فصل: نَفِّذٌ بالشِّرْعِ لِلأَحْكَامِ *** لَهُ نِيِابَةٌ عَنِ الإمَامِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***


نَفِّذٌ بالشِّرْعِ لِلأَحْكَامِ *** لَهُ نِيِابَةٌ عَنِ الإمَامِ

‏(‏منفذ‏)‏ أي هو القاضي المفهوم من القضاء منفذ الخ لأن القضاء على معناه من المصدرية لا بد له من شخص يقوم به، ويحتمل أن يريد بالقضاء الوصف أي باب القاضي وعلى كل ففي الكلام استخدام لأنه في الأول أطلق القضاء على معناه المصدري، وأعاد عليه الضمير المقدر قبل قوله منفذ باعتبار الوصف، وفي الثاني أطلقه على الوصف وأعاد عليه الضمير في به باعتبار معناه المصدري و‏(‏بالشرع‏)‏ وهو ما شرعه الله للعباد يتعلق به، وكذا قوله ‏(‏للأحكام‏)‏ وأل فيه للاستغراق فتخرج به سائر الخطط لأن أحكامها خاصة ببعض الأشياء كما مر ما عدا الإمامة العظمى أخرجها بقوله‏:‏ ‏(‏له‏)‏ أي القاضي ‏(‏نيابة عن الإمام‏)‏ فهو من تمام الحد، والجملة خبر ثان وكأنه قال القاضي هو النائب عن الإمام في تنفيذ جميع الأحكام الشرعية أي إلزامها نفذت بالفعل أم لا، فيؤخذ منه أن القضاء بالمعنى المصدري هو نيابة عن الإمام في تنفيذ الأحكام إلخ، إذ يلزم من تعريف الفرع تعريف الأصل، وأن النائب لا يقوى قوة المنوب عنه فليس له النظر في تجهيز الجيوش وقسم الغنائم ونحو ذلك مما مر وأن للإمام عزله لأنه وكيل عنه وكذا له هو عزل نفسه لأنه من العقود الجائزة شرع أم لا كما في ضيح وابن فرحون وغيرهما‏.‏ وقوله‏:‏ للأحكام جمع حكم وهو ما يلزمه القاضي لأحد الخصمين، ثُمَّ إن حكم في مسألة اجتهادية تتقارب فيها المدارك لأجل مصلحة دنيوية فمحكمة إنشاء، فإذا قضى المالكي مثلاً بلزوم الطلاق في التي علق طلاقها على نكاحها فقضاؤه إنشاء نص خاص وارد من قبله سبحانه في خصوص هذه المرأة المعينة فليس للشافعي أن يفتي فيها بعدم لزوم الطلاق استناداً لدليله العام الشامل لهذه الصورة ولغيرها لأن حكم الحاكم فيها جعله الله تعالى نصاً خاصاً وارداً من قبله رفعاً للخصومات وقطعاً للمشاجرة والقاعدة الأصولية إذا تعارض خاص وعام قدم الخاص‏.‏ نعم للشافعي أن يفتي ويحكم في غيرها بمقتضى دليله، وكذا لو حكم الشافعي في الصورة المذكورة باستمرار الزوجية بينهما خرجت عن دليل المالكي ولزمه أن يفتي فيها بلزوم النكاح ودوامه وفي غيرها بلزوم الطلاق‏.‏ وهكذا حكمه في مواطن الخلاف كان داخل المذهب أو خارجه وهو معنى قول ‏(‏خ‏)‏ ورفع الخلاف الخ‏.‏

قلت‏:‏ وهذا في المجتهد أو المقلد الذي معه في مذهب إمامه من النظر ما يرجح به أحد الدليلين على الآخر، وأما غيرهما فمحجر عليه الحكم بغير المشهور أو الراجح أو ما به العمل فحكمه بذلك إخبار وتنفيذ محض‏.‏ نعم إذا تساوى القولان في الترجيح فحكمه إنشاء رفع للخلاف، وخرج باجتهادية حكم حكمه في مواضع الإجماع فإنه إخبار محض لا إنشاء فيه لتعين الحكم بذلك وثبوته وبقيد التقارب الخ المدرك الضعيف كالشفعة للجار واستسعاء المعتق فالحكم بسقوطهما إخبار محض والحكم بثبوتهما ينقض لضعف المدرك عند القائل به، وبقيد المصلحة الدنيوية العبادات كتحريم السباع وطهارة الأواني والمياه، ونحو ذلك مما اختلف فيه أهل الاجتهاد لا للدنيا بل للآخرة، فهذه تدخلها الفتوى فقط إذ ليس للحاكم أن يحكم بأن هذه الصلاة صحيحة أو باطلة بخلاف المنازعة في الأملاك والأوقاف والرهون، ونحوها مما اختلف فيها لمصلحة الدنيا، وكذا أخذه للزكاة في مواطن الخلاف فهو حكم من جهة أنه تنازع بين الفقراء والأغنياء لا أن أخبر عن نصاب اختلف فيه أنه يوجب الزكاة ففتوى فقط ثُمَّ لا يتوقف حكمه على قوله حكمت بل إن لم يفعل أكثر من تقرير الحادثة أو سكوته كما لو رفعت إلى حنفي امرأة زوجت نفسها بغير ولي فسكت عنها، فالحكم عند ابن القاسم ليس لمن أتى بعده من مالكي أو غيره النظر في خصوص تلك الحادثة لأن إقراره إياه كالحكم بإجازته‏.‏ وقال ابن الماجشون‏:‏ ليس بحكم فإن قال عند رفعها إليه أنا لا أجيز النكاح بغير ولي من غير أن يحكم بفسخه ففتوى فقط قاله ابن شاس وتبعه غيره‏.‏ وقال ابن عرفة‏:‏ الظاهر أنه حكم فليس لغيره نقضه وهو الموافق لما مر لأن قوله‏:‏ أنا لا أجيز النكاح بغير ولي إخبار عن رأيه ومعتقده، ولا يلزم من ذلك فسخه، وإذا لم يلزم بقي ساكتاً عنه والسكوت تقرير له وهو حكم عند ابن القاسم، واختلف في قوله‏:‏ ثبت عندي كذا هل هو والحكم بمعنى أو الثبوت غير الحكم وهو الصواب لأنه يوجد بدونه كثبوت هلال رمضان، وطهارة المياه ونجاستها والتحريم بين الزوجين بالرضاع حيث لا تنازع بينهما فيه، ونحو ذلك مما لا تدخله الأحكام وإذا وجد بدون حكم كان أعم منه، والأعم من الشيء غيره ثُمَّ الذي يفهم من الثبوت نهوض الحجة كالبينة ونحوها السالمة من الطعن فمتى وجد ذلك يقول فيه القاضي ثبت عندي كذا، وقد يوجد الحكم أيضاً بدون الثبوت كالحكم بالاجتهاد في قدر التأجيلات ونحوها، فبينهما حينئذ العموم والخصوص من وجه، وأيضاً يفرق بينهما بأن ثبوت الحجة مغاير للكلام النفساني الإنشائي الذي هو الحكم، ولا يخفى أن نهوض الحجة مقدم على الحكم فهو غيره قطعاً‏.‏ قال القرافي‏:‏ وقد علمت منه أن قول القاضي أعلم بثبوته أو باستقلاله أو ثبت عندي ونحوه يكون بعد كمال البينة وقبل الإعذار فيها، لأن الأعذار فرع ثبوتها وقبولها فلا يعذر للخصم في شيء لم يثبت عنده، وفعله جعل إذ الإعذار سؤال الحاكم من توجه عليه الحكم هل له ما يسقطه ويمتنع سؤاله قبل الأداء والقبول والثبوت‏.‏ وقوله في النص السالمة من الطعن يعني في ظنه واعتقاده لأنه يسند لعلمه في ذلك فقول ‏(‏ت‏)‏ ولا يكون أي الثبوت إلا بعد كمال البينة والإعذار فيها سهو بل يكون الثبوت فيما لا خصومة فيه بالكلية كما مرّ‏.‏

تنبيهات الأول‏:‏

قال القرافي‏:‏ الفتوى والحكم كلاهما خبر عن الله تعالى، ويجب على السامع اعتقاد ذلك إلا أن الفتوى محض إخبار والحكم إخبار معناه الإنشاء والإلزام، وكلاهما يلزم المكلف، فالمفتي مع الله تعالى كالمترجم مع القاضي ينقل عنه ما وجده عنده واستفاده منه بإشارة أو عبارة أو فعل أو تقرير أو ترك، والحاكم مع الله تعالى كنائب الحاكم ينشىء الأحكام والإلزام وليس بناقل ذلك بل مستنبئه فكأنه قال له‏:‏ أي شيء حكمت به على القواعد فقد جعلته حكمي، فكلاهما مطيع لله تعالى ناقل لحكمه غير أن أحدهما منشىء والآخر ناقل اه‏.‏

وقوله‏:‏ ويجب على السامع اعتقاد ذلك الخ‏.‏

من أجل ذلك قال قاض لخصم اتهمه في حكمه لست بمؤمن، فقال وبم كفرتني‏؟‏ فقال له قال تعالى‏:‏ ‏{‏فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك‏}‏ إلى آخر قوله‏:‏ ثُمَّ لا يجدوا في أنفسهم حرجاً‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 56‏)‏ الآية‏.‏

الثاني‏:‏ علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات فحال الفقه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بهما أشق وأخص، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكائنة فيها فيلغي طرديها ويعمل معتبرها قاله ابن عرفة فقوله‏:‏ وأيضاً فقها الخ، هو بيان لوجه كونهما أخص بعد أن بينه بالمثال وقوله‏:‏ طرديها أي الأوصاف الطردية التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة، وهذا وجه تخطئة المفتين والقضاة لبعضهم بعضاً، فقد يبني القاضي والمفتي حكمه على الأوصاف الطردية المحتفة بالنازلة ويغفل عن أوصافها المعتبرة، وأصل ما ذكره ابن عرفة لابن عبد السلام‏.‏ ونصه‏:‏ وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع علم الفقه ولكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وربما كان بعض الناس عارفاً بفصل الخصام وإن لم يكن له باع في غير ذلك من أبواب الفقه، كما أن علم الفرائض كذلك ولا غرابة في امتياز علم القضاء عن غيره من أنواع الفقه، وإنما الغرابة في استعمال كليات الفقه وتطبيقها على جزئيات الوقائع وهو عسير، فتجد الرجل يحفظ كثيراً من العلم ويفهم ويعلم غيره، وإذا سئل عن واقعة ببعض العوام من مسائل الإيمان ونحوها لا يحسن الجواب عنها، وللشيوخ في ذلك حكايات نبه ابن سهل في أول كتابه على بعضها اه‏.‏

