فصل: مسألة الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الشرب قائما:

في الشرب قائما قال: وقال مالك: سمعت أن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كانا يشربان قائمين، قال مالك: وما أرى بذلك بأسا، يشرب المرء كما يحب، وإن المسافر ليشرب وهو يتبع دابته.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا والكلام عليه في رسم السلف في المتاع والحيوان المضمون من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق لا شريك له.

.مسألة الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة:

في الشرب في القدح تكون فيه الحلقة من الفضة قال وسألته عن القدح تكون في أذنه الحلقة من الفضة أيشرب فيه؟ قال. ما يعجبني، وإن أحب إلي أن يترك ذلك. فقلت له: فالمرآة تكون فيها الحلقة من الفضة أينظر فيها الوجه؟ فقال ما يعجبني، وترك ذلك أحب إلي.
قال محمد بن رشد: قياس هذا قياس العلم من الحرير في الثوب، كرهه مالك وأجازه جماعة من السلف. وقد روي عن عمر ابن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه أجازه على قدر الأصبعين والثلاثة والأربعة، وقع ذلك في مختصر ما ليس في المختصر لابن شعبان. وقد مضى هذا في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من سماع ابن القاسم، وبالله التوفيق.

.مسألة الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان:

في أن الخطيئة قد تكون خيرا للإنسان قال مالك: وكان يقال إن الإنسان ليخطئ الخطيئة تكون خيرا فينيب إلى الله.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، قد يكون الخير سببا للشر، والشر سببا للخير. قال الله عز وجل: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216].

.مسألة النظر إلى شعور نساء أهل الذمة:

في النظر إلى شعور نساء أهل الذمة من اليهود والنصارى قال وسألته عن النظر إلى شعور مصر افتتحت عنوة، فقال ما يعجبني ذلك.
قال محمد بن رشد: النظر إلى شعور أهل الذمة الأحرار المصالحين أو المستأمنين لا يجوز، فقوله لا يعجبني معناه أنه لا يعجبني أن يستخف ذلك للضرورة التي ذكرت من أنة لا يوجد بد من اتخاذهن اضطرارا، فلما قال له ما ذكر من أن مصر فتحت عنوة لم يعجبه أن يستخف ذلك أيضا فيهن، إذ قد قيل إنها إنما فتحت صلحا، فهن على هذا أحرار، وإن كانت افتتحت عنوة فقد قيل في نساء أهل العنوة ورجالهم إن لهم حكم الأحرار، فكره أن يستخف ذلك فيهن، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه». وقد مضى في سماع عيسى وسحنون من كتاب التجارات إلى أرض الحرب الاختلاف في أهل العنوة هل يحكم لهم بحكم الأحرار أو بحكم العبيد، وفي رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الجهاد ذكر الاختلاف في افتتاح مصر، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء مما هو من أشراط الساعة:

فيما جاء مما هو من أشراط الساعة قال وكان يحيى بن سعيد يقول: لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق.
قال محمد بن رشد: قوله حتى يتسافدوا في الطريق، أي حتى يقرب الأمر من ذلك على عادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما قرب منه. وقد جاء ذلك في القرآن قوله عز وجل: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]؛ لأن معناه قاربن بلوغ أجلهن؛ لأن العدة إذا انقضت لم يكن للزوج أن يمسك. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن بلالا ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أم مكتوم، وكان ابن أم مكتوم لا ينادي حتى يقال له أصبحت أصبحت، أي قاربت الصباح». فالمعنى في ذلك أن الساعة لا تقوم حتى يكثر الفجور وترتفع الرقبة عن الفجار فيراودون النساء في الطرق على أعين الناس وهم يشهدون، فسمي المعنى الذي يدعو إلى السفاد سفادا لقربه من ذلك. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما روي: «أيما امرأة استعطرت ومرت بقوم ليجدوا ريحها فهي زانية» فسماها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زانية لقربها من ذلك في فعلها ذلك. فقول يحيى ابن سعيد هذا نحو ما مضى في رسم حلف أن لا يبيع سلعة سماها من قول ابن محيربز: إن من أشراط الساعة المعلومة المعروفة أن يرى الرجل يدخل البيت فلا يشك من يراه أنه يدخل لسوء إلا أن الجدار تواريه. وقد مضى الكلام على ذلك في موضعه، وبالله التوفيق.

