فصل: مسألة ذميون هربوا إلى أرض العدو فأسرهم المسلمون فخمسوا وقسموا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يفدي الرجل المسلم من العدو فإذا بلغا بلاد المسلمين اختلفا في الفدية:

وسألت عن الرجل يفدي الرجل المسلم من العدو، فإذا بلغا بلاد المسلمين، اختلفا في الفدية: يدعي المفدي أكثر مما يقول المفدى، قال ابن القاسم: القول قول المفدى فيما أقر به من ذلك، قليلا كان أو كثيرا، كان يشبه فداء مثله أو لا يشبهه؛ لأن مالكا قال: لو أنكر أن يكون فداه أصلا وقد خرجا من بلاد العدو، كان القول قوله، إلا أن يكون للآخر بينة أنه فداه؛ قال ابن القاسم: ولو ادعى كل واحد منهما أنه الذي فدى صاحبه- وقد خرجا جميعا من بلاد الحرب، ولا يدرى علم بذلك، فإنهما يحلفان جميعا، ويتتاركان، ولا يكون لواحد منهما على صاحبه شيء؛ لأن كل واحد منهما مدع على صاحبه.
قال محمد بن رشد: قول ابن القاسم: إذا اختلف الفادي والمفدى في مبلغ الفدية: إن القول قول المفدى، أشبه قوله، أو لم يشبه، ليس على أصولهم في مراعاة دعوى الاشتباه في التداعي، لاتفاقهما على أنه فداه، فذلك بخلاف إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنه فداه فأنكر، والذي يأتي على أصولهم إذا اختلفا في مبلغ الفدية، أن يكون القول قول المفدى- إذا أتى بما يشبه؛ فإن أتى بما لا يشبه، كان القول قول الفادي- إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه أيضا، حلفا جميعا، وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان؛ وكذلك إن نكلا جميعا، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان له ما حلف عليه وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد أمكنه من ذلك بنكوله، وقال سحنون: القول قول الفادي- إذا كان الأسير بيده. ولابن أبي حازم في المدنية مثله، وزاد: إلا أن يدعي ما لا يفدى به مثله في ذلك المكان فيكون له ما يفدى به مثله في ذلك المكان، وفي ذلك من قولهما نظر، إذ ليس الأسير بمال فيكون إذا كان بيده شاهدا له على ما يدعي كالرهن، فإذا لم يكن شاهدا له على ما يدعي، ولا كان في كونه بيده دليل على قلة الفدية من كثرتها، وجب أن يكون القول قول المفدى- فيما يقر به من الفدية- إذا أشبه على ما قلناه، وإنما كان ينتفع الفادي بكون الأسير في يده- لو أنكر أن يكون فداه؛ لأن كونه في يده، دليل على أنه فداه، وليس بدليل على ما يدعي أنه فداه به، وهذا كله بين، فلا يصح في المسألة إلا ما ذكرناه، وقد روي عن الأوزاعي أنه قال القول قول الفادي، وهو يعيد أيضا ما كان بيده أو لم يكن؛ إلا أن يكون معناه إذا أشبه قوله، ولم يشبه قول المفدى، والله سبحانه وتعالى أعلم، وبه التوفيق، لا رب غيره، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

.كتاب الجهاد الثاني:

.مسألة نفر من أهل الذمة يغزون مَن يليهم من العدو أترى أن يخمس ما يصيبون:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وآله وصحبه وسلم تسليما كتاب الجهاد الثاني من سماع يحيى بن يحيى من كتاب الكسب مسألة قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن نفر من أهل الذمة من ثغرنا من النصارى يغزون مَن يليهم من العدو مع غير المسلمين فيغنمون، أترى أن يخمس ما يصيبون؟ فقال: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو.
قلت: لِمَ كرهت ذلك، وهم لا يغزون معنا في عساكرنا؟
فقال: لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمشرك: «ارجع فلن نستعين بمشرك»، وغزو هؤلاء من العون، وإن لم يكونوا مع المؤمنين في عسكرهم.
قلت: فإن وقع الأمر فماذا ترى؟
قال: لا أرى عليهم خمسا.
قلت: فإن قسم بينهم حَكَمُ المسلمين أيقسم على سنة الإسلام؟
قال: نعم، إذا حكَّموه ورضوا به فليقسم بينهم بقَسْم الإسلام، وإن لم يحكِّموه فأمرهم إلى أساقفتهم وأهل دينهم، يقسمون بينهم على سنتهم.
قال محمد بن رشد: لا يجوز عند مالك رَحِمَهُ اللَّهُ وجميع أصحابه، للإمام أن يستعين بالكفار على قتال الكفار، ولا أن يأذن لهم في الغزو مع المسلمين ولا منفردين أيضا؛ لأنه وجه من العون؛ ولأنهم يستبيحون فيه ما لا يجوز في الغزو على ما قاله أصبغ في نوازله؛ لقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لن أستعين بمشرك»، ولما روي من أن الأنصار قالوا يوم أحد: ألا نستعين بحلفائنا من يهود؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا حاجة لنا فيهم».
وفي قول ابن القاسم في هذه الرواية: لا أحب للإمام أن يأذن لهم بالغزو، دليل على أنهم إن لم يستأذنوه لم يجب عليه أن يمنعهم، وعلى هذا يحمل غزو صفوان بن أمية رسول الله حنينا والطائف، خلاف قول أصبغ في نوازله: إنهم يُمنعون من ذلك أشد المنع. وقد حكى أبو الفرج عن مالك: أنه لا بأس على الإمام أن يستعين بالمشركين في قتال المشركين إذا احتاج إلى ذلك، وهو دليل قوله للأنصار: لا حاجة لنا فيهم.
وقد روي عنه عَلَيْهِ السَّلَامُ: أنه بلغه جمع أبي سفيان ليخرج إليه يوم أحد، استعان يهود النضير فقال لهم: «إنا وأنتم أهل كتاب، وإن لأهل الكتاب النصر على أهل الكتاب، فإما قاتلتم معنا، وإما أعرتمونا سلاحا»، فإن غزوا بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام منفردين تُركت لهم غنيمتهم ولم تُخمس، وإن غزوا مع المسلمين في عسكرهم لم يكن لهم في الغنيمة نصيب، إلا أن يكونوا متكافئين، أو هم الغالبون، فتقسم بينهم وبين المسلمين قبل أن تخمس، ثم يخمس سهم المسلمين خاصة.
وأهل الكتاب وغيرهم عند مالك في هذا سواء، وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه أجاز الاستعانة بأهل الكتاب دون من سواهم من المشركين عبدة الأوثان والمجوس، وصحّح الآثار على ذلك، قال: وإنما لم يستعن رسول الله بحلفاء الأنصار من يهود للحلف الذي كان بينهم وبين عبد الله بن أبي المنافق؛ لأنهم خرجوا بذلك من حكم أهل الكتاب، وهو من التأويل البعيد؛ ولا بأس بأن يُستعار السلاح من الكفار كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأجاز ابن حبيب أن يقوي الإمام من سالمه من أهل الحرب على من لم يسالمه منهم بالقوة والسلاح، وأن يسايروه بحداء عسكر المسلمين ما لم يكونوا في داخله وسبيل أهله.

