فصل: الحديث الرَّابِع:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.باب الْعَفو عَن الْقصاص:

ذكر فِيهِ حديثين وأثرين:

.الحديث الأول:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «فِي الْعمد الْقود».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس، رَفعه إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من قتل فِي عمية أَو عصبية بِحجر أَو سَوط أَو عَصا، فَعَلَيهِ عقل الْخَطَأ، وَمن قتل عمدا فَهُوَ قَود، وَمن حَال بَينه وَبَينه فَعَلَيهِ لعنة الله وَالْمَلَائِكَة وَالنَّاس أَجْمَعِينَ، لَا يقبل مِنْهُ صرف وَلَا عدل». وَإسْنَاد رِوَايَة ابْن مَاجَه عَلَى شَرط الشَّيْخَيْنِ وَوَصله الْحسن بن عمادة وَالْحسن بن مُسلم أَيْضا. أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من طريقهما، وَرَوَاهُ عَمْرو بن دِينَار، عَن طَاوس مُرْسلا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي، وَفِي رِوَايَة للدارقطني من حَدِيث ابْن عَبَّاس، مَرْفُوعا: «الْعمد قَود إِلَّا أَن يعْفُو ولي الْمَقْتُول». وَفِي إِسْنَاده إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، قَالَ- أَعنِي الدَّارَقُطْنِيّ- فِي علله: وَهَذَا الحَدِيث يرويهِ طَاوس، عَن أبي هُرَيْرَة أَيْضا مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ أَيْضا طَاوس، عَن ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن طَاوس مُرْسلا.

.الحديث الثَّانِي:

عَن أبي شُرَيْح الكعبي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «ثمَّ أَنْتُم يَا خُزَاعَة قتلتم هَذَا الْقَتِيل من هُذَيْل، وَأَنا وَالله عاقله، فَمن قتل بعده قَتِيلا فأهله بَين خيرتين إِن أَحبُّوا قتلوا وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل».
هَذَا الحَدِيث أخرجه الْأَئِمَّة: الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه كَذَلِك، وَأَبُو دَاوُد بِلَفْظ: «أَلا إِنَّكُم معشر خُزَاعَة قتلتم هَذَا الْقَتِيل من هُذَيْل وَإِنِّي عاقله، فَمن قتل لَهُ بعد مَقَالَتي هَذِه قَتِيل فأهله بَين خيرتين بَين أَن يَأْخُذُوا الْعقل، وَبَين أَن يقتلُوا» وَالتِّرْمِذِيّ بِلَفْظ: «ثمَّ إِنَّكُم معشر خُزَاعَة قتلتم هَذَا الرجل من هُذَيْل، وَإِنِّي عاقله، فَمن قتل لَهُ قَتِيل بعد الْيَوْم، فأهله بَين خيرتين إِمَّا أَن يقتلُوا أَو يَأْخُذُوا الْعقل». ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم «من قتل لَهُ قَتِيل فَلهُ أَن يقتل أَو يعْفُو أَو يَأْخُذ الدِّيَة» فَظَاهر كَلَام التِّرْمِذِيّ هَذَا يُعْطي أَن أَبَا شُرَيْح هَذَا غير الأول، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ إِيَّاه، وَهُوَ كعبي خزاعي؛ لِأَن كَعْبًا بطن من خُزَاعَة. وأصل هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ- لما فتح الله عَلَى رَسُوله مَكَّة-: مَن قُتل لَهُ قَتِيل فَهُوَ بِخَير النظرين إِمَّا أَن يقتل، وَإِمَّا أَن يفدى».

.وَأما الأثران:

فهما: مَا رُوِيَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَنَّهُمَا قَالَا: «إِذا عَفا بعض الْمُسْتَحقّين للْقصَاص أَن الْقصاص يسْقط، وَإِن لم يرض الْآخرُونَ». وَلَا مُخَالف لَهما من الصَّحَابَة وَكَانَ كالإجماع، وَقد أخرجهُمَا الْبَيْهَقِيّ كَمَا سلف فِي الْأَثر الثَّانِي فِي الْبَاب قبله.

.كتاب الدِّيات:

كتاب الدِّيات:
ذكر فِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَحَادِيث وآثارًا:

.أما الْأَحَادِيث:

فستة وَسِتُّونَ:

.الحديث الأول:

عَن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن بِكِتَاب- ذكر فِيهِ الْفَرَائِض وَالسّنَن والديات- وَفِيه: أَن فِي النَّفس المؤمنة مائَة من الْإِبِل».
هَذَا الحَدِيث سلف بِطُولِهِ فِي بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص فَرَاجعه مِنْهُ.

