فصل: الحديث الخَامِس عشر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث العَاشِر:

«أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يدْخل عَلَى بعض أَزوَاجه فَيَقُول: هَل من غداء؟ فَإِن قَالُوا: لَا، قَالَ: إِنِّي إِذا صَائِم».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «قَالَ لي رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم: يَا عَائِشَة، هَل عنْدكُمْ شَيْء؟ قَالَت فَقلت: يَا رَسُول الله، مَا عندنَا شَيْء. قَالَ: فَإِنِّي صَائِم قَالَت: فَخرج رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأهديت لنا هَدِيَّة- أَو جَاءَنَا زور- قَالَت: فَلَمَّا رَجَعَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلت: يَا رَسُول الله، أهديت لنا هَدِيَّة- أَو جَاءَنَا زور- وَقد خبأت لَك شَيْئا. قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قلت: حيس. قَالَ: هاتيه. فَجئْت بِهِ فَأكل، ثمَّ قَالَ: قد كنت أَصبَحت صَائِما».
قَالَ طَلْحَة: فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث مُجَاهدًا فَقَالَ: ذَاك بِمَنْزِلَة الرجل يخرج الصَّدَقَة من مَاله، فَإِن شَاءَ أمضاها، وَإِن شَاءَ أمْسكهَا.
وَفِي رِوَايَة لَهُ قَالَت: «دخل عليّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل عنْدكُمْ من شَيْء؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنِّي إِذا صَائِم. ثمَّ أَتَانَا يَوْمًا آخر فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله، أهدي لنا حيس. قَالَ أرينيه فَلَقَد أَصبَحت صَائِما فَأكل».
زَاد النَّسَائِيّ ثمَّ قَالَ: «إِنَّمَا مثل صَوْم المتطوع مثل الرجل يخرج من مَاله الصَّدَقَة، فَإِن شَاءَ أمضاها، وَإِن شَاءَ حَبسهَا». وَفِي رِوَايَة لَهُ: «يَا عَائِشَة، إِنَّمَا منزلَة من صَامَ فِي غير رَمَضَان أَو غير قَضَاء رَمَضَان أَو فِي التَّطَوُّع بِمَنْزِلَة رجل أخرج صَدَقَة مَاله فجاد مِنْهَا بِمَا شَاءَ فأمضاه، وبخل مِنْهَا بِمَا شَاءَ فأمسكه».
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد، وَابْن حبَان بِإِسْنَاد صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ، قَالَت عَائِشَة: فَقُلْنَا: «يَا رَسُول الله، أهدي لنا حيس فخبأناه لَك فَقَالَ: أدْنيه. فَأصْبح صَائِما ثمَّ أفطر» وَفِي رِوَايَة للدارقطني عَنْهَا قَالَت: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتينا فَيَقُول: هَل عنْدكُمْ من غداء؟ فَإِن قُلْنَا: نعم. تغدى، وَإِن قُلْنَا: لَا. قَالَ: إِنِّي صَائِم. وَإنَّهُ أَتَانَا ذَات يَوْم وَقد أهدي لنا حيس فَقلت: يَا رَسُول الله، قد أهدي لنا حيس وَإِنَّا قد خبأنا لَك قَالَ: أما إِنِّي أَصبَحت صَائِما. فَأكل» ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هَذَا إِسْنَاد صَحِيح، وَهَذِه الرِّوَايَة مُطَابقَة لما أوردهُ الرَّافِعِيّ لأجل لَفْظَة الْغَدَاء فِيهَا، وَهِي مَوضِع الشَّاهِد، فَإِن الرَّافِعِيّ اسْتدلَّ بهَا عَلَى أَن النِّيَّة فِي التَّطَوُّع تُجزئ قبل الزَّوَال حَيْثُ قَالَ: أَلا ترَى أَنه طلب الْغَدَاء أَي: وَهُوَ بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة والدَّال الْمُهْملَة-: مَا يُؤْكَل قبل الزَّوَال وَمَا يُؤْكَل بعده يُسمى عشَاء.
