُم مثله، مَا فعلوا ثَلَاثًا: إِذا استرحموا رحموا، وحكموا فعدلوا، وعاهدوا فوفوا؛ فَمن لم يفعل ذَلِك مِنْهُم فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ». كَذَا رَوَاهُ الْأَعْمَش، عَن سهل، عَن بكير، عَن أنس، وَكَذَا رَوَاهُ جمَاعَة، عَن الْأَعْمَش، عَن سهل يكنى أَبَا الْأسد، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مسعر بن كدام، عَن سهل وَرَوَاهُ شُعْبَة، عَن عَلّي بن أبي الْأسد وَقيل عَنهُ، عَن عَلّي أبي الْأسد وَهُوَ واهم فِيهِ. قَالَ: وَالصَّحِيح مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش ومسعر. ثمَّ سَاقه من طَرِيق أُخْرَى إِلَى أنس.
الطَّرِيق الثَّانِي: من حَدِيث عَلّي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أخرجه الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه، وَكَذَا الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه لَكِن فِي سَنَد الْبَيْهَقِيّ وَأَظنهُ فِي الآخر ربيعَة بن ناجد وَقد ذكره ابْن حبَان فِي ثقاته. لَكِن تفرد عَنهُ بالرواية أَبُو صَادِق، وَبَاقِي رِجَاله ثِقَات، وَأما الْحَاكِم فَأخْرجهُ فِي مُسْتَدْركه من هَذَا الْوَجْه من هَذِه الطَّرِيق فِي آخر فَضَائِل الْقَبَائِل بِزِيَادَة عَلَيْهِ وَلم يُضعفهُ. وَفِي علل الدَّارَقُطْنِيّ وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عَلّي مَرْفُوعا: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش» فَقَالَ: يرويهِ مسعر وَاخْتلف عَنهُ فرفعه فيض بن الْفضل، عَن مسعر عَن سَلمَة بن كهيل، عَن أبي صَادِق، عَن ربيعَة بن ناجد، عَن عَلّي مَرْفُوعا. وَخَالفهُ دَاوُد بن عبد الحميد فَرَوَاهُ عَن مسعر، عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة، عَن أبي صَادِق، وَرَفعه أَيْضا وَغَيرهمَا يرويهِ عَن مسعر مَوْقُوفا وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو عوَانَة، عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة مَوْقُوفا، وَالْمَوْقُوف أشبه بالصَّواب.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث أبي بَرزَة الْأَسْلَمِيّ، عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «الْأَئِمَّة من قُرَيْش». رَوَاهُ أَبُو بكر بن أبي عَاصِم، عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، عَن سكين بن عبد الْعَزِيز، عَن أبي الْمنْهَال سيَّار بن سَلامَة عَن أبي بَرزَة بِهِ. وسكين هَذَا بَصرِي، وَثَّقَهُ وَكِيع وَابْن معِين، وَذكره ابْن حبَان فِي ثقاته من أَتبَاع التَّابِعين، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: ضَعِيف. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ.
قلت: ويعضد هَذِه الطّرق أَحَادِيث فِي الصَّحِيح دَالَّة عَلَى أَن الْأَئِمَّة من قُرَيْش.
أَحدهَا: من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «النَّاس تبع لقريش فِي هَذَا الشَّأْن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم». أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا.
ثَانِيهَا: من حَدِيث ابْن عمر، مَرْفُوعا: «لَا يزَال هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا بَقِي مِنْهُم اثْنَان» أخرجه البُخَارِيّ وَمُسلم أَيْضا ثَالِثهَا: من حَدِيث جَابر مَرْفُوعا: «النَّاس تبع لقريش فِي الْخَيْر وَالشَّر». أخرجه مُسلم.
رَابِعهَا: من حَدِيث مُعَاوِيَة، مَرْفُوعا: «إِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش لَا يعاديهم أحد إِلَّا أكبه الله عَلَى وَجهه» أخرجه البُخَارِيّ. خَامِسهَا: من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مَرْفُوعا: «قُرَيْش وُلَاة النَّاس فِي الْخَيْر وَالشَّر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة». رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَرَوَى الشَّافِعِي عَن ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب، عَن الزُّهْرِيّ، أَنه بلغه، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «قدمُوا قُريْشًا وَلَا تقدموها، وتعلموا من قُرَيْش وَلَا تُعالِمُوها». وَرَوَى ابْن حبَّان فِي صَحِيحه من حَدِيث جُبَير بن مطعم رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «للقرشي قُوَّة الرجلَيْن من غير قُرَيْش». فَسَأَلَ سَائل ابْن شهَاب: مَا مَعْنَى ذَلِك؟ قَالَ: نبل الرَّأْي. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَقد احْتج بِهَذَا- يَعْنِي «الْأَئِمَّة من قُرَيْش»- أَبُو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَلَى الْأَنْصَار يَوْم السَّقِيفَة فتركوا مَا توهموه.
قلت: هَذِه الْقِصَّة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي صَحِيحه عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي جملَة حَدِيث طَوِيل إِلَى أَن قَالَ: «إِنَّه بَلغنِي أَن قَائِلا مِنْكُم يَقُول: إِنَّمَا كَانَت بيعَة أبي بكر فلتة وتمت. أَلا وَإِنَّهَا قد كَانَت كَذَلِك، وَلَكِن الله وقى شَرها، وَلَيْسَ فِيكُم من تقطع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر وَإنَّهُ كَانَ من خبرنَا حِين توفّي رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْأَنْصَار خالفونا واجتمعوا بأسرهم فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة، وَخَالف عَنَّا عليّ وَالزبير وَمن مَعَهُمَا، وَاجْتمعَ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى أبي بكر، فَقلت لأبي بكر: انْطلق بِنَا إِلَى إِخْوَاننَا هَؤُلَاءِ من الْأَنْصَار، فَانْطَلَقْنَا نريدهم، فَلَمَّا دنونا مِنْهُم لَقينَا مِنْهُم رجلَانِ صالحان فذكرا مَا تمالأ عَلَيْهِ الْقَوْم، فَقَالَا: أَيْن تُرِيدُونَ يَا معشر الْمُهَاجِرين؟ فَقُلْنَا: نُرِيد إِخْوَاننَا هَؤُلَاءِ من الْأَنْصَار، فَقَالَا: لَا عَلَيْكُم لَا تقربوهم، اقضوا أَمركُم، فَقلت: وَالله لنأتينهم، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أتيناهم فِي سَقِيفَة بني سَاعِدَة، فَإِذا رجل مزمل بَين ظهرانيهم فَقلت: من هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا سعد بن عبَادَة. فَقلت: مَا لَهُ؟ قَالُوا: يوعك. فَلَمَّا جلسنا قَلِيلا تشهد خطيبهم فَأَثْنَى عَلَى الله بِمَا هُوَ أَهله، ثمَّ قَالَ: أمَّا بعد، فَنحْن أنصار الله وكتيبة الْإِسْلَام، وَأَنْتُم يَا معشر الْمُهَاجِرين رَهْط منا، وَقد دفَّت دافة من قومكم، فَإِذا هم أَرَادوا أَن يختزلونا من أصلنَا وَإِن يحضنونا من الْأَمر. فَلَمَّا سكت أردْت أَن أَتكَلّم وَكنت زورت مقَالَة أعجبتني أُرِيد أَن أقدمها بَين يَدي أبي بكر وَكنت أداري مِنْهُ بعض الْحَد فَلَمَّا أردْت أَن أَتكَلّم قَالَ أَبُو بكر: عَلَى رسلك فَكرِهت أَن أغضبهُ فَتكلم أَبُو بكر، فَكَانَ أحكم مني وأوقر، وَالله مَا ترك من كلمة أعجبتني إِلَّا قَالَ فِي بديهته مثلهَا أَو أفضل مِنْهَا حَتَّى سكت، فَقَالَ: مَا ذكرْتُمْ فِيكُم من خير فَأنْتم لَهُ أهل، وَلنْ يعرف الْعَرَب هَذَا الْأَمر إِلَّا لهَذَا الْحَيّ من قُرَيْش هم أَوسط الْعَرَب نسبا ودارًا، وَقد رضيت لكم أحد هذَيْن الرجلَيْن فَبَايعُوا أَيهمَا شِئْتُم. فَأخذ بيَدي وبيد أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وَهُوَ جَالس بَيْننَا، فَلم أكره مِمَّا قَالَ غَيرهَا، كَانَ وَالله لِأَن أقدم فَتضْرب عنقِي لَا يُقرِّبني ذَلِك من إِثْم أحب إِلَيّ من أَن أتأمر عَلَى قوم فيهم أَبُو بكر، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن تسول نَفسِي عِنْد الْمَوْت شَيْئا لَا أَجِدهُ الْآن، فَقَالَ قَائِل من الْأَنْصَار: أَنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجَّب، منا أَمِير ومنكم أَمِير يَا معشر قُرَيْش. فَكثر اللَّغط وَارْتَفَعت الْأَصْوَات حَتَّى فرقت من الِاخْتِلَاف، فَقلت: ابسُط يدك يَا أَبَا بكر فَبَايَعته وَبَايَعَهُ الْمُهَاجِرُونَ ثمَّ بَايعه الْأَنْصَار ونزونا عَلَى سعد بن عبَادَة، فَقَالَ قَائِل مِنْهُم: قتلتم سعد بن عبَادَة». وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث عَائِشَة: «فَقَالَ أَبُو بكر: نَحن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء. فَقَالَ الْحباب بن الْمُنْذر: لَا وَالله لَا نَفْعل ذَلِك أبدا منا أَمِير ومنكم أَمِير، فَقَالَ أَبُو بكر: لَا وَلَكنَّا الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء، هم أَوسط الْعَرَب دَارا وأعرفهم أحسابًا فبايِعُوا عمر بن الْخطاب أَو أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح، فَقَالَ عمر: بل نُبَايِعك، أَنْت خيرنا وَأحب إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأخذ عمر بِيَدِهِ فَبَايعهُ وَبَايَعَهُ النَّاس. فَقَالَ قَائِل: قتلتم سعد بن عبَادَة. فَقَالَ عمر: قَتله الله».
وَفِي رِوَايَة للبيهقي عَن مُحَمَّد بن يسَار فِي خطْبَة أبي بكر قَالَ: «وَإِن هَذَا الْأَمر فِي قُرَيْش مَا أطاعوا الله واستقاموا عَلَى أمره، قد بَلغَكُمْ ذَلِك أَو سمعتموه عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا إنَّ الله مَعَ الصابرين فَنحْن الْأُمَرَاء وَأَنْتُم الوزراء إِخْوَاننَا فِي الدَّين وأنصارنا عَلَيْهِ».
فَائِدَة: فِي ضبط مَا وَقع فِي هَذَا الْأَثر من الْأَلْفَاظ الَّتِي قد تُصحف، وسنبين مَعَانِيهَا. «الفلت» الْفجأَة، وَذَلِكَ أَنهم لم ينتظروا بيعَة أبي بكر عَامَّة الصَّحَابَة وَإِنَّمَا ابتدرها عمر وَمن تَابعه. وَقَوله: «لَكِن وقى الله شَرها» يُرِيد الشَّرّ المتوقع فِي الفلتات لَا أَن بيعَة أبي بكر كَانَ فِيهَا شَرّ. قَالَه ابْن حبَان فِي صَحِيحه. و«السَّقِيفَة» الصّفة فِي الْبَيْت. و«بَنو سَاعِدَة» بطن من الْأَنْصَار. و«المزمل» المدثر بِثَوْب وَنَحْوه، وظهرانيهم أَي: بَينهم. و«الوعك»: الحمَّى. و«الكتيبة» الْجَيْش. و«الدافة» الْجَمَاعَة من النَّاس من أهل الْبَادِيَة يقصدون الْمصر، أَي: جَاءَت جمَاعَة وَمَعْنى يختزلونا: يقتطفونا عَن مرادنا. وَمَعْنى «تحضنوننا»: تفردونا. وَمَعْنى «زورت» هيأت وزينت فِي نَفسِي كلَاما لأذكره. و«الْحَد» و«الحدة» سَوَاء من الْغَضَب. و«المدارأة» بِالْهَمْز: المدافعة بلين، وَسُكُون وَبِغير همز: الخديعة وَالْمَكْر، وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى وَاحِد. وَقَوله: «عَلَى رسلك» هُوَ بِكَسْر الرَّاء أَي عَلَى هنيتك. و«البديهة» ضد التروي والتفكر. وَقَوله: «إِلَّا أَن تسول لي نَفسِي» أَي تُحسنهُ. و«الجذيل» تَصْغِير الجذل وَهُوَ عود ينصب لِلْإِبِلِ الجربى تَحْتك بِهِ فتشتفي.
و«المحكك»: الَّذِي يكثر بِهِ الاحتكاك حَتَّى صَار أملس و«العذيق» بِضَم الْعين تَصْغِير العذق وبِفَتْحِهَا النَّخْلَة. و«المرجَّب» بِالْجِيم الْمسند بالرجبة وَهِي خَشَبَة ذَات شعبتين، وَذَلِكَ إِذا طَالَتْ وَكثر حملهَا اتَّخذُوا ذَلِك لِضعْفِهَا من كَثْرَة حملهَا، وَالْمعْنَى: أَنِّي ذُو رَأْي يستشفى بِهِ فِي الْحَوَادِث، لاسيما فِي مثل هَذِه الْحَادِثَة، وَأَنِّي فِي ذَلِك كالعود الَّذِي يشفي الجربى وكالنخلة الْكَثِيرَة الْحمل؛ من توفر مواد الآراء عِنْدِي، ثمَّ إِنَّه أَشَارَ بِالرَّأْيِ الصائب عِنْده فَقَالَ: «منا أَمِير ومنكم أَمِير» و«الْفرق»: الْخَوْف والفزع. «اللَّغط»: كَثْرَة الْأَصْوَات واختلاطها. و«النزو» الْوُثُوب وَمِنْه نزى التيس عَلَى الشَّاة. وَقَول عمر لسعد: «قَتله الله»، قَالَ ابْن حبَان فِي صَحِيحه يُرِيد فِي سَبِيل الله قَالَ ابْن حبَان: قَالَ مَالك: أَخْبرنِي الزُّهْرِيّ، أَن عُرْوَة بن الزبير أخبرهُ: أَن الرجلَيْن الأنصاريين اللَّذين لقيا الْمُهَاجِرين هما عويم بن سَاعِدَة ومعن بن عدي. وَزعم مَالك أَن الزُّهْرِيّ سمع سعيد بن الْمسيب يزْعم أَن الَّذِي قَالَ يَوْمئِذٍ: «أَنا جذيلها المحكك»
رجل من بني سَلمَة يُقَال لَهُ: حباب بن الْمُنْذر. وَحَكَى ابْن الْجَوْزِيّ فِي جَامع المسانيد قولا: أَنه سعد بن عبَادَة.