وبه تعلم أن معنى قوله في ضيح‏:‏ وعلم القضاء وإن كان أحد أنواع الفقه، لكنه يتميز بأمور لا يحسنها كل الفقهاء، وقد يحسنها من لا باع له في الفقه اه‏.‏

هو أنه من لا باع له في حفظ مسائل الفقه، لكنه معه من الفطنة ما يدخل به الجزئيات تحت كلياتها بخلاف غيره، فهو وإن كان كثير الحفظ لمسائله لكن ليس معه من تلك الفطنة شيء كما يرشد إليه كلام ابن عبد السلام، ولذلك نقلته برمته‏.‏ وكثير من الحمقاء اغتر بظاهر كلام ضيح حتى قال‏:‏ إن القضاء صناعة يحسنه من لا شيء معه من الفقه، وجرى ذلك على ألسنة كثير منهم، واحتجوا بقول المصنف الآتي ويستحب العلم فيه الخ وهو احتجاج ساقط‏.‏ قال ابن رشد‏:‏ ليس العلم الذي هو الفقه في الدين بكثرة الرواية والحفظ إنما هو نور يضعه الله حيث شاء، وقد أجبت عن ضيح بما مر قبل الوقوف على كلام ابن عبد السلام والله أعلم‏.‏

الثالث‏:‏ تثبت ولاية القضاء بالشهادة على الإمامة مشافهة أنه ولى فلاناً أو بالاستفاضة وانتشار الخبر أنه ولاه، ومنع بعضهم ثبوتها بكتاب يقرأ عن الإمام إلا أن ينظر الشهود فيما يقرؤه القارىء لجواز أن يقرأ ما ليس في الكتاب وتنعقد بالصريح‏:‏ كوليتك وقلدتك واستخلفتك واستنبتك وبالكناية‏:‏ كاعتمدت عليك وعولت عليك ورددت إليك وجعلت إليك وفوضت إليك ووكلت إليك وأسندت إليك وعهدت إليك، ولا بد أن يقترن بالكناية ما ينفي عنها الاحتمال مثل‏:‏ احكم فيما اعتمدت عليك فإن كان المولى بالفتح غائباً فيجوز قبوله على التراخي ويكفي في القبول شروعه، ولا ينبغي له القبول إذا ولاه الأمير الغير العدل ولا تتم توليته، حتى يكون المولِي بالكسر عالماً بشرائط الولاية في المولى بالفتح وإن جهلها وقت العقد لم تصح واستأنف، ولا بد أيضاً من تعيين البلد الذي عقدت عليه الولاية فيه وتعيين الخطة من كونها قضاء أو إمارة أو جباية ليعلم على أي نظر عقدت له وإلاَّ فسدت‏.‏

الرابع‏:‏ لا يخفى أن قول الناظم منفذ الخ‏.‏

يتضمن أركان القضاء الخمسة لأن المنفذ يستلزم مقضياً له وعليه وفيه‏.‏ وقوله‏:‏ بالشرع هو المقضي به وكيفية القضاء وستأتي مفصلة إن شاء الله‏.‏

لطيفة‏:‏ نقل الحطاب عن المشذالي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عامله بالبصرة أن اجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة فولِّ القضاء أنفذهما، فجمع العامل بينهما وذكر لهما ما كتب له به فقال له إياس‏:‏ سل عني وعن القاسم فقيهي المصر الحسن البصري وابن سيرين، وكان إياس لا يأتيهما والقاسم يأتيهما، فعلم القاسم أنه إن سألهما أشارا به فقال له‏:‏ لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو إن إياساً أفقه مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذباً فما عليك أن توليني وأنا كاذب وإن كنت صادقاً فينبغي لك أن تقبل قولي فقال له إياس‏:‏ إنك جئت برجل وأوقفته على شفا جهنم فنجى نفسه منها بيمين كاذبة فيستغفر الله منها وينجو مما يخاف فقال له العامل‏:‏ أما إنك إذا فهمتها فأنت لها فاستقضاه اه‏.‏

واسْتُحْسِنَتْ في حَقَّهِ الْجَزَالَهْ *** وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالْعَدَالَهْ

‏(‏واستحسنت‏)‏‏:‏ أي استحب ‏(‏في حقه‏)‏ أي القاضي ‏(‏الجزالة‏)‏ من جزل فهو جزيل أي عاقل أصيل الرأي، وكأنه أراد لازمها الذي هو جودة الفطنة فالمستحب شيء خاص وهو أصالة الرأي وكثرة الفطنة الموجبة للشهرة بها بشرط أن لا تصل إلى حد الدهاء، وإلاَّ فالمطلوب السلامة منها، وأما مطلق الفطنة المانع من كثرة التغفل ومشي الحيل عليه فهو شرط صحة في ولايته داخل في قوله‏:‏ ‏(‏وشرطه‏)‏ أي شروط صحة ولايته ‏(‏ التكليف‏)‏ أي العقل والبلوغ فلا تنعقد لصبيٍ ولا لفاقد العقل من مجنون ومعتوه، إذ لا يجري عليهم قلم ولا لفاقد تمامه كمغفل لأن التغفل إذا كان مانعاً من الشهادة فأحرى القضاء ‏(‏والعدالة‏)‏ وهي تستلزم الإسلام وعدم الفسق، فالكافر لا ولاية له لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 141‏)‏ والفاسق كذلك لا تصح ولايته ولا ينفذ حكمه وافق الحق أم لا‏.‏ لأنه لا تقبل شهادته فأحرى قضاؤه وقال أصبغ‏:‏ تنعقد ولايته ويجب عزله ويمضى من أحكامه ما وافق الحق على المشهور، والجور نوع من الفسق فإذا ثبت جوره في قضية بإقرار ونحوه نقضت أحكامه كلها‏.‏ ومنه تقديمه للشهادة من يعرف جرحه فلا عذر له في أنه إنما يقدمه خوفاً من موليه، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏.‏ وفي الحقيقة إنما يخاف العزل فقط‏.‏

فإن قيل‏:‏ العدالة كما تستلزم الإسلام وعدم الفسق كذلك تستلزم الحرية والتكليف أيضاً، فلو اكتفى الناظم بها وأبدل التكليف بالفطنة وأسقط الحرية الآتية كما فعل خليل حيث قال‏:‏ أهل القضاء عدل ذكر فطن الخ‏.‏

لكان أحسن وأخصر‏.‏ قلنا‏:‏ العدالة عند خليل تستلزم ما ذكر لأنه فسرها في الشهادات بذلك فقال‏:‏ العدل حر مسلم عاقل بالغ بلا فسق الخ‏.‏

فلذلك حسن منه الاكتفاء في باب القضاء بخلافها عند الناظم فإنما تستلزم الإسلام وعدم الفسق بدليل قوله الآتي‏:‏

والعدل من يجتنب الكبائر *** ويتقي في الغالب الصغائر

وَأنْ يَكُونَ ذَكَراً حُرًّا سَلِمْ *** مِنْ فَقْدِ رُؤْيَةٍ وَسَمْعٍ وَكَلِمْ

‏(‏وأن يكون ذكراً‏)‏ فلا تنعقد ولاية المرأة لقوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة‏)‏ ولأن بعض النساء ربما كانت صورتها فتنة‏.‏ ‏(‏حراً‏)‏ ولو عتيقاً على المشهور‏.‏ وقال سحنون‏:‏ لا تصح ولايته لأنه قد يستحي فترد أحكامه، وأما الرقيق ولو بشائبة فلا ولاية له لأنه ممنوع من ولاية نفسه، فكيف لولاية غيره ولأنه أثر كفر‏.‏ وبقي من شروط الصحة كونه واحداً فلا تصح تولية اثنين على أن لا ينفذ حكم في كل قضية إلا باجتماعهما معاً عليه لاختلاف الأغراض وتعذر الاتفاق غالباً، وذلك يفضي لتعطيل الأحكام، وأما تولية كل منهما على سبيل الاستقلال فجائز، وكذا في قضية واحدة معينة كما في ابن عرفة ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وجاز تعدد مستقل وخاص بناحية أو نوع الخ‏.‏

وكونه مجتهداً فلا تصح تولية المقلد مع وجوده، واختلف الأصوليون هل يمكن خلو زمان من الأزمنة عن مجتهد أم لا‏؟‏ ولا تصح الدعوى بعدم وجوده إلا من مجتهد إذ القول بانتفائه فرع إدراك مرتبته فإن لم يوجد المجتهد فيستحب تولية أعلم المقلدين، وهو مراد خليل بقوله‏:‏ مجتهد إن وجد وإلاَّ فأمثل مقلِّد بكسر اللام فحكم بقول مقلَّده بفتحها فكونه أمثل مقلد مستحب لا واجب كما يعطيه كلامه‏.‏ وكونه غير دافع رشوة لتحصيله فإن دفعها فلا تنعقد ولايته وقضاؤه مردود، ولو وافق الحق وتوفرت فيه شروط القضاء كما في التبصرة، واعتمده الزرقاني وقول الحطاب، والظاهر أنه إذا طلب القضاء فولي لا يجب عزله الخ يعني إذا طلبه بغير رشوة والله أعلم‏.‏ ثُمَّ إنه إذا انفرد واحد بهذه الشروط تعين عليه ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولزم المتعين أو الخائف فتنة إن لم يتول أو ضياع الحق القبول والطلب الخ، ابن عرفة‏:‏ وهذا كله ما لم تكن توليته ملزومة لما لا يحل من تكليفه تقديم ما لا يحل تقديمه للشهادة، وقد شاهدنا من ذلك ما الله أعلم به اه‏.‏

