فصل: مسألة الأعمال لا تصح إلا بالنيات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الأعمال لا تصح إلا بالنيات:

في أن الأعمال لا تصح إلا بالنيات قال مالك: أخبرني يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن الحارث التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا الحديث والكلام عليه في رسم سن من سماع ابن القاسم قبل هذا فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الهدية للنصراني:

ومن كتاب القضاء من سماع أشهب وابن نافع عن مالك رواية سحنون بن سعيد في الهدية للنصراني:
قال أشهب: قيل لمالك: أترى بأسا أن يهدي الرجل لجاره النصراني هدية مكافأة؟ فقال ما يعجبني ذلك، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1].
قال محمد بن رشد: قوله مكافأة له، يريد مكافأة له على ما لا يجب عليه أن يكافئه عليه مما يلزمه أن يعتمده معه في مجاورته إياه، لا مكافأة له على هدية أهداها إليه، إذ لا ينبغي له أن يقبل منه هدية، لأن مقصود الهدايا إنما هو التودد بها، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء» فإن أخطأ وقبل منه هديته وفاتت عنده فالأحسن أن يثيبه عليها حتى لا يكون له. عليه فضل في معروف صنعه معه، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة تفسير قوله تعالى وجعلكم ملوكا:

ومن كتاب الأقضية في تفسير قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20]:
قال أشهب: وسمعت مالكا يقول: تأويل هذه الآية قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] أي يكون للرجل مسكن يأوي إليه، والمرأة يتزوجها، والخادم تخدمه، فهذا أحد الملوك الذين ذكر الله عز وجل.
قال محمد بن رشد: هذا مروي عن ابن عباس وغيره في تفسير: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا} [المائدة: 20] أي أحرارا. وقد مضى ذلك بزيادة بيان فيه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. وقال الحسن: وجعلكم ملوكا أي أحرارا، لأنهم كانوا في قوم فرعون بمنزلة أهل الجزية فينا، فأخرجهم من ذلك الذل. وقال الكلبي في قوله: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} [المائدة: 20]، كان منهم في حياة موسى اثنان وسبعون نبيا. وقوله: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 20] فيما ظلل عليهم من الغمام وأنزل عليهم من المن والسلوى وأشباه ذلك مما أوتوا، وبالله التوفيق..مسألة في القران في التمر:

وسئل عن الذي يقرن التمرتين جميعا في الأكل اثنتين؟ قال: إن كان هو أطعمهم فنعم، فقيل له هم شركاء، فقال لا أرى ذلك، هو يستأثر عليهم. قيل أفيجزي عنه أن يعلمهم بذلك فيقول إني آكل تمرتين تمرتين، فقال: من الناس من لا يقدر على هذا، وهذا لا يقدر على ذلك.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة في الحجامة في الأيام كلها وكراهة ترك العمل في يوم الجمعة:

وسئل مالك هل يكره الاطلاء يوم الأربعاء ويوم السبت؟ فقال: لا، والله ما أرى به بأسا أن يطلي ويحتجم ويسافر وينكح يوم الأربعاء والسبت، والأيام كلها لله. وأرى أمرا عظيما أن يكون من الأيام يوم لا يحتجم فيه ولا ينكح فيه ولا يطلى فيه ولا يسافر فيه، فلا بأس بذلك، فليحتجم ولينكح وليطل وليسافر في أي الأيام شاء، وإني لأحتجم في السبت والأربعاء كثيرا. ولقد بلغني أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يكرهون ترك العمل يوم الجمعة على نحو تعظيم اليهود السبت والنصارى الأحد، ولقد قال عمر ابن الخطاب لذلك الرجل وكان صالحا: أهذه الساعة؟ قال كنت في السوق.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام في كراهية ترك الحجامة في شيء من الأيام في مواضع من هذا السماع، والقول في كراهية ترك العمل في يوم الجمعة في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي:

في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي قال مالك: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل فلا يجيب حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ} [البقرة: 219] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ} [طه: 105] هذا في كتاب الله كثير.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه كثير موجود في القرآن وهو أيضا في السنن الثابتة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير أكثر من أن يحصى. من ذلك حديث الموطأ في اللعان إذ «سأل عاصم بن عدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعويمر عن الرجل يجد مع أمرأته رجلا، فكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما سأله عنه فلم يجبه على سؤاله، فأعلم بذلك عاصم لعويمر، فأتى عويمر فسأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها. قال سهل بن سعد الساعدي راوي الحديث: فتلا عنا وأنا مع الناس عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.» وحديث البخاري في «الرجل الذي أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو بالجعرانة فقال له: كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ بطيب؟ فسكت عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجاءه الوحي، فلما سري عنه قال: أين الذي سأل عن العمرة؟ فأتي برجل فقال: اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات وانزع عنك الجبة واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك» وبالله التوفيق.