.مسألة خصاء الغنم والإبل والبقر:

في خصاء الغنم والإبل والبقر قال: وسئل عن خصاء الغنم والإبل والبقر، قال لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: إنما جاز ذلك ولم يكن من المثلة المنهي عنها لما في ذلك من إصلاح لحومها، بخلاف المثلة بشيء من الحيوان عبثا لغير وجه صلاح ومنفعة، وبالله التوفيق.

.مسألة كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا:

في كراهة السفر في طلب شيء في الدنيا لا يشوبه شيء من أمر الآخرة قال مالك: وسمعت رجلا من أهل الفضل والصلاح يقول: ما أحب أن أسافر ليلة في طلب شيء من الدنيا لا أخلطه بغيره وإن لي مرغوبا فيه.
قال محمد بن رشد: مثل أن يسافر في طلب جاه أو حظوة عند السلطان أو ليفيد مالا وهو مستغن عنه لا ينوي أن يفعل خيرا منه. وأما من سافر في تجارة ليستعين بما يفيد فيها على ما يلزمه من النفقة على عياله ويكف بها وجهه عن السؤال، فهو مأجور على نيته في ذلك. يشهد لهذا ما جاء من قول عمر بن الخطاب بعد هذا أنه قال: لأن أموت بين شعبتي رحلي أضرب في الأرض أبتغي من فضل الله أحب إلي من أن أموت على فراشي. وسيأتي القول عليه إن شاء الله، وبالله التوفيق.

.مسألة تأدب الرجل مع من يؤاكله:

في تأدب الرجل مع من يؤاكله قال مالك: وزعم لي يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب وغيره أن عمر بن الخطاب قال: كنت بأرض الحبشة في الجاهلية، فأصابني جوع شديد، فرمي بي إلى إنسان منهم فجاءني بحديد قد عصر وجعل في رأسه ثقب فيه سمن، فجعلوا يأخذون منه مثل النواة ويدخلون طرفها في ذلك السمن ثم يبتلعونه، فخيرت نفسي بين أن آكل وأشبع فأفتضح، أو أصنع كما يصنعون، فاخترت أن أصنع كما يصنعون.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه الحكاية والقول فيها وفي معنى القران المنهي عنه في رسم نذر سنة من سماع ابن القاسم فلا معنى لإعادته، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير النسيء:

