فصل: (فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: ضمان ذمي لذمي عن مسلم]

وإن كان على مسلم لذمي ألف درهم، فضمن عنه ذمي، ثم إن الضامن صالح المضمون له عن الدين الذي ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير.. فهل يصح الصلح؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح، ولا يبرأ واحد منهما عن حق المضمون له؛ لأنه متصل بحق المسلم.
والثاني: يصح؛ لأن المعاملة بين ذميين.
فإذا قلنا بهذا: فبماذا يرجع الضامن على المسلم؟
إن قلنا: إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الأمرين.. لم يرجع هاهنا بشيء، وإن قلنا: يرجع عليه بالألف.. رجع هاهنا بها أيضا.

.[فرع: تعجيل الضامن الدفع]

وإن ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه، ثم إن الضامن عجل الدين للمضمون له قبل أجله.. لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الأجل؛ لأنه تطوع بالتعجيل.
وإن ضمن رجل صداق امرأة، فأداه إليها الضامن، فارتدت قبل الدخول.. سقط مهرها.
قال المسعودي: [في "الإبانة" ق \ 286] وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج، ثم ترده إلى الضامن.

.[فرع: إنكار المضمون له القبض يقبل مع يمينه]

إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه دفعها إلى المضمون له، وأنكر المضمون له ذلك، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له مع يمينه؛ لأن الأصل عدم القبض، فإذا حلف.. كان له أن يطالب أيهما شاء؛ لأن حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الألف من المضمون عنه.. برئت ذمته، وذمة الضامن، وهل للضامن أن يرجع بالألف الأولى على المضمون عنه؟ لا يخلو: إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون عنه، أو بمحضره:
فإن دفع بغير محضره، فلا يخلو: إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد، فإن لم يشهد على الدفع، نظرت في المضمون عنه:
فإن صدق الضامن أنه دفع.. فهل له الرجوع عليه؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: وهو قول علي بن أبي هريرة -: أنه يرجع عليه؛ لأنه قد صدقه أنه أبرأ ذمته بدفع الألف، فكان له الرجوع عليه، كما لو كان دفع بحضرته.
والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: أنه لا يرجع عليه بشيء، وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه يقول: وإن دفعت، فلم تدفع دفعا يبرئني من حقه؛ لأنك لم تسقط بذلك عني المطالبة، فلم تستحق علي بذلك رجوعا، ويخالف إذا كان بحضرته، فإن المفرط هو المضمون عنه.
وإن كذبه المضمون عنه.. فهل عليه اليمين؟
إن قلنا: لو صدقه كان له الرجوع.. كان على المضمون عنه أن يحلف: أنه ما يعلم أنه دفع.
وإن قلنا: لو صدقه لا رجوع له عليه.. فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن، فرجع عليه.. برئت ذمة المضمون عنه والضامن، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه إذا صدقه في دفع الأولى؟
إن قولنا بقول أبي علي بن أبي هريرة: إن للضامن أن يرجع بالأولى على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه.. رجع الضامن هاهنا بالألف الأولى على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية؛ لأنه يعترف أنه وزنها ظلما. فلا يرجع على غير من ظلمه. وإن قلنا بالمشهور: إنه لا يرجع عليه بشيء في الأولى.. فهل يرجع هاهنا بشيء؟ فيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما: لا يرجع عليه بشيء، أما الأولى: فقد مضى الدليل عليها، وأما الثانية: فلا يرجع بها؛ لأنه يعترف أن المضمون له ظلمه بأخذها، فلا يرجع بها على غير من ظلمه.
والثاني: يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره؛ لأنه قد أبرأ المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا، فكان له الرجوع عليه، كما لو دفع بالبينة.
فإذا قلنا بهذا: فبأيتهما يرجع؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول القاضي أبي حامد -: أنه يرجع عليه بالثانية؛ لأن المطالبة عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر.
والثاني: يرجع بالأولى؛ لأن براءة الذمة حصلت بها في الباطن.