.الحديث السَّابِع:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمَّر عَلَى غَزْوَة مُؤْتَة زيد بن حَارِثَة، وَقَالَ: إِن قتل زيد فجعفر، وَإِن قتل جَعْفَر فعبد الله بن رَوَاحَة».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وَسلف فِي كتاب الْوكَالَة وَاضحا، وَذكره الرَّافِعِيّ أَيْضا فِي الْوَصَايَا وَعبارَته هُنَا نقلا عَن الْمَاوَرْدِيّ: وَأَنه إِذا عهد إِلَى اثْنَيْنِ أَو أَكثر عَلَى التَّرْتِيب، فَقَالَ: الْخَلِيفَة بعد موتِي فلَان، وَبعد مَوته فلَان، جَازَ وانتقلت الْولَايَة إِلَيْهِم عَلَى مَا رتب كَمَا رتب رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أُمَرَاء جَيش مُؤْتَة. قلت: وَوَقع كَمَا أخبر النَّبِي وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا عَن أنس قَالَ: «خَطَبنَا رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: أَخذ الرَّايَة زيد بن حَارِثَة فأصيب فَأَخذهَا جَعْفَر فأصيب ثمَّ أَخذهَا عبد الله فأصيب، ثمَّ أَخذهَا خَالِد بن الْوَلِيد من غير إمرة فَفتح الله عَلَيْهِ، فَمَا يسرني- أَو قَالَ: مَا يسرهم- أَنهم عندنَا، وَإِن عَيْنَيْهِ لتذرفان».