.الحديث الثَّانِي:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَهَذِه الْمِائَة تجب إِذا كَانَ الْقَتْل خطأ، مخمسة: عشرُون مِنْهَا بنت مَخَاض، وَعِشْرُونَ بنت لبون، وَعِشْرُونَ ابْن لبون، وَعِشْرُونَ حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة. وَبِه قَالَ مَالك، وَبدل أَبُو حنيفَة «ابْنا لبون» ب «ابْنا الْمَخَاض» وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعَن ابْن الْمُنْذر مثله، وَاحْتج الْأَصْحَاب بِمَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى فِي دِيَة الْخَطَأ بِمِائَة من الْإِبِل» وفصلها عَلَى مَا ذكرنَا.
وَيروَى ذَلِك مَوْقُوفا عَلَى ابْن مَسْعُود، وَعَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: «دِيَة الْخَطَأ مائَة من الْإِبِل» وَفصل كَذَلِك.
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مَرْفُوعا الْأَئِمَّة أَحْمد وَأَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة من حَدِيث الْحجَّاج بن أَرْطَاة، عَن زيد بن جُبَير، عَن خِشْف بن مَالك الطَّائِي، عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى فِي دِيَة الْخَطَأ بِمِائَة من الْإِبِل: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض، وَعِشْرُونَ بنت لبون، وَعِشْرُونَ بني مَخَاض ذكر»، بدل «ابْن لبون». وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف، الْحجَّاج بن أَرْطَاة ضَعِيف مُدَلّس وَرِوَايَة ابْن مَاجَه وَإِن صرح فِيهَا بِالتَّحْدِيثِ، فَقَالَ: ثَنَا زيد بن جُبَير فقد قَالَ أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ فِي حَقه: إِنَّه يُدَلس عَن الضُّعَفَاء فَإِذا قَالَ: ثَنَا فلَان فَلَا يرتاب بِهِ. وخِشْف- بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة، ثمَّ شين مُعْجمَة سَاكِنة، ثمَّ فَاء- بن مَالك مَجْهُول، كَمَا قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ والخطابي.
وَقَالَ الْأَزْدِيّ: إِنَّه لَيْسَ بِذَاكَ. قَالَ الْخطابِيّ: وَعدل الشَّافِعِي عَن القَوْل بِهِ، لما ذكرنَا من الْعلَّة فِي رِوَايَته وَلِأَن فِيهِ بني مَخَاض وَلَا مدْخل لبني مَخَاض فِي شَيْء من أَسْنَان الصَّدَقَة. وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة الْقسَامَة «أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ودى قَتِيل خَيْبَر بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة» وَلَيْسَ فِي أَسْنَان الصَّدَقَة ابْن مَخَاض. وَخَالف النَّسَائِيّ فوثق خِشْفًا، وَكَذَا ابْن حبَان ذكره فِي ثقاته من التَّابِعين، وَقَالَ: إِن عداده فِي أهل الْكُوفَة يروي عَن عمر وَابْن مَسْعُود، ورَوَى عَنهُ زيد بن جُبَير الطَّائِي. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي جامعه: هَذَا الحَدِيث لَا نعرفه مَرْفُوعا إِلَّا من هَذَا الْوَجْه، وَقد رُوِيَ مَوْقُوفا عَلَى عبد الله. وَقَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار: هَذَا الحَدِيث لَا نعلمهُ مَرْفُوعا عَن عبد الله إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَاد. وَقَالَ عبد الْحق: رَوَى أَبُو دَاوُد هَذَا الحَدِيث من حَدِيث الْحجَّاج عَن زيد، عَن خِشْف، عَن عبد الله، وَهُوَ إِسْنَاد ضَعِيف، وسط الدَّارَقُطْنِيّ القَوْل فِي سنَنه فِي هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ لما ذكره من حَدِيث أبي عُبَيْدَة، عَن ابْن مَسْعُود مَوْقُوفا عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ السالف، وَفِيه: «وَعِشْرُونَ بَنو لبون ذُكُور». قَالَ: هَذَا إِسْنَاد حسن، وَرُوَاته ثِقَات. قَالَ: وَقد رُوِيَ عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله بِنَحْوِ هَذَا، ثمَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن حجاج، عَن زيد، عَن خِشْف، عَن عبد الله بن مَسْعُود، قَالَ: «قَضَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الدِّيَة فِي الْخَطَأ...» فَذكره كَمَا سلف أَولا، ثمَّ قَالَ: وَهَذَا حَدِيث ضَعِيف غير ثَابت عِنْد أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ من وُجُوه عديدة:
أَحدهَا: أَنه مُخَالف لما رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه بالسند الصَّحِيح عَنهُ الَّذِي لَا مطْعن فِيهِ ولَا تَأْوِيل عَلَيْهِ، وَأَبُو عُبَيْدَة أعلم بِحَدِيث أَبِيه ومذهبه من خِشْف بن مَالك ونظرائه، وَعبد الله بن مَسْعُود أَتْقَى لربِّه وأشح عَلَى دينه من أَن يروي عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَضَى بِقَضَاء ويفتي هُوَ بِخِلَافِهِ، هَذَا لَا يتَوَهَّم مثله عَلَى عبد الله بن مَسْعُود، وَهُوَ الْقَائِل فِي مَسْأَلَة وَردت عَلَيْهِ لم يسمع فِيهَا من رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم شَيْئا لم يبلغهُ عَنهُ فِيهَا قَول: «أَقُول فِيهَا برأيي، فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله، وَإِن كَانَ خطأ فمني». ثمَّ بلغه بعد ذَلِك أَن فتياه فِيهَا وَافق قَضَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثلهَا فَرَآهُ أَصْحَابه فَرح عِنْد ذَلِك فَرحا مَا فَرح مثله؛ بموافقة فتياه قَضَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَمن كَانَت هَذِه صفته وَهَذَا حَاله كَيفَ يَصح عَنهُ أَن يروي عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيُخَالِفهُ! وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله بن مَسْعُود أَنه قَالَ: «دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا» ثمَّ فَسرهَا كَمَا فَسرهَا عَنهُ أَبُو عُبَيْدَة وعلقمة سَوَاء. وَهَذِه الرِّوَايَة وَإِن كَانَ فِيهَا إرْسَال فإبراهيم النَّخعِيّ هُوَ من أعلم النَّاس بِعَبْد الله وفتياه.
ثَانِيهَا: أَن الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ ذكر: «بني مَخَاض» لَا نعلم من رَوَاهُ إِلَّا خشف، عَن ابْن مَسْعُود، وَهُوَ رجل مَجْهُول لم يروه عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبَير، وَأهل الْعلم لَا يحتجون بِخَبَر مُنْفَرد بروايته رجل مَجْهُول غير مَعْرُوف.
ثَالِثهَا: أَن خبر خِشْف بن مَالك لَا نعلم أحدا رَوَاهُ عَن زيد بن جُبَير عَنهُ، غير حجاج بن أَرْطَاة، وَالْحجاج رجل مَشْهُور بالتدليس وَلِأَنَّهُ يحدث عَمَّن لم يلقه وَلم يسمع مِنْهُ. ثمَّ ذكر أَقْوَال الْأَئِمَّة فِي الْحجَّاج.
رَابِعهَا: أَن جمَاعَة من الثِّقَات رَوَوْهُ عَن الْحجَّاج فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ فِيهِ، فَرَوَاهُ عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَلَى اللَّفْظ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَنهُ. وَرَوَاهُ يَحْيَى بن سعيد الْأمَوِي، عَن الْحجَّاج فَجعل مَكَان الحقاق بني اللَّبُون. وَرَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير وَحَفْص بن غياث وَجَمَاعَة، عَن الْحجَّاج بِهَذَا الْإِسْنَاد، قَالَ: «جعل رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاسًا» وَلم يزِيدُوا عَلَى هَذَا، وَلم يذكرُوا فِيهِ تَفْسِير الْأَخْمَاس وَيُشبه أَن يكون الْحجَّاج رُبمَا كَانَ يُفَسر الْأَخْمَاس بِرَأْيهِ بعد فَرَاغه من الحَدِيث، فيتوهم السَّامع أَن ذَلِك فِي الحَدِيث وَلَيْسَ كَذَلِك.