فَائِدَة:
الحيس- بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة، ثمَّ مثناة تَحت سَاكِنة، ثمَّ سين مُهْملَة- هُوَ: التَّمْر وَالسمن والأقط. قَالَ الرَّافِعِيّ: وَيروَى: «إِنِّي إِذن صَائِم». قلت: صَحِيحَة رَوَاهَا مُسلم كَمَا سبق، وَفِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ، من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل عَلَيْهَا ذَات يَوْم فَقَالَ: هَل عنْدك شَيْء؟ قلت: لَا. قَالَ: فَإِنِّي إِذا أَصوم. قَالَت: وَدخل عليَّ يَوْمًا آخر، فَقَالَ: أعندك شَيْء؟ قلت: نعم. قَالَ: إِذا أفطر وَإِن كنت قد فرضت الصَّوْم» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاد حسن صَحِيح. وَخَالف أَبُو حَاتِم فَقَالَ- فِيمَا حَكَاهُ ابْنه عَنهُ- أَنه مُنكر. وَكَانَ سَببه أَن فِي إسنادها سُلَيْمَان بن قرم الضَّبِّيّ الرافضي، خرج لَهُ خَ تَعْلِيقا، وم مُتَابعَة، وَوَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره، ووهاه ابْن معِين وَابْن حبَان، وَفِي إسنادها أَيْضا سماك بن حَرْب، وَهُوَ من رجال مُسلم، وَهُوَ صَالح الحَدِيث، وَكَانَ شُعْبَة يُضعفهُ. وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ: «قرِّبيه وأقضي يَوْمًا مَكَانَهُ» قَالَا: وَهَذِه الزِّيَادَة غير مَحْفُوظَة.

.الحديث الحَادِي عشر:

أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «من ذرعه الْقَيْء وَهُوَ صَائِم فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن استقاء فليقض».
هَذَا الحَدِيث حسن رَوَاهُ الدَّارمِيّ فِي مُسْنده، وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه، وَأَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِإِسْنَاد كل رِجَاله ثِقَات وَاللَّفْظ الْمَذْكُور لأبي دَاوُد، وَابْن حبَان، وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: «من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء، وَمن استقاء عمدا فليقض» وَلَفظ ابْن مَاجَه: «من ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء». وَلَفظ النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى: «إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء فَلَا إفطار عَلَيْهِ، وَإِذا تقيأ فَعَلَيهِ الْقَضَاء» ثمَّ قَالَ: وَقفه عَطاء بن أبي رَبَاح عَلَى أبي هُرَيْرَة: «من قاء وَهُوَ صَائِم فليفطر». وَلَفظ الدَّارمِيّ: «إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء وَهُوَ لَا يُريدهُ فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا استقاء فَعَلَيهِ الْقَضَاء». وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِأَلْفَاظ مِنْهَا: «من استقاء عمدا فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَمن ذرعه الْقَيْء فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ». وَمِنْهَا: «إِذا ذرع الصَّائِم الْقَيْء فَلَا فطر عَلَيْهِ وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا تقيأ فَعَلَيهِ الْقَضَاء» وَمِنْهَا: «من ذرعه الْقَيْء فليتم عَلَى صَوْمه وَلَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَمن قاء مُتَعَمدا فليقض» قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ عقب الرِّوَايَة الأولَى: رُوَاته كلهم ثِقَات. وَفِي الثَّانِي وَالثَّالِث: عبد الله بن سعيد بن أبي سعيد قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي حَقه: لَيْسَ بِالْقَوِيّ.
قلت: بل تَرَكُوهُ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب لَا نعرفه من حَدِيث هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا إِلَّا من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس وقَالَ البُخَارِيّ: لَا أرَاهُ مَحْفُوظًا.
قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَلَا يَصح إِسْنَاده. وَقَالَ الدَّارمِيّ فِي مُسْنده: قَالَ عِيسَى بن يُونُس- يَعْنِي الرَّاوِي عَن هِشَام بن حسان-: زعم أهل الْبَصْرَة أَن هشاماً أوهم فِيهِ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: هَذَا حَدِيث تفرد بِهِ هِشَام ابْن حسان القردوسي، وَقد أخرجه أَبُو دَاوُد فِي سنَنه وَبَعض الْحفاظ لَا يرَاهُ مَحْفُوظًا، قَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول: لَيْسَ من ذَا شَيْء. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر ضَعِيف عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة «أَنه قَالَ فِي الْقَيْء: لَا يفْطر» قَالَ: وَرُوِيَ فِي ذَلِك عَن عَلّي. ثمَّ سَاقه من حَدِيث الْحَارِث عَنهُ، قَالَ: «إِذا تقيأ وَهُوَ صَائِم فَعَلَيهِ الْقَضَاء وإِذا ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاء». قلت: وَقد أسلفنا عَن الدَّارَقُطْنِيّ أَنه قَالَ: رُوَاته كلهم ثِقَات. وَتَابعه عَلَى ذَلِك عبد الْحق فِي أَحْكَامه، وَصَاحب الْإِلْمَام وَقد صَححهُ ابْن حبَان كَمَا سلف، واستدركه الْحَاكِم من حَدِيث حَفْص بن غياث، عَن هِشَام بِهِ بِلَفْظ: «إِذا استقاء الصَّائِم أفطر، وَإِذا ذرعه الْقَيْء لم يفْطر» ثمَّ قَالَ: تَابعه عِيسَى بن يُونُس، عَن هِشَام، عَن ابْن سِيرِين، عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: «من ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاء، وَمن استقاء فليقض» ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقد حسنه من الْمُتَأَخِّرين الْمُنْذِرِيّ فِي تَخْرِيجه لأحاديث الْمُهَذّب، وَالنَّوَوِيّ فِي شَرحه وَقَالَ: إِسْنَاده إِسْنَاد الصَّحِيح، وَلم يُضعفهُ أَبُو دَاوُد فَهُوَ عِنْده حجَّة إِمَّا صَحِيح أَو حسن.