.الحديث الثَّامِن:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «اسمعوا وَأَطيعُوا وَإِن أمَّر عَلَيْكُم عبد حبشِي مجدع الْأَطْرَاف».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أم الْحصين الأحمسية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «حججْت مَعَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع فرأيته حِين رَمَى جَمْرَة الْعقبَة، وَانْصَرف وَهُوَ عَلَى رَاحِلَته وَمَعَهُ بِلَال وَأُسَامَة، أَحدهمَا يَقُود رَاحِلَته، وَالْآخر رَافع ثَوْبه عَلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يظله من الشَّمْس، قَالَت: فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قولا كثيرا لم أفهمهُ، وسمعته يَقُول: إِن أَمر عَلَيْكُم عبد أسود يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطيعُوا». وَفِي رِوَايَة لَهُ نَحوه فِي الْإِمَارَة فَقَط وَقَالَ: «عبدا حَبَشِيًّا مجدعًا» وَقَالَت أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى أَو بِعَرَفَات. وَفِي رِوَايَة لَهُ من حَدِيث أبي ذَر قَالَ: «أَوْصَانِي خليلي أَن اسْمَع وأطع وَلَو لعبد مجدع الْأَطْرَاف» وَقد سلف هَذَا الحَدِيث من طَرِيق أنس أَيْضا.
فَائِدَة: «المجدوع»: الْمَقْطُوع الْأَطْرَاف، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي الْأنف وَالْأُذن.