في تفسير النسيء قال: وسئل مالك عن النسيء فقال: هو صفر والمحرم، يحلونه عاما ويحرمونه عاما.
قال محمد بن رشد: قوله يحلونه عاما ويحرمونه عاما، معناه أنهم كانوا يحلون المحرم عاما ويحرمون مكانه صفرا، ثم يرجعون في العام الثاني إلى تحريم المحرم وتحليل صفر، ثم في العام الذي بعده إلى تحليل المحرم وتحريم صفر. وكانوا يسمون المحرم وصفرا الصفرين، فكانوا يحرمون الصفر الأول في عام والصفر الثاني في عام. فتأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من الأشهر الحرم سنة وسنة لا إلى صفر الذي هو من غير المحرم، هو النسيء الذي قال الله عز وجل فيه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ} [التوبة: 37]. يقول الله عز وجل إن تأخيرهم تحريم المحرم الذي هو من الأشهر الحرم سنة إلى شهر صفر زيادة في كفرهم، وإن كانوا قد واطئوا العدة بتحريمهم أربعة أشهر لم ينقصوا من عددها شيئا؟ هذا قول الكلبي. وقال الحسن: كانوا يجعلون الأشهر الحرم في عام متوالية فيحرمون ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، وصفرا، ويقولون قد أنسأنا العام رجبا فلا يحرمونه فيه، وفي عام على منزلتها يحرمون ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم، ورجبا. والأربعة الأشهر الحرم من السنة التي قال الله عز وجل فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} [التوبة: 36] منها ثلاثة متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان، كذا جاء في الأثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد جاء عنه عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو الحجة، وذو القعدة والمحرم». فعلى هذا تكون الأشهر الحرم من عامين. وقال الكوفيون: هي من سنة واحدة، وأولها المحرم. والقول بأن أولها رجب وأنها من سنتين أولى الأقوال بالصواب؛ لأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدم المدينة في ربيع الآخر، فأول شهر كان بعد قدومه المدينة من الأشهر الحرم رجب. وقد كانت العرب في الجاهلية تعظم الأشهر الحرم وتحرمهن وتحرم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم قاتل أبيه لم يهجه، وبقيت حرمتها في الإسلام في تحريم القتال وغير ذلك، بدليل قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] لأنه عظم القتال في الشهر الحرام في هذه الآية، ثم نسخ ذلك في براءة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]، وبقوله تعالى:
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 29] الآية، فأباح قتلهم وقتالهم في كل موضع وفي كل وقت من شهر حرام أو غيره، وهو قول ابن عباس وقتادة والضحاك والأوزاعي وابن المسيب، فبقيت حرمة الأشهر الحرم في تعظيم الذنب فيها، بدليل قَوْله تَعَالَى: {فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. وفي تعظيم الأجر والثواب في العمل الصالح فيها. وذهب عطاء ومجاهد إلى أن الآية محكمة، وإلى أن القتال في الأشهر الحرم لا يجوز، والجماعة على خلاف ذلك.
وقد قيل في النسيء إنه ما كان أهل الجاهلية عليه من أنهم كانوا يحجون في كل عامين شهرا، فكانت حجة أبي بكر بعد أن نزل فرض الحج قبل أن ينسخ النسيء فوقعت حجته في ذي القعدة الآخر من العامين، ثم حج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع في العام المقبل في ذي الحجة، وأنزل الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، يريد لا ينتقل عنها، فنسخ النسيء وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» فاستقر الحج في ذي الحجة إلى يوم القيامة. وبالله التوفيق.

.مسألة قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد:

في قسم الفيء وحمل الطعام من بلد إلى بلد قال مالك: وحدثني زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب: أرأيت إن حملت لهم بيضاء مضر حتى أضعها لهم بالجار أتراهم يقبلونها مني أم يكلفوني أن أحملها لهم إلى المدينة؟ فقيل له: بل يقبلونها، فقال لئن بقيت إلى رأس الحول لأحملنها لهم، فحملها. قال مالك: فكان عمر بن الخطاب أول من حملها في البحر إليهم، ثم كانت تحمل فتقسم بين الناس، فكان يؤثر بها في زمان بني أمية، فلما كان عمر بن عبد العزيز قسمها بالسواء بين الناس، فيقول القرشي أنا آخذ ومولاي سواء، فيأبى أخذها.
قال محمد بن رشد: اختلفت سيرة الخلفاء بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قسم مال الله الذي افترضه لعباده على أيدي خلفائه في الفيء وما ضارعه الذي ساوى فيه بين الأغنياء والفقراء، فساوى أبو بكر بين الناس فيه ولم يفضل أحدا بسابقه ولا قدم، فكلمه عمر بن الخطاب في ذلك فقال له: تلك فضائل عملوها لله، وثوابهم فيها على الله، وهذا المعاش الناس فيه أسوة، وإنما الدنيا بلاغ. وفاضل عمر بعد أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بين الناس، وفرض لهم الديوان على سوابقهم في الإسلام وفضلهم في أنفسهم. ثم ولي عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بعد عمر، فسار في ذلك بسيرة عمر، ثم ولي علي بالعراق بعد عثمان فأخذ بفعل أبي بكر، فساوى ولم يفضل. ثم ولي عمر بن عبد العزيز فأخذ بالأمرين جميعا: فرض العطاء ففاضل فيه بين الناس على قدر شرفهم ومنازلهم من الإسلام، وقسم على العامة على غير ديوان العطاء فساوى في ذلك بين الناس على ما جاء عنه في هذه الرواية. وهذا الاختلاف في الاجتهاد إنما هو فيما فضل من المال بعد سد الثغور، وأرزاق العمال والقضاة والمؤذنين وعطاء المقاتلة وما ينوب المسلمين ويحتاج إليه من الزيادة في الكراع والأسلحة. ولا يخرج عن قوم من فيئهم إلا ما فضل عن نوائبهم، وبالله التوفيق.