يريد إنما يلزمه القبول تعين أم لا إذا كان يعان على الحق وإلا لم يلزمه وظاهر قوله‏:‏ ‏(‏سلم‏.‏ من فقد رؤية وسمع وكلم‏)‏ أن السلامة من فقد جميعها شرط صحة وليس كذلك، بل المذهب أن السلامة من فقد أحدها شرط في جواز ولايته ابتداء وفي جواز دوامها فتصح ولايته بعد الوقوع وينفذ ما حكم به ويجب عزله كما أفاده خليل بقوله‏:‏ ونفذ حكم أعمى وأبكم وأصم ووجب عزله الخ‏.‏

قلت‏:‏ فلو قال على ما مر من أن العدالة تستلزم الحرية والتكليف ما نصه، وشرطه الفطنة والعدالة‏.‏

وأن يكون ذكراً وواحداً *** وعالماً مجتهداً إن وجدا

ورؤية سمع كلام إن سلب *** واحد ذي الثلاث فالعزل يجب

لسلم مما ورد عليه هنا، وفي قوله‏:‏ ويستحب العلم الخ‏.‏

قلت‏:‏ وقد يجاب عن الأول بأن إحدى الواوين في قوله‏:‏ وسمع وكلم بمعنى أو والأخرى بمعنى مع أي سالماً من فقد رؤية مع سمع أو كلام أو من فقد سمع مع كلام أي شرط الصحة السلامة من فقد اثنين منها، فإن فقدهما فلا تنعقد ولايته وأحرى أن فقد الثلاثة كما صرح به ابن عبد السلام‏.‏ وأما فقد واحد منها فشرط في الجواز ابتداء كما مرّ‏.‏ وبه تعلم أن قول ‏(‏ت‏)‏‏:‏ فتنعقد ولاية فاقدها أي الثلاثة الخ، صوابه فاقد أحدها، وعن الثاني بأن المستحب في قوله‏:‏

يُسْتَحَبُّ الْعِلْمُ فِيهِ وَالْوَرَعْ *** مَعَ كَوْنِهِ الأُصُولَ لِلْفِقْهِ جَمَعْ

‏(‏ويستحب العلم فيه‏)‏ على حذف مضاف أي يستحب غزارة العلم فيه أي زيادته بأن يكون أمثل مقلد وأفضل مجتهد، أو على حذف الصفة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الآن جئت بالحق‏}‏ ‏(‏ البقرة‏:‏ 71‏)‏ أي البين أي يستحب فيه العلم الموصل للاجتهاد كما في المقدمات، فهو يفيد شرطية العلم في الجملة، وأن المستحب علم خاص وهو ما يتوصل به للاجتهاد‏.‏ ابن عرفة‏:‏ ففي صحة تولية المقلد مع وجود المجتهد قولان‏:‏ لابن زرقون مع ابن رشد، وعياض مع ابن العربي، والمازري، ومع فقده جائز ومع وجوده المجتهد أولى اتفاقاً فيهما اه‏.‏

وهذا الحمل وإن كان يقتضي أن المقلد تصح توليته مع وجود المجتهد وهو مرجوح كما مرّ، لكن حمله عليه أولى من بقائه على ظاهره المقتضي لصحة تولية الجاهل المحض مع أنه لا تنعقد له ولاية ولا ينفذ له حكم صادف الحق أم لا شاور أم لا‏.‏ وما ورد عن ابن حبيب وابن زرقون وغيرهما مما يوهم صحة توليته ليس على ظاهره، بل المراد به عندهم المقلد كما لأبي الحسن وابن ناجي والأبي وغيرهم‏.‏ وفي المعيار عن اليزناسي أنه لا خلاف في جواز تعقب أي تصفح أحكام المقلد وهو الذي يعبر عنه في كتاب أئمتنا بالجاهل اه‏.‏

وفي أول جامع البرزلي بعد أن ذكر حقيقة الاجتهاد وشروط المجتهد ما نصه‏:‏ والعامي من ليس له ما ذكرنا من آلة الاجتهاد، فالمقلد والجاهل والعامي عندهم ألفاظ مترادفة، وبهذا تعلم أن المراد بالجاهل في قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ أو جاهل لم يشاور الخ المقلد، وأن أحكامه إذا لم يشاور فيها تتعقب أي تتصفح فيرد خطؤها ويمضي غيره، وأن قوله‏:‏ ورفع الخلاف‏.‏ وقوله‏:‏ ولا يتعقب حكم العدل العالم إنما هو في المجتهد ولو في مذهب إمامه، فيدخل نحو ابن رشد واللخمي ومن بعدهم من المتأخرين الذي لهم تصرف في القياسات وإدخال الجزئيات تحت كلياتها، وليس المراد خصوص المجتهد المطلق، وأما المقلد فلا يرفع الخلاف وتتعقب أحكامه ولا يعتبر منها إلا ما وافق المشهور أو الراجح أو ما به العمل كما مرّ‏.‏

فإن قيل‏:‏ الجاهل الحقيقي إذا شاور صار مقلداً وحينئذ فتجوز توليته حيث دخل على المشهورة‏.‏ قلنا‏:‏ هو لا يميز بين الحق والباطل ولا بين ما يجب قبوله من أحد الخصمين وما لا، وما يوجب على خصمه حقاً أو جواباً وما لا، وإن كتب له عما سأل عنه لم يفهم مواقع الجواب وما يعرض فيه من الاحتمال بحيث يعيد عنه السؤال ونحو ذلك‏.‏ فكيف تنعقد ولايته وتنفذ أحكامه ولا سيما مع اختلاف المشاورين عليه إذ الحاكم لا يحكم بقول مشاوره بالفتح تقليداً له كما لابن عبد البر حتى يتبين له الحق بالدليل الذي تبين به للمشاور، وهم إذا اختلفوا لم يعلم بماذا يأخذ بخلافه إذا كان فقيهاً فإنه وإن أمر بالمشورة، لكن إذا اختلفوا عليه اجتهد في اختلافهم وترقى أحسن أقاويلهم، وأمعن النظر في دلائلهم والله أعلم‏.‏ ابن محرز‏:‏ إن حكم بالظن والتخمين من غير قصد إلى الاجتهاد في الأدلة فذلك باطل لأن الحكم بالتخمين فسق وظلم وخلاف الحق، ويفسخ هذا الحكم هو وغيره إذا ثبت عند الغير أنه على هذا حكم اه‏.‏

وفي أقضية البرزلي‏:‏ لا خلاف أن الحكم بالحزر والتخمين لا يجوز‏.‏ قال شيخنا الإمام‏:‏ وكثيراً ما رأيت بعضهم يحكم في النازلة وهو لا يستند لنقل يذكره لما استقرى من حاله إذا روجع في بعض أحكامه لا يستند لنقل ولا قياس اه‏.‏

على نقل البرزلي، وهذا كثير في بعض قضاة الكور‏.‏ ابن الحاجب‏:‏ وهو جور وفسق وإن صادف الحق فالمشهور فسخه وإن لم يصادفه فالإجماع على فسخه وإغرام ما أتلفه بحكمه اه‏.‏

وهذا في المقلد إذ الجاهل لا يعرف الأدلة فضلاً عن القصد إليها‏.‏

‏(‏والورع‏)‏ وهو ترك الشبهات والتوقف في الأمور والتثبت فيها ‏(‏مع‏)‏ متعلق بقوله‏:‏ يستحب و‏(‏كونه‏)‏ مضاف إليه ‏(‏الحديث‏)‏ مفعول مقدم و‏(‏للفقه‏)‏ يتعلق بقوله‏:‏ ‏(‏ جمع‏)‏ أي يستحب فيه العلم مع كونه جمع الحديث أي مدارك أحكامه للفقه بأن لا يكون صاحب حديث لا فقه عنده ولا صاحب فقه لا حديث عنده‏.‏ قال أبو بكر الطرطوشي‏:‏ وجمهور المقلدين في هذا الزمان لا تجد عندهم من الآثار كبير شيء، وإنما مصحفهم مذهب إمامهم، وإنما استحب في المقلد ما ذكره الناظم لأنه يجب عليه أن لا يخرج عن مشهور قول مقلده بالفتح، ولا يجوز له عند عدم وقوفه على ما شهره الشيوخ من الروايتين أو القولين أن يحكم بما شاء منهما بغير نظر في الترجيح فإن ذلك جهل كما مرّ عند ابن محرز ولا يتأتى له النظر إلا بالجمع بين ما ذكر فإن نظر ولم يظهر له دليل الترجيح أو لم يكن من أهله فقول مالك في المدونة مقدم على قول ابن القاسم فيها رواه عنه ابن القاسم أو غيره لأنه الإمام الأعظم‏.‏ وقول ابن القاسم فيها مقدم على قول غيره فيها وعلى رواية غيره في غير ما عن الإمام، وقول غيره فيها مقدم على قول ابن القاسم في غيرها وذلك لصحتها، فإن فقد ذلك فليفزع في الترجيح إلى صفاتهم فيعمل بقول الأكثر والأورع والأعلم، فإذا اختص واحد منهم بصفة أخرى قدم الذي هو أحرى منهما بالإصابة، فالأعلم الورع مقدم على الأورع العالم، وكذا لو وجد قولين أو وجهين لم يبلغه عن أحد بيان الأصح منهما اعتبر أوصاف ناقليهما، والترجيح بالصفة جار في المذاهب الأربعة، ومنه تقديم ابن رشد على ابن يونس وابن يونس على اللخمي قاله المشذالي‏.‏ وهذا فيما عدا ما نبه الشيوخ على ضعف كلام ابن رشد فيه، ولذا اقتصر ‏(‏خ‏)‏ في عدة مواضع على كلام اللخمي دون ابن رشد مع علمه به ونقله له في ضيح، وهذا كله في قوليهما من عند أنفسهما لا في نقليهما عن المذهب فإنهما متساويان كما في الزرقاني عند قوله في الزكاة‏:‏ كالثمر نوعاً أو نوعين‏.‏ وتأمله فإنه لم يظهر لي وجهه لأنه إذا قدم ابن رشد لشدة حفظه وقوة فهمه فلا فرق بين ما قالاه عن أنفسهما أو نقلاه عن غيرهما، إذ العلة التي هي شدة الحفظ والفهم والتثبت موجودة في الجميع ولم أقف على التفصيل المذكور لغيره والله أعلم‏.‏ فإن تساوى القولان عنده من كل وجه وعجز عن الترجيح بشيء مما ذكر وغيره؛ فليحكم بأيهما شاء ولا يجوز له ولا للمفتي أن يتساهل في الحكم أو الفتوى بأن يسرع في الحكم أو الفتوى قبل استيفاء حقهما من النظر والفكر، أو تحمله الأغراض الفاسدة على تتبع الحِيل المحظورة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلباً للترخيص على من يروم نفعه من الجبابرة والقرابة ونحوهما‏.‏ أو التغليظ على من يروم ضره ومن فعل مثل هذا وعرف به فلا يجوز أن يستفتي، وقد هان عليه دينه نسأل الله تعالى العفو والعافية‏.‏

