فصل: مسألة المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد الحد كلما أخذ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة منبوذ افتري عليه فقيل له يا ابن الزانية:

وسئل مالك عن منبوذ افتري عليه فقيل له: يا ابن الزانية، فقال: أرى أن يعزر بإذايته إياه ولا حد على من افترى عليه.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير الحد على من قال لمنبوذ يا ابن الزانية من أجل أن أمه لا تعرف، ولا حد على من قذف مجهولا لا يعرف، وكذلك لو قال له: يا ابن الزاني لم يحد، إذ لا يعرف أبوه، وكذلك قال ابن حبيب في الواضحة: لا حد على من قذف منبوذا بأمه أو بأبيه، وهو معنى قوله في هذه الرواية ولا حد على من افترى عليه، وأما لو قال له: يا ولد زنا، لوجب عليه الحد؛ لاحتمال أن يكون لرشده، وان كان قد نبذ، وأما اللقيط والمجهول فيحد من قذفه بأبيه أو بأمه، قاله ابن حبيب في الواضحة، وبالله التوفيق.

.مسألة ينتهر بالمرأة في الشعر:

من سماع أشهب وابن نافع من مالك وسئل عن الذي ينتهر بالمرأة في الشعر فيوقف على ذلك، فيقول: قول قلته ليس له عندي أصل أيحد؟ قال: ما رأيت أحدا حد في مثل هذا، ولم يزل الشعراء يقولون، فما رأيت أحدا حد في مثل هذا إلا أن يكون الشيء البين جدا.
قال محمد بن رشد: رأيت لأبي بكر بن محمد أنه قال: المعروف من قول أصحابنا أنه يعتبر شعره، فإن كان فيه تعريض القذف حد، فكأنه تأول عن مالك أنه لا يحد الشاعر إذا عرض في شعره بقذف المرأة، وليس ذلك بتأويل صحيح؛ لأنه قد نص على أنه يحد إذا كان الشيء البين جدا، وإنما شرط ألا يحد حتى يكون الشيء البين جدا؛ لأن للشعراء في أشعارهم استعارات لطيفة ومجازات بعيدة، فلا يتأول عليهم في شيء منها القصد إلى الحقيقة إلا أن يكون ذلك أمرا بينا، فليس قوله بخلاف لأصله في إيجاب الحد في التعريض بالقذف؛ لأنه لا يرى ذلك إلا في التعريض البين الذي يرى في أنه أراد بذلك القذف، لا في الكلام المحتمل، ألا ترى أنه لم ير العمل على فعل مروان في جلده الحد لقائل: إن أمك لتحب الظلم؛ لاحتمال الكلام غير القذف حسبما مضى من قولنا في رسم طلق، فكذلك إذا كان كلام الشاعر في شعره محتملا أن يكون أراد به القذف وألا يكون أراد به القذف لم يحد.

.مسألة قال لعربي يا مولى أو يا عبد:

وسئل عن رجل قتل أخوه فجاء أخو القاتل وهو عربي يكلمه في ذلك وهو مغضب فقال له: تنح عني أيها العبد وهو ابن لسوداء أو سندية، ثم قال لم أرد نفيه، وإنما أردت سواده ولونه أترى عليه حدا؟ فقال إني لأرجو ألا يكون ذلك عليه إن شاء الله، قيل له: أترى عليه اليمين ما أراد نفيه؟ قال: ذلك أدنى ما عليه إن لم يكن عليه غير ذلك هو أدنى ما عليه.
قال محمد بن رشد: هذا خلاف قوله في المدونة: إنه من قال لعربي: يا مولى أو يا عبد، أنه يحد، بخلاف إذا قال لمولى: يا عبد، وإنما فرق في المدونة بين أن يقول ذلك للعربي أو للمولى؛ لأن العبيد والموالي من العجم، فإذا قال للعربي يا مولى أو يا عبد فقد قطع نسبه؛ لأن ذلك بمنزلة أن يقول له يا عجمي، فما في المدونة أظهر من هذه الرواية، ويحتمل أن يفرق بين المسألتين بما ذكره في المسألة من سواد المقول له: تنح عني أيها العبد هو ابن سوداء أو سندية، لاحتمال أن يكون القائل أراد بقوله ذلك له أنه ابن أمة سوداء من عربي بنكاح، فلم ينفه بذلك عن نسبه من العرب، واستظهر عليه في ذلك باليمين، وبالله التوفيق.

