فصل: مسألة حديث والمروة منحر وكل فجاج مكة منحر وطرقها منحر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة كان المقام ملتصقا بالبيت:

قال مالك: كان المقام ملتصقا بالبيت، فأخره عمر بن الخطاب إلى موضعه، وهو حد علم الحرم ومعالمه، قال مالك: لما وقف إبراهيم على المقام، فأوحى الله إلى الجبال أن تأخري عنه، فتأخرت حتى أراه موضع المناسك، وهو قول إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فأرنا مناسكنا.
قال محمد بن رشد: وقعت هاتان الحكايتان في المدونة، ومعناها بيِّن لا يفتقر إلى كلام، وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا خير إلا خيره، وهو حسبي ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
تم كتاب الحج الأول بحمد الله تعالى وحسن عونه وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

.كتاب الحج الثاني:

.الطواف بالبيت وعلى المرء ثوب غير طاهر:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه كتاب الحج الثاني من سماع أشهب وابن نافع من مالك من كتاب الحج. قال سحنون: أخبرني أشهب وابن نافع قالا: سئل مالك رحمة الله على جميعهم عن الطواف بالبيت وعلى المرء ثوب غير طاهر، قال: لا، وكرهه.
قال محمد بن رشد: حكم الطواف بالبيت حكم الصلاة في أنه لا تكون إلا على طهارة، فكذلك يكون حكمه حكمها في طهارة الثوب والبدن من النجاسة، فإن طاف بثوب نجس وهو لا يعلم به، ثم علم بعد إكمال الطواف قبل الركعتين فصلى الركعتين بثوب طاهر فلا إعادة عليه، فإن لم يعلم حتى صلى الركعتين أعادهما بالقرب ما لم ينتقض وضوؤه ولم يعد الطواف، روي ذلك عن ابن القاسم، وقال أصبغ: لا يعيد الركعتين؛ لأن السلام منهما خروج وقتهما، والقياس أنه إن علم في أثناء الطواف وبعد أن أكمله قبل أن يصلي الركعتين استأنف الطواف من أوله، كالصلاة إذا علم بنجاسة الثوب في الصلاة قطع وابتدأ، وإن لم يعلم به حتى أكمل الركعتين لم يكن عليه أن يعيد، كمن صلى بثوب نجس فلم يعلم به حتى خرج الوقت؛ لأن الطواف ليس له وقت محدود، فالسلام من الركعتين خروج وقته، كمن صلى صلاة فاتته بثوب نجس فلم يعلم به حتى خرج الوقت سلم منها أنه لا إعادة عليه؛ لأن السلام منها خروج وقتها. وقال أشهب: إن علم به في طوافه ابتدأه، وإن لم يعلم به إلا بعد إكمال طوافه أعاد الطواف والسعي إن كان قريبا، وليس بقياس، وإن كان متعمدا أعاد وإن كان بعيدا، على القول بأن من صلى بثوب نجس عامدا أعاد أبدا، وعلى ما في هذه الرواية من أنه كره أن يطوف المرء وعليه ثوب غير طاهر لا تجب عليه الإعادة وإن كان متعمدا، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي حائض:

قيل له: أفتسعى المرأة بين الصفا والمروة وهي حائض؟ فقال: نعم إذا فرغت من الطواف بالبيت والصلاة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن السعي بين الصفا والمروة ليس من شرط صحته الطهارة. فإذا حاضت المرأة بعد الطواف بالبيت سعت بين الصفا والمروة، وإذا حاضت قبل الطواف لم تسع بين الصفا والمروة؛ لأن السعي لا يكون إلا بعد الطواف، وهذا مما لا اختلاف فيه، لقوله عَلَيْهِ السَّلَامُ لعائشة: «افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت ولا بين الصفا والمروة».