ثُمَّ إن المشهور ما قوي دليله وقيل ما كثر قائله، والصحيح الأول ومقابل المشهور شاذ ومقابل الأشهر مشهور دونه في الشهرة قاله في ضيح، ابن خويز منداد‏:‏ مسائل المذهب تدل على أن المشهور ما قوي دليله وأن مالكاً رحمه الله كان يراعي من الخلاف ما قوي دليله لا ما كثر قائله‏.‏ ابن رشد‏:‏ ويعكر على الأول أن الأشياخ ربما ذكروا في قول إنه المشهور ويقولون في مقابله إنه الصحيح اه‏.‏

ابن فرحون‏:‏ لا إشكال في هذا لأن المشهور هو مذهب المدونة، وقد يعضد الآخر حديث صحيح، وربما رواه مالك ولا يقول به لعارض قام عنده لا يتحققه هذا المقلد ولا يظهر له وجه العدول عنه فيقول‏:‏ والصحيح كذا لقيام الدليل وصحة الحديث اه‏.‏

قلت‏:‏ فيفهم من هذا الكلام أن المقلد لا يعدل عن المشهور وإن صح مقابله وأنه لا يطرح نص إمامه للحديث وإن قال إمامه وغيره بصحته، وقد صرح بذلك ابن الصلاح وغيره وذلك لأنه لا يلزم من عدم اطلاع المقلد على المعارض انتفاؤه، فالإمام قد يترك الأخذ به مع صحته عنده لمانع اطلع عليه وخفي على غيره، فليس مراد الناظم بقوله‏:‏ مع كونه الحديث الخ، أنه يعمل بما صح من الحديث المعارض لنص إمامه بل ليتأتى له الترجيح عند عدم الوقوف عليه كما

مرّ‏.‏ القرافي‏:‏ إذا كان الإمام مجتهداً فلا يجوز له أن يحكم أو يفتي إلا بالراجح عنده، وإن كان مقلداً جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحاً عنده مقلداً في رجحان القول المحكوم به إمامه الذي قلده، وأما اتباع الهوى في الحكم والفتوى فحرام إجماعاً اه‏.‏

فجعل حكم المجتهد بغير الراجح عنده، والمقلد بغير المشهور وإن ترجح عنده بقيام دليل من صحة حديث ونحوه من اتباع الهوى وأنه حرام، وذلك يدل على وجوب نقضه‏.‏ ولذا قال ناظم العمل‏:‏

حكم قضاة الوقت بالشذوذ *** ينقض لا يتم بالنفوذ

ومن عوام لا تجز ما وافقا *** قولاً فلا اختيار منهم مطلقا

ومراده بالشاذ ما قابل المشهور أو الراجح كما مرّ ومراده بالعوام المقلدون أي لا تجز أحكامهم بغير المشهور، وإن وافقت بعض الأقوال لأن أحكامهم لا ترفع الخلاف واختياراتهم لمقابل المشهور لا تعتبر، ونص في إقرارات المعيار على أن الفتوى بغير المشهور توجب عقوبة المفتي وكذا الجاهل بعد التقدم إليه اه‏.‏

وهذا ما لم يجر العمل بالشاذ، وإلا فيقدم على المشهور بعد أن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل أن العمل جرى به غير ما مرة من العلماء المقتدى بهم قاله ميارة في شرح اللامية قال‏:‏ ولا يثبت العمل المذكور بقول عوام العدول ممن لا خبرة له بمعنى لفظ المشهور أو الشاذ فضلاً عن غيره جرى العمل بكذا، فإذا سألته عمن أفتى به أو حكم به من العلماء توقف وتزلزل، فإن مثل هذا لا يثبت به مطلق الخبر فضلاً عن حكم شرعي اه‏.‏

ثُمَّ إن العمل الجاري ببلد لأجل عرفها الخاص لا يعم سائر البلدان بل يقصر على ذلك العرف في أي بلد وجد لأن مبناه عليه‏.‏ فإن قيل‏:‏ جرى العمل بأن النحاس مثلاً يحكم به للنساء عند اختلافهن مع الأزواج لأن عرف البلد أنه من متاعهن لم يعم البلد الذي لا عرف لهم بذلك، وإذا تغير العرف في ذلك البلد في بعض الأزمان سقط العمل المذكور ووجب الرجوع للمشهور، وهذا في العرف الذي تنبني عليه الأحكام وهو ما لم يخرج عن أصول الشريعة وإلاَّ فلا عبرة به، وأما العمل الجاري لمصلحة عامة أو سبب كذلك المشار له في اللامية بقوله‏:‏ لما قد فشا من قبح حال وحيلة‏.‏ الخ‏.‏

فظاهر عمومه ما دامت تلك المصلحة وذلك السبب وإلاَّ وجب الرجوع للمشهور، وهذا هو الظاهر قاله المسناوي أي وذلك كما قالوا في الراعي المشترك، وقد يعبرون بالعمل عما حكمت به الأئمة لرجحانه عندهم لا لعرف ولا لمصلحة، ومنه قول ‏(‏خ‏)‏ وهل يراعى حيث المدعى عليه وبه عمل وفيها الإطلاق وعمل به، وهو كثير في هذا النظم وغيره‏.‏ انظر مصطفى آخر باب القضاء، وانظر أوائل شرح نظم العمل المطلق، ثُمَّ هذا العمل الذي يعبرون به عن الراجح يجب أن يستمر على حاله، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت عن قضاة العدل وأهل الفتوى من ذوي العلم المقتدى بهم أنهم رجعوا عنه وعملوا بخلافه لمصلحة أو ظهور دليل قوي ونحو ذلك كما قالوا‏:‏ إن العمل كان قديماً بقول ابن القاسم باعتبار الحال في المحجور دون الولاية حكاه ابن أبي زمنين، ثُمَّ جرى العمل بقول مالك باعتبار الولاية، ثُمَّ جرى في المائة التاسعة بقول ابن القاسم، ولا زال العمل به إلى الآن كما يأتي في الحجر، وهذا كثير أيضاً يجري العمل قديماً بشيء ثُمَّ يجري العمل بخلافه‏.‏ وبالجملة؛ فالعمل الذي بمعنى الراجح هو الكثير في هذا النظم وغيره، ولا تجوز مخالفته حتى يثبت العدول عنه ممن يعتد به من قضاة العدل وأهل الفتوى وعمل فاس ونواحيها تابع لعمل الأندلس لا لعمل أهل تونس كما يأتي، فإن لم يجد المقلد نصاً لإمامه ولا لأصحابه في عين النازلة فهي معرضة للاجتهاد، لكن لا يجتهد فيها إلا من فيه أهلية‏.‏ القرافي‏:‏ المقلد إن كان محيطاً بقواعد إمامه جاز له تخريج غير المنصوص على المنصوص بشرط تعذر الفارق ومع إمكانه يمتنع وإن لم يحط بقواعد إمامه فيمتنع، وإن عدم الفارق لاحتمال لو اطلع على قواعد إمامه لأوجب له الفارق اه‏.‏

ولا يرد على هذا قوله ‏(‏صلى الله عليه وسلم‏)‏‏:‏ ‏(‏من اجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد‏)‏‏.‏ لأنه خاص كما في المقدمات بمن فيه أهلية قال‏:‏ وإلاَّ فلا أجر له إن أخطأ بل هو آثم، وإن أصاب لتقحمه وجرأته على الله تعالى في الحكم بغير علم اه‏.‏

وقال في أجوبته‏:‏ سئل القاضي العارف بمذهب مالك ولم يبلغ درجة التحقيق بمعرفة قياس الفروع على الأصول فيما مرّ بين يديه من النوازل التي لا نص فيها أن لا يقضي فيها إلا بفتوى من يعرف وجه القياس إن وجده وإلاَّ طلبه في غير بلده فإن قضى فيها برأيه كان حكمه موقوفاً على النظر اه‏.‏

وكلامه صريح في وجوب المشورة لغيره حينئذ، بل ورد في كلامهم ما يدل على وجوب المشورة وإن اطلع على نص لأن تطبيق النازلة على النص عسير، ألا ترى كيف غفل أسد بن الفرات فأفتى الأمير بجواز دخوله الحمام مع جواريه دون ساتر، وأفتاه غيره بالمنع لأن نظر بعضهن إلى بعض لا يجوز، ولهذا تجد الأئمة يخطىء بعضهم بعضاً في الفتاوى والأحكام‏.‏ خليل‏:‏ وأحضر العلماء أو شاورهم الخ‏.‏

ابن فرحون‏:‏ إطلاقهم المشورة ظاهره كان عالماً بالحكم أو جاهلاً اه‏.‏

وانظر الحطاب فإن لم يتبين له وجه الحكم بعد المشورة فسيأتي في قوله‏:‏

وليس بالجائز للقاضي إذا *** لم يبد وجه الحكم أن ينفذا

والصح يستدعي له إن أشكلا الخ

ومما يستحب فيه كونه غنياً حليماً نزيهاً نسيباً خالياً عن بطانة السوء ليس بمحدود ولا زائد في الدهاء كما في خليل، وزاد غيره كونه بلدياً ليعرف المقبولين والمسخوطين من الشهود، وقيل‏:‏ يرجح غير البلدي لأنه يقل حاسدوه‏.‏