خَامِسهَا: أَنه رُوِيَ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الْمُهَاجِرين فِي دِيَة الْخَطَأ بأقاويل مُخْتَلفَة لَا نعلم رُوِيَ عَن أحد مِنْهُم ذكر «بني مَخَاض» إِلَّا فِي حَدِيث خِشْف هَذَا. هَذَا آخر مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ مُلَخصا. ولمّا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن ابْن مَسْعُود من طَرِيق إِسْرَائِيل، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة عَنهُ، أَنه قَالَ: «فِي الْخَطَأ أَخْمَاسًا: عشرُون حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة، وَعِشْرُونَ بَنَات لبون، وَعِشْرُونَ بَنَات مَخَاض، وَعِشْرُونَ بني مَخَاض». قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ وَكِيع فِي كِتَابه المُصَنّف فِي الدِّيات، عَن الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله. وَعَن سُفْيَان، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة، عَن عبد الله. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَعبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي، عَن الثَّوْريّ، عَن مَنْصُور، عَن إِبْرَاهِيم، عَن عبد الله. ثمَّ رَوَاهُ من حَدِيث يزِيد بن هَارُون، عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، عَن أبي مجلز، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن عبد الله «فِي دِيَة الْخَطَأ أَخْمَاس، خمس بَنو مَخَاض...» إِلَى آخِره، ثمَّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَعْرُوف عَن عبد الله بن مَسْعُود بِهَذِهِ الْأَسَانِيد. قَالَ: وَقد رَوَى بعض حفاظنا- وَهُوَ الدَّارَقُطْنِيّ- هَذِه الْأَسَانِيد، عَن عبد الله، وَجعل مَكَان «بني الْمَخَاض» «بني اللَّبُون». قَالَ: وَهُوَ غلط. وَقَالَ فِي خلافياته: كَذَا رَوَاهُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الأوحد فِي عصره فِي هَذَا الشَّأْن وَهُوَ واهم فِيهِ، والجواد رُبمَا يعثر. قَالَ: وَقد رَأَيْته فِي كتاب ابْن خُزَيْمَة وَهُوَ إِمَام فِي رِوَايَة وَكِيع، عَن سُفْيَان بِإِسْنَادِهِ كَذَلِك «بني لبون». وَفِي رِوَايَة: سعيد بن بشير، عَن قَتَادَة، عَن أبي مجلز، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن ابْن مَسْعُود، كَذَلِك «بني لبون». وَرَوَاهُ من حَدِيث ابْن أبي زَائِدَة، عَن أَبِيه وَغَيره، عَن أبي إِسْحَاق، عَن عَلْقَمَة، عَن ابْن مَسْعُود كَذَلِك «بني مَخَاض» فَإِن كَانَ مَا روياه مَحْفُوظًا فَهُوَ الَّذِي نَمِيل إِلَيْهِ، وَصَارَت الرِّوَايَات فِيهِ عَن ابْن مَسْعُود متعارضة، وَمذهب عبد الله مَشْهُور فِي بني الْمَخَاض.
وَقد اخْتَار ابْن الْمُنْذر فِي هَذَا مذْهبه، وَاحْتج بِأَن الشَّافِعِي إِنَّمَا صَار إِلَى قَول أهل الْمَدِينَة فِي دِيَة الْخَطَأ؛ لِأَن النَّاس قد اخْتلفُوا فِيهِ، وَالسّنة عَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَردت مُطلقَة بِمِائَة من الْإِبِل غير مفسرة، وَاسم الْإِبِل يتَنَاوَل الصغار والكبار، فالتزم الْقَاتِل أقل مَا قَالُوا إِنَّه يلْزمه، وَكَانَ عِنْده قَول أهل الْمَدِينَة أقل مَا قَالُوا فِيهَا، وَكَأَنَّهُ لم يبلغهُ قَول ابْن مَسْعُود، فَوَجَدنَا قَول عبد الله أقل مَا قيل فِيهَا لِأَن «بني الْمَخَاض» أقل من «بني اللَّبُون» وَاسم الْإِبِل يتَنَاوَلهُ، فَكَانَ هُوَ الْوَاجِب دون مَا زَاد عَلَيْهِ، وَهُوَ قَول صَحَابِيّ فَهُوَ أولَى من غَيره.
قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد رُوِيَ حَدِيث ابْن مَسْعُود من وَجه آخر مَرْفُوعا، وَلَا يَصح رَفعه... فَذكره من رِوَايَة أبي دَاوُد وَغَيره كَمَا مر، قَالَ: وَقَالَ أَبُو دَاوُد: هُوَ قَول عبد الله. يَعْنِي إِنَّمَا رُوِيَ من قَول عبد الله مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. ثمَّ نقل الْبَيْهَقِيّ عَن الدَّارَقُطْنِيّ مَا قَالَه فِي خِشْف وَالْحجاج، ثمَّ قَالَ: وكيفما كَانَ فالحجاج غير مُحْتَج بِهِ، وخِشْف مَجْهُول، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف عَلَى عبد الله بن مَسْعُود، وَالصَّحِيح عَن عبد الله أَنه جعل أحد أخماسها «بني الْمَخَاض» فِي الْأَسَانِيد الَّتِي تقدَّم ذكرهَا، لَا كَمَا توهمه الدَّارَقُطْنِيّ.
