فصل: مسألة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة لا يعلم ما في غد إلا الله:

في أنه لا يعلم ما في غد إلا الله قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمع جواري يقلن في نكاح أو ما أشبهه، ولا أعلم إلا نكاحا:
وأهدى لها أكبشا ** تبحبح في المربد

وزوجها في النادي

يعلم ما في غد فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يعلم ما في غد إلا الله».
قال محمد بن رشد: قول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «ما يعلم ما في غد إلا الله» يبين أن قول الله عز وجل: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34] معناه ولا تدري نفس ما يكون غدا من كسب ولا غيره. وإنما ذكر في الآية الكسب دون ما سواه من الأشياء لأنه جل ما يحرص الناس على معرفته من الأشياء. وقد مضى هذا بزيادة بيان فيه من رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة حكاية عن أبي هريرة في إتيانه الوليمة:

قال مالك: كان أبو هريرة يدعى إلى وليمة فيزاحم فيذهب فيلبس ثوبا ثم يأتي فيدخل، فإذا أتي بالطعام دلى كميه فيه فيقال له مهلا يا أبا هريرة، فيقول إنما أذن للثوب، قد أتيت فلم يؤذن لي، ثم يقول: ذهب حبي ولم ير من هذا شيئا وبقيتم بعده تهربون الدنيا ثم يبكي.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية في رسم طلق بن حبيب بمساق أحسن من هذا. وذلك أنه قال فيه بلغني أن أبا هريرة دعي إلى وليمة فساق الحكاية إلى آخرها بمعناها. وإنما قلنا إنه أحسن من هذا لأن قوله كان أبو هريرة يدعى يدل على أن ذلك كان شأنه أبدا، والأظهر أنه إنما اعتراه هذا مرة واحدة. وهذا وشبهه يعتري من سياقة الحديث على المعنى، ولهذا كرهه من كرهه حسب ما مضى القول فيه قبل هذا في هذا السماع، وبالله التوفيق.

.مسألة سبب وقوع داود عليه السلام في الخطيئة:

في سبب وقوع داود عَلَيْهِ السَّلَامُ في الخطيئة قال مالك: بلغني أن تلك الحمامة أتت فدفعت قريبا من داود النبي وهي من ذهب، فلما رآها أعجبته فقام ليأخذها فكانت قرب يده فصنعت مثل ذلك ثم طارت، فاتبعها ببصره فوقعت عينه على تلك المرأة وهي تغتسل ولها شعر طويل، فبلغني أنه أقام أربعين ليلة ساجدا حتى نبت العشب من دموع عينيه.
قال محمد بن رشد: جاء في هذا التفسير أن داود عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فوددت أنك أعطيتني من ذلك شيئا كمثل ما أعطيتهما، قال الله تعالى: إني ابتليتهما بما لم أبتلك به، فإن شئت ابتليتك بما ابتليتهما وأعطيتك مثل ما أعطيتهما، قال داود: أي رب نعم. فقال الله عز وجل له: اعمل عملك حتى يتبين بلاؤك، فمكث كذلك ما شاء الله يقوم الليل ويصوم النهار، فكان على ذلك، فبينما هو في المحراب ذات يوم والزبور بين يديه، إذ جاء طائر فوقع قريبا منه فتناوله داود فطار إلى الكوة فقام ليأخذه. وقال بعضهم: وضع مصحفه وقام ليأخذه، فوقع الطائر إلى البستان، فأشرف داود فنظر فإذا هو بامرأة تغتسل في البستان، فعجب من حسنها، ونظرت فأبصرت ظله فنفضت شعرها فغطاها فزاده ذلك عجبا بها، ثم أرسل غلاما له فقال: اتبع هذه المرأة واعلم من هي وبنت من هي وهل لها زوج؟ فاتبعها الغلام حتى عرفها، فرجع فقال هي ابنة فلان زوجها فلان، وزوجها يومئذ مع ابن أخت داود في بعث فكتب داود إلى ابن أخته أن ابعث فلانا بعزيمة فلا يرجع حتى يفتح المدينة أو يقتل، فبعثه فقتل، فلما انقضت عدة المرأة أرسل إليها فتزوجها فهي أم سليمان بن داود- عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- فلما رأى الله عز وجل ما وقع فيه عبده أحب أن يستنقذه فأرسل إليه ملكين في صفة رجلين، فأتياه في المحراب والحرس حول المحراب، وهم ثلاثة وثلاثون ألفا، فرأى داود الرجلين قد تسورا المحراب ففزع منهما وقال: لقد ضعف سلطاني حتى إن الناس يتسورون محرابي، فقال أحدهما: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] إلى قوله: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه وضحك. فلما رأى داود ضحكه علم أنه مفتون، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب وبقي ساجدا أربعين يوما حتى نبت العشب من دموعه، لا يقوم من سجوده ذلك إلا إلى صلاة أو لقضاء حاجة لابد منها، فتاب الله عليه.
وهذا مثل ضربه الملكان لداود عَلَيْهِ السَّلَامُ بأمر الله إياهما بذلك إجلالا لداود وإكراما له أن يستقبلاه بأنك أخطأت أو جرت، فضربا له مثلا برجلين هذه صفتهما، فلما حكم على أحدهما بأنه ظلم ارتفع الملكان عنه، فحينئذ علم أنهما ملكان بعثهما الله لينبهاه على ما كان منه. ولم يكن داود عَلَيْهِ السَّلَامُ علم أن الذي كان منه عليه فيه إثم، وكذلك سائر الأنبياء- صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ- لا يعلمون على تعمد المعصية، إنما هي على تأويل أو غفلة أو نسيان، والله أعلم.
وحكى بعض المفسرين أن داود عَلَيْهِ السَّلَامُ جمع عباد بني إسرائيل فقال أيكم كان يمتنع من الشيطان يوما لو وكله الله إلى نفسه؟ فقالوا لا أحد إلا أنبياء الله، فكأنه عرض إليهم، فبينما هو في المحراب في يوم صلاته والحرس حوله والجنود إذا هو بطير حسن قد وقع على شرافة من شرافات المحراب. قال بعضهم من ذهب، وبعضهم جؤجؤه من ذهب وجناحاه ديباج، ورأسه ياقوتة حمراء، فأعجبه وكان له بني يحبه، فلما أعجبه حسنه وقع في نفسه أن يأخذه فيعطيه ابنه. فانصرف إليه، فجعل يطير من شرفة إلى شرفة ولا يؤيسه حتى طار فوق ظهر المحراب، وخلف المحراب حائط يغتسل فيه النساء الحيض إذا طهرن لا يشرف على ذلك الحائط أحد إلا من صعد المحراب، والمحراب لا يصعده أحد من الناس. فصعد داود خلف ذلك الطير، ففاجأته امرأة جاره وهي تغتسل، فرآها فجأة ثم غض بصره عنها وأعجبته، الحديث إلى آخره بمعنى الحديث الأول وإن خالفه في بعض ألفاظه. ومعنى قوله عز وجل حكاية عن الملكين: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أي غلبني في الحجة، أي كان أقدر على الاحتجاج مني. يقال: عزه يعزه عزا: إذا غلبه. ومن أمثالهم: من عز بز. وهذا مثل ضربه الملكان لداود عَلَيْهِ السَّلَامُ في غلبته أوريا زوج المرأة في أمره بالقتال من غير اختياره، وبالله التوفيق.

.مسألة مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى:

في مشي عيسى ابن مريم على الماء وإحيائه الموتى قال مالك: ذكر أن عيسى ابن مريم أتته امرأتان فقالتا: إن أبانا هلك ولم يودع، فادع الله أن يحييه، فقال أتعرفان قبره؟ قالتا نعم. فذهب معهما فأتتا قبرا فقالتا هو هذا، فدعا فأخرج لهما فإذا هو ليس أباهما، فدعا فرد، ثم ذهبتا إلى قبر أبيهما، فدعا الله أن يحييه فأحياه فلصقتا به وسلمتا عليه ثم قالتا له، يا نبي الله يا معلم الخير، ادع الله أن يبعثه بيننا حيا، قال وكيف أدعو الله ولم يبق له رزق في الدنيا يأكله.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه الحكاية والقول فيها من رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فغنينا بذلك عن إعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة فضل سلمان الفارسي:

في فضل سلمان الفارسي قال مالك: وكان سلمان الفارسي لا يأخذ من أحد شيئا إلا من عمل يده، وكان يستظل الأفياء في ظل الجدر، فجاءه رجل فقال له: ائذن لي أن أبني لك بيتا تسكن فيه، فقال نعم. فلما ولى الرجل قال سلمان الفارسي: أتدري كيف تبني؟ قال نعم: أبني لك بيتا إذا اضطجعت فيه مست رجلاك الجدار، وإذا قمت فيه مس رأسك السقف، فقال نعم.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية عن سلمان الخير بزيادة في رسم البز من سماع ابن القاسم، ومضى هناك القول على ذلك فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة كراهة السفر في طلب شيء من الدنيا لا يشوبه شيء من أمر الآخرة:

في كراهة السفر في طلب شيء من الدنيا لا يشوبه شيء من أمر الآخرة قال مالك: سمعت رجلا من أهل الصلاح والفضل مرة يقول: ما أحب أن أسافر ليلة في طلب شيء من الدنيا لا أخلطه بغيره وأن لي مرغوبا فيه.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا قبل هذا في هذا السماع والقول فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة السوائب وحكمها:

في السوائب قال مالك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قد علمت أن أول الناس نصب النصب وسيب السوائب وغير دين إبراهيم عمرو بن لحي ولقد رأيته في النار يجر قصبه يؤذي أهل النار بريحه». قال مالك: والسوائب من الغنم.
قال محمد بن رشد: قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولقد رأيته في النار إلى آخر قوله، معناه أنه مثلت له النار وكونه فيها في الآخرة حتى رأى حاله في الآخرة ممثلا في الدنيا عيانا. وقد مضى القول في السوائب والبحائر في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة ما جاء من أن أزواج النبي عليه السلام كن يراجعنه:

قال مالك: راجعت عمر بن الخطاب امرأة من الأنصار في شيء، فامتعض من ذلك وقال: ما كان النساء هكذا، فقالت بلى، وأزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يراجعنه، فأخذ ثوبه فخرج إلى حفصة ابنته فقال لها: أتراجعين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت نعم، ولو أعلم أنه يكرهه ما فعلت. فلما بلغ عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير نساءه قال: رغم أنف حفصة.
قال محمد بن رشد: الحديث بهذا عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مشهور، والمعنى فيه بين معلوم.

.مسألة تغير الأديان في آخر الزمان:

في تغير الأديان في آخر الزمان قال مالك وقال يحيى بن سعيد، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يأتي على الناس زمان يمسي المرء مؤمنا ويصبح كافرا ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا. فقيل يا رسول الله فأين العقول ذلك الزمان؟ قال تنزع عقول أهل ذلك الزمان».
قال محمد بن رشد: المعنى في ذلك أن البصائر تضعف في ذلك الزمان بكثرة الارتداد عن الإسلام إلى الكفر. وقوله: فأين العقول ذلك الزمان؟ معناه فأين البصائر التي لذوي العقول في ذلك الزمان؟ وقوله تنزع عقولهم، معناه تنزع بصائر عقول أكثرهم، وبالله التوفيق.

.مسألة إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بخروج الخوارج:

في إعلام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخروج الخوارج قال مالك زعم يحيى بن سعيد قال: «كان في حجر بلال فضة ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبض منها فيعطي الناس، فجاءه رجل فقال اعدل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويحك من يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أعدل، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله في ضرب عنقه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يخرجون فيكم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية».
قال محمد بن رشد: الرجل القائل ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذو الخويصرة رجل من بني تميم. ووقع الحديث بكماله في آخر كتاب الجهاد من المدونة من رواية يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: «بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم قسما أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل. قال عمر يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه، فقال دعه فإن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر إلى نصله فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء ثم ينظر إلى نضيه فلا يوجد فيه شيء، وهو القدح، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة أو مثل البضعة تدردر، يخرجون على حين فرقة من الناس. قال أبو سعيد فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشهد أن علي بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي نعت».
والنصل: حديدة السهم؟ والرصاف: العقب الذي يشد على الرعظ، وهو مدخل السهم في الزج؟ والقدح: عود السهم، وقال الخليل هو ما جاوز من السهم إلى النصل. وواحد الرصاف رصفه، والقذذ: ريش السهم، واحدتها قذة. النضي القدح قبل أن ينحت. وقال أبو عمرو هو نصل السهم، وبالله التوفيق.