.مسألة قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى منى:

وسئل: عمن قدم معتمرا فحل ثم أهل بالحج فخرج إلى منى ولم يطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة ثم رمى جمرة العقبة، أيلبس الثياب قبل أن يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة؟ قال: نعم.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه لقول عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم الله عليه إلا النساء والطيب لا يمس أحد نساء ولا طيبا حتى يطوف بالبيت.

.مسألة الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض:

وسئل: على الحاجّة تنفس قبل أن تُفيض، قال: يحبس عليها كَرِيُّهَا؛ لأنه قد علم أن النساء يصيبهن هذا. قيل له: أفتراه مثل الحيض؟ قال: نعم، ويحبس على الحائض خمسة عشر يوما. قيل له: فهل يختلف عندك إن كانت حاملا أو غير حامل؟ فإن الْكَرِيّ يقول: لم أعلم أنك حامل؟ فقال: ما يختلف عندي، وما على النساء أن يخبرن بحملهن؟ قلت له: فإن الكَرِيّ يحتج بأن يقول بأن الحيض من أمر النساء، فقال مالك: والحمل من أمر النساء، والمرأة قد يكون معها زوجها فتحمل، أفلا اشترط عليها حين أكراها؟ أرى أن يحبس عليها كَرِيّها، ولا أدري لعله تعينه في العلف. قيل: استحسان؟ قال: نعم. ولم ير عليه معونة في العلف إذا هي حاضت قبل أن تُفيض، وأرى أن يحبس عليها كريها خمسة عشر يوما. فقيل له: يا أبا عبد الله إن النساء عندنا يشترطن على الأكرياء الحج والعمرة في المحرم، فإن حاضت قبل أن تعتمر أترى أن يحبس كريها؟ قال: لا يحبس عليها كريها، فراجعته فلم ير ذلك عليه. قلت له: أفيوضع عنها من الكراء؟ فقال: لا أدري ما هذا؟
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في آخر رسم طلق من سماع ابن القاسم أن الكري يحبس على المرأة إذا نفست كما يحبس في الحيضة في الحج والعمرة، وقد مضى هناك القول على ذلك والأصل في وجوب حبسه عليها قوله عَلَيْهِ السَّلَامُ في صفية حين قيل له: إنها قد حاضت: «لعلها حابستنا، فقالوا: يا رسول الله إنها قد طافت، قال: فلا إذن». وإنما لم يحبس عليها إذا حاضت قبل العمرة التي اشترطت عليه، كما يحبس إذا حاضت قبل طواف الإفاضة في الحج؛ لأنها تقدر على الخروج وترك العمرة إذ لم تهل بها بعد، ولا تقدر على الخروج وترك طواف الإفاضة. ولم يجب مالك في حكمها مع الكري في ذلك إذا لم يحبس عليها، وأنكر السؤال عن أن يوضع عنها قدر العمرة من الكراء، فقال: لا أدري ما هذا! إذ لا يصح أن تجبر على الخروج معه وتترك العمرة، وهي عليها سنة واجبة، وعند بعض العلماء فريضة لازمة، ولعلها قد نذرتها فتكون قد وجبت عليها بإجماع، فإذا لم يصح أن تجبر على الخروج مع الكري إلى بلدها وهي حائض وأبى الكري من الصبر عليها حتى تطهر، فالواجب أن يفسخ الكراء بينهما فيما بقي، ويكون للمكرِي من كراء قدر ما مضى، فهذا هو وجه الحكم في هذا، وبالله التوفيق.