قَالَ: وَقد اعتذر من رغب عَن قَول عبد الله بن مَسْعُود فِي هَذَا بشيئين:
أَحدهمَا: ضعف رِوَايَة خِشْف عَن ابْن مَسْعُود بِمَا ذكرنَا، وَانْقِطَاع رِوَايَة من رَوَاهُ عَنهُ مَوْقُوفا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رَوَاهُ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن عبد الله، وَأَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن مَسْعُود عَن أَبِيه، وَأَبُو إِسْحَاق عَن عَلْقَمَة عَن عبد الله. وَرِوَايَة إِبْرَاهِيم عَن عبد الله مُنْقَطِعَة لَا شكّ فِيهَا، وَرِوَايَة أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه؛ لِأَن أَبَا عُبَيْدَة لم يدْرك أَبَاهُ، وَكَذَلِكَ رِوَايَة أبي إِسْحَاق السبيعِي عَن عَلْقَمَة مُنْقَطِعَة؛ لِأَن أَبَا إِسْحَاق رَأَى عَلْقَمَة لَكِن لم يسمع مِنْهُ شَيْئا.
وَثَانِيهمَا حَدِيث سهل بن أبي حثْمَة فِي الَّذِي وداه رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيهِ: «بِمِائَة من إبل الصَّدَقَة» «وَبَنُو الْمَخَاض» لَا أصل لَهَا فِي أصل الْقسَامَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَحَدِيث الْقسَامَة وَإِن كَانَ فِي قتل الْعمد وَنحن نتكلم فِي قتل الْخَطَأ فحين لم يثبت ذَلِك الْقَتْل عَلَى أحدٍ مِنْهُم بِعَيْنِه وداه النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بدية الْخَطَأ مُتَبَرعا بذلك، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ أَنه قَالَ: «من إبل الصَّدَقَة» وَلَا مدْخل للخلفات الَّتِي تجب فِي دِيَة الْعمد فِي إبل الصَّدقَات وَأجَاب ابْن الْجَوْزِيّ عَن كَلَام الدَّارَقُطْنِيّ بِأَن قَالَ: يُعَارض قَوْله إِن أَبَا عُبَيْدَة لم يسمع من أَبِيه فَكيف جَازَ أَن يسكت عَن ذكر هَذَا؟! ثمَّ إِنَّه إِنَّمَا حَكَى عَنهُ فتواه، وخِشْف رَوَى عَنهُ عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَتى كَانَ الْإِنْسَان ثِقَة فَيَنْبَغِي أَن يقبل قَوْله، وَكَيف يُقَال عَن الثِّقَة إِنَّه مَجْهُول؟! وَاشْتِرَاط الْمُحدثين أَن يروي عَنهُ اثْنَان لَا وَجه لَهُ. هَذَا آخر كَلَامه وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، وَكَيف ذهل عَن الْحجَّاج بن أَرْطَاة! وَأما ذكر ذَلِك تَرْجِيحا لمذهبه فِي إِبْدَال بني اللَّبُون ببني الْمَخَاض، وَالْمَاوَرْدِيّ- من الشَّافِعِيَّة- قَالَ: رَوَاهُ مَوْقُوفا عَن قَتَادَة، عَن لَاحق بن حميد، عَن أبي عُبَيْدَة، عَن أَبِيه. وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش، عَن الْحجَّاج، عَن زيد، عَن خِشْف، عَن ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا بِذكر بني اللَّبُون. قَالَ: وَهَذِه الرِّوَايَة أثبت من رِوَايَة عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن الْحجَّاج بِهِ؛ لِأَن هَذَا خلاف مَا رَوَاهُ عَنهُ ابْنه عبد الله وعلقمة، وَهُوَ لَا يُفْتِي بِخِلَاف مَا يروي. قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ فَحَدِيث الْحجَّاج ضَعِيف، وخِشْف مَجْهُول؛ لِأَنَّهُ لم يرو عَنهُ إِلَّا زيد بن جُبير. وَأما مَا ذكره الرَّافِعِيّ عَن سُلَيْمَان بن يسَار، فَرَوَاهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ عَنهُ، عَن ابْن شهَاب وَرَبِيعَة بن عبد الرَّحْمَن، وبلغه عَن سُلَيْمَان بن يسَار أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: «دِيَة الْخَطَأ عشرُون ابْنة مَخَاض، وَعِشْرُونَ ابْنة لبون، وَعِشْرُونَ ابْن لبون ذكر وَعِشْرُونَ حقة، وَعِشْرُونَ جَذَعَة». قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: وَسليمَان هَذَا تَابِعِيّ. وَأَشَارَ بقوله: «يَقُولُونَ» إِلَى الصَّحَابَة فَذَاك إِجْمَاع. وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ مثل ذَلِك عَن الْفُقَهَاء السَّبْعَة ومشيخة جلة سواهُم من نظرائهم.