وَله شَوَاهِد، مِنْهَا: حَدِيث ثَوْبَان وَأبي الدَّرْدَاء، كَمَا ستعلمه عَلَى الإثر.
قَالَ: وَكَذَا نَص عَلَى حسنه غير وَاحِد من الْحفاظ. قلت: وَقَول التِّرْمِذِيّ بعد تحسينه لَا نعرفه إِلَّا من حَدِيث عِيسَى بن يُونُس غير قَادِح فِيهِ، فَإِنَّهُ ثِقَة كَمَا شهد لَهُ بذلك ابْن معِين وَابْن الْمَدِينِيّ وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، وَاحْتج بِهِ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ أحد الْحفاظ، وَكَذَا قَول الْبَيْهَقِيّ أَنه حَدِيث تفرد بِهِ هِشَام بن حسان غير قَادِح فِيهِ أَيْضا،
لِأَنَّهُ ثِقَة حَافظ، وَزِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْد الْجُمْهُور من أهل الحَدِيث وَالْفِقْه وَالْأُصُول، قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَى هَذَا الحَدِيث عِنْد أهل الْعلم أَن الصَّائِم إِذا ذرعه الْقَيْء لَا قَضَاء عَلَيْهِ، وَإِذا استقاء عمدا قَضَى.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر مَوْقُوفا. هُوَ كَمَا قَالَ؛
فقد رَوَاهُ مَالك، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر، أَنه قَالَ: «من استقاء وَهُوَ صَائِم فَعَلَيهِ الْقَضَاء، وَمن ذرعه الْقَيْء فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْقَضَاء» وَرَوَاهُ الشَّافِعِي من طَرِيقه أَيْضا.
فَائِدَة: ذرعه- بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة-: غَلبه. واستقاء: طلب الْقَيْء.

.الحديث الثَّانِي عشر:

عَن أبي الدَّرْدَاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قاء فَأفْطر» أَي: استقاء- قَالَ ثَوْبَان: صدق أَنا صببت لَهُ الْوضُوء.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده، وَأَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَالتِّرْمِذِيّ فِي جامعه، وَالنَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى، وَابْن الْجَارُود فِي المُنْتَقَى، وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمَا،
وَالطَّبَرَانِيّ، وَابْن مَنْدَه، وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه، وَابْن حبَان فِي صَحِيحه من حَدِيث معدان بن أبي طَلْحَة، عَن أبي الدَّرْدَاء «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء فَأفْطر»، قَالَ معدان: فَلَقِيت ثَوْبَان مولَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي مَسْجِد دمشق فَقلت لَهُ: «إِن أَبَا الدَّرْدَاء أَخْبرنِي أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاء فَأفْطر، فَقَالَ: صدق، أَنا صببت عَلَيْهِ وضوءه» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه فِي هَذَا الْبَاب: هَذَا حَدِيث مُخْتَلف فِي إِسْنَاده. قَالَ: فَإِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول عَلَى الْقَيْء عَامِدًا، وَكَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ صَائِما تَطَوّعا. قَالَ: وَقد رُوِيَ من وَجه آخر عَن ثَوْبَان.. فَذكره بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ فِي أَوَائِل سنَنه: إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث مُضْطَرب، وَاخْتلفُوا فِيهِ اخْتِلَافا شَدِيدا. وَكَذَا قَالَ فِي خلافياته أَن إِسْنَاده مُضْطَرب، وَأَن فِيهِ يعِيش بن الْوَلِيد، وَأَن بعض الْعلمَاء تكلم فِيهِ، وَأَنه لَيْسَ لَهُ ذكر فِي الصَّحِيح قَالَ: وبمثل هَذَا لَا تقوم الْحجَّة. هَذَا كَلَام الْبَيْهَقِيّ، وَخَالفهُ فِي ذَلِك جماعات، قَالَ الْحَاكِم:
هَذَا حَدِيث صَحِيح عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ أَبُو عبد الله بن مَنْدَه:
إِسْنَاده مُتَّصِل صَحِيح عَلَى رسم أبي دَاوُد وَالنَّسَائِيّ. قَالَ: وَتَركه الشَّيْخَانِ لاختلافٍ فِي إِسْنَاده. وَصَححهُ ابْن حبَان كَمَا سلف وَسكت التِّرْمِذِيّ عَنهُ فِي هَذَا الْبَاب. وَقَالَ فِي كتاب الطَّهَارَة: جَوَّد حُسَيْن الْمعلم هَذَا الحَدِيث وهُوَ أصح شَيْء فِي الْبَاب. وَنقل النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب عَنهُ أَنه قَالَ فِيهِ: إِنَّه حسن صَحِيح. وَلم أره كَذَلِك فِيهِ، وَالَّذِي رَأَيْته فِيهِ مَا سلف، وَنقل الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين فِي الإِمام عَن الْأَثْرَم، أَنه قَالَ لِأَحْمَد: قد اضْطَرَبُوا فِي هَذَا الحَدِيث. فَقَالَ: حُسَيْن الْمعلم يجوده. قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين: وَالِاخْتِلَاف الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيّ أَن التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ من حَدِيث حُسَيْن الْمعلم، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، عَن يعِيش بن الْوَلِيد المَخْزُومِي، عَن أَبِيه، عَن معدان، عَن أبي الدَّرْدَاء ثمَّ قَالَ: قد جود حُسَيْن الْمعلم هَذَا الحَدِيث. قَالَ: وَرَوَى معمر هَذَا الحَدِيث، عَن يَحْيَى بن أبي كثير فَأَخْطَأَ فِيهِ فَقَالَ: عَن يعِيش بن الْوَلِيد، عَن خَالِد بن معدان عَن أبي الدَّرْدَاء وَلم يذكر فِيهِ الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ: عَن خَالِد بن معدان، وَإِنَّمَا هُوَ معدان بن أبي طَلْحَة. وَهَذَا مَعْنَى قَول ابْن حزم فِي محلاه: هَذَا تَدْلِيس لم يسمعهُ يَحْيَى من يعِيش. وَرَوَاهُ ابْن الْجَارُود وَالدَّارَقُطْنِيّ كَرِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، وَفِي رِوَايَته عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن الْأَوْزَاعِيّ أَن يعِيش بن الْوَلِيد حَدثهُ أَن أَبَاهُ حَدثهُ، قَالَ: حَدثنِي معدان بن أبي طَلْحَة، عَن أبي الدَّرْدَاء. وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق، عَن معمر، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن خَالِد بن معدان، عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ الشَّيْخ: وَقيل أَيْضا: عَن يَحْيَى، عَن رجل، عَن يعِيش. وَقيل: عَن يَحْيَى، حدث الْوَلِيد بن هِشَام، عَن معدان وَقيل: بِإِسْقَاط وَالِد يعِيش مَعَ التَّصْرِيح بِالتَّحْدِيثِ عَن معدان، ذكره النَّسَائِيّ، وَقيل: عَن هِشَام الدستوَائي، عَن يَحْيَى بِإِسْقَاط وَالِد يعِيش، ذكره النَّسَائِيّ أَيْضا. ثمَّ شرع الشَّيْخ تَقِيّ الدَّين يُجيب عَن هَذَا الِاخْتِلَاف فَقَالَ: أما رِوَايَة من رَوَى عَن يَحْيَى، عَن رجل، عَن يعِيش فَغير ضارة؛ لِأَن هَذَا الرجل الْمُبْهم فِي هَذِه الرِّوَايَة قد تبين فِي غَيرهَا أَنه الْأَوْزَاعِيّ، وَكَذَلِكَ من قَالَ عَن يَحْيَى: حَدِيث الْوَلِيد بن هِشَام لَا يضر أَيْضا؛ لِأَنَّهَا تتفق مَعَ الْأُخْرَى بِأَن يكون يَحْيَى ذكرهَا مُرْسلَة بترك من حَدثهُ وَهُوَ الْأَوْزَاعِيّ عَن يعِيش، ثمَّ بَين مرّة أُخْرَى من حَدثهُ، وَكَذَلِكَ مَا زعم فِي الِاخْتِلَاف فِي معدان بن طَلْحَة ومعدان بن أبي طَلْحَة لَا يضر؛
لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا قَول صَحِيح. قَالَ: وَفِي الحَدِيث عِلّة أُخْرَى، وَهِي أَن ابْن حزم قَالَ فِي يعِيش بن الْوَلِيد وَأَبِيهِ: إنَّهُمَا ليسَا مشهورين.
وَالْجَوَاب عَنْهَا أَن الْعجلِيّ قَالَ فِي يعِيش: هُوَ شَامي ثِقَة. وَقد صَححهُ ابْن مَنْدَه.