.مسألة عفو المقذوف عن القاذف:

وسئل عن رجل نازع رجلا قد كانت أمه أمة فأعتقت وهو لا يعلم فنازعه بعد عتقها فقال له: أخزاك الله وأخزى زانية ولدتك، ولم يكن علم بعتق أمه، فقال: ما أراه إلا وقد فرغ ووجب عليه الحد، قيل له: إنها كلمته، فقيل لها: لم يعلم أنك عتقت حين ذهبت. لتطلب ذلك منه، فقالت: اشهدوا أنه إن حلف في المسجد أنه لم يعلم فقد عفوت عنه، فلما ذهب ليحلف رجعت عن ذلك فأرادت إتباعه بالحد، قال أرى ذلك لها، وأرى أن يحد، قيل له: إنها قد أشهدت أنها قد عفت إن حلف أنه لم يعلم أنها حرة ثم أفسدت فقال: إني لا أرى عفوها في مثل هذا جائزا، قيل له: أرأيت إن تمت على العفو؟ فقال: لا أرى لها في ذلك عفوا وأرى أن يحد ولا يجاز عفوها لأن في ذلك إسقاط شهادته ليس حدها بالحد فليس قبول شهادته وردها بيد هذه المرأة، فلا أرى عفوها جائزا وأرى أن يحد إلا أن تكون امرأة تريد سترا أو يخاف إن كتبت أن يثبت ذلك عليها، فأرى عفوها في مثل هذا جائزا وإلا فإن عليه الحد؛ لأن في ذلك شهادته، فلا أرى أن تقبل شهادته، ولو جاز العفو في مثل هذا لعمد الرجل الموسر الكثير المال فافترى على الرجل المعسر فأعطاه مائة دينار أو مائتي درهم وأبرأه من ذلك الحد، فلا أرى ذلك جائزا عليه وأرى عليه الحد وفي رواية ابن القاسم عن مالك العفو جائز.
قال محمد بن رشد: قوله في الذي قذف المرأة بالزنا وهو يظنها أمة وقد كانت أعتقت وهو لا يعلم بعتقها: إن عليه الحد لها، ولا يعذر بجهله بعتقها صحيح لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن الحقوق الواجبة لها بالعتق من الحد والقصاص والميراث وسائر أحكام الحرية لا تسقط بالجهل بها، لو قتلها أحد لقتل بها وإن لم يعلم بحريتها، وكذلك لو شهد بشهادة فردها القاضي إذ لم يعلم بحريته ثم علم بها لأجازها، وإنما اختلف إذا شهد بها عند غيره بعد أن ردها الأول بجهله بحريته، فقيل إنها تقبل منه، وقيل إنها لا تقبل منه؛ لأنها قد ردت، والأصح أن تقبل منه لأن الغيب قد كشف أن ردها أولا لم يكن صحيحا.
وظاهر رواية أشهب هذه أن عفو المقذوف عن القاذف لا يجوز وإن كان عفوه قبل أن يبلغ الإمام، خلاف رواية ابن القاسم عنه، فهي تدل على أن القذف يتعلق به حق الله تعالى، وهو مذهب أبي حنيفة، ويأتي على قياسها أن الإمام يقيم حد القذف على القاذف بقيام من قام به من الناس، وهو ظاهر قوله في المدونة في الذي يقذف الرجل عند الإمام وهو غائب أنه يقيم عليه الحد إذا كان معه شهود؛ لأن ظاهر قوله أنه يقيم الحد عليه وإن كان المقذوف غائبا، مثل ما حكى ابن حبيب في الواضحة عن ابن القاسم وغيره، خلاف ما تأول محمد بن المواز من أن معنى ذلك إذا جاء المقذوف وقام بحقه، وقد قيل: إنه لا يتعلق بالقذف حق لله تعالى فللمقذوف على هذا القول أن يعفو عن القاذف، وإن انتهى الأمر إلى الإمام أراد سترا أو لم يرده، وهو أحد قولي مالك في المدونة، وقد قيل: إنه لا يتعلق به حق لله تعالى حتى ينتهي إلى الإمام إلا أن يريد سترا، وهو أحد قولي مالك في المدونة ومذهب الشافعي، فهي ثلاثة أقوال في المسألة، ولا اختلاف في أن القذف حق للمقذوف، وإنما اختلف هل يتعلق فيه حق لله تعالى أم لا؟ على الثلاثة الأقوال التي ذكرناها، وقد قال عبد الوهاب في المعونة: اختلف عن مالك في حد القذف هل هو من حقوق الله تعالى، أو من حقوق الآدميين، وفائدة ذلك أنه إن كان من حقوق الله فلا يجوز العفو عنه بعد بلوغه إلى الإمام، وإن كان من حقوق الآدميين جاز العفو عنه، والصحيح أنه من حقوق الآدميين بدليل أنه يورث عن المقذوف وحقوق الله تعالى لا تورث، ولأنه لا يستحق إلا بمطالبة الآدمي، والله اعلم، هذا نص قوله في المعونة، وفيه نظر فالصحيح ما ذكرناه.