.مسألة آخر ما يبقى في الأمة:

في آخر ما يبقى في الأمة قال مالك: وزعم يحيى بن سعيد أنه سمع أن آخر ما يبقى في هذه الأمة الصلاة، وأول ما ترتفع منها الأمانة.
قال محمد بن رشد: مثل هذا لا يكون إلا عن توقيف. إذ لا مدخل للرأي فيه، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال:

فيما جاء من الكراهة في قيل وقال وكثرة السؤال قال وسألته عن قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قيل وقال وكثرة السؤال». قال أما قيل وقال فهذه الأخبار في رأي وهذه الأرجاف- أعطي فلان كذا وكذا ومنع فلان، لقول الله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، فهؤلاء يخوضون. وأما كثرة السؤال فلا أدري أهو ما أنتم فيه مما أنهاكم عنه، قد كره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المسائل وعابها وقال، قال الله عز وجل: {لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} [المائدة: 101]، فلا أدري أهو هذا أم هذا السؤال مسألة.
قال محمد بن رشد: الذي جاء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قيل وقال قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ: «إن الله يكره لكم ثلاثا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال» فقيل وقال مصدران من القول، يقال قلت قولا وقيلا وقالا، ومعناه الخوض فيما لا يعني من القول؛ لأن قول الإنسان محصي عليه. وقد جاء أن ما لا يكتبه صاحب اليمين يكتبه صاحب الشمال على ما مضى القول فيه في رسم قطع الشجرة من سماع ابن القاسم. وقد كانت عائشة ترسل إلى بعض أهلها بعد العتمة فتقول: ألا تريحون الكتاب؟ وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». وأما السؤال الذي جاء الحديث في كراهيته فهو محتمل أن يكون المراد بذلك كثرة السؤال للناس لأن ذلك مكروه مذموم، قال الله عز وجل: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273]، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير من أن يأتي رجلا أعطاه الله من فضله فيسأله أعطاه أو منعه». وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم. قلت يا رسول الله وما ظهر غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم أو ما يعشيهم؟» وأنه قال: «من سأل منكم وعنده أوقية أو عدلها فقد سأل إلحافا» وأنه قال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يسأل عبد مسألة وله ما يغنيه إلا جاءت شينا أو كدوحا أو خدوشا في وجهه يوم القيامة قيل يا رسول الله: وما غناه؟ قال: خمسون درهما أو حسابها من الذهب؟» وأنه قال: «من سأل وله عدل خمس أواق فقد سأل إلحافا.» وهذا المقدار أولى المقادير بالاستعمال في تحريم الصدقة؛ لأن الآثار لا تحمل على التعارض، وتحمل على أن بعضها ناسخ لبعض. وإذا حملت على ذلك فالأولى أن يجعل الأقل من المقادير الأربعة منسوخا بالذي يليه، والذي يليه منسوخا بالذي يليه، ليكون الأقل من المقادير الذي هو أثقل منسوخا بالأكثر الذي هو أخف تخفيفا من الله ورحمة. ويحتمل أن يكون المراد بذلك السؤال عن المشكلات التي لا يحتاج إليها ولا تعبد أحد بمعرفتها، وعما ينسخ من خفيات المسائل التي يغلب على الظن أن مثلها لا ينزل؛ لأن الاشتغال بذلك مكروه لأنه مما لا يعني. ولما كان هذا من المحتمل قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: لا أدري أهو مسألة الاستعطاء أو ما كنتم فيه مما أنهاكم عنه منذ اليوم، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء في تفسير قول الله تعالى إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم:

