فصل: الْأَثر الثَّانِي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البدر المنير في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في الشرح الكبير



.الحديث العَاشِر:

«أَن رجلا جَاءَ إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، معي دِينَار. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى نَفسك. فَقَالَ: معي آخر. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى ولدك. فَقَالَ: معي آخر. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى أهلك».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن سُفْيَان بن عُيينة، عَن مُحمد بن عجلَان، عَن سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، عَن أبي هُرَيْرَة «أَن رجلا أَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عِنْدِي دِينَار. فَقَالَ: أنفقهُ عَلَى نَفسك. فَقَالَ: يَا رَسُول الله، عِنْدِي آخر. قَالَ: أنفقهُ عَلَى ولدك. قَالَ: عِنْدِي آخر قَالَ: أنفقهُ عَلَى أهلك. قَالَ: عِنْدِي آخر. قَالَ: أنفقهُ عَلَى خادمك. قَالَ عِنْدِي آخر قَالَ: أَنْت أعلم». قَالَ المَقْبُري: ثمَّ يَقُول أَبُو هُرَيْرَة إِذا حَدثَك بِهَذَا: «يَقُول ولدك: أنْفق عليّ إِلَى من تَكِلنِي؟ وَتقول زَوجتك: أنْفق عليَّ أَو طَلقنِي. وَيَقُول خادمك: أنْفق عليَّ أَو بِعني». وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من طَرِيق الشَّافِعِي الْمَذْكُور، وَفِي رِوَايَة لَهُ: «أَنْت أبْصر» بدل «أَنْت أعلم». وَفِي أُخْرَى لَهُ: «عَلَى زَوجتك» بدل «أهلك». وَرَوَاهُ أَيْضا أَحْمد وَالنَّسَائِيّ من هَذَا الْوَجْه أَيْضا- أَعنِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة- بِلَفْظ: قَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: «تصدقوا. قَالَ رجل: عِنْدِي دِينَار. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى نَفسك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى زَوجتك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر، قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى ولدك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: تصدق بِهِ عَلَى خادمك. قَالَ: عِنْدِي دِينَار آخر. قَالَ: أَنْت أبْصر» قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي خلافياته: هَذَا الحَدِيث رُوَاته ثِقَات. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد لكنه قدم الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة كَمَا فِي الْكتاب؛ وَرِوَايَة الشَّافِعِي السالفة، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه كَذَلِك، ثمَّ قَالَ: حَدِيث صَحِيح. عَلَى شَرط مُسلم. وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه فَتَارَة قدم الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد وَتارَة عكس. وَقَالَ ابْن حزم: اخْتلف سُفْيَان وَيَحْيَى الْقطَّان، فَقدم سُفْيَان الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة، وَقدم يَحْيَى الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، وَكِلَاهُمَا ثِقَة، فَالْوَاجِب أَن لَا يقدم الْوَلَد عَلَى الزَّوْجَة وَلَا الزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، بل يَكُونَا سَوَاء؛ لِأَنَّهُ قد صَحَّ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يُكَرر كَلَامه ثَلَاث مَرَّات، فَيمكن أَن يكون كرر فتياه ثَلَاث مَرَّات، فَمرَّة قدم الْوَلَد وَمرَّة قدم الزَّوْجَة فصارا سَوَاء.
قلت: وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث جَابر تَقْدِيم الْأَهْل عَلَى ذَوي الْقَرَابَة.
وَاعْلَم أَن الرَّافِعِيّ لما قرر تَقْدِيم نَفَقَة الزَّوْجَة عَلَى الْقَرِيب، ثمَّ قَالَ: وَاعْترض الإِمَام بِأَن نَفَقَتهَا إِذا كَانَت كَذَلِك كَانَت كالديون وَنَفَقَة الْقَرِيب فِي مَال الْمُفلس مُقَدّمَة عَلَى الدُّيُون وَخرج لذَلِك احْتِمَالَانِ فِي الْمَسْأَلَة وأيده بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور، ثمَّ قَالَ: قدم نَفَقَة الْوَلَد عَلَى نَفَقَة الْأَهْل كَمَا قدم نَفَقَة النَّفس عَلَى نَفَقَة الْوَلَد. وَهَذَا ماش عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ المتقدمتين دون الْأُخْرَى الْمُقدمَة للزَّوْجَة عَلَى الْوَلَد، فَتنبه لذَلِك.