.مسألة المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد الحد كلما أخذ:

ومن كتاب الحدود والأشربة:
وسألته عن المدمن على الخمر الذي قد خلع أيجلد الحد كلما أخذ؟ قال: نعم رأيي أرى أن لو ألزم السجن إذا كان مدمنا خليعا، وقد سجن عامر بن عبد الله بن الزبير ابنا له حتى جمع كتاب الله فيه، فأتى فقيل له: قد جمع كتاب الله فخله، فقال ما من موضع خير له من موضع جمع فيه كتاب الله فأبى أن يخليه فأرى ذلك عليه.
قال محمد بن رشد: قوله في المدمن على الخمر إنه يجلد الحد كلما أخذ، هو أمر متفق عليه في المذهب، وعليه جماعة فقهاء الأمصار، وما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية معاوية بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي أنه يقتل في الرابعة وقول عبد الله بن عمرو بن العاص ايتوني برجل أقيم عليه الحد ثلاث مرات فإن لم أقتله فأنا كذاب، «وما روى عن أبي سليمان مولى أم سلمة أن أبا الرمدا البلوي أخبره أن رجلا منهم شرب الخمر فأتوا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضربه، ثم شرب الثانية، فأتوا به فضربه، فما أدري قال في الثالثة أوفي الرابعة فأمر به فجعل على العجل ثم ضربت عنقه» تعلق به من شذ من أهل العلم، والذي عليه جماعة العلماء أن ذلك منسوخ، بدليل ما روي عن جابر بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من شرب الخمر فاجلدوه، ثم إن عاد فاجلدوه، فأمر في الرابعة بالجلد أيضا ولم يأمر بالقتل» وقد روي عن محمد المنكدر أنه حدث أنه بلغه «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في شارب الخمر: إن شرب فاجلدوه، ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاقتلوه، فأتي ثلاث مرات برجل قد شرب الخمر فجلدوه ثم أتي به في الرابعة فجلدوه، ووضع القتل عن الناس» وقد دل على نسخه أيضا قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث أن يكفر بعد إيمان، أو يزني بعد إحصان أو يقتل نفسا بغير نفس» أو كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد روي هذا الحديث عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بألفاظ مختلفة ومعان متفقة، واستحسان مالك للخليع المدمن على شرب الخمر أن يلتزم السجن كما فعل عامر بن عبد الله بابنه الماجن نظر صحيح؛ لأنه إذا كان لا يكف عن شرب الخمر ولا يقلع عنه بالحد كلما أخذ فإلزامه السجن أحوط لدينه وأبقى على جسمه، وبالله التوفيق.

.مسألة يخلط الزبيب والتمر للخل:

ومن كتاب الحدود:
وسئل عن الذي يخلط الزبيب والتمر للخل، فقال: ما سمعت أنه يكره إلا في الشراب الذي يشرب.
قال محمد بن رشد: قد كره ذلك مالك في مختصر ابن عبد الحكم، والأظهر ألا كراهية في ذلك على ما قاله في هذه الرواية لأن النهي عن الخليطين وعن انتباذ الشيئين معا إنما جاء في الشراب الذي يشرب، والنهي في ذلك إنما هو من أجل أن الشدة والإسكار تسرع إليهما إذا جمعا معا حسبما مضى القول فيه في رسم البز، من سماع ابن القاسم، وهذه العلة معدومة في الخل فوجب ألا يكون في ذلك كراهية، وقد قيل إن النهي في ذلك إنما هو عبادة لا لعلة وهو قول مالك في موطئه؛ لأنه قال فيه: وهو الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا أنه يكره ذلك لنهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنه، فعلى هذا يكره ذلك في الخل وغيره؛ لأن النهي إذا كان عبادة لا لعلة وجب أن يحمل على عمومه في الخل وغيره مما يشرب أو يتداوى به أو يمتشط به على ما قاله في رسم الأشربة والحدود بعد هذا في النضوح تعمله المرأة من التمر والزبيب لتمتشط به حسبما يأتي القول فيه إن شاء الله.

.مسألة النبيذ يجعل فيه الدردي دردي النبيذ ليشتد:

وسئل عن النبيذ يجعل فيه الدردي دردي النبيذ ليشتد، فقال: لا بأس به إلا أن يكون مسكرا، قيل له: إنما هو تفل نبيذ، فقال ذلك النبيذ كان مسكرا، فإذا كان ذلك النبيذ مسكرا فهذا حرام، فروجع فيه وقيل له إن ناسا لا يرون به بأسا، فقال هذا حرام.
قال محمد بن رشد: لا اختلاف في المذهب في أن دردي النبيذ المسكر لا يحل أن يجعل في نبيذ ليشتد به؛ لأن النبيذ المسكر بمنزلة الخمر في تحريم قليله وكثيره، فدرديه بمنزلته، وإنما يجوز ذلك على مذهب أهل العراق والذين يرون ما دون السكر من النبيذ المسكر حلالا، وأما دردي النبيذ الذي لا يسكر فجائز أن يجعل في نبيذ غيره ليشتد به إذا كان أصلهما واحدا، وأما إن كان النبيذ من تمر فلا يجوز أن يجعل فيه دردي نبيذ زبيب أو ما أشبه ذلك للنهي الذي جاء في الخليطين، وبالله التوفيق.

.مسألة الحدود في الحرم:

من كتاب العقول وسئل مالك أتقام الحدود في الحرم؟ قال: نعم وتقتل النفس بالنفس في الحرم.
قال محمد بن رشد: قد مضت هذه المسألة متكررة في هذا الرسم من هذا إلى السماع من كتاب الديات، ومضى مثله في سماع أبي زيد أنه يقتص منه في القتل في الحرم، ولا اختلاف في هذا بين أحد من فقهاء الأمصار أحفظه، وإنما يؤثر فيه خلاف عن جماعة من السلف لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران: 97] وقد مضى الكلام على هذا في الموضعين من كتاب الديات.

.مسألة افترى على الرجل فأعطاه مائة دينارفأعفاه من الحد:

ومن كتاب الأشربة والحدود:
وقال في الكثير المال إذا افترى على الرجل فأعطاه مائة دينار أو مائتي دينار فأعفاه من الحد: ما أرى ذلك جائزا وأرى عليه الحد.
قال محمد بن رشد: قد تقدم هذا من قوله في أول رسم من السماع ومضى الكلام عليه مستوفى فلا معنى لإعادته.

.مسألة تعمل من التمر والزبيب نضوحا تمتشط به:

وسئل عن المرأة تعمل من التمر والزبيب نضوحا تمتشط به، قال: أرجو ألا يكون به بأس، قيل له: ربما اشتكى الرجل فيشتريه من أجل شكوة فقال: لا خير فيه إذا أرادوا أن يتداووا بما أحل الله، يريد أن يقارب الله ولا أرى بأسا أن تمشط به المرأة، وسئل عن المرأة تجعل في رأسها من نبيذ التمر والزبيب جميعا، فقال: سمعت أنهما لا يخلطان، فلا أرى أن تجعل في رأسها منه شيئا، لقد قام عليها رأسها بالغلاء.
قال محمد بن رشد: في كتاب الأشربة من مختصر ابن عبد الحكم أن النضوح من الخليطين لرأس المرأة مكروه، وفيه أيضا إجازته على ترخيص، والقولان قائمان من هذه الرواية إذا اعتبر الكلام فيها؛ لأنه قال في أولها لا بأس بذلك، وقال في آخرها: فلا أرى أن تجعل في رأسها منه شيئا، فمن جعل النهي عبادة لغير علة وحمل الحديث على عمومه لم يجز ذلك، ومن لم يحمله على عمومه وقال: إن المراد بذلك الشراب الذي يشرب، وعلل النهي بإسراع الشدة والإسكار إلى الشراب بخلطهما أو بخلط أصولهما في الانتباذ أجاز ذلك، وقد مضى بيان هذا وذكره في رسم كتاب الحدود قبل هذا في رسم مسألة الزبيب والتمر يخلطان للخل، ولم يتكلم في الرواية على كراهة امتشاط المرأة بالطعام من أجل حرمته وما في ذلك من السرف والتشبه بفعل الأعاجم لأنه سكت عن ذلك للعلم به، إذ لا اختلاف في كراهته، وقد نص على ذلك في رسم البز من سماع ابن القاسم من كتاب الوضوء وفي رسم النذور والجنائز من سماع أشهب منه، ويحتمل أن يكون ما يظهر من التعارض والاختلاف في هذه الرواية يرجع إلى هذا المعنى فيكون الوجه فيها أنه أجاز ذلك في أول الرواية ولم يره داخلا في النهي عن الخليطين، وكرهه في آخرها وإن لم يكن داخلا في النهي عن الخليطين من ناحية حرمة الطعام والشراب، وبالله التوفيق.

.مسألة للشاهد أن يشهد بما علم:

وقال مالك: بلغني أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قاء خمرا فقال لأبي هريرة: اشهد أنه قاءها، فقال: ما هذا التعمق؟
قال محمد بن رشد: زاد في رسم الحدود من سماع أصبغ بعد هذا تجوز الشهادة بذلك فلا وربك ما قاءها حتى شربها، وهذا الحديث فيه وجهان من الفقه، أحدهما أن الحاكم لا يقضي بعلمه، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في موضعه، وهو رسم الجواب من سماع عيسى من كتاب الأقضية، والوجه الثاني أنه يجوز للشاهد أن يشهد بما علم من جهة النظر والاستدلال، كما يجوز له أن يشهد بما علمه ضرورة بالعين، لقول عمر بن الخطاب لأبي هريرة: اشهد أنه شربها وهو لم يعاين شربه إياها، وإنما عاين أنه قاءها ولكن يعلم بالنظر والاستدلال أنه لم يقئها حتى شربها، وقد أشبعنا الكلام على هذا في الشهادات من كتاب المقدمات وإنما توقف أبو هريرة عن الشهادة أنه شربها لاحتمال أن يكون لم يشربها باختياره، وإنما أكره عليها فصبت في حلقه ولم ير عمر الشهادة تبطل بهذا الاحتمال؛ لأن أمره يحمل على أنه شربها باختياره إذ لم يدع أنه أكره على شربها وإنما أنكر أن يكون شربها، ولهذا قال له: ما هذا التعمق؟.

.مسألة الزكوة للخمر تغسل فيجعل فيها الخل:

وسئل عن الزكوة للخمر تغسل فيجعل فيها الخل، فقال أما الزكوة فلا أرى ذلك لأنها قد تشربت، فلا أرى ذلك ولو غسلت، ولو كان بعض هذه الجرار فغسلها لم أر به بأسا وأخاف ألا يخرج ريحها من الزكوة ليشقها ولا يجعله فيها.
قال محمد بن رشد: الفرق بين الجرار والزقاق على ما قاله، فلا إشكال فيه ولا موضع للقول، وبالله التوفيق.

.مسألة أيحرق بيت الرجل الذي يوجد فيه الخمر يبيعها:

وسئل مالك أيحرق بيت الرجل الذي يوجد فيه الخمر يبيعها؟ فقال: لا.
قال محمد بن رشد: إنما وقع السؤال عن هذا لما جاء من أن عمر بن الخطاب أحرق بيت رجل من ثقيف يقال له رويشد الثقفي كان يبيع الخمر ووجد في بيته خمرا فقال له أنت فويسق ولست رويشدا، فقوله في الرواية إنه لا يحرق بيته هو المعلوم من مذهبه لأنه لا يرى العقوبة في الأموال، إنما يراها في الأبدان، وقد قال في سماع أشهب من كتاب السلطان: وأرى أن يضرب من انتهب ومن أنهب، وقد حكى ابن لبابة عن يحيى بن يحيى أنه قال: أرى أن يحرق بيت الخمار، واحتج بحديث عمر بن الخطاب في حرقه بيت رويشد الثقفي لبيعه الخمر فيه، وقد حكى يحيى بن يحيى عن بعض أصحابه أن مالكا كان يستحب حرق بيت المسلم الذي يبيع الخمر، قيل له: فالنصراني يبيع الخمر من المسلمين، قال: إذا تقدم إليه فلم ينته فأرى أن يحرق عليه بالنار، واحتج بفعل عمر بن الخطاب وهي رواية شهادة في المذهب لأن العقوبات في الأموال أمر كان في أول الإسلام، من ذلك «ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في مانع الزكاة إنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» «وما روي عنه في حريسة الجبل أن فيها غرم مثليها وجلدات نكال» «وما روي عنه من أنه من أخذ من يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن أخذه سلبه» ومن مثل هذا كثير ثم نسخ ذلك كله بالإجماع على أن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، وبالله التوفيق.

.مسألة المجلود في الخمر والفرية أترى أن يحلقوا:

وسئل مالك عن المجلود في الخمر والفرية أترى أن يحلقوا؟ قال: لا، وأنا أكرهه قيل له: ربما كان الرجل الماجن الخبيث يراد أن يكسر بذلك ويزجر؟ قال: ينبغي أن يتبع الذين مضوا بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] ولم أسمع أحدا منهم رأى أن يحلقوا، وإنما هذه عقوبات وعذاب أحدثها الحجاج، ومثله، قيل له: أترى أن يطاف بهم وبشراب الخمر؟ قال إذا كان فاسقا مدمنا فأرى أن يطاف بهم وتعلن أمورهم ويفضحون.
قال محمد بن رشد: هذه مسألة بينة لا إشكال في صحة مذهب مالك فيها؛ لأن الذي أنكره من حلق الشعر في العقوبة على من بلغه عنه أنه الحجاج وشبهه قد أنكره ابن عباس على من بلغه عنه ذلك من أهل وقته، فروي عنه أنه كان يقول: إن الله جعل حلق الشعر نسكا وتجعلونه أنتم عقوبة، وإنما كان يقول ذلك والله تعالى أعلم لما وقع في مصنف عبد الرزاق عن ابن عمر قال: شرب أخي عبد الرحمن بن عمر وأبو سروعة عقبة بن الحرث وهما بمصر في خلافة عمر فسكرا فلما صحا انطلقا إلى عمرو بن العاص وهو أمير مصر فقالا: طهرنا، فإنا قد سكرنا من شراب شربناه، قال عبد الله فذكر لي أخي أنه سكر، فقلت ادخل الدار أطهرك، قال: ولم أعلم أنهما أتيا عمرا فأخبرني أنه قد أخبر الأمير، فقال لا تحلق اليوم على رؤوس الناس، ادخل الدار أحلقك، فدخل الدار قال عبد الله: فحلقت لأخي بيدي، ثم جلدهما عمرو فسمع بذلك عمر فكتب إلى عمرو وأن أبعث إلي بعبد الرحمن على قتبه ففعل ذلك عمرو وذكر باقي الحديث، وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: «من مثل بالشعر فليس له خلاق عند الله يوم القيامة» فقيل إن مثلة الشعر حلقه في الخدود، ويروى عن طاوس أنه قال جعله الله طهرة فجعله الناس نكالا وقيل إن مثلة الشعر نتفه أو تغييره بالسواد، وبالله التوفيق.