فيما جاء في تفسير قول الله تعالى:
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ} [الأعراف: 163] الآية قال مالك: زعم ابن رومان في قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] قال كانت تأتيهم يوم السبت، فإذا كان المساء ذهبت فلا يرى منها شيء إلى السبت الآخر، فأخذ لذلك رجل منهم خيطا ووترا فربط حوتا منها في الماء يوم السبت حتى إذا أمسوا ليلة الأحد أخذه فاشتواه، فوجد الناس ريحه فجاءوه فسألوه عن ذلك فجحدهم، فلم يزالوا به حتى قال لهم: فإنه جلد حوت وجدناه. فلما كان يوم السبت الآخر فعل مثل ذلك، ولا أدري لعله قال ربط حوتين، فلما أمسى من ليلة الأحد أخذهما فاشتواهما فوجد الناس ريحيهما، فجاءوه فسألوه فقال لهم لو شئتم صنعتم كما أصنع، فقالوا له وما صنعت؟ فأخبرهم، ففعلوا مثل ما فعل، حتى كثر ذلك. وكانت لهم مدينة لها ربض يغلقونها عليهم، فأصابهم من المسخ ما أصابهم، فعدا إليهم جيرانهم ممن كان حولهم يطلبون منهم ما يطلب الناس، فوجدوا المدينة مغلقة عليهم، فنادوا فلم يجيبوهم، فتسوروا عليهم فإذا هم قردة، فجعل القرد يدنو ممن كان يعرفه قبل ذلك فيتمسح به.
قال محمد بن رشد: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] وقال: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا} [الأعراف: 163]، أي شارعة ظاهرة، {وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163]، ابتلاء من الله عز وجل ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، أي ليعلم وقوع الطاعة منهم والمعصية، إذ قد علم أنها ستقع منهم. والقرية قيل فيها إنها أيلة مدينة بيت المقدس بساحل البحر. وكان الله عز وجل قد حرم على اليهود صيد الحوت في يوم السبت ابتلاء لهم قبل عقوبته لهم بخطيئة كانت منهم. وقيل إنهم قالوا لموسى حين أمرهم بالجمعة وأخبرهم بفضلها، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على سائر الأيام والسبت أفضل الأيام كلها؛ لأن الله تبارك وتعالى خلق السماوات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، فقال عز وجل لموسى: دعهم وما اختاروه لا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره ولا يفعلون فيه شيئا، فكانت الحيتان تأتيهم فيه شارعة ظاهرة كما قال عز وجل وتغيب عنهم في سائر الأيام فلا يصلون إليها إلا بالاصطياد والعناء. وفي تعديهم في السبت غير قول: قيل إنهم كانوا يسدون عليها المسالك يوم السبت ويأخذونها في سائر الأيام ويقولون لا نفعل الاصطياد الذي نهينا عنه يوم السبت، وإنما نفعله في غيره، وقيل إن سفهاءهم عدوا فاصطادوا فيه وملحوا وباعوا ولم تنزل بهم عقوبة، فاستشروا وقالوا إنا نرى السبت قد حل وذهبت حرمته، وإنما كان يعاقب به آباؤنا في زمن موسى، ثم استسن الأبناء بسنة الآباء وكانوا يخافون العقوبة ولو كانوا فعلوا لم يضرهم شيء، فعملوا بذلك سنين حتى أثروا منه وتزوجوا النساء واتخذوا الأموال، فوعظتهم طوائف من صالحيهم وحذروهم عقاب الله عز وجل على ذلك، فقالوا: قد عملنا ذلك سنين فما زاد الله إلا خيرا، ولئن أطعتمونا لتفعلن كما فعلنا، إنما حرم هذا على من قبلنا، فقالوا ويلكم لا تغتروا ولا تأمنوا بأس الله، وهذه معذرة إلى ربكم، إما أن تنتهوا فتكون لنا أجرا، أو تهلكوا فننجوا من معصيتكم. قال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} [الأنعام: 44] أي تركوا، {أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] وهو مسخهم قردة. قال الله عز وجل: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
قال قتادة: وبلغنا أنه دخل على ابن عباس وبين يديه المصحف وهو يبكي وقد أتى على هذه الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 165] فقال: قد علمت أن الله أهلك الذين أخذوا الحيتان ونجى الذين نهوهم، ولا أدري ما صنع بالذين لم ينهوا ولم يواقعوا المعصية.
وقال الحسن: وأي نهي يكون أشد من أنهم أثبتوا لهم الوعيد وخوفوهم العذاب فقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف: 164] بالله التوفيق.