.مسألة طلب العلم والحث عليه:

في طلب العلم وسئل عن طلب العلم أفريضة؟ فقال: لا، والله ما كل الناس كان عالما، وإن من الناس من أمره أن لا يطلبه، ثم قال من الغد: قد سئلت أطلب العلم فريضة؟ فقلت: أما على كل الناس فلا.
قال محمد بن رشد: سئل أولا عن طلب العلم أفريضة هو؟ فقال: لا والله، يريد أنه ليس بفريضة على جميع الناس كالصلاة والصيام وما أشبه ذلك من العبادات التي هي من فرائض الأعيان. وقوله إن من الناس من أمره أن لا يطلبه، يريد أن من الناس من هو قليل الفهم لا تتأتى له المعاني على وجوهها، وإذا سمع الشيء حمله على خلاف معناه، ومن كان بهذه الصفة فالحظ له أن يترك الاشتغال بطلب العلم إلى ما سواه من ذكر الله سبحانه وقراءة القرآن والصلاة، فهو أعظم لأجره. وفي قوله من الغد أما على كل الناس فلا، يدل على أنه فريضة على بعضهم، فهو عنده فريضة على من كان فيه موضع للإمامة. فقد روى عنه ابن وهب أنه كان جالسا معه فحضرت الصلاة فقام إليها، فقال له: ما الذي قمت إليه بأوجب عليك من الذي قمت عنه، وهو على سائر الناس فرض على كفاية. قال الله عز وجل: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. ومن للتبعيض، فإذا قام به بعض الناس سقط الفرض عن سائرهم إلا ما لا يسع الإنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصومه وحجه وزكاته إن كان ممن تجب عليه الزكاة، فإن ذلك واجب عليه لا يسقط عنه الفرض فيه بمعرفة غيره به، وبالله التوفيق.

.مسألة ربط الخيط في الأصبع للتذكرة:

في ربط الخيط في الأصبع للتذكرة، وتعليق الحرزة من الحمرة، وتعليق الكتاب للحمى والاسترقاء وسئل عن الذي يربط في أصبعه الخيط يستذكر به فقال: ما أرى به بأسا. وسئل عن الذي يعلق الحرزة من الحمرة فقال: أرجو أن يكون خفيفا. قيل له: فالذي يكتب له القرآن من الحمى؟ فقال لا بأس به وما سمعت فيه شيئا. وسئل أيرقى الرجل ويسترقي؟ فقال لا بأس بذلك بالكلام الطيب. قيل أيغلق شيئا من هذه الكتب أو يعلقها؟ قال كذلك أيضا إن كان ما لا بأس به فلا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: أما ربط الخيط في الأصبع لتذكر الحاجة فقوله فيه إن ذلك لا بأس به بين، إذ ليس فيه أكثر من السماجة عند من يبصره ويراه ولا يعلم وجه مقصده فيه ومغزاه. وخفف تعليق الحرزة من الحمرة لأن ذلك إنما هو من ناحية الطب، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنزل الدواء الذي أنزل الأدواء». وأما تعليق التمائم بالقرآن وذكر الله فأجازها مالك مرة في المرض وكرهها في الصحة مخافة العين أو لما يتقى من المرض، وأجازها مرة بكل حال في حال الصحة والمرض. ومن أهل العلم من كره التمائم على كل حال، كان فيها ذكر الله أو لم يكن، في حال الصحة وفي حال المرض، لما جاء في الحديث من أن «من تعلق شيئا وكل إليه ومن علق تميمة فلا أتم الله له ومن علق ودعة فلا ودع الله له». ومنهم من أجازها على كل حال في حال المرض، ومنع منها في حال الصحة لما روي عن عائشة من أنها قالت: ما علق بعد نزول البلاء فليس بتميمة. وقد مضى هذا المعنى في رسم كتب عليه ذكر حق من سماع ابن القاسم، ومضى الكلام عليه مستوعبا في رسم الصلاة الأول من سماع أشهب من كتاب الصلاة. وأما الرقى بكتاب الله عز وجل وذكره فإنه جائز لا كراهة فيه، بل هو مرغب فيه ومندوب إليه ومستحب فعله. ذكر مالك في موطأه عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذات وينفث. قالت فلما اشتد وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح عليه بيمينه رجاء بركتها.» «وعن عثمان بن أبي العاص أنه أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبه وجع قد كاد يهلكه، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امسحه بيمينك سبع مرات وقل أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد. قال فقلت ذلك فأذهب الله عنى ما كان بي، فلم أزل أمر بها أهلي وغيرهم». وقد أمر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالاسترقاء من العين «فقال في ابني جعفر بن أبي طالب وقد دخل عليه بهما فرآهما ضارعين، فقالت له حاضنتهما إنه تسرع إليهما العين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استرقوا لهما فإنه لو سبق شيء القدر لسبقته العين» «ودخل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت أم سلمة وفي البيت صبي يبكي، فذكروا له أن به العين فقال: ألا تسترقون له من العين».