قلت: وَابْن حبَان وَالْحَاكِم كَمَا سلف، وَقَالَ عبد الْحق فِي الرَّد عَلَى الْمُحَلَّى: هَذَا الَّذِي قَالَه ابْن حزم خطأ بَين؛ فالوليد بن هِشَام قَالَ فِيهِ ابْن أبي حَاتِم: رَوَى عَن أم الدَّرْدَاء، وَعبد الله بن محيريز، ومعدان بن طَلْحَة. وَرَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ، وَابْنه يعِيش بن الْوَلِيد، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَمُحَمّد بن عمر الطَّائِي. سَمِعت أبي يَقُول ذَلِك، ذكره أبي عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، عَن يَحْيَى بن معِين أَنه قَالَ: الْوَلِيد بن هِشَام ثِقَة. فَانْظُر قَوْله فِي هَذَا أَنه غير مَشْهُور، وَقد خرج عَنهُ مُسلم فِي صَحِيحه وَلم يذكرهُ الْحَاكِم فِيمَن عيب عَلَيْهِ التَّخْرِيج عَنهُ فقد رَوَى عَنهُ الْأَئِمَّة وَوَثَّقَهُ إمامان: يَحْيَى بن معِين، وَمُسلم بن الْحجَّاج، وَيَقُول فِيهِ: لَيْسَ بِمَشْهُور! وَأما ابْنه يعِيش فروَى عَنهُ يَحْيَى بن أبي كثير وَالْأَوْزَاعِيّ وَعِكْرِمَة وَإِسْمَاعِيل بن رَافع وَمن رَوَى عَنهُ الْأَوْزَاعِيّ وَيَحْيَى بن أبي كثير كَيفَ يكون غير مَشْهُور؟!.

.الحديث الثَّالِث عشر:

رُوِيَ «أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اكتحل فِي رَمَضَان وَهُوَ صَائِم».
هَذَا الحَدِيث لَهُ طرق:
أَحدهَا من حَدِيث عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «اكتحل النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ صَائِم». رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي سنَنه من رِوَايَة بَقِيَّة بن الْوَلِيد، نَا الزبيدِيّ، عَن هِشَام بن عُرْوَة، عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها مَرْفُوعا كَذَلِك. والزبيدي هَذَا هُوَ سعيد بن أبي سعيد كَمَا نَص عَلَيْهِ ابْن عدي فَإِنَّهُ ذكره فِي تَرْجَمته، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ، وَقَالا: إِنَّه مَجْهُول. لَكنا أسلفنا فِي الحَدِيث الرَّابِع من بَاب بَيَان النَّجَاسَات أَن ابْن حبَان والخطيب وثقاه، وَصرح بِأَنَّهُ سعيد بن أبي سعيد أَيْضا من الْمُتَأَخِّرين النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب فَقَالَ: رَوَاهُ ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد ضَعِيف من رِوَايَة بَقِيَّة، عَن سعيد بن أبي سعيد الزبيدِيّ، عَن شيخ بَقِيَّة، عَن هِشَام بِهِ. ثمَّ ذكر كَلَام الْبَيْهَقِيّ فِي سعيد ثمَّ قَالَ: وَقد اتّفق الْحفاظ عَلَى أَن رِوَايَة بَقِيَّة عَن المجهولين مَرْدُودَة، وَاخْتلفُوا فِي رِوَايَته عَن المعروفين، فَلَا يحْتَج بحَديثه هَذَا بِلَا خلاف.
قلت: قد وَثَّقَهُ الْخَطِيب وَابْن حبَان فالجهالة زائلة عَنهُ إِذن، وَخَالف الْحَافِظ جمال الدَّين الْمزي فَقَالَ: الزبيدِيّ هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن الْوَلِيد، وَهُوَ ثِقَة من رجال الصَّحِيحَيْنِ. وَلم يذكر للْأولِ تَرْجَمَة فِي كِتَابه، وَالْقلب إِلَى مَا قَالَه ابْن عدي ثمَّ الْبَيْهَقِيّ، أَنه إِلَى الأول أميل، وَالله- تَعَالَى- أعلم.
الطَّرِيق الثَّانِي: من طَرِيق مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع مولَى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَانَ يكتحل بالإثمد وَهُوَ صَائِم». رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه وَإِسْنَاده ضَعِيف؛ بِسَبَب مُحَمَّد بن عبيد الله بن أبي رَافع هَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن: سَأَلت أبي عَنهُ فَقَالَ: ضَعِيف الحَدِيث، مُنكر الحَدِيث جدّاً، ذَاهِب. وَقَالَ: مُنكر الحَدِيث. وألان الْبَيْهَقِيّ القَوْل فِيهِ، فَقَالَ فِي سنَنه: إِنَّه لَيْسَ بِالْقَوِيّ. وأما شَيْخه الْحَاكِم فَإِنَّهُ وَثَّقَهُ وَأخرج لَهُ فِي مُسْتَدْركه فِي مَنَاقِب الْحسن وَالْحُسَيْن.