.مسألة شرب أبوال الأنعام في الدواء:

في شرب أبوال الأنعام في الدواء قال: وسئل مالك عن شرب أبوال الأنعام في الدواء، قال: لا بأس بذلك، ولا بأس بشرب أبوال الأنعام البقر والغنم. قيل له فأبوال الأتن؟ قال لا خير فيه. قيل له فأبوال الناس؟ قال لا خير فيه. قيل له: فالشاة تحلب فتبول في اللبن؟ قال أرجو أن لا يكون به بأس.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال إنه لا بأس بشرب أبوال الأنعام في الدواء. والدليل على ذلك ما جاء في «الرهط العرينيين الذين قدموا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستوخموا المدينة فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخرجوا في لقاحه فيشربوا من أبوالها وألبانها ففعلوا حتى إذا صحوا وسمنوا قتلوا الراعي واستاقوا الذود» الحديث وقاس مالك رَحِمَهُ اللَّهُ في المشهور عنه أبوال سائر ما يؤكل لحمه في الطهارة على أبوال الأنعام ويأتي بعد هذا في رسم الأقضية من هذا السماع أنه فرق بين أبوال الأنعام وأبوال سائر ما يؤكل لحمه من الحيوان. وتأول ابن لبابة أنه إنما فرق بين ذلك في إجازة التداوي بشربها لا في نجاستها للحديث الذي جاء في إجازة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب أبوال الإبل للرهط العرينيين. والقياس إذا قيست عليها في الطهارة أن تقاس عليها في إجازة التداوي بشربها؛ لأن العلة في إجازة التداوي بشرب أبوال الأنعام طهارتها. ووجه التفرقة وقياس مالك رَحِمَهُ اللَّهُ أبوال ما لا يؤكل لحمه على أبوال بني آدم في النجاسة، فأبوال الأتن نجسة إذ لا تؤكل لحومها، فلا يجوز التداوي بشربها. وما اختلف في جواز أكله اختلف في نجاسة بوله حملا على ذلك. وذهب أبو حنيفة إلى أن الأبوال تابعة للدماء في النجاسة لا للحوم، فرأى أبوال الأنعام وغيرها نجسة فأبعد في القياس وخالف الأثر. وأما الألبان فهي تابعة للحوم في الطهارة، فما كان من الحيوان لا يؤكل لحمه سوى بني آدم المخصوصة لحومهم بالطهارة فألبانها نجسة قياسا على لبن الخنزيرة، فألبان الأتن نجسة. وقد قال يحيى بن يحيى في سماعه من كتاب الوضوء أن من أصاب ثوبه لبن حمارة فصلى به أنه يعيد في الوقت كمن صلى بثوب نجس، إلا أنه قد جوز التداوي بها مراعاة للخلاف في جواز أكل لحومها، حكى ذلك ابن حبيب عن مالك وسعيد بن المسيب والقاسم ابن محمد وعطاء. وروي إباحة التداوي بها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وإلى إجازة ذلك ذهب ابن المواز أيضا. وروى زياد عن مالك في لبن الحمارة أنه لا بأس به، فيحتمل أن يريد أنه لا إعادة على من صلى به في ثوبه أو بدنه، ويحتمل أن يريد أنه لا بأس بالتداوي به لمن احتاج إليه. وقد مضى الكلام على هذه المسألة أيضا في رسم الجنائز والصيد من سماع أشهب من كتاب الصيد والذبائح، وفي رسم شك في طوافه من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة، وفي سماع يحيى من كتاب الوضوء، وبالله التوفيق.