والثالث - وهو قول ابن الصباغ -: أنه يرجع بأقلهما؛ لأنه إن كان قد ادعى أنه دفع في المرة الأولى ثوبا قيمته دون الألف، وفي الثانية دفع الألف.. فقد أقر بأن الثانية ظلمه بها المضمون له، فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وإن كان يدعي أنه دفع في المرة الأولى ألف درهم، وفي المرة الثانية ثوبا قيمته دون الألف.. لم يرجع إلا بقيمة الثوب؛ لأنه لو لم يدفعه.. لم يستحق الرجوع بالأولى، فلم يستحق إلا قيمة الثوب.
فإن كان الضامن حين دفع الأولى بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. حكم بها على المضمون له، ولم تقبل يمينه، ويكون للضامن أن يرجع على المضمون عنه، وإن كانت البينة غير قائمة، فصدقه المضمون عنه أنه قد دفع، وأشهد.. نظرت:
فإن كان قد أشهد شاهدين عدلين، إلا أنهما غابا، أو ماتا، أو فسقا.. فإن المضمون له إذا حلف.. كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه.. كان للضامن أن يرجع أيضا على المضمون عنه بالألف التي قد دفع عنه؛ لأنه قد اعترف أنه دفع عنه دفعا يبرئه، ولا صنع له في تعذر الشهادة، وإن رجع المضمون له على الضامن.. لم يرجع بالثانية؛ لأنه ظلمه بها، وإنما يرجع بالأولى؛ لما ذكرناه.
وإن أشهد شاهدين عبدين، أو كافرين، أو فاسقين ظاهري الفسق.. فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع على المضمون عنه؟ على الوجهين إذا صدقه على الدفع، ولم يشهد على ما مضى في الأولى من التفريع.
وإن أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة، ثم بان أنهما كانا فاسقين.. ففيه وجهان:
أحدهما: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأنه لم يفرط في الإشهاد، وليس عليه المعرفة في الباطن.
فعلى هذا: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين، ثم ماتا.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه أشهد من لا تثبت الحقوق بشهادته، فأشبه العبدين.
وإن أشهد شاهدا واحدا عدلا، فإن كان موجودا.. حلف معه، وكان كما لو أشهد عدلين، وحكم بشهادتهما، وإن كان ميتا، أو غائبا، أو طرأ عليه الفسق.. ففيه وجهان:
أحدهما: حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا؛ لأنه دفع بحجة، وإنما عدمت، كالشاهدين.
والثاني: حكمه حكم ما لو لم يُشهد؛ لأنه فرط حيث اقتصر على بينة مختلف في قبولها، فهو كما لو لم يُشهد.
وأما إذا دفع الضامن الألف الأولى بمحضر من المضمون عنه، فإن أشهد على الدفع، فإن كانت البينة قائمة.. أقامها وحكم بها، وإن كانت غير قائمة.. فعلى ما مضى، وإن لم يشهد، فحلف المضمون له.. رجع على من شاء منهما، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان:
أحدهما من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم يشهد، وكان الدفع بغيبة المضمون عنه على ما مضى؛ لأنه فرط في ترك الإشهاد، فصار كما لو دفع في غيبة المضمون عنه.
والثاني - وهو المنصوص - (أنه يرجع عليه)؛ لأن المفرط في ترك الإشهاد هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له، فأنكر ذلك المضمون له والمضمون عنه، ولم تكن هناك بينة.. فالقول قول المضمون له، فإن لم يحلف.. ردت اليمين على الضامن، فإن حلف.. بنينا على القولين في يمين المدعي مع نكول المدعى عليه:
فإن قلنا: إنه كالبينة.. برئ الضامن والمضمون عنه من دين المضمون له، وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه.
وإن قلنا: إن يمين المدعي مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه.. فهو كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع فإنه لا مطالبة للمضمون له على أحدهما؛ لأنه قد أقر باستيفاء حقه، وهل للضامن أن يرجع على المضمون عنه؟ فيه وجهان لأبي العباس:
أحدهما: القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن عليه بشيء؛ لأن الضامن يدعي القضاء ليرجع، فلم يقبل لأن الأصل عدمه، والمضمون له يشهد على فعل نفسه، فلم يقبل.
والثاني: يرجع الضامن على المضمون عنه؛ لأن قبض المضمون له يثبت مرة بالبينة، ومرة بالإقرار، ولو ثبت القبض بالبينة.. لرجع عليه، فكذلك إذا ثبت بالإقرار.