.مسألة سبب إسلام كعب الأحبار:

في سبب إسلام كعب الأحبار قال وسمعت بعض من أرضى يقول قال كعب الأحبار: أول ما دخلني الإسلام أني سمعت قارئا يقرأ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] فدخل الإسلام في قلبي. قال مالك: حسبت أنه قال: سمعته يقول من جوف الليل.
قال محمد بن رشد: إنما أسلم كعب الأحبار ساعة سماعه الآية لأنه داخل تحت الوعيد المذكور فيها، إذ خوطب بها اليهود من أهل الكتاب. قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا} [النساء: 47]، أي على محمد، مصدقا لما معكم، أي في التوراة {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: 47]، قيل معناه تحول الوجوه إلى الأقفا، فتكون وجوههم من ورائهم؟ وقيل معناه نجعل وجوههم منابت الشعر مثل وجه القرد، لأن منبت الشعر من الآدميين في الأقفا؛ وقيل المراد بالوجوه الدين والإسلام، فالمعنى من قبل أن ترد بصائرهم في الهدى والدين إلى الكفر والضلال فنضلهم إضلالا لا يؤمنون بعده أبدا جزاء لهم على عنادهم، {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47] معناه أو نلعنكم فنخزيكم ونجعلكم قردة كما لعنا أصحاب السبت، أي أخزينا وأبعدنا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم وجعلناهم قردة وخنازير، فرجع إلى الخبر عن الغائب وقد كان الكلام على الخطاب، وذلك كثير، منه قوله عز وجل: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22]؛ ويحتمل أن يكون المعنى {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ} [النساء: 47]، أي أو نلعن أصحاب الوجوه، فلا يكون في الكلام على هذا رجوع من المخاطب إلى الغائب.
فإن قيل إذا كان تأويل الآية على ما ذكرتم من الوعيد، فهل لحقهم الوعيد إذ لم يؤمنوا؟ قيل له: لم يلحقهم الوعيد لأنه آمن منهم جماعة، منهم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن شعبة، وأسيد بن سعيد، وجماعة غيرهم، فرفع ذلك عنهم بإيمان من آمن منهم. وقيل معنى ما ذكر من طمس الوجوه إنما هو في الآخرة فيحشرون مشوهين، وبالله التوفيق.

.مسألة قول عمر بن الخطاب لأسيد بن الحضير فيما كان يكسوه إياه:

في قول عمر بن الخطاب لأسيد بن الحضير فيما كان يكسوه إياه قال مالك: وكان عمر بن الخطاب يلبس الحلل وكان عمر بن الخطاب يكسوها الناس، فكان يكسو منها أسيد بن الحضير فيبيعها فيشتري بفضل ثمنها عبدا فيعتقه، فكره عمر أن يرى في عطيته خلل واختلاف، فقال وعنده أسيد: يعمد أحدهم أكسوه وأعطيه فيبيع ذلك، يوشك أن يفعل ذلك أحدهم فلا أعطيه. فقال له أسيد: يغفر الله لك إن بعت فقدمت لنفسي تمنعني حقي، فقال عمر: لا والله.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة قول ابن مسعود في الربيع بن خثيم:

في قول ابن مسعود في الربيع بن خثيم قال مالك: وكان ذلك الرجل إذا رآه ابن مسعود قال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] كان تستأذنه ابنته تقول له: دعني أذهب ألعب، فيأبى عليها، فقال له رجل ما يمنعك أن تقول لها نعم؟ قال أكره أن أجده في صحيفتي يوم القيامة.
قال محمد بن رشد: قيل إن الرجل الذي قال فيه ابن مسعود هذا الربيع بن خثيم، وامتناعه من أن يأذن لابنته فيما استأذنته فيه من اللعب مخافة أن يجد ذلك في صحيفته يوم القيامة، إذ قد جاء أن كل ما لا يكتبه صاحب اليمين يكتبه صاحب الشمال، نهاية في الورع والزهد والخوف لله عز وجل. ومن خشي مثل هذا وخافه وتحرج منه على خفته، إذ الجواز أظهر فيه بل الاستجاب، فقد كانت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تلعب بالبنات بعلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينكر ذلك عليها، بل كان سرب الجواري إليها يلعبن معها. ووجه استحبابه من جهة المعنى ما يدخله من السرور عليه بالإذن له في ذلك فيؤجر، وقد قال الله عز وجل:
{أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12]، فهو من المخبتين كما قال ابن مسعود، لأن المخبت هو الرجل الخائف الخاشع الخاضع لله بالطاعة، المذعن له بالعبادة، المطمئن إليه قلبه. قال الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج: 34] {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} [الحج: 35]، وبالله التوفيق.