.الحديث التَّاسِع:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من نزع يَده من طَاعَة إِمَامه فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة وَلَا حجَّة لَهُ».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من خلع يدا من طَاعَة إِمَامه لَقِي الله يَوْم الْقِيَامَة لَا حجَّة لَهُ، وَمن مَاتَ لَيْسَ فِي عُنُقه بيعَة مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة».

.الحديث العَاشِر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من ولي عَلَيْهِ والٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئا من مَعْصِيّة الله فليكره مَا يَأْتِي من مَعْصِيّة الله، وَلَا ينزعن يَده من طَاعَته».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عَوْف بن مَالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: «خِيَار أئمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم، وَيصلونَ عَلَيْكُم وتصلون عَلَيْهِم، وشرار أئمتكم الَّذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنوهم ويلعنوكم. قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُول الله أَفلا ننابذهم؟ قَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُم الصَّلَاة، أَلا من ولي عَلَيْهِ والٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئا من مَعْصِيّة الله فليكره مَا يَأْتِي من مَعْصِيّة الله، وَلَا ينزعن يدا من طَاعَة» وَفِيه أَيْضا من حَدِيث أم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «يسْتَعْمل عَلَيْكُم أُمَرَاء تعرفُون وتنكرون، فَمن كره فقد برِئ، وَمن أنكر فقد سلم، وَلَكِن من رَضِي وتابع. قَالُوا: أَولا نقاتلهم؟ قَالَ: لَا مَا صلوا». وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من كره من أميره شَيْئا فليصبر، فَإِنَّهُ من خرج من السُّلْطَان شبْرًا مَاتَ ميتَة جَاهِلِيَّة».

.الحديث الحَادِي عشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِذا بُويِعَ لخليفتين، فَاقْتُلُوا الآخر مِنْهُمَا».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وَأعله ابْن الْقطَّان بِسَعِيد الجُريري، فَإِنَّهُ مختلط.
فَائِدَة: قَالَ الْخطابِيّ: مَعْنَاهُ لَا تطيعوه وَلَا تقبلُوا لَهُ قولا فَيكون كمن مَاتَ، وَقيل مَعْنَاهُ، إِن أصر وَلم يُبَايع الأول فَهُوَ بَاغ يُقَاتل أَي فَيكون عَلَى الأول بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَعَلَى الثَّانِي بِالْمُثَنَّاةِ تَحت.

.الحديث الثَّانِي عشر:

فِي الْخَبَر الْمَشْهُور «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمَّار: تقتلك الفئة الباغية».
هَذَا الحَدِيث مَرْوِيّ من طرق، أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي قَتَادَة، وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأم سَلمَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وَأخرجه البُخَارِيّ فِي بَاب التعاون فِي بِنَاء الْمَسْجِد من كتاب الصَّلَاة من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَثَبت ذَلِك فِي نُسْخَة صَحِيحَة مِنْهُ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَأحمد فِي مُسْنده من حَدِيث خُزَيْمَة بن ثَابت. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه، من حَدِيث أبي الْهُذيْل، عَنهُ، وَمن حَدِيث أبي رَافع ومولاة لعمَّار، وَأبي الْيُسْر، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ، وَمُعَاوِيَة وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعمر، وَعَمْرو بن حزم، وَأم سَلمَة، وَمن حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أبي لَيْلَى عَن عمار، وَمن حَدِيث زِيَاد بن الْفَرد، وَأبي أَيُّوب، وَحُذَيْفَة، وَمن حَدِيث وَلَده مُحَمَّد عَنهُ، وَهُوَ حَدِيث مَشْهُور كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ وَغَيره. بل قَالَ ابْن عبد الْبر فِي استيعابه: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «تقتل عمار الفئة الباغية» وَهُوَ من أصح الْأَحَادِيث. قَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه مرج الْبَحْرين: وَكَيف يكون فِي هَذَا الحَدِيث اخْتِلَاف، وَقد رَأينَا مُعَاوِيَة نَفسه حِين لم يقدر عَلَى إِنْكَاره قَالَ: «إِنَّمَا قَتله من أخرجه». وَلَو كَانَ حَدِيثا فِيهِ شكّ لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ، وَقد أجَاب عَلّي عَن قَول مُعَاوِيَة بِأَن قَالَ: «رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قتل حَمْزَة حِين أخرجه» وَهُوَ من عليّ إِلْزَام لَا جَوَاب عَنهُ. قلت: وَجَمَاعَة من الْحفاظ طعنوا فِي الحَدِيث. قَالَ الْخلال فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي علله عَنهُ أَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَيَحْيَى بن معِين، وَأَبا خَيْثَمَة، وَغَيرهم ذكرُوا هَذَا الحَدِيث: «تقتل عمار الفئة الباغية»، فَقَالُوا: مَا فِيهِ حَدِيث صَحِيح. وَأَن الإِمَام أَحْمد قَالَ: قد رُوِيَ فِي «عمار تقتله الفئة الباغية» ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، لَيْسَ فِيهَا حَدِيث صَحِيح. وَقَالَ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه التَّنْوِير: هُوَ حَدِيث لَا مطْعن فِي صِحَّته، وَقد رَوَاهُ جمَاعَة عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد اسْتَوْفَى طرقه الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير فَرَوَاهُ عَن مُعَاوِيَة نَفسه، وَعَن عمر وَابْنه وَغَيرهمَا، وَلَو كَانَ حَدِيثا غير صَحِيح لرده مُعَاوِيَة وَأنْكرهُ.

.الحديث الثَّالِث عشر:

رُوِيَ «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِابْنِ مَسْعُود: يَا بن أم عبدٍ مَا حكم من بغى من أمتِي؟ قَالَ: الله وَرَسُوله أعلم. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يجاز عَلَى جريحهم، وَلَا يقتل أسيرهم».
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ ابْن عدي وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لعبد الله ابْن مَسْعُود: «يَا ابْن مَسْعُود، أَتَدْرِي مَا حكم الله- تعالي- فِيمَن بغى من هَذِه الْأمة؟ قَالَ ابْن مَسْعُود: الله وَرَسُوله أعلم. قَالَ: فَإِن حكم الله فيهم أَن لَا يتبع مدبرهم، وَلَا يقتل أسيرهم وَلَا يذفف عَلَى جريحهم» قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة: «وَلَا يجاز عَلَى جريحهم، وَلَا يقسم فيؤهم».
سكت عَنهُ الْحَاكِم، وَأعله ابْن عدي فَقَالَ: هَذَا الحَدِيث غير مَحْفُوظ. وَأعله أَيْضا الْبَيْهَقِيّ فَقَالَ فِي خلافياته: إِسْنَاده ضَعِيف، وَقَالَ فِي سنَنه: تفرد بِهِ كوثر بن حَكِيم وَهُوَ ضَعِيف. وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ فقد قَالَ أَحْمد: أَحَادِيثه بَوَاطِيلُ، لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ مرّة: مَتْرُوك الحَدِيث. وَكَذَا قَالَ السَّعْدِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ الرازيان: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ البُخَارِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ: مَتْرُوك الحَدِيث. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي الْمَنَاكِير عَن الْمَشَاهِير، وَيَأْتِي عَن الثِّقَات بِمَا لَيْسَ من حَدِيث الْأَثْبَات. وَضَعفه أَيْضا الْمَقْدِسِي فِي أَحْكَامه وَكَذَا عبد الْحق.
فَائِدَة: «يُتّبع»: بِضَم الْيَاء وَتَشْديد التَّاء يطْلب. و«التذفيف»
بِالْمُعْجَمَةِ، وَيروَى بِالْمُهْمَلَةِ وَهُوَ تتميم الْقَتْل. وَقَوله فِي رِوَايَة الرَّافِعِيّ: «يَا ابْن أم عبد» قيل: أَرَادَ بِهِ عبد الله، أَي: يَا ابْن أمك. وَقيل: اسْمه الَّذِي سَمَّاهُ بِهِ أَبَوَاهُ عبد. وَقَوله: «لَا يجاز عَلَى جريحهم»، أَي: لَا يتمم قَتله، يُقَال: أجزت عَلَيْهِ، أَي: أسرعت قَتله. هَذَا آخر الْكَلَام عَلَى أَحَادِيث الْبَاب بِحَمْد الله وَمِنْه.