.مسألة قراءة القرآن بالألحان:

في قراءة القرآن بالألحان وسئل عن القراءة بالألحان، فقال ما يعجبني لأن ذلك يشبه الغناء ويضحك بالقرآن ويسمى ويقال فلان أحسن قراءة من فلان. قال مالك: ولقد بلغني أن الجواري قد علمن ذلك كما يعلمن الغناء، قال ولا أحب ذلك على حال من الأحوال في رمضان ولا في غيره، أين القراءة التي يقرأ هؤلاء من القراءة التي كان يقرؤها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال مالك: وإني لأكره التطريب في الأذان، ولقد هممت أن أكلم أمير المؤمنين في ذلك لأني كنت أسمعهم يؤذنون.
قال محمد بن رشد: كراهة مالك قراءة القرآن بالألحان بينة؛ لأن ذلك يشبه الغناء على ما قال. وقد سئل في رسم حلف من سماع ابن القاسم من كتاب الصلاة عن النفر يكونون في المسجد فيقولون لرجل حسن الصوت اقرأ علينا، يريدون حسن صوته، فكره ذلك وقال هذا يشبه الغناء، فقيل له: أفرأيت الذي قال عمر لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فقال: إن من الأحاديث أحاديث قد سمعتها وأنا أتقيها، والله ما سمعت هذا قبل هذا المجلس. وإنما اتقى مالك من حديث عمر بن الخطاب هذا وما أشبهه أن يتحدث به فيكون ذلك ذريعة إلى استجازة قراءة القرآن بالألحان تلذذا بحسن الصوت. وأما استدعاء رقة القلوب وشدة الخشوع في سماع قراءة القرآن من الحسن القراءة المحسن للتخشع في قراءته فلا مكروه في ذلك. وقد روي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ما أذن الله لشيء ما أذن للنبي يتغنى بالقرآن» أي ما استمع لشيء ما استمع لنبي يحسن صوته بالقرآن طلبا لرقة قلبه بذلك. وعلى هذا يحمل ما جاء عن عمر بن الخطاب في قوله لأبي موسى الأشعري ذكرنا ربنا أنه إنما أراد أن يسمع القرآن لحسن صوته ليخشع بذلك قلبه، وقد «قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي موسى الأشعري تغبيطا بما وهبه الله عز وجل من حسن الصوت: لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود». وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن» فقيل معناه ليس منا من لم يحرص على سماع القراءة الحسنة ويتلذذ بها لما يجد من الخشوع عندها كما يلتذ أهل الأغاني بأغانيهم؛ وقيل معناه من لم يستغن به أي من لم ير أنه أفضل حال من الغني بغناه؛ وقيل معناه من لم يحسن صوته بالقرآن استدعاء لرقة قلبه بذلك. وقد قيل لابن أبي مليكة أحد رواة الحديث: فمن لم يكن له حلق حسن؟ قال يحسنه ما استطاع. وقد مضى في رسم حلف من سماع ابن القاسم من هذا الكتاب ومن كتاب الصلاة زيادات في هذا المعنى، وبالله التوفيق.