.الحديث الحَادِي عشر:

«أَن رجلا أَتَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: من أبر؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قَالَ ثمَّ من قَالَ: أَبَاك».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: «جَاءَ رجل إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله، من أَحَق النَّاس بِحسن صَحَابَتِي؟ قَالَ: أمك. قَالَ ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قَالَ: ثمَّ من؟ قَالَ: ثمَّ أَبوك». وَفِي رِوَايَة لَهما: «أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أَبَاك، ثمَّ أدناك أدناك». زَاد ابْن حبَان: قَالَ: «فيرون أَن للْأُم ثُلثي الْبر». وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذكره الرَّافِعِيّ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث بهز بن حَكِيم، عَن أَبِيه، عَن جده، قَالَ: «قلت: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك. قلت: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قلت: ثمَّ من؟ قَالَ: أمك. قلت ثمَّ من؟ قَالَ: ثمَّ أَبَاك، ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب». هَذَا لفظ التِّرْمِذِيّ، وَلَفظ أبي دَاوُد «قلت: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أَبَاك، ثمَّ الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب». قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن. ورَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه بِلَفْظ التِّرْمِذِيّ، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ عَلَى شَرطهمَا فِي حَكِيم بن مُعَاوِيَة أَنه لَيْسَ لَهُ راو غير بهز، وَقد رَوَى عَنهُ غير بهز، وَقد رَوَى عَنهُ أَبُو قزعة الْبَاهِلِيّ. قَالَ: ثمَّ وجدنَا لهَذَا الحَدِيث شَوَاهِد فَذكرهَا بأسانيده. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث كُلَيْب بن مَنْفَعَة الْحَنَفِيّ، عَن جده «أَنه أَتَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله، من أبر؟ قَالَ: أمك وأباك، وأختك وأخاك، ومولاك الَّذِي يَلِي ذَلِك، حقًّا وَاجِبا ورحمًا مَوْصُولَة». قَالَ ابْن أبي حَاتِم فِي علله: سَأَلت أبي عَن هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ: هِيَ أشبه من رِوَايَة من رَوَى عَن كُلَيْب، عَن أَبِيه، عَن جدِّه. هَذَا آخر مَا ذكره الرَّافِعِيّ من الْأَحَادِيث.
وَذكر فِيهِ: أَن نَفَقَة الْوَلَد عَلَى الْأَب منصُوصٌ عَلَيْهَا فِي قصَّة هِنْد وَغَيرهَا، فَأَما حَدِيث هِنْد فسلف أول الْبَاب، وَأما غَيره، فَلَعَلَّهُ إِشَارَة إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة السالف: «خير الصَّدَقَة مَا كَانَ عَن ظهر غنى» إِلَى أَن قَالَ «ولدك يَقُول: إِلَى من تتركني».
وَذكر فِيهِ، من الأثار أثرا وَاحِدًا: وَهُوَ «أَن عمر بن الْخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد فِي رجال غَابُوا عَن نِسَائِهِم فَأَمرهمْ أَن يأمروهم إِمَّا بِأَن ينفقوا وَإِمَّا أَن يطلقوا، فَإِن طلقوا بعثوا بِنَفَقَة مَا حبسوا».
وَهَذَا الْأَثر رَوَاهُ الشَّافِعِي، عَن مُسلم بن خَالِد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما بِاللَّفْظِ الْمَذْكُور. قَالَ الشَّافِعِي: وأحسب أَنه لم يكن يحضرهُ عمر. قَالَ: وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه بِإِسْنَاد جيد. وَمن جِهَته أخرجه ابْن الْمُنْذر فِي كِتَابه الْأَوْسَط قَالَ فِيهِ: ثَنَا إِسْحَاق، عَن عبد الرَّزَّاق، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع، عَن ابْن عمر قَالَ: «كتب عمر إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن ادعُ فلَانا وَفُلَانًا- نَاسا قد انْقَطَعُوا من الْمَدِينَة وخلو مِنْهَا- إِمَّا أَن يرجِعوا إِلَى نِسَائِهِم وَإِمَّا أَن يبعثوا إليهنَّ نَفَقَة، وَإِمَّا أَن يطلِّقوا ويبعثوا نَفَقَة مَا مَضَى». وَقَالَ: قيل: هَذَا ثَابت عَن عمر أَنه كتب يَأْمُرهُم أَن ينفقوا أَو يطلقوا.
وَرَوَاهُ ابْن أبي حَاتِم فِي علله فَقَالَ: سَمِعت أبي وَذكر حَدِيث حَمَّاد، عَن عبيد الله بن عمر، عَن نَافِع «أَن عمر كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد: أَن مُروا أهل الْمَدِينَة أَن يقدموا عَلَى نِسَائِهِم أَو يطلقوهنَّ فيبعثوا إليهنَّ بِنَفَقَة مَا مَضَى» قَالَ أبي: نَحن نَأْخُذ بِهَذَا فِي نَفَقَة مَا مَضَى. قَالَ الشَّافِعِي- فِيمَا نَقله الْبَيْهَقِيّ عَنهُ-: وَلم يُخَالِفهُ أحد من الصَّحَابَة. وَقَالَ ابْن حزم: لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يُخَاطب بذلك إِلَّا أَغْنِيَاء قَادِرين عَلَى النَّفَقَة وَلَيْسَ فِيهِ ذكر حكم الْمُعسر بل قد صَحَّ عَن عمر إِسْقَاط طلب الْمَرْأَة للنَّفَقَة إِذا أعْسر بهَا الزَّوْج وذكر فِيهِ عَن زيد بن أسلم «أَنه فسَّر قَوْله تَعَالَى {ذَلِك أدنَى أَن لَا تعولُوا}: أَن لَا تكْثر عيالكم» وَهَذَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ والدَّارَقُطْنِيّ فِي سُنَنهمَا بِلَفْظ: «أَن لَا يكثر من تعولُوا».