وَحَيْثُ لاَقَ لِلْقَضَاءِ يَعْقُدُ *** وَفِي الْبِلاَدِ يُسْتَحِبُّ الْمَسْجِدُ

‏(‏وحيث‏)‏ ظرف ليقعد ‏(‏لاق‏)‏ صلح ‏(‏للقضاء‏)‏ يتعلق بقبوله ‏(‏يقعد‏)‏ أيضاً‏.‏ وظاهره كان ببادية أو حاضرة، وهو كذلك لكن يستحب في الحاضرة المسجد كما سيأتي، وظاهره يقعد حيث لاق ولو بداره‏.‏ وبه قال أشهب وعليه يأتي قول ابن شعبان من العدل كون القاضي بوسط مصره، ولابن المناصف أن عمر بن الخطاب أنكر ذلك على أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وأمر بإحراق داره عليه فدعا واستقال فلم يعد إلى ذلك قال‏:‏ فإن دعته ضرورة إلى ذلك فليفتح أبوابها ويجعل سبيلها سبيل المواضع المباحة لذلك‏.‏ ‏(‏ وفي البلاد‏)‏ أي الحاضرة ‏(‏يستحب المسجد‏)‏ أي رحابه فهو على حذف مضاف أي يستحب له القعود برحاب المسجد الخارجة عنه ليصل إليه الكافر والحائض والجنب والضعيف والسلامة من امتهانه بكثرة اللجاج ودخول بعض العوام وبرجله بلل وغير ذلك، وما قررناه به هو الذي في الواضحة واختاره المتأخرون فقال في المدونة‏:‏ القضاء في المسجد من الأمر القديم وهو ظاهر النظم إلا أنه لا يحمل عليه لما تقدم على أن ما في المدونة يمكن تأويله بما ذكر أي القضاء في رحاب المسجد الخارجة عنه من الأمر القديم فيكون وفاقاً لما في الواضحة والله أعلم‏.‏ ويستحب أن يجلس مستقبل القبلة وأن يكون متربعاً أو محتبياً، فإن لم يجلس وحكم في حال مشيه أو جلس متكئاً فهو قول خليل، وفي كراهة حكمه في مشيه أو متكئاً أو إلزام يهودي حكماً بسبته وتحدثه بمجلسه لضجر قولان‏:‏ وينبغي أن يجلس للحكم في أوقات معلومة وليس عليه أن يستغرق النهار كله، ولا ينبغي أن يحكم مع ما يدهشه عن تمام فكر من جوع وعطش مفرطين وغضب وأكل فوق الكفاية ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولا يحكم مع ما يدهش عن الفكر ومضى أن وقع ولا بأس أن يرفع صوته فيمن يستأهل ذلك من الخصمين وأن يحد بصره ويحتج لمن ضعف عن حجته، ولا يجلس في كثرة المطر والوحل ولا بعد الصبح ولا بين صلاتي الظهر والعصر ولا بين العشاءين ولا في عيد ولا يوم قدوم حاج أو خروجه ‏(‏خ‏)‏ وجلس به أي برحاب المسجد أي بغير عيد وقدوم حاج وخروجه ومطر أو نحوه، ولم يشتر بمجلس قضائه كسلف وقراض وأبضاع وحضور وليمة إلا لنكاح وقبول هدية ولو كافأ عليها إلا من قريب وندب اتخاذ من يخبره بما يقال في سيرته وشهوده الخ‏.‏

فقوله‏:‏ وقبول هدية أي والمفتي كالقاضي في ذلك فلا يحل له أخذها ممن يرجو أن يعينه في حجة أو في خصومة عند حاكم يسمع منه ويقف عند قوله لأن قول الحق واجب عليه، وقد قال عليه السلام‏:‏ ‏(‏من شفع لأخيه شفاعة وأهدى إليه هدية فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربا‏)‏‏.‏ ومن هذا انقطاع الرعية إلى العلماء المتعلقين بالسلاطين ليرفع الظلم عنهم فيهدون لهم ويكرمونهم فذلك باب من أبواب الرشوة، لأن رفع الظلم واجب على كل من قدر عليه عن أخيه المسلم‏.‏ وقوله‏:‏ ولم يشتر الخ‏.‏

قال في مختصر الواضحة‏:‏ إذا اشترى الإمام العدل من رجل أو باع ثُمَّ عزل أو مات خير البائع منه أو المشتري في الأخذ أو الترك، نقله ابن فرحون في تبصرته في الفصل الثاني، فقف على هذا الفصل فيه ترى العجب في الآداب اللازمة له‏.‏

فصل في معرفة أركان القضاء

أي أجزاء ماهيته التي لا يتم القضاء الذي هو الحكم مع اختلال واحد منها‏.‏ وهي ستة‏:‏ القاضي وقد تقدم في قوله‏:‏ منفذ بالشرع الخ‏.‏

والمدعي والمدعى عليه والمدعى فيه، وعبر ابن فرحون عن الأولين بالمقضى له وعليه، وعن الثالث بالمقضى فيه‏.‏ وزاد ركنين آخرين أحدهما‏:‏ المقضى به يعني من كتاب أو سنة أو إجماع بالنسبة للمجتهد أو المتفق عليه أو المشهور أو الراجح أو ما به العمل بالنسبة للمقلد، وهذا الركن يفهم من قول الناظم فيما مرّ ويستحب العلم فيه الخ‏.‏

على ما تقدم من أنه على حذف مضاف أي يستحب زيادة العلم فيه، وأما أصل العلم فركن من أركانه وشرط صحة فيه كما مرّ، فإن خرج المجتهد عما ذكر من الكتاب والسنّة والإجماع لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه وهو معنى قول ‏(‏خ‏)‏ ونقض وبين السبب مطلقاً ما خالف قاطعاً أو جلي قياس كاستسعاء معتق وشفعة جار الخ‏.‏

وإن خرج المقلد عما ذكر من الاتفاق وما معه لم ينفذ حكمه لاختلال ركنه أيضاً، إذ حكمه لا يرفع الخلاف كما مرّ ‏(‏ت‏)‏ الإشارة إليه‏.‏ وقول ‏(‏ت‏)‏ هنا‏:‏ إلا أن هذا بالنسبة للاجتهاد ليس على ما ينبغي بل كلام ابن فرحون في المجتهد والمقلد كما يعلم باستيعاب كلامه في هذا الركن‏.‏ وثانيهما‏:‏ كيفية القضاء وهي تتوقف على أشياء كمعرفة ما هو حكم فلا يتعقب لأن حكم المجتهد يرفع الخلاف وما ليس بحكم كقوله‏:‏ أنا لا أجيز النكاح بغير ولي أو لا أحكم بالشاهد واليمين فيتعقب أي‏:‏ فلمن بعده من حنفي أن يحكم بصحة النكاح أو مالكي أن يحكم بالشاهد واليمين كما مرّ في الترجمة قبله، ومعرفة ما يفتقر لحكم كالطلاق بالإعسار والإضرار والطلاق على المولى، ونحو ذلك مما يحتاج فيه إلى نظر وتحرير في تحقيق سببه كالتفليس وبيع من أعتقه المديان والعتق بالمثلة وما لا يفتقر كتحريم المحرمات المتفق عليها ورد الودائع والغصوب، ومنه العتق بالقرابة‏.‏ ومن أعتق جزاءً في عبد بينه وبين غيره فيكمل من غير حكم على المشهور ومعرفة ما يدخله الحكم من أبواب الفقه كالنكاح وتوابعه وسائر المعاوضات، وما لا يدخله كالعبادات ومعرفة الفرق بين ألفاظ الحكم التي جرت بها عادة الحكام كقوله‏:‏ حكمت بثبوت العقد وصحته فيلزم ذلك وقفاً كان العقد أو بيعاً أو غيرهما، وبين ما لم تجر العادة به كقوله‏:‏ أسفل الرسم أو على ظهره ورد على هذا الكتاب فقبلته قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه أو بمضمونه فليس بحكم لاحتمال عود الضمير في موجبه ومضمونه على الكتاب، وإن ما تضمنه من إقرار أو إنشاء ليس بزور مثلاً فيكون مراده تصحيح الكتاب وإثبات الحجة فلمن بعده النظر فيه، فإن قال‏:‏ حكمت بموجب الإقرار أو الوقف الذي تضمنه الكتاب فهو حكم بصحته ومعرفة الفرق بين الثبوت والحكم، وتقدم الكلام عليه في الترجمة قبله ومعرفة المدعي من المدعى عليه فالمدعي والمدعى عليه ركنان مستقلان عنده، أعني عند ابن فرحون، والحال التي يعرف بها كل منهما من أجزاء الركن السادس الذي هو الكيفية‏.‏

قلت‏:‏ تأمل ففي القلب منه شيء لأن الحكم على الشيء فرع تصوره فلا يحكم عليه بأنه مدع حتى تعرف حاله ومعرفة الدعوى الصحيحة وشروطها، ومعرفة حكم جواب المدعى عليه من إقرار أو إنكار أو امتناع منهما، وقد أشار الناظم إلى هذين الأخيرين بقوله‏:‏ تحقق الدعوى مع البيان‏.‏ وبقوله بعد‏:‏ ومن أبى إقراراً أو إنكاراً الخ‏.‏