الطَّرِيق الثَّالِث: من حَدِيث نَافِع، عَن ابْن عمر، قَالَ: «خرج علينا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَعَيناهُ مملوءتان من الْكحل من الإثمد، وَذَلِكَ فِي رَمَضَان، كحلته أم سَلمَة، وَكَانَ ينْهَى عَن كل كحل لَهُ طعم». ذكره ابْن طَاهِر فِي تَذكرته وَأعله بِسَعِيد بن زيد، وَقَالَ: هُوَ أَخُو حَمَّاد بن زيد. وَذكره النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور إِلَى قَوْله:
«فِي رَمَضَان» وَزِيَادَة: «وَهُوَ صَائِم» وَلم يعزه لأحد، ثمَّ قَالَ: فِي إِسْنَاده من اخْتلف فِي توثيقه. وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث أنس مَرْفُوعا فِي الْإِذْن فِيهِ لمن اشتكت عينه، ثمَّ قَالَ: لَيْسَ إِسْنَاده بِالْقَوِيّ، وَلَا يَصح عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي هَذَا الْبَاب شَيْء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: رُوِيَ عَن أنس مَرْفُوعا بِإِسْنَاد ضَعِيف بِمرَّة أَنه لم ير بِهِ بَأْسا. قلت: وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من فعل أنس بِإِسْنَاد جيد.

.الحديث الرَّابِع عشر:

«أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم فِي حجَّة الْوَدَاع».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث أَيُّوب، عَن عِكْرِمَة، عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتجم وَهُوَ محرم، وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِم». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من هَذَا الْوَجْه بِدُونِ الْقطعَة الأولَى، وَكَذَا التِّرْمِذِيّ وَلَفظه: «وَهُوَ محرم صَائِم» وَكَذَا النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى بِلَفْظ البُخَارِيّ وبلفظ أبي دَاوُد، وَفِي السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث يزِيد بن أبي زِيَاد، عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس «أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم» وَاللَّفْظ لَهُم خلا التِّرْمِذِيّ، فَإِن لَفظه: «احْتجم فِيمَا بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَهُوَ محرم صَائِم» وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي سنَنه الْكُبْرَى من حَدِيث شُعْبَة عَن الحكم، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «احْتجم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ صَائِم». وَحَكَى أَحْمد، عَن شُعْبَة أَنه قَالَ: لم يسمع الحكم حَدِيث مقسم فِي الْحجامَة فِي الصّيام. وَقَالَ النَّسَائِيّ: يزِيد بن أبي زِيَاد لَا يحْتَج بحَديثه، وَالْحكم لم يسمعهُ من مقسم. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث خصيف، عَن مقسم، عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: «احْتجم رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ صَائِم محرم». وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث حبيب بن الشَّهِيد، عَن مَيْمُون بن مهْرَان، عَن ابْن عَبَّاس بِهِ ثمَّ قَالَ: هَذَا مُنكر، وَلَا أعلم رَوَاهُ عَن حبيب غير مُحَمَّد بن عبد الله الْأنْصَارِيّ، وَلَعَلَّه أَرَادَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام تزوج مَيْمُونَة. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، قد أنكرهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، إِنَّمَا كَانَت أَحَادِيث مَيْمُون، عَن ابْن عَبَّاس خَمْسَة عشر حَدِيثا. وَقَالَ الْأَثْرَم: سَمِعت أَبَا عبد الله ذكر هَذَا الحَدِيث وَضَعفه. وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ أَيْضا من حَدِيث قبيصَة، عَن الثَّوْريّ، عَن حَمَّاد، عَن سعيد بن جُبَير، عَن ابْن عَبَّاس «أَنه لله احْتجم وَهُوَ صَائِم». ثمَّ قَالَ: هَذَا خطأ لَا نعلم أَن أحدا رَوَاهُ عَن سُفْيَان، غير قبيصَة، وَقبيصَة كثير الْخَطَأ، وَقد رَوَاهُ أَبُو هَاشم عَن حَمَّاد مُرْسلا. وَقَالَ مهنا: سَأَلت أَحْمد عَنهُ فَقَالَ: هُوَ خطأ من قبل قبيصَة، وَسَأَلت يَحْيَى، عَن قبيصَة بن عقبَة، فَقَالَ: صَدُوق، وَهَذَا الحَدِيث خطأ من قبله، وَأَصْحَاب ابْن عَبَّاس لَا يذكرُونَ «صَائِما». وَأما حَدِيث: «أفطر الحاجم والمحجوم» فطرقه ابْن مَنْدَه عَن ثَمَانِيَة وَعشْرين من الصَّحَابَة.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه من حَدِيث ثَوْبَان، وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم، وَقَالَ: عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ أَحْمد: إِنَّه أصح مَا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب. وَصَححهُ ابْن حبَان من حَدِيث شَدَّاد، وَقَالَ الْحَاكِم: قَالَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي: إِن إِسْنَاده صَحِيح تقوم بِهِ الْحجَّة. وصححاه أَيْضا الدَّارمِيّ وَأحمد،