.مسألة قوله وتعالى وَلِلَّه على النَّاس حِجُّ الْبَيْت أذلك الزاد والراحلة:

وسئل مالك: عن قول الله تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]... الآية، أذلك الزاد والراحلة؟ فقال: لا والله، وما ذلك إلا على طاقة الناس، الرجل يجد الزاد والراحلة ولا يقدر على السير، وآخر يقدر أن يمشي على رجليه، ولا صفة في هذا أبين مما أنزل الله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97].
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك: إنه لا صفة في ذلك أبين مما قال تعالى، فمن قدر على الوصول إلى مكة إما راجلا وإما راكبا بشراء أو كراء فقد لزمه فرض الحج، وذلك يختلف باختلاف أحوال الناس، فقد يفتقر الرجل في الوصول إلى مكة إلى الزاد والمركوب، وقد لا يفتقر إلى واحد منهما، وقد يفتقر إلى أحدهما، فإن كان الرجل ممن لا يقدر على المشي أو يقدر عليه لمشقة تفدحه أو عيش في بلده مما يتعذر عليه العيش منه في طريقه كالصناعة التي لا يجدها أو السؤال الذي لا يجد له موضعا في طريقه فلا يجب عليه الحج حتى يجد الزاد والمركوب، ويلزمه أن يبيع في ذلك ما يبيعه عليه السلطان في الدين. وإن كان ممن يقدر على المشي بغير مشقة تفدحه وما يعيش به في بلده لا يتعذر عليه في طريقه من صناعة لا يعدمها أو سؤال لا يتعذر عليه، فالحج واجب عليه وإن لم يجد زادا ولا مركوبا؛ وإن كان عيشه مما يتعذر عليه في طريقه وهو يقدر على المشي فالحج واجب عليه إذا وجد الزاد وإن لم يجد المركوب، وإن كان عيشه في بلده مما لا يتعذر عليه في طريقه وهو لا يقدر على المشي فالحج واجب عليه إذا قدر على المركوب وإن لم يجد الزاد، وأما إن كان عيشه من غير السؤال وهو يقدر أن يتوصل إلى مكة بالسؤال فلا اختلاف في أن ذلك لا يجب عليه. واختُلف هل يباح له ذلك أو يكره؟ فقيل: إن ذلك له مباح، وقيل: إنه له مكروه، والأول قول مالك في رواية ابن عبد الحكم عنه، والثاني قوله في سماع ابن القاسم من كتاب الصنائع والوكالات، وقد مضى في رسم تأخير صلاة العشاء من سماع ابن القاسم القول إذا لم يجد نفقة يخلفها لزوجته، وكان إن خرج رفعت أمرها فطلقت عليه، ويأتي في سماع محمد بن خالد القول في إذا لم يجد نفقة يخلفها لولده. وما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الزاد والراحلة معناه في البعيد الدار أو القريب الذي لا يقدر على المشي؛ لأن قوله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27]، يوجب الحج على من استطاعه ماشيا؛ لأنه إخبار بمعنى الأمر؛ إذ لا فائدة في الإخبار بصفة الإتيان دون الإيجاب؛ ولأن شريعة إبراهيم لازمة لنا، قال عز وجل: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123]... الآية.

.مسألة اعتمر فجاء ليلا فطاف وركع الركعتين وأخر السعي والحلاق للصبح:

وسئل عمن اعتمر فجاء ليلا فطاف بالبيت وركع الركعتين وأخر السعي والحلاق حتى أصبح، فلما أصبح سعى بين الصفا والمروة ثم حلق، فقال له مالك: أبطهر واحد؟ فقال: لا، انقلبنا فنمنا، قال: بئس ما صنعتم، وأرى أن تهدي هديا. ولو ذكرت ذلك وأنت بمكة رأيت أن تعيد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، ولو كنت فعلت بطهر واحد أجزأ عنك، وإنما يكون ذلك إذا كان الشيء قريبا. فقيل له: أفرأيت إن كان ذكر ذلك وهو بمكة بعد أن حلق؟ فقال: كنت أرى أن يعيد الطواف والركعتين والسعي بين الصفا والمروة ويحلق رأسه. قيل له: إنه قد حلق رأسه أفيعيد الحلق؟ فقال: نعم يحلق أيضا.
قال محمد بن رشد: وعليه إذا ذكر بالقرب فأعاد الطواف والسعي والحلاق الدمُ لمكان الحلاق، ولو ذكر بالقرب قبل أن يحلق فأعاد لم يكن عليه شيء. وقوله: إنما يكون ذلك إذا كان الشيء قريبا، يريد: وإنما تكون الإعادة إذا كان وضوؤه قد انتقض، ولو لم ينتقض وضوؤه لم يكن عليه إعادة على هذه الرواية، قرب أو بعد، خلاف ما مضى في سماع ابن القاسم في رسم حلق المتكرر في موضعين.