ومعرفة كيفية الإعذار ومعرفة صفة اليمين ومكانها والتغلظ فيها، وقد أشار الناظم لهذين أيضاً في فصلي الإعذار واليمين، فهذه كلها من أجزاء هذا الركن، فالناظم رحمه الله قد أشار لبعض أجزاء هذا الركن الذي هو الكيفية ولم يهمله كل الإهمال، وبهذا تعلم أن جعل الكيفية من الأركان صحيح لا تسامح فيه خلافاً ل ‏(‏ت‏)‏ لأنه إن لم يكن عارفاً بتفاريعها اختل حكمه باختلاف محله إذ قد يحكم بالصحة فيما حكم غيره بالفساد، وبالعكس مع كون الحكم الأول لا يتعقب، وقد يحكم فيما لا يفتقر لحكم فحكمه كالعدم لأنه من تحصيل الحاصل، وهذا إذا لم يعرف كون الدعوى صحيحة ولا كيفية الإعذار ولا محل اليمين ونحو ذلك‏.‏ وقد علمت بهذا أن الناظم تكلم على الأركان الستة خلافاً لما في ‏(‏م‏)‏ و‏(‏ت‏)‏‏.‏ ولما كان بين المدعي والمدعى عليه التباس وعلم القضاء يدور على التمييز بينهما إذ من ميز بينهما، فقد عرف وجه القضاء كما قال سعيد بن المسيب رضي الله عنه‏:‏ إذ لم يختلف العلماء فيما لكل منهما من أن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه اعتنى الناظم بشأنهما مصدراً بهما في هذا الفصل فقال‏:‏

تَمْيِيزُ حَالِ المُدَّعِي والمدَّعَى *** عَلَيْهِ جُمْلَة القَضَاءِ جَمَعَا

فقوله‏:‏ ‏(‏جملة القضاء‏)‏ مفعول لقوله‏:‏ ‏(‏جمعاً‏)‏، والجملة خبر تمييز، والظاهر أن لفظة حال ليست مقحمة لأن الشيء إنما يتميز من غيره بصفته، فالمدعي يتميز بكونه يتجرد قوله عن مصدق والمدعى عليه بعكسه كما قال‏:‏ ‏(‏فالمدعي من قوله مجرد

من أصل أو عرف بصدق يشهد‏)‏

فَالمُدَّعِي مَنْ قَوْلُهُ مُجَرَّدُ *** مِنْ أَصْلٍ أَوْ عُرْف بِصدْقِ يَشْهَدُ

‏(‏أو‏)‏ بمعنى الواو إذ لا بد من تجرد دعواه منهما معاً، فإن تجردت من أحدهما دون الآخر فهو مدعى عليه كما قال‏:‏

وَالمدَّعَى عَلَيهِ من قد عَضَدا *** مَقالَة عُرف أو أصْل شهِدا

‏(‏والمدعى عليه من قد عضدا‏)‏ أي قوي ‏(‏مقاله عرف‏)‏ أي سبب كحائز شيئاً مدة الحيازة في وجه القائم وادعى الشراء منه أو الهبة، فالحائز مدعى عليه لأنه تقوى جانبه بالحيازة، والقائم مدع وسيشير الناظم إلى هذا في الحوز بقوله‏:‏ واليمين له إن ادعى الشراء منه بعمله، وكجزار ودباغ تداعيا جلداً تحت يدهما أو لا يد عليه، فالجزار مدعى عليه والدباغ مدع فإن كان تحت يد أحدهما فالحائز مدعى عليه، وكقاض وجندي تداعيا رمحاً تحت يدهما أو لا يد عليه فالجندي مدعى عليه والقاضي مدع، وكعطار وصباغ تداعيا مسكاً وصبغاً فالعطار مدع في الصبغ مدعى عليه في المسك والصباغ بالعكس، ومنه اختلاف الزوجين في متاع للبيت، فللمرأة المعتاد للنساء ما لم يزد على نقد صداقها وهي معروفة بالفقر كما يأتي للناظم في فصل اختلافهما فيه إن شاء الله، ومنه النكول ودعوى الشبه عند الاختلاف في الصداق أو البيع أو غيرهما ودعوى العامل في القراض أو المودع عنده الرد حيث قبضه بغير إشهاد، فقد علمت أن المدعى عليه في هذه الأمثلة هو من تقوى جانبه بسبب من حيازة أو شبه أو نكول صاحبه أو أمانة أو كون المتنازع فيه مما شأنه أن يكون له، والمدعي من تجرد قوله عن ذلك السبب ‏(‏أو أصل شهدا‏)‏ كاختلافهما في رد الوديعة أو القراض المقبوضين بإشهاد، لأن رب المال والوديعة لما دفعا بإشهاد انتفت أمانة القابض ولا سبب يعضد قوله غيرها، فهو مدع وهما مدعى عليهما، وإن كانا طالبين لأن الأصل عدم الرد، ومنه اختلاف اليتيم بعد بلوغه ورشده مع وصيه في الدفع، فإن اليتيم متمسك بالأصل الذي هو عدم الدفع فهو مدعى عليه، والوصي مدع لأنه غير أمين في الدفع عند التنازع لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأشهدوا عليهم‏}‏ ‏(‏النساء‏:‏ 6‏)‏ وكاختلافهما في قضاء الدين أو في أصله أو في رقبة حائز نفسه يدعي الحرية لأن الأصل عدم القضاء وبراءة الذمة والحرية‏.‏

قِيلَ مَنْ يَقُولُ قَدْ كَانَ ادَّعا *** وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ عَلَيْهِ يُدّعَى

‏(‏وقيل‏)‏‏:‏ في تعريفهما أي المدعي والمدعى عليه‏.‏

‏(‏من يقول قد كان ادعا *** ولم يكن لمن عليه يدعى‏)‏

وهو لابن المسيب رضي الله عنه قال‏:‏ كل من قال قد كان فهو مدع وكل من قال لم يكن فهو مدعى عليه اه‏.‏

قال الشارح‏:‏ وليس بخلاف للرسم الأول، وإنما هو تعريف أخصر وتوضيح أوجز‏.‏ ورد بدعوى المرأة على زوجها الحاضر أنه لم ينفق عليها، وقال هو أنفقت وبدعوى المرأة المسيس على زوجها في خلوة الاهتداء وادعى هو عدمه فهو مدعى عليه في الأولى لشهادة العرف له وهي مدعية وهما في الثانية على العكس وهذا التعريف يقتضي أنها في الأولى مدعى عليها لأنها تقول لم يكن وفي الثانية مدعية لأنها تقول قد كان‏.‏ وقيل كل طالب فهو مدّعٍ وكل مطلوب فهو مدعى عليه‏.‏ ورد أيضاً بما تقدم في ربا المال والوديعة مع الإشهاد، وباليتيم مع وصيه وبدعوى المرأة في خلوة الاهتداء فإن كلاً منهم طالب مع أنه مدعى عليه‏.‏

وأجيب‏:‏ بأن الرد على التعريفين بما ذكر إنما يتم لو كان القائل بهما يسلم أن الطالب ومن يقول قد كان فيما ذكر مدعى عليه، وإلاَّ فقد يقول‏:‏ إنه مدّعٍ قام له شاهد من عرف أو أصل ولا يحتج على الإنسان بمذهب مثله، واختار هذا الجواب ابن رحال‏.‏

والحاصل على ما يظهر من كلامهم وهو الذي يوجبه النظر أن المتداعيين إما أن يتمسك أحدهما بالعرف فقط كالاختلاف في متاع البيت ودعوى الشبه واختلاف القاضي والجندي في الرمح، والجزار والدباغ في الجلد ونحو ذلك مما لم يتعارض فيه العرف والأصل، وإما أن يتمسك بالأصل فقط كالاختلاف في أصل الدين وفي قضائه وفي دعوى الحائز نفسه الحرية، ودعوى رب المال والمودع عدم الرد مع دفعهما بإشهاد ودعوى اليتيم عدم القبض ونحو ذلك، فالمدعى عليه في هذين هو المتمسك بذلك العرف أو الأصل على الرسم الأول، والمطلوب هو من يقول لم يكن على التعريفين الأخيرين، وإما أن يتمسك أحدهما بالأصل والآخر بالعرف فيأتي الخلاف كدعوى الزوج على سيد الأمة أنه غره بتزويجها، فالأصل عدم الغرور، وبه قال سحنون‏.‏ والغالب عدم رضا الحر بتزوج الأمة وبه قال أشهب وهو الراجح، وكمسألة اختلاف المتراهنين في قدر الدين فإن الرهن شاهد عرفي والأصل براءة ذمة الراهن، وكمسألة الحيازة المتقدمة ودعوى عامل القراض والمودع الرد مع عدم الإشهاد لأن الغالب صدق الأمين، ودعوى المرأة المسيس وعدم الإنفاق ونحو ذلك، فالمدعى عليه في مثل هذا على الرسم الأول هو المتمسك بالعرف لأن قول الناظم أو عرف أعم من كونه عارضه أصل أم لا‏.‏ وعلى الرسمين الأخيرين هو المطلوب، ومن يقول‏:‏ لم يكن، لكن لما ترجح جانب المدعي فيها بشهادة العرف لأنه أقوى صار المدعي مدعى عليه، ويدل لهذا قول ابن رشد ما نصه‏:‏ المعنى الذي من أجله وجب على المدعي إقامة البينة تجرد دعواه من سبب يدل على صدقه فيما يدعيه، فإن كان له سبب يدل على صدقه أقوى من سبب المدعى عليه كالشاهد الواحد أو الرهن أو ما أشبه ذلك من إرخاء الستر وجب أن يبدأ باليمين دون المدعى عليه اه‏.‏

ونقله القلشاني وغيره فتأمل كيف سماه مدعياً وجعل الرهن وإرخاء الستر والشاهد الحقيقي سبباً لصيرورته مدعى عليه، لكونه في ذلك أقوى من سبب خصمه المتمسك بالأصل، وقد اختلف هل العرف كشاهد أو كشاهدين‏؟‏ البرزلي‏:‏ القاعدة إحلاف من شهد له العرف فيكون بمثابة الشاهد، وقيل‏:‏ هو كالشاهدين اه‏.‏

وقد درج ‏(‏خ‏)‏ في مواضع على أنه كالشاهد منها قوله في الرهن وهو كالشاهد في قدر الدين، وقد عقد في التبصرة باباً في رجحان قول المدعي بالعوائد‏.‏ وقال القرافي‏:‏ أجمعوا على اعتبار الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها والأصل براءة ذمة المشهود عليه اه‏.‏