وَصَححهُ ابْن حبَان وَالْحَاكِم أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج، قَالَ الْحَاكِم: هُوَ عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: لَا أعلم فِي الْبَاب أصح مِنْهُ. وَأجَاب الشَّافِعِي والخطابي وَالْبَيْهَقِيّ وَسَائِر أَصْحَابنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَة بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور أَولا وَمَا أشبهه من الْأَحَادِيث. بَيَانه أَن الشَّافِعِي، وَالْحَاكِم، وَابْن حبَان، وَالْبَيْهَقِيّ رووا بإسنادهم الصَّحِيح عَن شَدَّاد بن أَوْس قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زمَان الْفَتْح فَرَأَى رجلا يحتجم لثمان عشرَة خلت من رَمَضَان، فَقَالَ وَهُوَ آخذ بيَدي: أفطر الحاجم والمحجوم» وَثَبت كَمَا سلف من حَدِيث ابْن عَبَّاس «أَنه لله احْتجم وَهُوَ محرم صَائِم» قَالَ الشَّافِعِي: وَابْن عَبَّاس إِنَّمَا صحب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محرما فِي حجَّة الْوَدَاع سنة عشر من الْهِجْرَة، وَلم يَصْحَبهُ محرما قبل ذَلِك، وَكَانَ الْفَتْح سنة ثَمَان بِلَا شكّ، فَحَدِيث ابْن عَبَّاس بعد حَدِيث شَدَّاد بِسنتَيْنِ وَزِيَادَة. قَالَ: فَحَدِيث ابْن عَبَّاس نَاسخ قَالَ الْبَيْهَقِيّ:
وَيدل عَلَى النّسخ أَيْضا حَدِيث أنس قَالَ:«أول مَا كرهت الْحجامَة للصَّائِم؛ أَن جَعْفَر بن أبي طَالب احْتجم وَهُوَ صَائِم، فَمر بِهِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَالَ: أفطر هَذَانِ. ثمَّ رخص النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد للصَّائِم فِي الْحجامَة، وَكَانَ أنس يحتجم وَهُوَ صَائِم». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ: رُوَاته كلهم ثِقَات، وَلَا أعلم لَهُ عِلّة، وَحَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: «رخص رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فِي الْقبْلَة للصَّائِم والحجامة». رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيقين، وَقَالَ: كل مِنْهُمَا إِسْنَاده كلهم ثِقَات. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وغالب مَا يسْتَعْمل الترخيص بعد النَّهْي. وَنقل الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه قَالَ: ثبتَتْ الْأَخْبَار عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنه قَالَ: «أفطر الحاجم والمحجوم» فَقَالَ بعض من خَالَفنَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: إِن الْحجامَة لَا تفطر الصَّائِم. وَاحْتج بِأَنَّهُ لله احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم، وَهَذَا الْخَبَر غير دَال عَلَى أَن الْحجامَة لَا تفطر الصَّائِم؛ لِأَنَّهُ لله إِنَّمَا احْتجم وَهُوَ صَائِم محرم فِي سفر لَا فِي حضر؛ لِأَنَّهُ لم يكن قطّ محرما مُقيما بِبَلَدِهِ إِنَّمَا كَانَ محرما وَهُوَ مُسَافر، وَالْمُسَافر وَإِن كَانَ نَاوِيا للصَّوْم وَقد مَضَى عَلَيْهِ بعض النَّهَار وَهُوَ صَائِم لَهُ الْأكل وَالشرب، وَإِن كَانَ الْأكل وَالشرب يفطرانه، لَا كَمَا توهم بعض الْعلمَاء أَن الْمُسَافِر إِذا دخل فِي الصَّوْم لم يكن لَهُ أَن يفْطر إِلَى أَن يتم صَوْمه ذَلِك الْيَوْم الَّذِي دخل فِيهِ، فَأَما إِذا كَانَ لَهُ أَن يَأْكُل وَيشْرب وَقد دخل فِي الصَّوْم ونواه وَمَضَى بعض النَّهَار وَهُوَ صَائِم جَازَ لَهُ أَن يحتجم وَهُوَ مُسَافر فِي بعض نَهَار الصَّوْم، وَإِن كَانَت الْحجامَة مفطرة. وَقد أجَاب بِهَذَا الْجَواب أَيْضا أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه.
تَنْبِيه: هَذَا الحَدِيث ذكره الرَّافِعِيّ دَلِيلا عَلَى أَن الْحجامَة غير مفطرة، وفِيهِ الحدس الَّذِي أسلفناه عَن ابْن خُزَيْمَة أَنه كَانَ مُسَافِرًا.