.الحديث الثَّالِث:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «إِن أَعْتَى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: رجل قتل فِي الْحرم، وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل قتل بذحل الجاهليَّة».
لما ذكر الرَّافِعِيّ أَنه لم يرد فِي الْإِحْرَام من التَّغْلِيظ مَا ورد فِي الْقَتْل فِي الْحرم قَالَ: وَرُوِيَ الحَدِيث من أوجه أخر.
أَحدهَا: من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده كَذَلِك إِلَّا أَنه قَالَ: «أعدى» بِالدَّال الْمُهْملَة بدل «أَعْتَى» بِالتَّاءِ، وَقَالَ: «بذحُول» بدل «بذحل».
ثَانِيهَا: من طَرِيق عبد الله بن عمر فِي حَدِيث طَوِيل بِلَفْظ: «وَإِن أَعْتَى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: من قتل فِي حرم الله، أَو قتل غير قَاتله لذحل الْجَاهِلِيَّة».
رَوَاهُ أَبُو حَاتِم بن حبَان فِي صَحِيحه كَذَلِك سَوَاء وَمن هَذِه الطَّرِيق، وَيجوز أَن يكون هُوَ عبد الله بن عَمْرو فَسَقَطت الْوَاو، وَالله أعلم.
ثَالِثهَا: من طَرِيق أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من أَعْتَى النَّاس عَلَى الله من قتل غير قَاتله، أَو طلب بِدَم الْجَاهِلِيَّة وَمن بصر عَيْنَيْهِ فِي النّوم مَا لم تبصر».
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه كَذَلِك، وَالطَّبَرَانِيّ فِي أكبر معاجمه بِلَفْظ: «وَإِن أعدى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: رجل قتل فِيهَا- يَعْنِي مَكَّة- وَرجل قتل غير قَاتله بذحل الْجَاهِلِيَّة». وَلم يذكر الثَّالِثَة، وَرَوَاهُ فِي مَوضِع آخر بِلَفْظ: «أَعْتَى النَّاس عَلَى الله رجل قتل غير قَاتله، أَو طلب بِدَم الْجَاهِلِيَّة من أهل الْإِسْلَام، وَمن بصر عَيْنَيْهِ فِي النّوم مَا لم تبصره» وَرَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده بِلَفْظ: «وَإِن أَعْتَى النَّاس عَلَى الله ثَلَاثَة: رجل قتل فِيهَا- يَعْنِي مَكَّة- وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل طلب بذحل فِي الْجَاهِلِيَّة». وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه بِلَفْظ الدَّارَقُطْنِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: رَوَاهُ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق وخُولِفَ، عَن الزُّهْرِيّ، عَن عَطاء بن يزِيد، عَن أبي شُرَيْح مَرْفُوعا. وَرَوَاهُ عقيل وَيُونُس وَغَيرهمَا عَن الزُّهْرِيّ عَن مُسلم بن يزِيد، عَن أبي شُرَيْح مَرْفُوعا وَهُوَ الصَّحِيح، وَأَخْطَأ عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَاق. قلت: وَمَعَ خطئه فَفِيهِ مقَال. قَالَ الْعجلِيّ: يكْتب حَدِيثه، وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ. وَكَذَا قَالَ أَبُو حَاتِم وَقَالَ البُخَارِيّ: لَيْسَ مِمَّن يعْتَمد عَلَى حفظه، وَإِن كَانَ مِمَّن يحْتَمل فِي بعض. وَقَالَ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة: لَيْسَ بِهِ بَأْس.
رَابِعهَا: من طَرِيق عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قَالَت: «وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَابَانِ: إِن أَشد النَّاس عتوًّا رجل ضرب غير ضاربه، وَرجل قتل غير قَاتله، وَرجل تولى غير أهل نعْمَته، فَمن فعل ذَلِك فقد كفر بِاللَّه وَرَسُوله، لَا يقبل الله مِنْهُ صرفا وَلَا عدلا».
رَوَاهُ الْحَاكِم، ثمَّ الْبَيْهَقِيّ. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي فِي الْأُم عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «وجد فِي قَائِم سيف رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم كتاب: إِن أعدى النَّاس عَلَى الله- سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- الْقَاتِل غير قَاتله، والضارب غير ضاربه، وَمن تولى غير موَالِيه، فقد كفر بِمَا أنزل الله عَلَى مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم». وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أبْغض النَّاس إِلَى الله ثَلَاثَة: ملحد فِي الْحرم، ومبتغ فِي الْإِسْلَام سنة الْجَاهِلِيَّة، ومطلب دم امْرئٍ بِغَيْر حقٍّ ليهريق دَمه».
فَائِدَة:
العتو- بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة-: التكبر والتجبر. يُقَال: عتا يعتو عُتوًّا، وعُتيًّا- بِضَم الْعين وَكسرهَا- فَهُوَ عَاتٍ، وَأما عثى- بالثاء الْمُثَلَّثَة- يعثو فَمَعْنَاه: أفسد وَكَذَلِكَ عَثِي- بِكَسْر الثَّاء- يعثى بِفَتْحِهَا- قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تعثوا فِي الأَرْض مفسدين}.
وَقَوله: «غير قَاتله» هُوَ مجَاز جعل قَاتل مُوَرِثه قَاتلا لَهُ، وَمِنْه: «وتستحقون دم صَاحبكُم- أَو قَالَ: قاتلكم». وَأما «الذحْل» فبذال مُعْجمَة وحاء مُهْملَة سَاكِنة، وَهُوَ الحقد والعداوة، يُقَال: طلب بذحله أَي بثأره. وَالْجمع ذحول. قَالَه الْجَوْهَرِي.