.مسألة المحرمة تغطي وجهها:

وسئل: عن المرأة المحرمة تغطي وجهها، فقال: إن كانت تغطيه من حر أو من شيء فلا، وإن كانت رأت رجالا فغطت وجهها تريد بذلك الستر فلا أرى بذلك بأسا، وأرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة سواء، فإن غطت لغير الستر فعليها الفدية؛ لأن إحرام المرأة في وجهها. واختلف إن غطى الرجل وجهه هل عليه الفدية أم لا، على قولين، لما جاء في ذلك عن عثمان بن عفان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.

.مسألة يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران:

وسئل: عن الذي يحرم في الثوب فيه لمعة من الزعفران، قال: أرجو أن يكون خفيفا.
قال محمد بن رشد: يريد- والله أعلم- اللمعة تبقى فيه منه بعد غسله فاستخف اللمعة من ذلك بعد الغسل، ولا يستخف اللمعة منه دون الغسل؛ لأنه طيب، ولا جميعه بعد الغسل إلا أن يتغير بالمشق، على ما المدونة.

.مسألة رمى الجمرة آخر أيام الرمي ثم رجع إلى منى فأقام حتى الظهر:

وسئل: عمن رمى الجمرة آخر أيام الرمي، ثم رجع إلى منى فأقام حتى الظهر، وقد كان أفاض يوم النحر أو بعده فلم يبق عليه شيء من أمر الحج، فقال: يصلي ركعتين، أهلُ منى كلهم على هذا.
قال محمد بن رشد: استخف هذا لما مضى عليه من عمل الناس، والاتباعُ للسلف رشدٌ وهدًى.

.مسألة يصيب الجراد وهو محرم:

وسألته: عن الذي يصيب الجراد وهو محرم، أيكتفي بالذي جاء من الحديث أم يحكم عليه؟ قال: بل يحكم عليه.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال لقوله عز وجل: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، مع ما جاء في ذلك عن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ من قوله لكعب: تعال حتى نحكم في جرادة، سأله محرم عن قتلها فلم يحكم فيها وحده حتى حكم كعب معه.

.مسألة يحرم بالحج من مكة من أين يحرم:

وسألته: عن الذي يحرم بالحج من مكة من أين يحرم؟ قال: من جوف المسجد الحرام. قيل: أفلا يحرم من بيته؟ فقال: بل يحرم من جوف المسجد الحرام. قيل له: فيحرم من عند باب المسجد؟ قال: بل يحرم من جوف المسجد.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير أن يحرم من بيته؛ لأن السنة أن يكون الإحرام إثر صلاة نافلة في المسجد أقلها ركعتين، فإذا صلى في المسجد وجب أن يحرم من مكانه ولا يخرج إلى باب المسجد؛ لأن التلبية إنما معناها إجابة الله إلى بيته الحرام، فهو بخروجه من المسجد يزداد من البيت بعدا بخلاف الخروج من مسجد ذي الحليفة أو غيره من مساجد المواقيت؛ لأنه بخروجه منها إلى أبوابها يزداد من البيت قربا؛ فهذا وجه لقوله صحيح من جهة المعنى.