.الحديث الخَامِس عشر:

رُوِيَ أَنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَالَ: «ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم: الْقَيْء، والحجامة، والاحتلام».
هَذَا الحَدِيث ضَعِيف، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَالْبَيْهَقِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا كَذَلِك سَوَاء. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث زيد بن أسلم، عَن رجل من أَصْحَابه، عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَا يفْطر من قاء وَلَا من احْتَلَمَ وَلَا من احْتجم». وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث هِشَام بن سعد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا: «ثَلَاثَة لَا يفطرن الصَّائِم: الْقَيْء، والحجامة، والاحتلام». وَعبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم ضَعَّفُوهُ، وَهِشَام بن سعد من رجال مُسلم لكنه لين. وَأعله ابْن الْجَوْزِيّ بهما، وَقَالَ فِي الأول: أَجمعُوا عَلَى ضعفه. قَالَ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه:
هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ، وَقد رَوَى عبد الله بن زيد بن أسلم وَعبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَغير وَاحِد هَذَا الحَدِيث، عَن زيد بن أسلم مُرْسلا، وَلم يذكرُوا فِيهِ: عَن أبي سعيد. وَعبد الرَّحْمَن يضعف فِي الحَدِيث، قَالَ:
وَسمعت أَبَا دَاوُد يَقُول: سَأَلت أَحْمد عَن عبد الرَّحْمَن، فَقَالَ: أَخُوهُ عبد الله لَا بَأْس بِهِ. وَسمعت مُحَمَّدًا يذكر عَن عَلّي بن عبد الله قَالَ: عبد الله ابْن زيد بن أسلم ثِقَة، وَعبد الرَّحْمَن أَخُوهُ ضَعَّفُوهُ. قَالَ مُحَمَّد- يَعْنِي البُخَارِيّ-: وَلَا أروي عَنهُ شَيْئا. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله:
سَأَلت أبي، وَأَبا زرْعَة عَن حَدِيث عبد الرَّحْمَن هَذَا، وَحَدِيث أُسَامَة، عَن أَبِيه، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَيْضا، فَقَالَا:
هَذَا خطأ، رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن زيد بن أسلم، عَن رجل من أَصْحَابه، عَن رجل من أَصْحَاب رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وَهُوَ الصَّحِيح. قَالَ:
وسألتهما مرّة عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ أبي: إِنَّه أشبه بِالصَّوَابِ. وَقَالَ أَبُو زرْعَة: إِنَّه أصح. وَكَذَا قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه: عبد الرَّحْمَن ضَعِيف، وَالْمَحْفُوظ عَن زيد بن أسلم... فَذكر لفظ أبي دَاوُد وَإِسْنَاده، ثمَّ قَالَ: هُوَ مَحْمُول- إِن صَحَّ- عَلَى من ذرعه الْقَيْء. وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: يرويهِ زيد بن أسلم، وَاخْتلف عَنهُ؛ فَرَوَاهُ أَوْلَاد زيد بن أسلم: أُسَامَة وَعبد الله وَعبد الرَّحْمَن، عَن والدهم زيد، عَن عَطاء بن يسَار، عَن أبي سعيد، وَحدث بِهِ كَامِل بن طَلْحَة عَن مَالك، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء، عَن أبي سعيد، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ، وَلَيْسَ هَذَا من حَدِيث مَالك، وَحدث بِهِ شيخ يعرف بِمُحَمد بن أَحْمد بن أنس السَّامِي وَكَانَ ضَعِيفا- عَن أبي عَامر الْعَقدي، عَن هِشَام بن سعد، عَن زيد بن أسلم بِهِ، وَلَا يَصح عَن هِشَام. وَرَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ، عَن زيد بن أسلم، عَن رجل، عَن آخر، عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَهُوَ الصَّحِيح. وَرَوَاهُ الدَّرَاورْدِي، عَن زيد بن أسلم، عَمَّن حَدثهُ أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قَالَ:
وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، عَن زيد بن أسلم مُرْسلا عَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وَالصَّحِيح مَا قَالَه الثَّوْريّ.
قلت: وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة، عَن يَحْيَى بن سعيد، عَن زيد بن أسلم، عَن عَطاء بن يسَار يرفعهُ: «ثَلَاث لَا يفطرن الصَّائِم...» الحَدِيث.
وَرَوَاهُ ابْن عدي من حَدِيث هِشَام بن سعد السالف، عَن عَطاء بن يسَار، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا يَقُول هِشَام، وَغَيره يرويهِ عَن أبي سعيد، وَمِنْهُم من يُرْسِلهُ، وَقَالَ: «الرعاف» بدل «الْحجامَة».
وَهِشَام يكْتب حَدِيثه لَا يحْتَج بِهِ.