.مسألة ما ذكر من أن الأرض على حوت:

فيما ذكر من أن الأرض على حوت قال مالك: وزعم زيد بن أسلم أن نبيا من الأنبياء قال لهم: إن الأرض على حوت، فكذبه رجل فقعدا على شط بحر فمر حوت مثل الطرف، فقال أهذا هو؟ قال لا، ثم مر حوت، فقال مالك لا أدري ما قدره، فقال: أهذا هو؟ فقال لا، ثم مر حوت آخر من حين أضحى النهار إلى الظهر فقال: أهو هذا؟ قال إن ذلك الحوت يأكل كل يوم سبعين ألفا مثل هذا.
قال محمد بن رشد: قد جاء في تفسير قوله عز وجل: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] يعني بنون الحوت الذي عليه الأرض، روي ذلك عن ابن عباس قال: ذلك أن الله عز وجل أول ما خلق القلم فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة، ثم رفع بخار الماء فخلقت منه السموات، ثم خلق النون فبسطت الأرض على ظهر النون، فتحركت النون فمادت الأرض فأثبتت بالجبال، فإن الجبال لتفخر على الأرض. وقال الكلبي: تحت هذا الحوت ثور، وتحت الثور صخرة خضراء، فخضرة السماء منها، وتحت الصخرة الثرى. وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله عز وجل. وجاء عن أبي هريرة أنه قال: الأرضون على نون، ونون على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة لها أربعة أركان، على كل ركن منها ملك قائم في الماء. وهذا كله لا تعرف حقيقته، إذ لا يقطع على صحة شيء منه من جهة الرواية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العالم بما أعلمه الله عز وجل به من كبير ما غاب عن حواسنا. والذي نعلمه من ذلك علم يقين ما أعلمنا الله عز وجل به في محكم كتابه من قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} [فاطر: 41]، فنحن نعتقد بما أعلمنا الله عز وجل به مع ما دل عليه من دلائل العقول أن الله عز وجل يمسك السماوات والأرض بقدرته لا بشيء تعتمد عليه لولاه لم تستقر، إذ لو احتاجت في استقرارها إلى ما تعتمد عليه من الأجسام لاحتاج ذلك الذي تعتمد عليه إلى ما يعتمد عليه، والآخر إلى آخر إلى ما لا نهاية له، وذلك محال وباطل ظاهر البطلان. وكذلك السماوات يمسكها الله عز وجل عن أن تزول عن مواضعها أو تقع على الأرض بقدرته لا بما سوى ذلك مما يستغنى به في ثبوتها عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء في القرآن من أن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض:

فيما جاء في القرآن من أن الجنة عرضها كعرض السماء والأرض قال مالك قال لعمر بن الخطاب رجل: يقول الله عز وجل: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 21] فأين تكون النار؟ فسكت عنه شيئا ثم قال له: أرأيت إذا جاء الليل أين يكون النهار؟ وإذا جاء النهار أين يكون الليل؟ فقال الله أعلم، فقال عمر هو ذلك.
قال محمد بن رشد: قول الله عز وجل في سورة الحديد: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الحديد: 21] مبين لقوله في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} [آل عمران: 133]، فليس في قول الله عز وجل إن عرض الجنة كعرض السماء والأرض ما يدل على أن الجنة تستغرق السماء والأرض كما ظن السائل فسأل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أين تكون النار؟ فأجابه بما أجابه به مما دل أنه سلم له سؤاله، فالله أعلم بصحة هذا عن عمر بن الخطاب، لأن الجنة والنار مخلوقتان، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا» وقال: «اشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين في كل عام نفس في الشتاء ونفس في الصيف». وعند أهل السنة، أن الجنة التي وعد الله بها أولياءه في الآخرة هي الجنة التي أهبط منها آدم عَلَيْهِ السَّلَامُ، وهي في السماء على ما دل عليه القرآن وجاءت به الآثار، فليس في قول الله عز وجل إن الجنة التي أعدها الله لأوليائه في السماء عرضها كعرض السماء والأرض معنى يشكل حتى يسأل من أجل ذلك أين تكون النار؟ والذي جاء في تفسير ذلك أن معناه سبع سماوات وسبع أرضين تلفقن كما تلفق الثياب بعضها إلى بعض، فيكون ذلك عرضها، ولا يصف أحد طولها، وبالله التوفيق.