.باب الْحَضَانَة:

ذكر فِيهِ- رَحِمَهُ اللَّهُ- أَحَادِيث وأثرين:

.أما الْأَحَادِيث:

فخمسة:

.أَحدهَا:

عَن عبد الله بن عَمْرو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «أَن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله، إِن ابْني هَذَا بَطْني لَهُ وعَاء، وثديي لَهُ سقاء، وحجري لَهُ حَوَّاء، وَإِن أَبَاهُ طَلقنِي وَأَرَادَ أَن يَنْزعهُ مني. فَقَالَ: أنتِ أَحَق بِهِ مَا لم تنكحي».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ كَذَلِك أَحْمد فِي مُسْنده وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيّ فِي سُنَنهمَا وَالْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه بإسنادٍ صَحِيح، من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده عبد الله بن عَمْرو، قَالَ الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد.
فَائِدَة: الحَجر بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَهُوَ الحِضْن مَا دون الْإِبِط إِلَى الكشح، والحواء بِكَسْر الْحَاء مَمْدُود اسْم للمكان الَّذِي يحوي الشَّيْء، أَي: يضمه ويجمعه.

.الحديث الثَّانِي:

«أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خير غُلَاما بَين أَبِيه الْمُسلم وَأمه المشركة، فَمَال إِلَى الْأُم، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ اهده. فَمَال إِلَى الْأَب».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده، وَعبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه وَالنَّسَائِيّ فِي سنَنه، من حَدِيث عبد الحميد بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ، عَن أَبِيه عَن جده «أَن جَده أسلم، وأبت امْرَأَته أَن تسلم فجَاء بِابْن لَهَا صَغِير لم يبلغ، قَالَ: فأجلس النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَبَاهُ هَاهُنَا وَالأُم هَاهُنَا، ثمَّ خَيره، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَذهب إِلَى أَبِيه». وَرَوَاهُ أَحْمد أَيْضا، وَأَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الحميد بن جَعْفَر الْأنْصَارِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، عَن جدي رَافع بن سِنَان «أَنه أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم فَأَتَت النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: ابْنَتي وَهِي فطيم- أَو شبهه- وَقَالَ رَافع: ابْنَتي. فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اقعد نَاحيَة. وَقَالَ لَهَا: اقعدي نَاحيَة. وأقعد الصَّبِي بَينهمَا، ثمَّ قَالَ: ادعواها. فمالت إِلَى أمهَا، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اللَّهُمَّ اهدها. فمالت إِلَى أَبِيهَا فَأَخذهَا» وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، من حَدِيث عبد الحميد بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن أَبَوَيْهِ اخْتَصمَا إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحدهمَا كَافِر وَالْآخر مُسلم فخيره فَتوجه إِلَى الْكَافِر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَتوجه إِلَى الْمُسلم فَقَضَى لَهُ بِهِ»
وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي مُسْتَدْركه كَمَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ عبد الْحق فِي أَحْكَامه: اخْتلف فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث. وَلم يُبينهُ، وَبَينه ابْن الْقطَّان فَقَالَ: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور: هُوَ أَنه من رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس وَأبي عَاصِم وَعلي بن غراب، كلهم عَن عبد الحميد بن جَعْفَر، عَن أَبِيه، عَن جده رَافع بن سِنَان قَالَ عبد الحميد بن جَعْفَر بن عبد الله بن الحكم بن رَافع بن سِنَان، وعبد الحميد ثِقَة، وَأَبوهُ جَعْفَر كَذَلِك، قَالَه الْكُوفِي. ذكر رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس هَذِه أَبُو دَاوُد، وَرِوَايَة أبي عَاصِم وَعلي بن غراب فِي سنَن الدَّارَقُطْنِيّ وَسميت الْبِنْت الْمَذْكُورَة من رِوَايَة أبي عَاصِم «عميرَة»- أَي: بنت أبي الحكم- كَمَا فِي الْمعرفَة لأبي نعيم. قلت: وَاخْتلف أَيْضا فِي مَتنه فَرَوَاهُ عُثْمَان البَتِّي، عَن عبد الحميد