.مسألة عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب:

وسألته: عن المحرم أيصيد الثعلب أو الذيب؟ قال: لا، ثم قال: والله ما أدري أعلى هذا أصل رأيك أم تتجاهل بصيد المحرم؟ قلت له: ما أتجاهل ولكني ظننت أن تراه من السباع.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في الحج الثاني والسلم الثالث من المدونة في الثعلب قد نص فيهما أن المحرم لا يقتل شيئا من السباع التي لا تعدو ولا تفترس كالهر والضبع والثعلب، وأما الذيب فجعله هاهنا ممن لا يعدو ولا يفترس كالثعلب، وجعله ابن حبيب مما يعدو ويفترس كالأسد والنمر والفهد داخلا في اسم الكلب العقور التي أباح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتله في الحل والحرم. وقول ابن حبيب صحيح على ما يعرف من حال الذياب عندنا، ولعلها في المشرق على خلاف ذلك لا تعدو ولا تفترس، إذ لا اختلاف في أن الثعلب والذيب من السباع ويجوز للمحرم قتلها كالثعلب. واختلف في صغار ما يعدو ويفترس، فقيل: إن قتلها محظور تودى إن قتلت وهو قول أشهب؛ وقيل: إن قتلها مكروه لا تودى إن قتلت، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز، وقول ابن حبيب في الواضحة، وقيل: إن قتلها جائز، روي ذلك عن أشهب، وقوله: ولكن ظننت أن تراه من السباع، يريد من السباع التي تعدو وتفترس ويجوز للمحرم قتلها، إذ لا اختلاف في أن الثعلب والذيب من السباع.

.مسألة حديث والمروة منحر وكل فجاج مكة منحر وطرقها منحر:

وسئل: عن قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العمرة: «والمروة منحر، وكل فجاج مكة منحر، وطرقها منحر»، أرأيت من كان معه هدي واجب يسوقه في عمرة قلده وأشعره وأصابه عطب في الطريق فنحره، قال: هذا لا يجزئ عنه، قيل له: إنه نحره في الحرام، قال: لا يجزئ عنه، وحد ذلك عندي في الذي يجزئ عنه والذي قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فيما أرى بيوت مكة، قال: حيث البنيان، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وكل طرقها منحر، فهذه طرق مكة وليس بالصحارى». وقلت له: أرأيت إن نحره في الحرام قبل أن يدخل مكة أو عند ثنية المدنيين؟ قال: ما أراه مجزئا عنه، ألا ترى قول الله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، وقد نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هديه بالحديبية في الحرم. قلت له: نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحرم، قال: سمعت ذلك، وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأصحابه يوم الحديبية: «احلقوا وانحروا، فأبطئوا، فذكره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأم سلمة فقالت: يا رسول الله فلو فعلت أنت ذلك، ففعل رسول الله ففعلوا».
قال محمد بن رشد: قوله: وقد نحر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ هديه بالحديبية في الحرم، معناه: نحر هديه في الحرم إذ كان في الحديبية؛ لأن الحديبية في الحل، لكنه لم يكن صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ممنوعا من دخول الحرم، فبعث هديه من الحديبية إلى الحرم ينحر به على ما روي، فصحت بذلك لمالك حجة لما ذهب إليه من أن محل الهدي من الحرم مكة القرية نفسها ومنى، لا جميع الحرم، لقوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، وهو قد نحر بالحرم إذ لم ينحر بمكة حيث بنيان القرية. وقد ساق ابن أبي زيد هذه الرواية في النوادر سياقة فاسدة غير صحيحة على ما تأوله فيها، فقال: وروى أشهب عن مالك في العتبية أن الحديبية في الحرم. ومن صد عند مالك قبل أن يبلغ الحرم حل وحلق رأسه ونحر هديه حيثما كان، إذ لا فرق عنده في النحر بين الحل والحرم ما لم يبلغ بيوت مكة أو منى. وقد قيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ إنما نحر بالحديبية في الحل لا في الحرم.
وذهب أبو حنيفة إلى أن من صده عذر عن الوصول إلى الحرم لا يجوز له أن ينحر هديه إلا بالحرم، على ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ نحر في الحرم. قال من احتج له: وكيف يجوز أن ينحر في غير الحرم، والله عز وجل يقول: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، وأغفل قوله عز وجل: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] فلا وجه لقوله.