.الحديث الرَّابِع:

عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أَلا إنَّ فِي قتل الْعمد الْخَطَأ قَتِيل السَّوْط والعصا مائَة من الْإِبِل مُغَلّظَة، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا».
هَذَا الحَدِيث سلف بَيَانه فِي بَاب مَا يجب بِهِ الْقصاص فَرَاجعه مِنْهُ.

.الحديث الخَامِس:

عَن عبد الله بن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من قتل مُتَعَمدا سلم إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، فَإِن أحبُّوا قتلوا، وَإِن أَحبُّوا أخذُوا الْعقل ثَلَاثِينَ حقة، وَثَلَاثِينَ جَذَعَة، وَأَرْبَعين خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا».
هَذَا الحَدِيث عزاهُ الرَّافِعِيّ فِي الْكتاب إِلَى بعض الشُّرُوح وَهُوَ عَجِيب مِنْهُ، فَإِنَّهُ حَدِيث مَشْهُور فِي كتابي التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه لَكِن من حَدِيث عبد الله بن عَمْرو- بِالْوَاو- ولعلها مِمَّا أسقطها النَّاسِخ، أَخْرجَاهُ من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده، أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «من قتل مُتَعَمدا دفع إِلَى أَوْلِيَاء الْمَقْتُول، فَإِن شَاءُوا قتلوا، وَإِن شَاءُوا أخذُوا الدِّيَة، وَهِي: ثَلَاثُونَ حقة، وَثَلَاثُونَ جَذَعَة، وَأَرْبَعُونَ خلفة، وَمَا صُولحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُم. وَذَلِكَ لتشديد الْعقل». قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن غَرِيب.
قلت: وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن رَاشد المكحولي الدِّمَشْقِي وَقد وَثَّقَهُ أَحْمد وَجَمَاعَة، وَلينه النَّسَائِيّ، وَنسب إِلَى الْقدر وَأَنه يرَى الْخُرُوج. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد هَذَا وَإِن كُنَّا نروي حَدِيثه لرِوَايَة الْكِبَار عَنهُ، فَلَيْسَ مِمَّن تقوم الْحجَّة بِمَا ينْفَرد بِهِ. وَقَالَ صَاحب الْإِلْمَام: رَوَاهُ مُحَمَّد بن رَاشد، عَن سُلَيْمَان وَقد وثقا. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِلَفْظ:
«إِن من قتل خطأ فديته من الْإِبِل مائَة: ثَلَاثُونَ بنت مَخَاض، وَثَلَاثُونَ بنت لبون، وَثَلَاثُونَ حقة، وَعشر بني لبون». قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا لَا يحْتَج بِمثلِهِ، فِيهِ مُحَمَّد بن رَاشد وَهُوَ ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي أَحْكَامه: لَعَلَّه يُرِيد خطأ الْعمد حملا عَلَى مَا سلف؛ لِأَن التنويع نوع من التَّغْلِيظ.

.الحديث السَّادِس:

«أَن امْرَأتَيْنِ ضرتين اقتتلتا فَضربت إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى بعمود فسطاط فَمَاتَتْ، فَقَضَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالدِّيَةِ عَلَى عاقلتها».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا مطولا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة والمغيرة بن شُعْبَة. ذكره الرَّافِعِيّ آخر الْبَاب، وَقد تَكَلَّمت عَلَيْهِ وَاضحا فِي شرحي للعمدة مَعَ بَيَان هَاتين الْمَرْأَتَيْنِ، فَرَاجعه مِنْهُ ترَى مهمات، وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس.

.الحديث السَّابِع:

حَدِيث: «الْعمد الْخَطَأ» عَلَى مَا تقدم، قد سلف هَذَا وَاضحا.

.الحديث الثَّامِن:

عَن عبَادَة بن الصَّامِت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «أَلا إِن فِي الدِّيَة الْعُظْمَى مائَة من الْإِبِل مِنْهَا أَرْبَعُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه بِإِسْنَاد مُنْقَطع، من حَدِيث إِسْحَاق بن يَحْيَى بن الْوَلِيد بن عبَادَة بن الصَّامِت، عَن عبَادَة بن الصَّامِت، قَالَ: «إِن من قَضَاء رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَضَى فِي الدِّيَة الْكُبْرَى الْمُغَلَّظَة بِثَلَاثِينَ ابْنة لبون، وَثَلَاثِينَ حقة وَأَرْبَعين خلفة، وَقَضَى فِي الدِّيَة الصُّغْرَى بِثَلَاثِينَ ابْنة لبون، وَثَلَاثِينَ حقة وَعشْرين بنت مَخَاض، وَعشْرين بني مَخَاض ذُكُور، ثمَّ غلت الْإِبِل بعد وَفَاة رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وهانت الدَّرَاهِم فقوم عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إبل الدِّيَة سِتَّة آلَاف حِسَاب أُوقِيَّة وَنصف لكل بعير، ثمَّ غلت الْإِبِل وهانت الدَّرَاهِم فأقامها عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه اثْنَي عشر ألف دِرْهَم حِسَاب ثَلَاث أَوَاقٍ لكل بعير، وَيُزَاد ثلث الدِّيَة فِي الشَّهْر الْحَرَام، وَثلث آخر للبلد الْحَرَام، أُقِيمَت دِيَة الْحرم عشْرين ألفا. قَالَ: وكَانَ يُقَال يُؤْخَذ من أهل الْبَادِيَة من ماشيتهم لَا يكلفون الْوَرق وَلَا الذَّهَب وَيُؤْخَذ من كل قوم من مَالهم قيمَة الْعدْل فِي أَمْوَالهم». قَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع، إِسْحَاق بن يَحْيَى لم يدْرك عبَادَة بن الصَّامِت.