بن سَلمَة، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن أَبَوَيْهِ اخْتَصمَا فِيهِ إِلَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم أَحدهمَا مُسلم وَالْآخر كَافِر، فخيره، فَتوجه إِلَى الْكَافِر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهده. فَتوجه إِلَى الْمُسلم، فَقَضَى بِهِ». هَكَذَا ذكره أَبُو بكر بن أبي شيبَة، عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم- هُوَ ابْن علية- عَن عُثْمَان، وَكَذَا رَوَاهُ يَعْقُوب الدَّوْرَقِي عَن إِسْمَاعِيل أَيْضا. وَرَوَاهُ يزِيد بن زُرَيْع، عَن عُثْمَان البتي، وَقَالَ فِيهِ: عَن عبد الحميد بن يزِيد بن سَلمَة «أَن جده أسلم وأبت امْرَأَته أَن تسلم وَبَينهمَا ولد صَغِير» فَذكر مثله. رَوَاهُ عَن يزِيد بن ذريع يَحْيَى بن عبد الحميد من رِوَايَة ابْن أبي خَيْثَمَة عَنهُ. ذكر هَذَا كُله قَاسم بن أصبغ فِيمَا حَكَاهُ ابْن الْقطَّان، قَالَ- أَعنِي: ابْن الْقطَّان-: إِلَّا أَن هَذِه الْقِصَّة هَكَذَا تجْعَل الْمُخَير غُلَاما وجدًّا ل عبد الحميد بن يزِيد بن سَلمَة لَا يَصح؛ لِأَن عبد الحميد وأباه وجده لَا يعْرفُونَ وَلَو صحت لم يَنْبغ أَن يَجْعَل خلافًا لرِوَايَة أَصْحَاب عبد الحميد بن جَعْفَر فَإِنَّهُم ثِقَات، وَهُوَ وَأَبوهُ ثقتان، وجده رَافع بن سِنَان مَعْرُوف. بل كَانَ يجب أَن يُقَال: لعلهما قصتان خَيَّر فِي أَحدهمَا غُلَاما فِي الْأُخْرَى جَارِيَة. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي جامعه: إِن رِوَايَة من رَوَى أَنه كَانَ غُلَاما أصح.
تَنْبِيهَات:
أَحدهَا: عبد الحميد بن جَعْفَر وَإِن ضعفه يَحْيَى بن سعيد من جِهَة الْقدر، وسُفْيَان كَانَ يحمل عَلَيْهِ بِسَبَب خُرُوجه مَعَ عبد الله، فَلَا يقْدَح ذَلِك فِيهِ، وَقد زكَّاه المزكُّون: أَحْمد وَابْن معِين وَالنَّسَائِيّ، وَأخرج لَهُ مُسلم، وَقَالَ صَاحب الْمُغنِي الْحَنْبَلِيّ- بعد أَن ذكر الحَدِيث، وَأَن الْمُخَير كَانَت بِنْتا-: قد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث عَلَى غير هَذَا الْوَجْه وَلَا يُثبتهُ أهل النَّقْل، وَفِي إِسْنَاده مقَال، قَالَه ابْن الْمُنْذر.
ثَانِيهَا: ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من وَجه آخر، وَفِيه أَنه عَلَيْهِ السَّلام قَالَ لَهما: «هَل لَكمَا أَن تخيراه فَقَالَا: نعم».
ثَالِثهَا: قَالَ أَبُو نعيم الْحَافِظ: ذكر بعض الْمُتَأَخِّرين- يَعْنِي ابْن مَنْدَه- أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بعض الْمُتَأَخِّرين عَن شيخ، عَن أبي مَسْعُود، عَن عبد الرَّزَّاق وَقَالَ فِيهِ: «عَن جده حوط أَنه أسلم» وَهُوَ وهم ظَاهر، وَإِنَّمَا جده رَافع بن سِنَان.
رَابِعهَا: اسْم هَذِه الْجَارِيَة عميرَة كَمَا سلف، وَكَذَا وَقع فِي الدَّارَقُطْنِيّ.
خَامِسهَا: احْتج الْإِصْطَخْرِي من أَصْحَابنَا بِهَذَا الحَدِيث عَلَى أَنه يثبت للكافرة حق الْحَضَانَة، وَأجَاب غَيره من الْأَصْحَاب عَنهُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخ أَو مَحْمُول عَلَى أَنه عَلَيْهِ السَّلام عرف أَنه يُسْتَجَاب دعاؤه وَأَنه يخْتَار الْأَب الْمُسلم وقصده بالتخيير استمالة قلب الْأُم. كَذَا نَقله الرَّافِعِيّ عَنْهُم، وَهُوَ أولَى من قَول ابْن الصّباغ وَالْمَاوَرْدِيّ، وتبعهما صَاحب الْمطلب فَقَالَ: إِنَّه حَدِيث ضَعِيف عِنْد أهل الحَدِيث. وَادَّعَى الشَّيْخ أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ نسخه بِإِجْمَاع الْأمة عَلَى أَنه لَا يسلَّم إِلَى الْكَافِر. قَالَ القَاضِي مُجَلِّي: وَلَعَلَّ نَسْخَه وَقع بقوله تَعَالَى: {وَلنْ يَجْعَل الله للْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤمنِينَ سَبِيلا} قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: ولِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام دَعَا بهدايته إِلَى مُسْتَحقّ كفَالَته لَا إِلَى الْإِسْلَام لثُبُوت إِسْلَامه بِإِسْلَام أَبِيه، فَلَو لأمه حق لأقرها وَلما دَعَا بهدايته إِلَى مُسْتَحقّه. وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: هَذَا الْخَبَر كَانَ فِي مَوْلُود غير مميزٍ.
قلت: قد سلف ذَلِك فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: «وَهِي فطيم أَو شبهه».