.مسألة التداوي بالبول والخمر:

في التداوي بالبول والخمر وسئل عن الذي تكون له القرحة أيغسلها بالبول والخمر؟ فقال: إذا أنقى ذلك بالماء بعد فنعم له ذلك، وإني لأكره الخمر في كل شيء الدواء وغيره، يعمد إلى ما حرم الله في كتابه وذكر نجاسته يتداوى به. ولقد بلغني أن هذه الأشياء أشياء يدخلها من يريد الطعن في الدين والغض عليه. فقيل له: فالبول عندك أخف؟ فقال نعم. فقيل له: أفرأيت الذي يشرب بول الإنسان يتداوى به؟ فقال ما أرى ذلك ولكن لا بأس ببول البقر والغنم والإبل أن يشرب. فقلت له: كل ما يؤكل لحمه فلا بأس ببوله؟ فقال لي أنت قلت هذا من عندك ولم أقلها لك، ولكن أبوال الأنعام التي ذكر الله، الثمانية الأزواج الذي ذكر الله تبارك وتعالى في كتابه وجعل يتقرب إليه بها.
قال محمد بن رشد: إنما رأى غسل الجرح بالبول أخف من غسله بالخمر، لأن الله تبارك وتعالى قال في الخمر إنها رجس وأمر باجتنابها حيث يقول: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] فاقتضى ظاهر الأمر باجتنابها بحمله على مقتضاه من العموم الشرب وغيره؛ والبول لم يأت فيه ذلك إلا أنه نجس بالإجماع، فحرم التداوي بشربه وجاز الانتفاع به في غسل الجرح وشبهه، قياسا على ما أجازته السنة من الانتفاع بجلد الميتة النجس. وفرق في هذه الرواية بين أبوال الأنعام وأبوال ما يؤكل لحمه من سائر الحيوان، فقال ابن لبابة: معنى ذلك في التداوي بشربها لا في طهارتها، وهو تأويل محتمل، والقياس إذا استوت عنده في الطهارة أن تستوي في إجازة التداوي بشربها، وإذا افترقت عنده في إجازة التداوي بشربها أن تفترق عنده في الطهارة، فالتفرقة بين أبوال الأنعام وأبوال ما يؤكل لحمه من غيرها في الطهارة وفي جواز التداوي بشربها مع استوائها في الطهارة استحسان.
ووجه التفرقة بينهما في الطهارة هو أن الأصل كان في جميع الأبوال أن تكون نجسة قياسا على أبوال بني آدم، فخصص من ذلك أبوال اللقاح بالسنة، وأبوال سائر الأنعام بالقياس على ما خصصته السنة، وبقي أبوال سائر الحيوان على الأصل في النجاسة.
ووجه التفرقة بينهما في التداوي بشربها مع استوائهما في الطهارة مراعاة قول المخالف في أنها كلها نجسة، فلا يشرب منها في الدواء إلا ما أجازته السنة، وهي أبوال الأنعام. وقد مضى في الرسم الأول من سماع أشهب زيادة في معنى هذا فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة السيد ليس من أسماء الله عز وجل:

في أن السيد ليس من أسماء الله عز وجل وسئل هل كان أحد بالمدينة يكره أن يقول العبد لسيده يا سيدي؟ فقال لا، ولم يكره ذلك، وقال الله تعالى: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} [يوسف: 25] وقال تبارك وتعالى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] فلم يكره ذلك. قيل يقولون إن السيد هو الله، قال فأين في كتاب الله أن الله هو السيد؟ هو الرب، قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] وقال: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] قيل: أفتكره أن يدعو الرجل فيقول يا سيدي؟ فقال: غير ذلك أحب إلي أن يدعو بما في القرآن وما دعت به الأنبياء. قيل: ذلك أحب إليك من أن يقول يا سيدي؟ فقال نعم، لا أحب أن يقول يا سيدي، وغير ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا قبل هذا في رسم البز من سماع ابن القاسم وفي كتاب الصلاة من رسم الصلاة الثاني من سماع أشهب منه فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة الإخوة اثنان فصاعدا:

في أن الإخوة اثنان فصاعدا قال مالك: مضت السنة أن الإخوة اثنان فصاعدا.
قال محمد بن رشد: يريد بقوله مضت السنة، أي مضت الطريقة التي درج الناس عليها في قوله عز وجل: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، أن الإخوة اثنان فصاعدا، فهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس. وهذا قول جماعة الفقهاء إلا ابن عباس فإنه كان لا يحجب بأخوين، وحجته أن الله تعالى قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]. وقول جميع أهل اللغة أن الأخوين جماعة كما أن الإخوة جماعة، لأنك إذا جمعت واحدا إلى واحد فهما جماعة يقال لهما إخوة. وحكى سيبويه أن العرب تقول قد وضعا رحالهما تريد رحلي راحلتهما. وكتاب الله عز وجل أولى ما احتج به في ذلك، قال عز وجل: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، ولم يقل قلباكما؟ وقال: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف: 39] {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [يوسف: 40]. ولم يقل ما تعبدان. فإن ترك المتوفى أبوين وأخوين فللأم السدس، وما بقي للأب، إذ لا يرث الإخوة معه شيئا لأنه أحق بالتعصيب منهم. ولا اختلاف في هذا إلا ما يروى عن ابن عباس أنه كان يعطي الإخوة هنا السدس الذي منعوا الأم أن تأخذه، وهو شاذ خلاف ما أجمع عليه الفقهاء من أن الإخوة لا يرثون مع الأب، وبالله التوفيق.

.مسألة كراهة الصوف الغليظ:

في كراهة الصوف الغليظ قال: وقال مالك في لباس هذا الصوف الغليظ: لا خير في الشهرة، ولو كان المرء يلبس ذلك مرة ويطرحه أخرى إذا رجوت ألا يكون به بأس، فأما أن يعاهد عليه حتى يعرف ويشهر فإني أكرهه ولا أحبه. ومن ثياب القطن ما هو أخشن في اللباس وأبعد في الشهرة ومن رخص الثمن في مثل نصف ثمن هذا الصوف، فلا أحب ذلك ولا أستحسنه. وقد روي «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى على رجل أطمارا فقال له: هل لك من مال؟ فقال نعم قد آتاني الله من أنواع المال كله، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلير عليك مالك». قال مالك: وسمعت «أن رجلا قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أحب أن يحسن ثوبي ويحسن صوتي ونحو ذلك أفذلك من الكبر يا رسول الله؟ فقال لا، ولكن الكبر من سفه الحق وغمط الناس».
قال محمد بن رشد: الشهرة في اللباس مذموم مكروه، والاقتصاد في ذلك هو المختار والمستحب، لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وقد مضى الكلام على هذا المعنى قرب آخر الرسم الأول من هذا السماع، وبالله التوفيق.

.مسألة السفر في طلب العلم:

في السفر في طلب العلم قال مالك حدثني رجل أن سعيد بن المسيب قال: إن كنت لأسير الليالي في طلب الحديث الواحد.
قال محمد بن رشد: هذا من اجتهاده في طلب العلم وفضله، وبذلك ساد أهل عصره، وكان يسمى سيد التابعين. وقد مضى هذا والقول فيه في رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة الاطلاء في العشر:

في الاطلاء في العشر قال مالك عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا بالاطلاء في العشر.
قال محمد بن رشد: هذا مذهب مالك وجمهور العلماء، وكرهه جماعة من أهل العلم لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أنه قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة فأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره حتى يضحي». وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم الرطب باليابس من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة فيما هو من شأن ابن آدم:

قال مالك: من شأن ابن آدم ألا يعلم كل شيء، ومن شأنه أن يعلم ثم ينسى، ومن شأنه أن يعلم ثم يزيده الله عز وجل علما.
قال محمد بن رشد: هذا كله بين لا يخفى. قال الله عز وجل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] وقال: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأنسى أو أنسى لأسن» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها الحديث» وقال عز وجل: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة شكوى الرجل همه إلى الله:

في شكوى الرجل همه إلى الله قال مالك قال ذلك الرجل يدعو وهو في بيته يصلي: اللهم إني أشكو إليك ما أفقد من عقلي. قال مالك وقد قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29].
قال محمد بن رشد: الرجل المشار إليه، والله أعلم، هو الربيع بن خثيم. ومعنى قوله اللهم إني أشكو إليك ما أفقد من عقلي: اللهم إني أشكو إليك ما أغلب عليه من أمري فأقصر فيما يلزمني من طاعة ربي، ومن الفكرة فيما أمر به من الاعتبار بمخلوقاته والاستدلال بها على ما هو عليه من صفات ذاته وأفعاله. من ذلك قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: 185] وقوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وقوله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] الآية وقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] الآيات إلى قوله: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] وقوله: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] ومثل هذا كثير في القرآن أكثر من أن يحصى. ومعنى الشكوى إلى الله الرغبة إليه في التجاوز والعفو وكشف البلوى والضر. وقول مالك في تفسير قوله وقد قال الله عز وجل: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] يدل على صحة تأويلنا عليه في المعنى الذي يشتكي به إلى الله، لأن المعنى فيه يجعل لكم فصلا بين الحق والباطل حتى تعرفوا ذلك بقلوبكم وتهتدوا إليه، لأن الفرقان في كلام العرب مصدر من قولهم فرقت بين الشيء والشيء أفرق فرقا وفرقانا، وبالله التوفيق.

.مسألة رواية المغازي:

في رواية المغازي وسئل عن من روى مغازي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأشعارها، هل ترى بذلك بأسا؟ قال لا أرى به بأسا، وأتقي أن يروى باطلا، فإن الناس قد أكثروا.
قال محمد بن رشد: قد أنكر في أول رسم من سماع ابن القاسم كتاب المغازي وقال: ما أدركت الناس، يريد أهل الفقه، يكتبونها، قال ولا أرى أن تكتب ولا أحب أن أكتبها ولا أبتدع في ذلك. وإنما كره كتابها مخافة مواقعة الكذب فيها، إذ ليس في سياقها بطولها فائدة فقه من تحليل أو تحريم يعتد الناس بحفظه والتفقه فيه، كالأحاديث المروية عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الأحكام، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة خصاء البهائم:

في خصاء البهائم وسئل مالك عن خصاء البهائم الغنم والبقر فقال: ليس بحضائها بأس لطيب اللحم. قال ابن القاسم: أجاز ذلك ولم يره من المثلة المنهي عنها، لما في ذلك من صلاح اللحم. وقد تقدم ذلك في هذا السماع، وبالله التوفيق.

.مسألة اللعب بالشطرنج:

في اللعب بالشطرنج وسئل عن اللعب بالشطرنج فقال: لا خير فيه وليس بشيء، وهو من الباطل، واللعب كله من الباطل، لينبغي لذي العقل أن تنهاه اللحية والشيب والسن عن الباطل. وقد قال عمر بن الخطاب لأسلم في شيء: أما آن أن تنهاك لحيتك هذه؟ قال أسلم فمكثت زمانا طويلا وأنا أظن أن ستنهاني؟ فقلت له: لما كان عمر بن الخطاب لا يزال يقول فيكون، فقال لي نعم في رأيي.
قال محمد بن رشد: قد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم طلق بن حبيب من سماع ابن القاسم فلا وجه لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة صفة أرباب العلم:

ومن كتاب الأقضية في صفة أرباب العلم:
وسئل عن قول كعب لابن سلام في العلم: ما نفاه من صدرهم بعد أن علموه؟ فقال الطمع، فقال ما ذاك النفي وهو في قلوبهم وهم يعلمونه؟ فقال هم يعلمونه ولكن نفيه من صدوهم بسلوكهم غير سبيله وتركهم العمل به، وهو مما كان يستعاذ منه،- لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع».
قال محمد بن رشد: قد مضى بيان هذا والقول فيه في الرسم الأول من هذا السماع وفي رسم المحرم يتخذ الخرقة لفرجه من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة الانتعال قائما:

في الانتعال قائما وسئل مالك هل ترى بأسا أن ينتعل الرجل قياما؟ فقال لا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا وما جاء فيه في رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم. وإنما لم ير مالك به بأسا لأنه إنما يخاف على فاعل ذلك السقوط لقيامه على الرجل الواحدة ما دام ينتعل الثانية، لأن النهي إنما جاء فيه لهذا المعنى، والله أعلم. فإذا أمن الرجل من ذلك جاز له أن يفعله، وبالله التوفيق.