.وَأما آثاره:

فَأَرْبَعَة عشر أثرا:

.الأول:

«أَن أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَاتل مانعي الزَّكَاة». وَهَذَا أثر صَحِيح، وَقد سلف بِطُولِهِ فِي الزَّكَاة. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَسَببه أَن بعض مانعي الزَّكَاة قَالُوا لأبي بكر: أمرنَا بِدفع الزَّكَاة إِلَى من صلَاته سكن لنا وَهُوَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم} إِلَى قَوْله {سكن لَهُم} وصلوات غَيره لَيست سكنًا لنا.

.الْأَثر الثَّانِي:

«أَن عليًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَاتل أَصْحَاب الْجمل، وَأهل الشَّام بالنهروان، وَقَاتل أهل الْبَصْرَة، وَلم يتبع بعد الِاسْتِيلَاء مَا أَخَذُوهُ من الْحُقُوق». وَهَذَا مَعْرُوف عَنهُ وَلَا حَاجَة إِلَى الْخَوْض فِيهِ، وَلَا فِيمَا قَالَه الرَّافِعِيّ بعدُ من أَن أهل الْجمل والنهروان ثَبت أَنهم بغاة وَلَا مَا ذكره فِي مُعَاوِيَة- رَضِي الله عَنْهُم، وَعَن سَائِر الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ. و«النهروان»: مَكَان بِقرب بَغْدَاد، وَهُوَ بِفَتْح النُّون وَالرَّاء وَإِسْكَان الْهَاء، كَذَا ضَبطه ثَعْلَب وَابْن قُتَيْبَة فِي أدب الْكَاتِب والجوهري فِي صحاحه وَآخَرُونَ، وَهُوَ الْمَشْهُور فِي ضَبطه كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي تهذيبه. وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: هُوَ بِضَم النُّون وَالرَّاء وَذكره الجواليقي فِي كِتَابه المعرب بِالْوَجْهَيْنِ فَقَالَ: النهروان- بِفَتْح النُّون، وَالرَّاء- فَارسي مُعرب. قَالَ وَقَالَ أَبُو عَمْرو: سَمِعت من يَقُول: نهروان بضمهما. وَذكره السَّمْعَانِيّ فِي أنسابه بِالضَّمِّ فَقَط قَالَ: وَهِي بَلْدَة قديمَة لَهَا عدَّة نواحي خرب أَكْثَرهَا، وَهِي بِقرب بَغْدَاد. ووهمه الذَّهَبِيّ فِي كِتَابه سير النبلاء. وَقَالَ الْبكْرِيّ فِي مُعْجم مَا استعجم النهروان، بالعراق مَعْلُوم بِفَتْح أَوله، وَإِسْكَان ثَانِيه، وَفتح الرَّاء الْمُهْملَة وبكسرها أَيْضا نهروان وبضَمهَا أَيْضا نهروان وَيُقَال أَيْضا: بِضَم النُّون وَالرَّاء مَعًا، أَربع لُغَات وَالْهَاء فِي جَمِيعهَا سَاكِنة. وَسُئِلَ الْأَصْمَعِي: هَل هُوَ بِضَم النُّون أَو كسرهَا؟ فَقَالَ: لَا أَدْرِي.
وَأنْشد ابْن الطرماح:
قل فِي شط نهروان اغتماضي ** وَدَعَانِي حب الْعُيُون المراض

فَأمْسك.