.الحديث الثَّالِث:

رُوِيَ أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «الْأُم أَحَق بِوَلَدِهَا مَا لم تتَزَوَّج».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي العوَّام، عَن الْمثنى بن الصَّباح، عَن عَمْرو بن شُعَيْب، عَن أَبِيه، عَن جده «أَن امْرَأَة خَاصَمت زَوجهَا فِي وَلَدهَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْمَرْأَة أَحَق بِوَلَدِهَا مَا لم تتَزَوَّج». وَهَذَا إِسْنَاد ضَعِيف بِسَبَب الْمثنى بن الصَّباح، فَإِنَّهُم ضَعَّفُوهُ، وأَبُو الْعَوام هُوَ عمرَان بن دَاَور الْقطَّان وَهُوَ مُخْتَلف فِيهِ كَمَا سلف فِي صَلَاة الْجَمَاعَة. وَاعْلَم أَن هَذَا الحَدِيث والْحَدِيث الأول اسْتدلَّ بهما الرَّافِعِيّ عَلَى أَنَّهَا إِذا نكحت أجنبيًّا سقط حضانتها، وَلَا دلَالَة فيهمَا عَلَى ذَلِك، إِنَّمَا يدلان عَلَى عدم تَقْدِيمهَا، وَحِينَئِذٍ فَيحْتَمل السُّقُوط وَيحْتَمل التَّسَاوِي، حَتَّى لَا تقدم أَحدهمَا إِلَّا بِقرْعَة أَو تَخْيِير من الطِّفْل أَو اجْتِهَاد من الْحَاكِم أَو غير ذَلِك.

.الحديث الرَّابِع:

قَالَ الرَّافِعِيّ: وَاحْتج فِي التَّتِمَّة لبَقَاء حق الْحَضَانَة إِذا نكحت مُسْتَحقَّة الْحَضَانَة من لَهُ حق فِي الْحَضَانَة أَو كَانَت فِي نِكَاح مثله، بِمَا رُوِيَ «أَن عليًّا وجعفرًا وَزيد بن حَارِثَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم تنازعوا فِي حضَانَة بنت حَمْزَة بعد أَن اسْتشْهد، فَقَالَ عَلّي: بنت عمىِ، وَعِنْدِي بنت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ زيد: بنت أخي- وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام قد آخَى بَين زيد وَحَمْزَة- وَقَالَ جَعْفَر: الْحَضَانَة لي، هِيَ بنت عمي وَعِنْدِي خَالَتهَا. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: الْخَالَة أم- وَفِي رِوَايَة: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم- وَسلمهَا إِلَى جَعْفَر وجعل لَهَا الْحَضَانَة، وَهِي ذَات زوج».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من رِوَايَة الْبَراء بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قَالَ: «خرج النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي من مَكَّة- فاتبعتهم ابْنة حَمْزَة تنادي: يَا عَم. فَتَنَاولهَا عَلّي فَأَخذهَا بِيَدِهِ وَقَالَ لفاطمة: دُونك ابْنة عمك فاحمليها فاختصم فِيهَا عَلّي وَزيد وجَعْفَر، فَقَالَ عليّ: أَنا أَحَق بهَا وَهِي ابْنة عمي. وَقَالَ جَعْفَر: ابْنة عمي وخالتها تحتي. وَقَالَ زيد: بنت أخي. فَقَضَى بهَا النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم لخالتها، وَقَالَ: الْخَالَة بِمَنْزِلَة الْأُم. وَقَالَ لعليّ: أَنْت مني وَأَنا مِنْك. وَقَالَ لجَعْفَر: أشبهتَ خُلقي وخَلقي. وَقَالَ لزيد: أَنْت أخونا ومولانا». وَعَزاهُ الْمجد فِي أَحْكَامه وَابْن الْأَثِير فِي جامعه إِلَى مُسلم أَيْضا، وَهُوَ ظَاهر إِيرَاد الْعُمْدَة أَيْضا، وَلم يعزه الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه والمزي فِي أَطْرَافه إِلَّا إِلَى البُخَارِيّ وَحده، وَكَأن مُرَاد الْأَوَّلين بِإِخْرَاج مُسلم مِنْهُ فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا هَذِه القصَّة أَيْضا من حَدِيث عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فِي قصَّة بنت حَمْزَة، قَالَ: «فَقَالَ جَعْفَر: أَنا أَحَق بهَا، فَإِن خَالَتهَا عِنْدِي. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: أما الْجَارِيَة فأقضي بهَا لجَعْفَر، فَإِن خَالَتهَا عِنْده، وَإِنَّمَا الْخَالَة أم». قَالَ: والْحَدِيث الأول أصح من هَذَا.
قلت: وَحَدِيث عليّ هَذَا أخرجه الإِمَام أَحْمد وَأَبُو دَاوُد بِهِ وَالْبَزَّار وَقَالَ: لَا يرْوَى عَن عليّ إِلَّا من الطَّرِيق الْمَذْكُور. وَأعله ابْن حزم وَقَالَ: إِسْرَائِيل ضَعِيف، وهانئ وهبيرة مَجْهُولَانِ. وَوهم فِي ذَلِك، أما إِسْرَائِيل فاحتج بِهِ الشَّيْخَانِ، ووُثِّق هَانِئ، قَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِهِ بَأْس. وهبيرة هُوَ ابْن يريم رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ أَبُو إِسْحَاق السبيعِي، وَقد أسلفنا حَاله فِي بَاب النَّجَاسَات فِي أَوَائِل الْكتاب. وَأَبُو فَاخِتَة قَالَ أَحْمد: لَا بَأْس بحَديثه. وَرَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث مُحَمَّد بن نَافِع بن عجير، عَن أَبِيه، عَن عَلّي فِي قصَّة بنت حَمْزَة، قَالَ:
«فَقَالَ جَعْفَر: أَنا أَحَق بهَا وَإِن خَالَتهَا عِنْدِي. فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما الْجَارِيَة فأقضي بهَا لجَعْفَر وَإِن خَالَتهَا عِنْده، وَإِنَّمَا الْخَالَة أم». وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، عَن نَافِع بن عجير، عَن أَبِيه، عَن عَلّي. فاضطرب إِسْنَاده كَمَا ترَى.