.[مسألة: الضمان في مرض الموت]

إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا.. فإن ذلك معتبر من ثلث ماله؛ لأنه تبرع، فهو كما لو وهب لغيره مالا.
إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه، ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير، ومات المضمون عنه، ولا يملك غير خمسة وأربعين درهما، فإن طالب المضمون له بحقه في تركة الضامن، وقع في هذه المسألة دور، والعمل فيه أن نقول: يذهب بالضمان من التسعين شيء، ولكنه يرجع إليهم نصف شيء؛ لأن ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شيء، ويجب أن تكون هذه التسعون إلا نصف شيء الباقية معهم تعدل شيئا كاملا، مثلي ما ذهب عنهم بالضمان، فاجبر التسعين بنصف الشيء الناقص عنها، ثم رده على الشيء الكامل، فيكون تسعون تعدل شيئا ونصف شيء، الشيء ثلثاها، وهو ستون، فيأخذ المضمون له ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه بها؛ لأن الضمان بإذنه، ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة المضمون عنه، وتركته أقل من ذلك، فيقتسم المضمون له وورثة الضامن الخمسة والأربعين على قدر حقيهما، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون، وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج منهم بالضمان ثلاثون، وقد بقي معهم مثلا ما خرج منهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل.. فهو بالخيار: إن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. رجع على ورثة المضمون عنه بجميع تركته، وهو خمسة وأربعون، ورجع من تركة الضامن بثلثها، وهو ثلاثون، وإن شاء.. أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه.
فإن كانت بحالها، إلا أن المضمون عنه خلف ثلاثين درهما لا غير.. فالعمل فيه: أن يخرج من التسعين شيء بالضمان، ويرجع إليهم ثلث شيء؛ لأن تركة المضمون عنه ثلث تركة الضامن، فيبقى مع ورثة الضامن تسعون إلا ثلثي شيء، تعدل شيئا وثلث شيء، فإذا جبرت التسعين.. عدلت شيئين، الشيء: نصفها، وهو خمسة وأربعون، فيأخذها من تركة الضامن، ويرجع المضمون له، وورثة الضامن في تركة المضمون عنه بنصفين؛ لاستواء حقيهما، فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر، فيجتمع لهم ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون، ويسقط من دينه ثلاثون، فإن شاء.. فعل ما ذكرناه، وإن شاء.. أخذ الستين كلها من تركة الضامن، ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له.. أخذ جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو ثلاثون، ويبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم.
فإذا خلف المضمون عنه ستين. فإن المضمون له لا ينقص من دينه شيء هاهنا، والعمل فيه على قياس ما مضى.

.[مسألة: ادعى بيع عبد لحاضر وغائب وكلاهما ضامن]

إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب عبدا بألف درهم، على كل واحد منهما خمسمائة درهم، وقبضاه، وكل واحد منهما ضامن ما على صاحبه، فإن أقر الحاضر بذلك.. لزمه أن يدفع إلى المدعي ألفا، فإذا قدم الغائب، فإن صدق الحاضر.. رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه.. فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. سقط حق الحاضر. وإن أنكر الحاضر المدعي، فإن لم يكن للمدعي بينة.. فالقول قول الحاضر مع يمينه، فإذا حلف.. سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب، فادعى عليه البائع، فإن أنكره.. حلف له أيضا، ولا كلام، وإن أقر له بما ادعاه عليه.. لزم القادم الخمسمائة التي أقر أنه اشترى هو بها، وهل تلزمه الخمسمائة التي أقر أن شريكه اشترى بها، وضمن هو عليه؟ فيه وجهان:
أحدهما قال القاضي أبو الطيب: لا تلزمه؛ لأنا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
والثاني: قال ابن الصباغ: تلزم القادم؛ لأن اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما تسقط عنه المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن.. لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه.. لزمه الثمن، ولزم الضامن، فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
وإن أقام المدعي بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه العبد بألف، وقبضاه، وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة.. فللمدعي أن يطالب الحاضر بجميع الألف؛ لأن البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على الغائب إذا قدم؟
نقل المزني: (أنه يرجع بالنصف على الغائب).
واختلف أصحابنا في ذلك:
فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشيء. ولم يذكر ابن الصباغ غيره؛ لأنه منكر لما شهدت عليه البينة، مقر أن المدعي ظالم له، فلا يرجع على غير من ظلمه. ومن قال بهذا.. تأول ما نقله المزني تأويلات:
أحدها: يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعي فيما ادعاه، غير أن المدعي قال: وأنا أقيم البينة أيضا، فأقامها، فيرجع هاهنا؛ لأنه ليس فيه تكذيب البينة.
الثاني: أن يكون الحاضر لم يقر، ولم ينكر، بل سكت، فأقام عليه المدعي البيئة، فليس فيه تكذيب.
الثالث: أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يتعرض لشراء شريكه، فقامت عليه البينة.
الرابع: أن يكون الحاضر أنكر شراءه، وشراء شريكه، وضمانهما، إلا أن الحاضر لما قامت عليه البينة، وأخذ منه المدعي الألف ظلما.. ثبت له على الغائب خمسمائة بالبينة، وقد أخذ المدعي من الحاضر خمسمائة ظلما، فيكون للحاضر أن يأخذ ما ثبت للمدعي على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني، وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة وإن أنكر الشراء والضمان؛ لأنه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت هذه البينة هذا الإشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا، وادعى عليه آخر بأنه له، وأنكر المشتري ذلك، وأقام المدعي بينة، وانتزعه من يده.. فإن له أن يرجع على البائع بالثمن، ولا يقال: إن بإقراره أن المدعي ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في "التعليق": ينظر في الحاضر:
فإن تقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال لمن ادعى عليه. لم نبتع منك شيئا، ولا تستحق علينا شيئا، ثم قامت البينة بذلك.. فإنه لا يرجع على صاحبه بشيء؛ لأنه قد كذب البينة بما شهدت، وأن هذا المدعي ظالم.
قيل له: فإن قدم الغائب، واعترف بصدق المدعي.. فقال: لا يرجع عليه بشيء؛ لأنه يقر له بما لا يدعيه.
وإن لم يتقدم منه تكذيب البينة، مثل: أن قال: ما لك عندي شيء.. فإنه يرجع على صاحبه بخمسمائة؛ لأنه ضمن عنه بإذنه، ودفع عنه.
قلت: ولعل صاحب الوجه الأول لا يخالف تفصيل الشيخ أبي حامد في جواب الحاضر، وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه، كما ذكره.

.[مسألة: ضمان العهدة]