فهذا كله يوضح لك الجواب المتقدم عما ورد على التعريفين، ويدلك على عدم الفرق بين التعاريف الثلاثة لأن المدعي قد ينقلب مدعى عليه لقيام سبب أقوى من سبب خصمه كان ذلك السبب حقيقياً أو عرفياً إلا أن العرفي لا يقوى عندهم قوة الحقيقي فليست اليمين معه تكملة للنصاب حتى يؤدي ذلك لنفي يمين الإنكار بدليل أنه إذا انضم إليه شاهد حقيقي لا يثبت الحق بدون اليمين كما نقله بعضهم عن المتيطي عند قول ‏(‏خ‏)‏ وهو كالشاهد الخ‏.‏

فاعتراض ‏(‏ت‏)‏ على الجواب السابق بكونه يؤدي لنفي يمين الإنكار الخ‏.‏

ساقط، وقد علم مما مر أن الشبه والغالب والعرف والعادة كلها بمعنى، وأنه إذا تعارض الأصل والغالب فيقدم الغالب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأمر بالعرف‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 199‏)‏ فكل شيء كذبه العرف وجب أن لا يعمل به إلا في مسألة دعوى الدين إذا كان مدعيه أتقى الناس وأعلاهم في العلم والدين، فإن الغالب صدقه والأصل براءة الذمة فيقدم الأصل على الغالب في هذه عند المالكية، وقدم الشافعية الأصل في جميع صور التعارض‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأول‏:‏ إذا تمسك كل منهما بالعرف كما إذا أشبها معاً فيما يرجع فيه للشبه كتنازع جزار مع جزار في جلد ونحو ذلك، فيحلفان ويقسم بينهما حيث لم يكن بيد أحدهما، وإن تمسك كل منهما بالأصل كدعوى المكتري للرحى أو الدار أنها تهدمت أو انقطع الماء عنها ثلاثة أشهر‏.‏ وقال المكتري‏:‏ شهران فقط فقيل المكتري هو المدعى عليه لأن الأصل براءة ذمته من الغرامة فيستصحب ذلك، والمكري مدع، وقيل بالعكس لأن عقد الكراء أوجب ديناً في ذمة المكتري، وهو يدعي إسقاط بعضه فلا يصدق، وكما لو قبض شخص من رجل دنانير، فلما طلبه بها الدافع زعم أنه قبضها من مثلها المرتب له في ذمته، فإن اعتبرنا كون الدافع بريء الذمة من سلف هذا القابض كان الدافع مدعى عليه وهو الراجح كما لابن رشد وأبي الحسن وغيرهما، وإن اعتبرنا حال القابض وأن الأصل فيه أيضاً براءة الذمة فلا يؤاخذ بأكثر مما أقر به جعلناه هو المدعى عليه‏.‏ فافهم فبهذه الوجوه صعب علم القضاء ودق‏.‏

الثاني‏:‏ من معنى ما مر إذا علق الزوج طلاق زوجته أو خيرها على عدم حضوره معها بمجلس الشرع يوم كذا، ووقعت في حدود الأربعين بعد المائتين والألف فقامت المرأة بعد مضي اليوم وأرادت أن تشهد بأنها اختارت فراقه، فامتنع العدول من أن يشهدوا عليها إلا بمشورة القاضي فشاورته فمنعها القاضي من ذلك حتى تثبت عدم حضوره في اليوم المعلق عليه، وهذا من أفظع الجهل من العدول ومن القاضي، إذ حضوره في اليوم المذكور محتمل، والأصل عدمه فهي مدعى عليها وهو مدعٍ، وكثيراً ما كان يصدر مثل هذا من هذا القاضي فكان يمنع الأوصياء من بيع مال الأيتام حتى يثبتوا أنهم لا مال لهم ظاهراً ولا باطناً، ولا يكتفي بمحاسبتهم على زمام التركة، وإذا بيع عليهم صفقة منع أوصياءهم من الإمضاء حتى يثبتوا ما ذكر، وهكذا كل ما الأصل عدمه وما دري أن إثباتهما ما ذكر لا يفيد شيئاً لأن الشهادة في ذلك لا تكون إلا على نفي العلم، فإذا طلقت نفسها أو باع الوصي بعد الإثبات المذكور ثُمَّ أثبت الزوج الحضور أو اليتيم الوفر وقت البيع لقدمت بيناتهما على بينة الزوجة والوصي لأنها على القطع مثبتة، والأخرى على العلم نافية فلم يكن لتكليفهما بها فائدة‏.‏ وقد نص ابن القاسم على أنه إذا علق أمرها بيدها على عدم بعثه لها بالنفقة يوم كذا فرفعت أمرها للحاكم، وزعمت أنه لم يبعث لها شيئاً وطلقت نفسها، فإن قدم وأثبت البعث فهو أحق بها، وإن كانت تزوجت فكذا ‏(‏ت‏)‏ الوليين‏.‏

الثالث‏:‏ قال القرافي‏:‏ خولفت قاعدة الدعاوى في خمس‏:‏ في لعان الزوج في الحمل والولد فقبل قوله‏:‏ لأن العادة أن ينفي الزوج عن زوجه الفواحش فحيث رماها بها مع إيمانه قدمه الشرع، وفي القسامة فقبل فيها قول القتيل لترجيحه باللوث، وفي دعوى الأمناء التلف فقيل قولهم لئلا يزهد الناس في قبول الأمانات فتفوت مصالحها والأمين قد يكون من جهة مستحق الأمانة، وقد يكون من جهة الشرع كالوصي والملتقط ومن ألقت الريح ثوباً في بيته‏.‏ وفي التعديل والتجريح قيل فيهما قول الحاكم لئلا تفوت المصالح المرتبة على الولاية، وفي دعوى الغاصب التلف قبل قوله‏:‏ لئلا يخلد في السجن اه الخ‏.‏

فتأمل قوله في اللعان والقسامة والأمانة، فإن الظاهر أن ذلك مما قدم فيه الغالب على الأصل كما مرّ فلم تكن فيه مخالفة، وبعضهم يعبر عن الأمين بأن الغالب صدقه أي في الرد والتلف، وبعد أن ذكرها المكناسي في مجالسه قال‏:‏ ومنها اللصوص إذا قدموا بمتاع وادعى شخص أنه له وأنهم نزعوه منه فيقبل قوله مع يمينه ويأخذه، ومنها السمسار إذا ادعى عليه أنه غيب ما أعطى له للبيع وكان معلوماً بالعداء وبإنكار الناس فيصدق المدعي بيمينه ويغرم السمسار‏.‏ ومنها السارق إذا سرق متاع رجل وانتهب ماله وأراد قتله وقال المسروق‏:‏ أنا أعرفه فيصدق المسروق بيمينه‏.‏ وهذه المسائل التي زادها لا تحملها الأصول كما لأبي الحسن‏.‏ وقال القرافي في الفرق بين ما يقدم فيه النادر على الغالب ما نصه‏:‏ أخذ السراق المتهومين بالتهم وقرائن أحوالهم كما يفعله الأمراء اليوم دون الإقرار الصحيح والبينات المعتبرة الغالب مصادفته للصواب والنادر خطؤه، ومع ذلك ألغى الشارع هذا الغالب صوناً للأعراض والأطراف عن القطع اه‏.‏

ففهم منه أنه إنما ألغى الشارع هذا الغالب بالنسبة للأعراض والأطراف لا بالنسبة للغرامة فإنه يغرم فيوافق ما للمكناسي ولهذا درج ناظم العمل على ذلك حيث قال‏:‏

لوالد القتيل مع يمين *** القول في الدعوى بلا تبيين

إذا ادعى دراهماً وأنكرا *** القاتلون ما ادعاه وطرا

فلا مفهوم لقوله‏:‏ القتيل بل المدار على كون المدعى عليه معروفاً بالغصب والعداء انظر شرحه، وانظر ما يأتي في الغصب ولا بد‏.‏

وَالمُدَّعَى فِيهِ لَهُ شَرْطَانِ *** تَحَقُّقُ الدَّعْوَى مَعَ البَيَانِ

‏(‏والمدعى فيه له شرطان‏)‏ أحدهما‏:‏ ‏(‏تحقق الدعوى‏)‏ به أي جزمها وقطعها بأن يقول‏:‏ لي عليه كذا احترازاً من نحو أشك أو أظن أن لي عليه كذا فإنها لا تسمع القرافي‏:‏ وفيه نظر لأن من وجد وثيقة في تركة مورثه أو أخبره عدل بحق له فلا يفيده ذلك إلا الظن، ومع ذلك يجوز له الدعوى به، وإن صرح بالظن كما لو شهدوا بالاستفاضة والسماع والفلس وحصر الورثة، وصرح بالظن الذي هو مستنده في الشهادة، فلا يكون قادحاً، فكذلك ههنا لأن ما جاز الإقداح معه لا يكون النطق به قادحاً‏.‏ وأجاب بعضهم بأن الظن ههنا لقوته نزل منزلة القطع، وقد جاز له الحلف معه ‏(‏خ‏)‏ واعتمد البات على ظن قوي كخطه أو خط أبيه الخ‏.‏

ثُمَّ عدم سماعها في الظن الذي لا يفيد القطع مبني على القول بأن يمين التهمة لا تتوجه‏.‏ أبو الحسن‏:‏ والمشهور توجهها‏.‏ ابن فرحون‏:‏ يريد بعد إثبات كون المدعى عليه ممن تلحقه التهمة اه‏.‏

وعليه فتسمع فيمن ثبتت تهمته وإلاَّ فلا ‏(‏خ‏)‏ واستحق به بيمين إن حقق ويمين تهمة بمجرد النكول الخ وسيقول الناظم‏:‏ وتهمة إن قويت بها تجب يمين متهوم الخ‏.‏