.الحديث الخَامِس:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَن النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خيَّرَ غُلامًا بَين أَبِيه وَأمه». وَعنهُ: «أَنه اخْتصم رجل وَامْرَأَة فِي وَلَده مِنْهَا إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت الْمَرْأَة: يَا رَسُول الله، إِن ابْني هَذَا قد نَفَعَنِي وسقاني من بِئْر أبي عنبة، وَإِن أَبَاهُ يُرِيد أَن يَأْخُذهُ مني. فَقَالَ الْأَب: لَا أحد يحاقني فِي ابْني. فَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا غُلَام، هَذِه أمك وَهَذَا أَبوك، فَاتبع أَيهمَا شِئْت. فَاتبع أمه». وَيروَى «أَن رجلا وَامْرَأَة أَتَيَا أَبَا هُرَيْرَة يختصمان فِي ابْن لَهما، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: لأقضين بَيْنكُمَا بِمَا شهِدت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْضِي بِهِ، يَا غُلَام، هَذَا أَبوك وَهَذِه أمك، فاختر أَيهمَا شِئْت».
هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ بِاللَّفْظِ الأول أَحْمد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، عَن أَبِيه، عَن أبي هُرَيْرَة وَقَالَ: حسن. وَنقل ابْن عَسَاكِر فِي أَطْرَافه عَنهُ تَصْحِيحه وَتَبعهُ صَاحب الْمُنْتَقَى نعم صَححهُ ابْن حبَان فَإِنَّهُ أخرجه فِي صَحِيحه من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة، وَأَيْضًا عَن أبي مَيْمُونَة «أَنه شهد أَبَا هُرَيْرَة خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه، وَقَالَ: إِن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم خير غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ». وَرَوَاهُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي من حَدِيث هِلَال بن أبي مَيْمُونَة- وَقيل: أُسَامَة- أَن أَبَا مَيْمُونَة سليما- من أهل الْمَدِينَة رجل صدق- قَالَ: «بَيْنَمَا أَنا جَالس مَعَ أبي هُرَيْرَة جَاءَتْهُ امْرَأَة فارسية مَعهَا ابْن لَهَا وَقد طَلقهَا زَوجهَا فادعياه، فَقَالَت: يَا أَبَا هُرَيْرَة- رطنت بِالْفَارِسِيَّةِ- زَوجي يُرِيد أَن يذهب بِابْني. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اسْتهمَا عَلَيْهِ- رطن لَهَا بذلك- فجَاء زَوجهَا فَقَالَ: من يحاقني فِي وَلَدي؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة: اللَّهُمَّ إِنِّي لأقول هَذَا لِأَنِّي سَمِعت امْرَأَة جَاءَت رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا قَاعد عِنْده فَقَالَت: يَا رَسُول الله، إِن زَوجي يُرِيد أَن يذهب بِابْني، وَقد سقاني من بِئْر أبي عنبة وَقد نَفَعَنِي. فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: اسْتهمَا عَلَيْهِ. فجَاء زَوجهَا فَقَالَ: من يحاقني فِي وَلَدي؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: هَذَا أَبوك وَهَذِه أمك. فَأخذ بيد أمه فَانْطَلَقت بِهِ». وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ بِنَحْوِهِ، وَرَوَاهُ الْحَاكِم فِي كتاب الْأَحْكَام فِي مُسْتَدْركه بِلَفْظ أبي دَاوُد، ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح الْإِسْنَاد. وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه أَيْضا بِلَفْظ أبي دَاوُد رَوَاهُ مُخْتَصرا أَيْضا. وَكَذَلِكَ رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُسْنده أَيْضا، عَن وَكِيع، عَن ابْن الْمُبَارك، عَن يَحْيَى بن أبي كثير، عَن أبي مَيْمُونَة، عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: «جَاءَت امْرَأَة إِلَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: اسْتهمَا فِيهِ وَقَالَ رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: تخير أَيهمَا شِئْت. قَالَ: فَاخْتَارَ أمه فَذَهَبت بِهِ».