.مسألة المحرم أيحضر التزويج:

وسألته: عن المحرم أيحضر التزويج؟ قال: لا ينبغي ذلك.
قال محمد بن رشد: إنما كره له ذلك مخافة أن يتذكر أمر النساء فيتراقى به الأمر إلى ما يفسد حجه أو ينقص أجره، فإن حضر وسلم فقد أساء ولا شيء عليه، قاله أصبغ في كتاب محمد.

.مسألة نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة:

وسألته: عن نكاح المحرم بعد رمي الجمرة والعقبة، قال: أرى أن يفسخ نكاحه.
قال محمد بن رشد: وهذا صحيح على مذهبه في أن المحرم لا يجوز له النكاح؛ لأنه لم يخرج من إحرامه بعد، إذ بقي عليه الإحرام في النساء والطيب والصيد حتى يطوف بالبيت.

.مسألة البقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا تشعر:

قال مالك: والبقر إذا لم يكن لها أسنمة تقلد ولا تشعر في رأيي.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا في رسم اغتسل من سماع ابن القاسم، ومثله في المدونة. وحكى ابن حبيب عن ابن عمر وابن شهاب أنها تشعر وإن لم يكن لها أسنمة. وقول مالك أظهر لأنه إنما لم يثبت في إشعارها أثر، فلا ينقاس منها على الإبل إلا ذوات الأسنمة، إذ الإشعار إنما هو في السنام.

.مسألة الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق في الحج:

وسئل: عن الذي يتذكر حتى نزل الماء الدافق، قال: ليس عليه حج قابل ولا عمرة عليه، وعليه أن يهدي بدنة ويتقرب إلى الله بكل ما استطاع من الخير.
قال محمد بن رشد: رواية ابن القاسم عن مالك في رسم اغتسل أصح من هذه، وقد مضى من القول هناك على ذلك ما فيه كفاية.

.مسألة قتل الصيد في حرم رسول الله صلى الله عليه:

وسألته عمن قتل الصيد في حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، أعليه جزاء؟ قال: لا يتعمد لقتله، فإن قتله فلا جزاء عليه، وكل شيء وسنته، ومن مضى أعلم ممن بقي، ولو كان هذا لسنوا فيه، والصيد فيه ثقيل ثم ثقيل.
قال محمد بن رشد: حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ ما بين لابتي المدينة بريدا في بريد قال: «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها».. واختلف أهل العلم فيمن صاد فيها صيدا، فمنهم من أوجب عليه فيه الجزاء كحرم مكة سواء، وهو قول ابن أبي ذيب، حكاه الأبهري في كتابه، وبذلك قال ابن نافع، وإليه ذهب عبد الوهاب، ومنهم من ذهب إلى أن من صاد فيه حل سلبه لمن وجده. روي أن سعد بن أبي وقاص وجد عبدا لقوم يصيد في حرم المدينة فأخذ سلبه، فأتاه قوم فكلموه في أن يرد عليهم سلبه فأبى وقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ لما حد حرم المدينة قال: «من وجد من يصيد فيه فله سلبه، فلا أرد عليكم طعمة أطعمنيها رسول الله، ولكن إن شئتم غرمت لكم سلبه فعلت». وذهب مالك إلى أن الصيد فيه أخف من الصيد في حرم مكة، فلم ير على من صاد فيه إلا الاستغفار والزجر من الإمام. قيل له: فهل يؤكل الصيد يصاد في حرم المدينة؟ قال: ما هو مثل ما يصاد بحرم مكة، وإني لأكرهه، فروجع فيه فقال: لا أدري، ومن الدليل لقول مالك على أن الصيد في حرم المدينة ليس كالصيد في حرم مكة، ما روي عن عائشة أنها قالت: «كان لآل رسول الله صلى عليه وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر، فإذا أحس برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ قد دخل ربض فلم يترمرم كراهيته أن يوذيه». وما روي عن أنس بن مالك قال: كان لأبي طلحة ابن من أم سليم يقال له أبو عمير، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ يضاحكه فدخل يوما فرآه حزينا، فقال: ما شأن أبي عمير؟ فقيل: يا رسول الله مات نغيره، فقال: «يا أبا عمير ما فعل النغير؟»، ومثل هذا لا يباح في حرم مكة.