قلت‏:‏ ولقائل أن يقول‏:‏ إن الدعوى تسمع ههنا، ولو قلنا بعدم توجه يمين التهمة فيؤمر بالجواب لعله يقر فتأمله، فلو قال‏:‏ أظن أن لي عليه ألفاً فقال الآخر‏:‏ أظن أني قضيته لم يقض عليه بشيء لتعذر القضاء بالمجهول إذ كل منهما شاك في وجوب الحق له أو عليه، فليس القضاء بقول المدعي بأولى من القضاء بقول الآخر، فلو قال المطلوب‏:‏ نعم كان له الألف علي، وأظن أن قضيته لزمه الألف قطعاً وعليه البينة أنه قضاه، وثانيهما قوله‏:‏ ‏(‏مع البيان‏)‏ أي مع بيانه فأل عوض عن الضمير إما ببيان عينه كهذا الثوب أو الفرس أو الدراهم أو بيان صفته‏.‏ كلي في ذمته ثوب أو فرس صفتهما كذا أو دراهم يزيدية أو محمدية، أو سبني أو شتمني أو قذفني بلفظ كذا إذ ليس كل سب وشتم يوجب الحد، وأما ببيان سبب المدعى فيه المعين أو سبب ما في ذمة المعين، فالأول كدعوى المرأة الطلاق أو الردة لتحرز نفسها لأنها معين، والثاني كدعوى المرأة المسيس أو القتل خطأ ليترتب الصداق أو الدية في ذمة الزوج أو العاقلة المعينة بالنوع، فبيان سبب المدعى فيه في هذين المثالين ونحوهما بيان شرعاً للمدعى فيه، فهما راجعان في المعنى للقسم الأول لأن المدعية تقول فيهما أحرزت نفسي لأنك طلقتني ولي عليك صداق أو دية لأنك مسستني أو قتلت وليي، وكذا لو قالت‏:‏ بعت لك داري أو وأجرتها منك فادفع لي ثمنها أو أجرتها فهو راجع لما ذكر، فكان هذا القسم لا يحتاج المدعي فيه لبيان السبب لأنه مذكور بخلاف القسم الأول فلا بد من بيانه كأن يقول من تعد أو بيع ‏(‏خ‏)‏ وكفى بعت وتزوجت، وحمل على الصحيح وإلاَّ فليسأله الحاكم عن السبب، ثُمَّ قال‏:‏ وللمدعى عليه السؤال عن السبب‏.‏ قال الحطاب‏:‏ وليس بيان السبب من تمام صحة الدعوى بدليل قوله ولمدعى عليه الخ‏.‏

واعترضه طفي قائلاً‏:‏ بل هو من تمام صحة الدعوى مع عدم ادعاء النسيان، واحتج بكلام المجموعة وابن عرفة فانظره فيه، واعتراض الشيخ بذلك عليه بأنه لو كان شرطاً لبطلت الدعوى مع عدم ادعاء النسيان ساقط لما علمت من أن هذا إنما هو شرط صحة إذا لم يدع النسيان كما أن الدعوى بالمجهول ساقطة مع القدرة على التفسير عند المازري وغيره كما يأتي، فالتحقق في كلام الناظم راجع للتصديق، والبيان راجع للتصور أي لا بد أن يكون المدعى فيه متصوراً في ذهن المدعي والمدعى عليه والقاضي فلا يغني أحدهم عن الآخر‏.‏ وخرج بهذا الشرط الدعوى بمجهول العين أو الصفة كلي عليه شيء لا يدري جنسه ونوعه أو أرض لا يدري حدودها أو ثوب لا يدري صفته أو دراهم لا يدري صفتها ولا قدرها ونحو ذلك، فلا تسمع لأن المطلوب لو أقر وقال‏:‏ نعم له علي ما يدعيه أو أنكر وقامت البينة بذلك لم يحكم عليه بهذا الإقرار، ولا بتلك الشهادة، إذ الكل مجهول والحكم به متعذر فليس الحكم بالمروي بأولى من المروي مثلاً، ولا باليزيدية بأولى من المحمدية، إذ من شرط صحة الحكم تعيين المحكوم به ولا تعيين ههنا‏.‏ وهكذا نقله غير واحد‏.‏

قلت‏:‏ وهو ظاهر على أحد القولين الآتيين في قوله‏:‏ ومن لطالب الخ‏.‏

وقال المازري‏:‏ تسمع الدعوى بالمجهول البساطي وهو الصواب لقولهم يلزم الإقرار بالمجهول ويؤمر بتفسيره، فكذلك هذا يؤمر بالجواب لعله يقر فيؤمر بالتفسير ويسجن له، فإن ادعى المقر الجهل أيضاً فانظر ما يأتي عند قوله‏:‏ ومن لطالب بحق شهدا‏.‏ الخ وانظر شرحنا للشامل أول باب الصلح قال الحطاب‏:‏ مسائل المدونة صريحة في صحة الدعوى بالمجهول‏.‏ المازري‏:‏ وليس منه الدعوى على سمسار دفع إليه ثوباً ليبيعه بدينارين وقيمته دينار ونصف لأن الدعوى هنا تعلقت بأمر معلوم في الأصل ولا يضره كونه لا يدري ما يجب له يعني السمسار هل الثمن الذي سماه إن باع أو قيمته إن استهلكه أو غيبه إن لم يبع اه الخ‏.‏

قلت‏:‏ الدعوى هنا إنما هي في الثوب وهو معين فهو يطالبه برده، لكن إن استهلك أو باع فيرد الثمن أو القيمة لقيامها مقامه تأمل‏.‏ وإلى ما مر أشار خليل بقوله‏:‏ فيدعي بمعلوم محقق قال‏:‏ وكذا شيء وإلا لم تسمع كأظن الخ‏.‏

وقال في الإقرار‏:‏ وقبل تفسيره كشيء وكذا وسجن له الخ ومحل الخلاف إذا كان المدعي لا يدري جنسه ولا قدره، وإلا فإن علم وأبى ذكره لم تسمع اتفاقاً، ومحله أيضاً إذا لم يكن الشيء الذي يدعيه من فضلة حساب كان بينهما ببينة‏.‏ وقالت‏:‏ لا نعرف قدرها وإلا فتسمع بلا خلاف كما يقتضيه كلام ابن فرحون، وانظر ما يأتي عند قول الناظم‏:‏

ومن لطالب بحق شهدا *** ولم يحقق عند ذاك العددا

ثُمَّ ما قررنا به كلام الناظم من أنه حذف متعلق الدعوى وأن أل في قوله‏:‏ البيان عوض عن الضمير هو الذي ظهر لنا من كلام القرافي وغيره، وبه يندفع ما قيل إن ما ذكره شرط في الدعوى لا في المدعى فيه إذ لا يخفى أن الدعوى والمدعى فيه متلازمان فما كان شرطاً في أحدهما فهو شرط في الآخر، وما كان تقسيماً لأحدهما فهو تقسيم للآخر، فينتفي حينئذ التداخل في الأقسام التي عند

‏(‏ت‏)‏ وغيره والله أعلم‏.‏ وبقي على الناظم شروط أخر كون المدعى فيه ذا غرض صحيح احترازاً من الدعوى بقمحة أو شعيرة ونحو ذلك، ولذا لا يمكن المستأجر للبناء ونحوه من قلع ما لا قيمة له وكونه مما لو أقر به المطلوب لقضى عليه به احترازاً من الدعوى بأنه قال‏:‏ داري صدقة بيمين مطلقاً أو بغيرها ولم يعين الخ‏.‏

ومن الدعوى عليه بالوصية للمساكين، ومما يؤمر فيه بالطلاق من غير قضاء كقوله‏:‏ إن كنت تحبيني أو تبغضيني، ومن الدعوى على المحجور ببيع ونحوه من المعاملات فلا يلزمه، ولو ثبت بالبينة بخلاف ما إذا ثبت عليه الاستهلاك والغصب ونحوهما ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وضمن ما أفسد إن لم يؤمن عليه، والظاهر أن هذا الشرط يغني عن الذي قبله ولا يحترز به من دعوى الهبة والوعد لأنه يؤمر بالجواب فيهما‏.‏ ولو على القول بعدم لزومها بالقول لاحتمال أن يقر ولا يرجع عن الهبة ولا يخلف وعده، وكون العادة لا تكذب الدعوى به احتراز من الدعوى بالغصب والفساد على رجل صالح ‏(‏خ‏)‏ وأدب مميز كمدعيه على صالح، ومن مسألة الحيازة المعتبرة فإن الدعوى لا تسمع فيها وقيل تسمع ويؤمر المطلوب بجوابها لعله يقر أو ينكر فيحلف قاله ‏(‏ح‏)‏ وهو المعتمد كما يأتي في فصل الحوز‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ علم مما مر أن هذه الشروط كلها مبحوث فيها ما عدا الشرط الرابع، وظاهره أن المحجور لا تسمع الدعوى عليه في المعاملات، ولو نصبه وليه لمعاملات الناس بمال دفعه إليه للتجارة ليختبره، وهو كذلك إذ الدين اللاحق له لا يلزمه لا فيما دفع إليه ولا فيما بقي ولا في ذمته لأنه لم يخرج بذلك من الولاية قاله في المدونة، وقيل‏:‏ يلزمه ذلك في المال المدفوع إليه خاصة، وهذا إذا لم يضمن به ماله، وإلاَّ فيضمن في المال المصون وهو محمول على عدم التصوين وانظر ما يأتي عند قوله‏:‏

وجاز للوصي فيمن حجرا *** أعطاه بعض ماله مختبرا

الثاني‏:‏ تقدم أن بيان السبب من تمام صحة الدعوى لإمكان أن يكون سبب ما يدعيه فاسداً ككونه ثمن خمر أو ربا ونحو ذلك، ولذا قال ابن حارث‏:‏ إذا لم يسأله القاضي عنه كان كالخابط خبط عشواء قال‏:‏ فإن سأله الحاكم أو المدعى عليه عنه وامتنع من بيانه لم يكلف المطلوب بالجواب، فإن ادعى نسيانه قبل بغير يمين‏.‏ قلت‏:‏ وينبني على بيانه أن المطلوب إذا قال في جوابه‏:‏ لا حق لك علي لا يكتفي منه بذلك بل حتى ينفي السبب الذي بينه المدعي كما يأتي عند قوله‏:‏ ومن أبى إقراراً أو إنكاراً‏.‏ الخ‏.‏‏.‏‏.‏ وإذا ميزت المدعي والمدعى عليه بما مرّ‏.‏