وَلما أخرجه ابْن حزم فِي محلاه عَنهُ أعله بِأبي مَيْمُونَة هَذَا، فَقَالَ: أَبُو مَيْمُونَة هَذَا مَجْهُول لَيْسَ هُوَ وَالِد هِلَال الَّذِي رَوَى عَنهُ.
قلت: هُوَ سليم كَمَا سلف فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، وَكَذَا سَمَّاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا بعد إِيرَاده الحَدِيث، وَكَذَا سَمَّاهُ البُخَارِيّ، قَالَ ابْن عَسَاكِر: وَيُقَال: سلمَان رَوَى عَن جمَاعَة، وَعنهُ جمَاعَة، وَوَثَّقَهُ الْعجلِيّ وَالنَّسَائِيّ، وَالصَّحِيح أَنه لَيْسَ بوالد هِلَال. وَقَالَ عبد الْحق: يرويهِ هِلَال بن أُسَامَة، عَن أبي مَيْمُونَة سلْمَى- من أهل الْمَدِينَة رجل صدق- عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ ابْن الْقطَّان: لَا يفهم من هَذَا الْكَلَام تَصْحِيح الحَدِيث وَلَا توهِينه وَذَلِكَ أَن أَبَا مَيْمُونَة هَذَا إِن لم يكن رَوَى عَنهُ غير هِلَال بن أُسَامَة فَيَنْبَغِي أَن يكون عَلَى مذْهبه مَجْهُولا، وَلَا يَنْفَعهُ قَول هِلَال بن أُسَامَة فِيهِ: رجل صدق. وَإِن كَانَ لَا يعرف، وَأَيْضًا إِنَّه لم يثن عَلَيْهِ إِلَّا بالصلاح وَذَلِكَ لَا يقْضِي لَهُ بالثقة وَلَا بِالصّدقِ الَّذِي نبتغيه فِي الرِّوَايَة، قيل: لم نر الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث. فَأَما هِلَال بن أُسَامَة فقد كنى من حَدثهُ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور أَبَا مَيْمُونَة وَسَماهُ سلْمَى، وَذكر أَنه مولَى من أهل الْمَدِينَة وَوَصفه بِأَنَّهُ رجل صدق، وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الرَّاوِي مَا لم يتَبَيَّن خِلَافه، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قد رَوَى عَن أبي مَيْمُونَة الْمَذْكُور أَبُو النَّضر، قَالَه أَبُو حَاتِم، ثمَّ رَوَى عَنهُ يَحْيَى بن أبي كثير هَذَا الحَدِيث نَفسه، ثمَّ سَاق الحَدِيث من مُسْند ابْن أبي شيبَة ثمَّ قَالَ: فجَاء من هَذَا جودة هَذَا الحَدِيث وَصِحَّته، وَلَعَلَّه مَقْصُود عبد الْحق.
فَائِدَة: قَوْلهَا: «نَفَعَنِي وسقاني» مَعْنَاهُ بلغ حدًّا لينْتَفع بِهِ بِحمْل مَاء أَو مَتَاع. كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ، والبئر الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث عَلَى ميلين من الْمَدِينَة كَذَا ذكره أَبُو عبيد الْبكْرِيّ. قَالَ: وَهِي مَعْرُوفَة ولفظها عَلَى لفظ الْمَأْكُول.
والرطانة- بِفَتْح الرَّاء وَكسرهَا-: الْكَلَام بالأعجمية.
والاستهام: المقارعة.
ويحاقني: أَي يُنَازعنِي فِي حَقي مِنْهُ.
تَنْبِيه:
قيل هَذَا فِي الْغُلَام الَّذِي عقل وَاسْتَغْنَى عَن الْحَضَانَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك خير بَين وَالِديهِ، وللعلماء خلاف فِي ذَلِك. قَالَ الْخطابِيّ: وَإِن صَحَّ الحَدِيث فَلَا مَذْهَب عَنهُ. قلت: قد صُحح كَمَا سلف. هَذَا آخر مَا ذكر فِيهِ من الْأَحَادِيث.