.مسألة رفع الصوت بالتلبية:

قال أشهب: قلت لمالك: فرفع الصوت بالتلبية؟ قال: نعم يرفع صوته بالتلبية، ولا أرى أن يصيح جدا حتى يعقر حلقه، ووسط من ذلك يجزيه إن شاء الله، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أمرني جبريل أن آمر أصحابي أو من معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية».
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: إنه ليس عليه أن يصيح بالتلبية جدا حتى يعقر حلقه، إذ ليس في الحديث أن يصيح بالتلبية بأعلى صوته، وإنما فيه أن يرفع بها صوته، فيجزيه من رفع صوته بها ما يكون إذا فعله يسمى رافعا لصوته، ولا يعارض الأمر برفع الصوت بالتلبية ما روي من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما دنا من المدينة رفع الناس أصواتهم بالتكبير، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أيها الناس ارفقوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا إن الذي تدعون بينكم وبن أعناق أكتافكم» لأن هذا في غير الحج، وشأن الحج رفع الصوت فيه بالتلبية لأنها شعاره، وروي عن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي الحج أفضل؟ قال: «العج والثج»، فالعج رفع الصوت بالتلبية والثج نحر البدن، فبان الحج في رفع الصوت بالتلبية فيه عما سواه.

.مسألة قتل الحمار الوحشي وهو محرم:

وسألته: عن الحمار الوحشي، فقال: فيه بقرة، قلت له: أترى أن يودونها قبل أن يحكم عليه بها؟ قال: لا، بل أرى أن يذهب حتى يحكم عليه ببقرة، وأرى في بقرة الوحش بقرة.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، ومثله في المدونة وغيرها، فإنما قال في الحمار الوحشي بقرة؛ لقول الله عز وجل: فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأه الكوفيون: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95] بتنوين الجزاء ورفع مثل، وقرأ المدنيون بإسقاط التنوين، وخفض مثل على الإضافة والقراءتان راجعتان فيما يوجب الحكم إلى شيء واحد وإن اختلف المعنى فيهما لأنه يجب عليه فيما قتل على قراءة الكوفيين مثله من النعم جزاء، ويجب عليه فيما قتل على قراءة المدنيين مثل مثله من النعم؛ لأن الجزاء هو المثل، واختلف في المثل فقيل مثله في الهيئة والخلقة أن يشبه النعم به في ذلك، وقال في المدونة: مثله في النحو والعظم أي أقرب النعم إليه في ذلك. وإنما قال: إنه لا يؤدي البقرة حتى يحكم عليه بها لقول الله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95].

.مسألة الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من عام قابل متى يفترقان:

وسألته: عن الذي يفسد حجه بإصابة أهله فيحجان من عام قابل متى يفترقان؟ قال: إذا أحرما. قيل له: ولا يؤخران ذلك حتى يأتيا الموضع الذي أفسدا فيه حجهما؟ فقال: لا، وهذا الذي سمعت. قلت له: فما ترى افتراقهما، أيفترقان في البيوت أم في المناهل لا يجتمعان في منهل؟ فقال: لا يجتمعان في منزل، ولا يتسايران ولا في الجحفة ولا بمكة ولا بمنى.
قال محمد بن رشد: من أهل العلم من قال إنه يفرق بينهما إلى عام قابل، وقال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وسعيد بن المسيب: لا يفترقان حتى يحرما بالحج من عام قابل، وبهذا أخذ مالك، والوجه في ذلك مخافة أن يكون اجتماعهما ذريعة إلى فساد حجهما مرة أخرى.