.مسألة ما أوصى به معاوية في ماله:

فيما أوصى به معاوية في ماله قال مالك: لما حضرت معاوية بن أبي سفيان الوفاة أمر أن يجعل نصف ماله في مال الله؛ أراد بذلك الذي صنع عمر بن الخطاب في مقاسمته عمالا من عماله قاسمهم أموالهم، وإنما قاسمهم عمر لأنه ظهرت لهم بعد الولاية أموال لم تكن تعرف لهم.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم باع غلاما من سماع ابن القاسم قبل هذا، وبالله التوفيق.

.مسألة شدة خشية عمر السؤال:

في شدة خشية عمر السؤال قال مالك: وقال عمر بن الخطاب: والذي نفسي بيده لو هلك بشط الفرات جمل ضياعا لظننت أن الله سائلي عنه.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والقول عليه في رسم سئل عن تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة التعوذ من الحور بعد الكور:

في التعوذ من الحور بعد الكور وقال مالك كان يقال: اللهم إني أعوذ بك من الحور بعد الكور، فسألته عن الحور بعد الكور فقال: الحور الحول أن يحول بعدما كان على صلاح.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، والتعوذ منه واجب.
قال الله عز وجل: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8]، وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [آل عمران: 149]، وبالله التوفيق.

.مسألة التلطف والمداراة:

في التلطف والمداراة قال مالك: أخبرني عبد الله بن أبي بكر أن داود بن علي أعطاه جارية فدسها مدسا حتى ردها إلى أهلها.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا، والله أعلم، أنه كره عطيته ولم يرد أن يوحشه بأن لا يقبضها منه ولا بأن يردها عليه، فقبلها منه ثم تلطف في ردها إليه لئلا يجد في نفسه في ذلك عليه. وهذا جائز للرجل أن يفعله، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مداراة الناس صدقة» وبالله التوفيق.

.مسألة خروج الخارجة على علي رضي الله عنه:

في خروج الخارجة على علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال مالك: لما حكم الحكمان أبو موسى وعمرو بن العاص خرجت الخارجة التي خرجت فقالوا لا حكم إلا لله، فقال علي بن أبي طالب: ما يقولون؟ فأخبر فقال: كلمة حق أريد بها باطل. قال مالك: فهي أول خارجة خرجت. قال مالك أراهم قد تعدوا وكفروا الناس.
قال محمد بن رشد: هذه الخارجة هي الحرورية التي فارقت علي بن أبي طالب وشهدت عليه بالشرك لما رضي بالتحكيم في أمر المسلمين وخرجت عليه، فأتى علي بن أبي طالب فأخبر أنهم تجهزوا إلى الكوفة فقال: دعوهم ثم خرجوا فنزلوا بالنهروان فمكثوا فيه شهرا، فقيل له اغزهم الآن، فقال لا حتى يهرقوا الدماء ويقطعوا السبل ويخيفوا الأمن، فلم يهجهم حتى قتلوا، فغزاهم فقتلوا. وروي عن ابن عباس أنه قال: أرسلني علي إلى الحرورية لأكلمهم، فلما كلمتهم قالوا لا حكم إلا لله، قلت: أجل لا حكم إلا لله، وإن الله قد حكم في رجل وامرأة، وحكم في قتل الصيد، فالحكم في رجل وامرأة والصيد أفضل من الحكم في الأمة يرجع فيها ويحقن دماءها ويلم شعثها؟ فقال ابن الكوا: دعوهم فإن الله قد أنبأكم أنهم قوم خصمون، وهم الذين قال فيهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنهم يخرجون على حين فرقة من الناس وعلى خير فرقة من الناس يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» الحديث، وبالله التوفيق.