.وَأما الأثران:

.أَحدهمَا:

«أَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه خيَّر غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ» وَهَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: جَاءَ عَن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أَنه خيرَّ غُلَاما بَين أَبَوَيْهِ». وأسنده فِي الْقَدِيم عَلَى مَا حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَنهُ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن يزِيد بن يزِيد بن جَابر، عَن إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر، عَن عبد الرَّحْمَن بن غنم «أَن عمر بن الْخطاب خير غُلَاما بَين أَبِيه وَأمه».

.الْأَثر الثَّانِي:

عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: «خيرَّني عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بَين أُمِّي وَعمي وَأَنا ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان».
هَذَا الْأَثر ذكره الشَّافِعِي فِي الْمُخْتَصر بِغَيْر إِسْنَاد فَقَالَ: وَعَن عمَارَة قَالَ: «خيرَّني عَليّ بَين أُمِّي وَعمي، ثمَّ قَالَ لأخ أَصْغَر مني: وَهَذَا أَيْضا لَو قد بلغ خيرته» وَقَالَ فِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين» وَذكره فِي الْأُم مُسْندًا من طَرِيقين: أَحدهمَا: عَن ابْن عُيَيْنَة، عَن يُونُس بن عبد الله الْجرْمِي، عَن عمَارَة الْجرْمِي قَالَ: «خيرَّني عَلّي بَين أُمِّي وَعمي، وَقَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا لَو بلغ مبلغ هَذَا خيرته». وَذكره الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه من هَذَا الْوَجْه، ثمَّ قَالَ الشَّافِعِي: قَالَ إِبْرَاهِيم، عَن يُونُس، عَن عمَارَة، عَن عَلّي، مثله وَقَالَ فِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان».
الطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، عَن يُونُس بن عبد الله، عَن عمَارَة، وَذكر نَحوه، وَفِيه: «وَقَالَ لأخ لي أَصْغَر مني: وَهَذَا لَو بلغ لخيرته». قَالَ إِبْرَاهِيم: وَفِي الحَدِيث: «وَكنت ابْن سبع سِنِين أَو ثَمَان سِنِين». وَفِي علل ابْن أبي حَاتِم: سَأَلت أبي عَن هَذَا الحَدِيث حَيْثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة، عَن يُونُس الْجرْمِي، عَن عَلّي بن ربيعَة، قَالَ: «شهِدت عليًّا...» فَذكر الحَدِيث، فَقَالَ: هَذَا خطأ إِنَّمَا هُوَ عَن يُونُس الْجرْمِي، عَن عمَارَة، عَن عَليَّ. قلت لأبي: الْخَطَأ من أبي دَاوُد أَو من شُعْبَة؟ قَالَ: لَا أَدْرِي. وَكَانَ أَكثر خطأ شُعْبَة فِي أَسمَاء الرِّجَال.

.باب نَفَقَة الرَّقِيق:

والرفق بهم وَنَفَقَة الْبَهَائِم ذكر فِيهِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرْبَعَة أَحَادِيث:

.أَحدهَا:

عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أَن رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «للمملوك طَعَامه وَكسوته بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يُكَلف من الْعَمَل مَا لَا يُطيق».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه مُسلم كَذَلِك من هَذَا الْوَجْه إِلَّا أَنه قَالَ: مَا يُطيق. وَرَوَاهُ الشَّافِعِي بِلَفْظ الرَّافِعِيّ سَوَاء، وَفِي إِسْنَاده مُحَمَّد بن عجلَان، وَفِيه لين.

.الحديث الثَّانِي:

أنَّه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «هم إخْوَانكُمْ خولكم جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم، فَمن كَانَ أَخُوهُ تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل ويلبسه مِمَّا يلبس».
هَذَا الحَدِيث صَحِيح، أخرجه الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا من حَدِيث الْمَعْرُور بن سُوَيْد، قَالَ: «رَأَيْت أَبَا ذَر عَلَيْهِ حٌلة وَعَلَى غُلَامه مثلهَا فَسَأَلته عَن ذَلِك فَذكر أَنه سَاب رجلا عَلَى عهد رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَعَيَّرَهُ بِأُمِّهِ، فَأَتَى النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّك امْرؤُُ فِيك جَاهِلِيَّة. قلت عَلَى سَاعَتِي هَذِه من كبر السن؟! قَالَ: نعم، هم إخْوَانكُمْ وخولكم جعلهم الله تَحت أَيْدِيكُم، فَمن كَانَ أَخُوهُ تَحت يَده فليطعمه مِمَّا يَأْكُل وليلبسه مِمَّا يلبس، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبهُمْ. فَإِن كلفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ عَلَيْهِ». وَفِي رِوَايَة لَهما: «فَإِن كلفه بِمَا يغلبه فليعنه» وَفِي رِوَايَة لَهما: «فليبعه».
فَائِدَة:
الخوَل- بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وواو مَفْتُوحَة-: الحشم، الْوَاحِد خائل، وَقد يكون الخول وَاحِدًا، وَهُوَ اسْم يَقع عَلَى العَبْد وَالْأمة، وَقَالَ الْفراء: إِنَّه جمع خائل، وَهُوَ الرَّاعِي. وَقَالَ غَيره: هُوَ مَأْخُوذ من التخويل وَهُوَ التَّمْلِيك. حَكَاهُ الْجَوْهَرِي.