.مسألة الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله فلا يجد هديا:

وسئل: عن الذي يفسد حجه وهو قارن بإصابة أهله فلا يجد هديا، فقال: يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا رجع إلى أهله. قيل له: يقرن بين ستة؟ قال: يصوم ثلاثة ثم يفطر إن شاء ثم يصوم ثلاثة أيام بعد ذلك، وذلك في الحج يصومها ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة، وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك رجاء أن يجد هديا.
قال محمد بن رشد: أما قوله: إنه يصوم ستة أيام في الحج وأربعة عشر يوما إذا رجع فمعناه إذا كان قد أهدى هدي قران الحج الذي كان أفسد حينئذ؛ لأنه لا يسقط عنه بإفساده، ولو كان لم يهده لكان عليه ثلاث هدايا بإجماع في المذهب، يصوم عنهن إن لم يجد هديا تسعة أيام في الحج وأحدا وعشرين يوما إذا رجع. وقد مضى القول على هذا في رسم مرض من سماع ابن القاسم. وأما قوله: أن يصوم ثلاثة ثم يفطر إن شاء، ثم يصوم ثلاثة أيام بعد، فظاهره أنه يلزمه أن يتابع كل ثلاثة أيام منها وهو خلاف مذهب مالك في المدونة مثل قول ابن حبيب، وقال ابن وهب: يفرد صوم كل هدي فيصوم ثلاثة ثم سبعة، ولا يفرق بين الثلاثة والسبعة، وهذا على القول بأن له أن يصوم السبعة الأيام في الحج.
وقول مالك على أنه لا يجوز له أن يصومها في الحج، ولذلك قال: إنه يتابع الستة الأيام عن الهديين؛ لأنه لو لم يفعل ذلك لصام الثلاثة الأيام عن الهدي الثاني في غير الحج، فقف على ذلك. وأما قوله: إنه يصومها ما بين أن يهل بالحج إلى يوم عرفة فالاختيار أن يصوم السادس والسابع والثامن ولا يصوم يوم عرفة ليقوى على الدعاء، فإن لم يصم السادس فيصوم السابع والثامن والتاسع وهو يوم عرفة، ولا ينبغي له أن يؤخر عن ذلك، فإن لم يصم السابع صام الثامن والتاسع وأفطر يوم النحر وصام يوما من أيام التشريق على مذهب مالك في المدونة في إجازة تفرقة الثلاثة الأيام. وعلى ما ذهب إليه ابن حبيب، وهو ظاهر هذه الرواية لا يصوم حتى يذهب يوم النحر فيصوم بعده ثلاثة أيام متتابعات.
وأما قوله: وإنه ليستحب أن يؤخر ذلك رجاء أن يجد هديا، فلا يخلو أمره من ثلاثة أحوال:
أحدها: أن يكون يائسا من أن يجد هديا قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا له أن يصوم ولا يستحب له التأخير، فإن صام ثم وجد هديا من حيث لم يكن ظن به لم يجب عليه الهدي.
والثاني: أن يكون يعلم أنه يجد الهدي قبل يوم النحر بثلاثة أيام، فهذا لا يصوم، وإن صام لم يجزه صيامه ووجب عليه الهدي.
والثالث: أن يكون شاكا في وجود الهدي فهذا هو الذي يستحب له أن يؤخر رجاء أن يجد الهدي، فإن صام ثم وجد الهدي أجزأه صيامه ولم يكن عليه أن يهدي على مذهب ابن القاسم، ولم يجزه على مذهب ابن حبيب ووجب عليه الهدي، وهذا على اختلافهم في الذي يصلي بالتيمم ولا علم له بالماء ثم يجد الماء في الوقت.