ويصح ضمان العهدة على المنصوص، وهو أن يشتري رجل عينا بثمن في ذمته، فيضمن رجل عن البائع الثمن إن خرج مستحقا.
وخرج أبو العباس ابن سريج قولا آخر: أنه لا يصح، وبه قال ابن القاص؛ لأنه ضمان ما لم يجب، ولأنه ضمان مجهول؛ لأنه لا يعلم هل يستحق المبيع، أو بعضه؟ والصحيح أنه يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع، والوثائق ثلاث: الرهن، والشهادة، والضمان:
فالرهن لا يمكن؛ لأن البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد؛ لأن البائع قد يفلس، فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشتري به غير الضمان.
وأما قوله: (إنه ضمان ما لم يجب ضمان، وضمان مجهول) فغير صحيح؛ لأنه إن لم يكن المبيع مستحقا.. فلا ضمان أصلا، وإن كان مستحقا.. فقد ضمن الحق بعد وجوبه، وإنما صح الضمان هاهنا مع جهالة ما يستحقه المشتري؛ لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهدة.. كان ضامنا لكتاب الابتياع.. وهذا ليس بصحيح؛ لأن العرف قد صار في ضمان العهدة عبارة عن الدرك وضمان الثمن، فانصرف الإطلاق إليه.
فإذا قلنا: يصح ضمان العهدة.. صح بعد قبض الثمن، وجها واحدا؛ لأنه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع الثمن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو إليه بعد قبضه.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه لا يصح؛ لأنه ضمان الحق قبل وجوبه، فلم يصح.
قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته، أو ثمنه، أو دركه، أو يقول للمشتري: ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا.. فقد ضمنت لك الثمن، فإن قال: ضمنت لك خلاص المبيع.. لم يصح؛ لأنه لا يقدر على ذلك متى خرج مستحقا.
قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل في (الإقرار): (ولو ضمن له عهدة دار اشتراها، أو خلاصها، فاستحقت.. رجع بالثمن على الضامن إن شاء، والخلاص: المال يسلم إليه). فتأول أصحابنا ذلك تأولين:
أحدهما: أنه أراد: خلاصك منها؛ لأن خلاصه إذا كان متعلقا بها.. جاز إضافته إليها، كما يضاف المصدر إلى الفاعل، والمفعول به.
والثاني: أنه أراد: وخلاصها، وقد جاءت (أو) بمعنى: الواو. قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147]، وقال: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24].
فأما ما يكتب في الوثائق: ضمن فلان بن فلان البائع لفلان بن فلان المشتري قيمة ما أحدث في المبيع من بناء أو غراس، وغير ذلك إذا خرج مستحقا.. قال أصحابنا: فإن هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب؛ لأنه ضمان ما لم يجب، وضمان مجهول.
فإن قيد ذلك، بأن قال: من درهم إلى ألف.. لم يصح؛ لأنه ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يصح ضمان هذا مع العهدة). بناء على أصله في ضمان ما لم يجب، وقد مضى ذكره.
فإن ضمن خلاص المبيع، أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع.. نظرت:
فإن أفرد ذلك عن ضمان العهدة.. لم يبطل البيع، ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع، وضمان ما يحدث فيه من بناء أو غراس.
وإن قرنه مع ضمان العهدة.. بطل ضمان خلاص المبيع، وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
وإن شرط ذلك في البيع، بأن قال: يعني هذه الأرض بمائة دينار، بشرط أن يضمن لي فلان وخلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إن استحقت، فقال: بعتك، أو كان هذا الشرط في زمان الخيار.. فسد البيع؛ لأنه بيع بشرط فاسد.
قال الشيخ أبو حامد: ويجيء فيه قول آخر: أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة ما يحدث في الأرض كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع. والأول أصح.

.[فرع: استحقاق البيع يوجب ضمان العهدة]

إذا ضمن رجل لرجل العهدة، فاستحق جميع المبيع على المضمون له، وقد دفع الثمن إلى البائع.. فالمشتري بالخيار: إن شاء طالب البائع بالثمن، وإن شاء طالب به الضامن.
وإن خرج بعضه مستحقا.. بطل البيع فيما خرج منه مستحقا وكان للمشتري أن يطالب الضامن بثمن القدر الذي خرج منه مستحقا، وهل يبطل البيع في الباقي؟ فيه وجهان:
فإذا قلنا يبطل البيع فيه، أو قلنا: لا يبطل، إلا أن المشتري اختار فسخ البيع فيه.. فهل للمشتري أن يرجع بثمن ذلك القدر على الضامن؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع به عليه؛ لأنه ثبت له بسبب الاستحقاق.
والثاني: لا يرجع به عليه؛ لأن لم يضمن إلا ثمن ما استحق، وهذا ثمن ما لم يستحق، وإنما بطل البيع فيه؛ لئلا تفرق الصفقة، أو لفسخ المشتري.
وإن وجد المشتري بالمبيع عيبا، فرده.. فهل له أن يطالب الضامن بالثمن؟
قال أصحابنا: إن قال الضامن: ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع، وكل عيب تجده فيه.. فله أن يرجع بالثمن على الضامن، وجها واحدا، وكذلك: إن حدث عند المشتري عيب، وقد وجد به عيبا.. فله أن يرجع بالأرش على الضامن؛ لأن ضمانه يقتضي ذلك.
وإن ضمن درك البيع، أو عهدته لا غير.. فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن إذا وجد به عيبا، أو بالأرش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه بالثمن؛ لأن الثمن؛ رجع إليه لمعنى قارن عقد البيع بتفريط من البائع، فرجع به على الضامن، كما لو استحق المبيع.
والثاني: لا يرجع به عليه، بل يرجع به على البائع، وهو قول المزني، وأبي العباس؛ لأنه زال ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق، فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع شقصا، فأخذه الشفيع.