.الحديث التَّاسِع والعاشر:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «فِي النَّفس مائَة من الْإِبِل». وَقَالَ: «فِي قَتِيل السَّوط والعصا مائَة من الْإِبِل».
هَذَانِ الحديثان تقدما فراجعهما.

.الحديث الحَادِي عشر وَالثَّانِي عشر:

عَن مَكْحُول وَعَطَاء قَالَا: «أدركنا النَّاس عَلَى أَن دِيَة الْحر الْمُسلم عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة من الْإِبِل، فقومها عمر بِأَلف دِينَار أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم».
هَذَانِ الحديثان رَوَاهُمَا الشَّافِعِي، عَن مُسلم، عَن عبيد الله بن عمر، عَن أَيُّوب بن مُوسَى، عَن ابْن شهَاب، وَعَن مَكْحُول وَعَطَاء قَالُوا: «أدركنا النَّاس عَلَى أَن دِيَة الْحر الْمُسلم عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم مائَة من الْإِبِل، فقوم عمر بن الْخطاب تِلْكَ الدِّيَة عَلَى الْقَرَوِي ألف دِينَار، أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم». قَالَ الْبَيْهَقِيّ: زَاد أَبُو سعيد- يَعْنِي ابْن أبي عَمْرو- عَن الْأَصَم، عَن الرّبيع فِي رِوَايَته قَالَ: «فَإِن كَانَ الَّذِي أَصَابَهُ من الْأَعْرَاب فديته مائَة من الْإِبِل، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَلَا الْوَرق».
وَهُوَ كَذَلِك فِيمَا رَأَيْنَاهُ من مُسْنده بعد قَوْله: «أَو اثْنَي عشر ألف دِرْهَم، ودية الْحرَّة الْمسلمَة إِذا كَانَت من أهل الْقرى خَمْسمِائَة دِينَار أَو سِتَّة آلَاف دِرْهَم، فَإِن كَانَ الَّذِي أَصَابَهَا من الْأَعْرَاب فَفِيهَا خَمْسُونَ من الْإِبِل، ودية الأعرابية إِذا أَصَابَهَا الْأَعرَابِي خَمْسُونَ من الْإِبِل، لَا يُكَلف الْأَعرَابِي الذَّهَب وَلَا الْوَرق». ورَوَاهُ الشَّافِعِي أَيْضا عَن مُسلم، عَن ابْن جريج قَالَ: «قلت لعطاء: الدِّيَة الْمَاشِيَة أَو الذَّهَب؟ قَالَ: كَانَت الْإِبِل حَتَّى كَانَ عمر فقوم الْإِبِل عشْرين وَمِائَة كل بعير، فَإِن شَاءَ الْقَرَوِي أعطَاهُ مائَة نَاقَة وَلم يُعْطه ذَهَبا كَذَلِك الْأَمر الأول». وَرَوَى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث شريك بن عبد الله «أَن عُثْمَان قَضَى بِالدِّيَةِ اثْنَا عشر ألفا وَكَانَت الدَّرَاهِم يَوْمئِذٍ وزن سِتَّة». قَالَ الشَّافِعِي: رَوَى عَطاء وَمَكْحُول وَعَمْرو بن شُعَيْب وعدة من أهل الْحجاز «أَن عمر فرض الدِّيَة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم» وَلم أعلم أحدا بالحجاز خَالفه فِيهِ بالحجاز وَلَا عَن عُثْمَان، وَمِمَّنْ قَالَ الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم: ابْن عَبَّاس، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَعَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وَلَقَد رَوَاهُ عِكْرِمَة، عَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «أَنه قَضَى فِي الدِّيَة اثْنَي عشر ألف دِرْهَم». قَالَ الشَّافِعِي: فَقلت لمُحَمد بن الْحسن: أفتقول إِن الدِّيَة اثْنَا عشر ألف دِرْهَم وزن سِتَّة؟ فَقَالَ: لَا. فَقلت: فَمن أَيْن زعمت أَنَّك عَن عمر قلتهَا وَأَن عمر قَضَى بهَا بِشَيْء لَا تقضي بِهِ. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: الرِّوَايَة عَن عمر هَذِه مُنْقَطِعَة، وَكَذَلِكَ عَن عُثْمَان، وَحَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب- يَعْنِي فِي ذَلِك- قد رُوِيَ مَوْصُولا وَمَعَهُ حَدِيث ابْن عَبَّاس.