.مسألة يقول للرجل يا ابن الأسود وأبوه أبيض:

وسألته عن الذي يقول للرجل يا ابن الأسود وأبوه أبيض، قال: هذا شديد، فأما الذي يقول لابن النبطي يا ابن القبطي- ولابن الأسود يا ابن النوبي فإن هذا أيسر، والأسود والنوبي غريب، وإنما الشديد أن يقول يا ابن الأسود وهو ابن أبيض، قلت: أرأيت إن قال له يا ابن الأبيض وهو ابن الأسود فقال ما أقول في هذا شيئا، ولكن إنما قلت ذلك في الذي يقول لابن الأبيض يا ابن الأسود.
قال محمد بن رشد: قال في الذي يقول للرجل وهو ابن ابيض يا ابن الأسود إنه شديد، ولم ينص على إيجاب الحد فيه، وفي ذلك اختلاف، قيل إن عليه الحد، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة وغيرها؛ لأنه حمل قوله على أنه نسبه إلى غير أبيه فرآه قذفا بينا، وقيل لا حد عليه، وهو مذهب أشهب لأنه حمل قوله على أنه وصف أباه بغير صفته كما لو قال له: يا ابن فلان الأسود، وسمى أباه باسمه وهو أبيض، وكذلك لو قال يا ابن الأقطع أو يا ابن الأعرج أو يا ابن اليهودي أو يا ابن النصراني يجري على هذا الاختلاف كان المقول له عربيا أو أعجميا أو مولى الحكم في ذلك كله سواء، وأما إن قال له: يا ابن الحجام أو يا ابن الخياط أو ما أشبه ذلك من الصنائع والأعمال، ففي ذلك أقوال أحدها: أنه يحد كان من الموالي أو من العرب وهو مذهب ابن وهب، والثاني أنه لا يحد كان من الموالي أيضا أو من العرب، وهو مذهب أشهب على أصله في أنه وصف أباه بغير صفته، والثالث أنه يحد إن كان من العرب ولا يحد إن كان من الموالي لأنها أعمال الموالي ويحلف ما أراد بذلك قطع نسبه، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك في المدونة، وقال في الذي يقول لابن النبطي يا ابن القبطي إنه أيسر ولم ينص على سقوط الحد في ذلك، وقد نص على ذلك في المدونة وغيرها لأن الأجناس كلها ما عدا العرب من البربر والفرس والنبط والقبط وما أشبههم لا يحفظون أنسابهم كما تحفظ العرب أنسابها فلا حد على من نسب أحدا منهم إلى غير جنسه من البيض كلهم باتفاق، وكذلك لا حد فيمن نسب أحدا من جنس من أجناس السود إلى غيره كالحبش والنوبة وما أشبههم باتفاق، واختلف إن نسب أحدا من جنس من أجناس البيض إلى جنس من أجناس السود أو نسب أحد من جنس من أجناس السود إلى جنس من أجناس البيض على ثلاثة أقوال، أحدها أنه لا حد في شيء من ذلك كله، وهو مذهب ابن القاسم في المدونة، والثاني أن عليه الحد في ذلك كله إلا أن يكون المقول له أسود أو ابن اسود، وإن كان من جنس البيض فيقول له يا ابن النوبي ويا ابن الحبشي، وهو مذهب ابن الماجشون في الواضحة، والثالث أنه إن قال لبربري أو فارسي أو قبطي أو نبطي يا حبشي أو يا نوبي فعليه الحد إلا أن يكون أسود أو في آبائه أسود، وإن قال لحبشي أو نوبي: يا بربري أو فارسي أو يا قبطي أو يا نبطي فلا حد عليه، وهذا يأتي على أحد قولي مالك في المدونة في وجوب الحد على الذي يقول لبربري أو لرومي يا حبشي: إن عليه الحد، ويقوم من تفرقته في هذه الرواية بين أن يقول لابن الأسود يا ابن الأبيض وبين أن يقول لابن الأبيض يا ابن الأسود.
ووجه هذه التفرقة أنه قد يقال للأسود أبيض على سبيل التفاؤل كما سمي اللديغ سليما ويسمى الأعمى أبو بصير، وقال في الرواية في الذي يقول لابن الأسود يا ابن النوبي، إنه أيسر يريد أنه لا حد في ذلك، وسواء على مذهبه كان المقول له ذلك من العرب أو من جنس من أجناس العجم، وأما العرب فإنها تحفظ أنسابها، فمن نسب أحدا من العرب إلى غير العرب أو نسب أحدا منهم إلى غير قبيلته فعليه الحد قولا واحدا، وقريش من العرب والعرب ليسوا من قريش، فمن قال لقريشي يا عربي لم يحد، ومن قال لعربي يا قريشي حد، وكذلك كل قبيلتين من العرب يجمعها أب واحد، يحد من نسب أحدا من القبيلة الأعلى إلى القبيلة الأدنى، ولا يحد من نسب أحدا من القبيلة الأدنى إلى القبيلة الأعلى، فهذا تحصيل القول في هذه المسألة وتلخيصه.

.مسألة يقول السلطان له لك الأمان وأخبرني:

وسئل مالك أيكره للسلطان أن يأخذ الناس بالتهمة فيخلو ببعضهم فيقول: لك الأمان وأخبرني، فيخبره؟ فقال: إني والله إني لأكره ذلك أن يقوله لهم ويغرمهم وهو وجه الخديعة.
قال محمد بن رشد: وجه الكراهية في ذلك بين؛ لأنه إذا قال له لك الأمان وأخبرني فقد حصل مكرها له على الإخبار فلعله يخبر بالباطل لينجو من عقابه، فإن فعل ذلك الإمام كان فيما أخبره به وأقر به على نفسه كمن أقر تحت الوعيد والتهديد لم يلزمه إقراره، إلا أن يقر لأحد بشيء يعينه، وقد اختلف هل يقطع إذا أقر وعيّن السرقة تحت الوعيد والتهديد حسبما مضى القول فيه في رسم السرقة من سماع أشهب من كتاب السرقة، وستأتي المسألة أيضا في رسم إن خرجت من سماع عيسى من هذا الكتاب.

.مسألة الرجل يقال له يا كلب:

وسئل عن الرجل يقال له يا كلب، قال ذلك يختلف، إن قال ذلك لذي الفضل والهيئة والشرف في الإسلام أو الرجل الدين لأنه ينبغي أن يوقر ذو الفضل في الإسلام وذلك يختلف عندي في عقوبته إذا قاله للدين، قيل له: أفتروا إذا قاله لذي الهيئة أن يختلف منه ومن غيره فقال لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه، وإن كان غير ذي هيئة جلدوه وما أدري هذا؟ وما أحب أن أحد الناس في مثل هذا.
قال محمد بن رشد في بعض الكتب: أفترى إذا قاله لذي الهيئة أن يختلف منه ومن غيره كما في داخل الكتاب، وفي بعضها: أفترى إذا قاله ذو الهيئة أن يختلف منه ومن غيره، وهو الصحيح في المعنى الذي يدل عليه قوله: لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه، وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه، وإنما توقف مالك، والله أعلم عن الفرق بين ذي الهيئة وغيره، فقال: لا أدري ما هذا مع ما جاء عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من قوله: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم» لوجهين، أحدهما أن المراد في الحديث لذوي الهيئات أهل المروءة والصلاح على ما روى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من قوله: «تجافوا عن عقوبة ذوي المروة والصلاح» فخشي أن يحمل ذلك على عمومه في أهل الصلاح وغيرهم، والثاني أن التجافي عن ذوي المروءة والصلاح إنما يكون إلى الإمام فيما لا يتعلق به حق لمخلوق، ولم يبلغ أن يكون حدا لأنه إذا بلغ أن يكون حدا فقد خرج به فاعله عن أن يكون من أهل الصلاح إلى أن يكون من أهل الفسق، ومن أهل العلم من رأى أن التجافي فيها كان من ولات ذوي الهيئات إلى الإمام في حقوق الله تعالى وحقوق الناس ولم ير ذلك مالك، ولذلك قال: لا أدري ما هذا إذا كان ذا هيئة خلوه وإذا كان غير ذي هيئة جلدوه؛ لأن التجافي عن السب إنما هو إلى المسبوب لا إلى الإمام، فقول الرجل للرجل يا كلب يفترق فيه ذو الهيئة من غيره في القائل والمقول له، فأما إذا كانا جميعا من ذوي الهيئة عوقب القائل عقوبة خفيفة بها، ولا يبلغ به السجن، وإذا كانا جميعا من غير ذي الهيئة عوقب القائل أشد من عقوبة الأول يبلغ به فيها السجن، وإذا كان القائل من ذوي الهيئة والمقول له من غير ذوي الهيئة عوقب بالتوبيخ ولا يبلغ به الإهانة ولا السجن، وإذا كان القائل من غير ذوي الهيئة والمقول له من ذوي الهيئة عوقب بالضرب، فهذا وجه الحكم في هذه المسألة، وبالله التوفيق.