.مسألة حكم الإسهام في الغنيمة لمن لم يسمع كلام الأمير:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أمير سرية خرج بأصحابه حتى إذا دنا من أرض العدو عرض لهم نهر، فقال لأصحابه: اعبروا النهر لعل الله أن يغنمنا، فكره ذلك بعضهم وقالوا: لا تغرر بنا، فإن إجازة هذا النهر شديد الخطر، وذكروا له بعض ما اعتذروا له، وأشاروا إليه ألا يجوزوه، وأطاعه بعضهم، فأجاز بهم وتخلف العصاة، فمضى بمن أطاعه، فغنم غنائم كثيرة، وسلم هو وأصحابه، فلما رجعوا وجدوا المتخلفين عنهم بمكانهم لم يبرحوا، أترى لهم في الغنيمة حقا؟ وإن أنكروا أن يكونوا تخلفوا عنه، أيجوز شهادة من زعم أنه أجاز مع الإمام؟ أو هل يقبل قول الإمام على من تخلف، ولمن زعم أنه أجاز معه؟ فقال: إن أقروا بالتخلف أو شهد به عليهم رجلان ممن تخلف، أو ممن ليس منهم، ولا من الذين دخلوا مع الإمام، فلا قسم لهم، ولا حق في الغنيمة للذين غابوا على الذين أصابوها راضين بالتخلف عنهم؟ وإن لم يشهد عليهم بالتخلف، وأنكروا أن يكونوا تخلفوا إلا بعض الداخلين أو قول الإمام، فالقول قولهم، ولا يقبل عليهم قول الإمام إلا ببينة تشهد من غير الداخلين؛ لأن كل من دخل فهو إذا شهد عليهم جارٌّ إلى نفسه، والإمام كأحدهم. وقال ابن وهب مثله.
قال محمد بن رشد: لم يبين في الرواية إن كانت إجازة النفر على ما ذكره من كره إجازتهم من الغرر وشدة الخطر أم لا، فإن لم يكن على ذلك، وكان قولهم اعتلالا على جوازه، فلا إشكال، ولا اختلاف في أنه لا حق ولا نصيب لمن تخلف عن إجازته فيما غنمه من أجازه؛ لأنهم قد رضوا بترك حقوقهم فيما غنموه؛ إذ لا عذر لهم في ترك إجازته.
وأما إن كانت إجازة النهر على ما ذكروه من الغرر، وشدة الخطر والمهلكة، فظاهر الرواية أيضا أنه لا حق لمن تخلف عن الإجازة فيما غنمه من جازه، ولسحنون في كتاب ابنه: أنهم يدخلون معه فيما غنموه؛ لأن لهم عذرا في التخلف عن إجازته. وقد أخطأ الذين جازوه، والذي ينبغي عندي على أصولهم أن ينظر في ذلك، فإن رئي أن لمن أجاز النهر في وصول من لم يجزه معهم إليه، ووقوفهم بمكانهم إلى حين انصرافهم بغنيمتهم إليهم وجهُ منفعة، مثل أن يكون بالنهر من الغرب من بلد العدو، بحيث يمكن أن يكون العدو قد بلغه جمعهم، وكثرة عددهم، فيظنوا أنهم أجازوا النهر بجمعهم، فيكون لهم الدخول فيما غنموه؛ إذ لعل ما ظنه العدو من جوازهم هو الذي فتّ في أعضادهم، فكان ذلك عونا للغانمين على غنيمتهم؛ وإن رئي أنهم لم يكن في وصولهم معهم إلى النهر، ووقوفهم عليه وجه منفعة لم يكن لهم دخول معهم في غنيمتهم.
ولا اختلاف في أنه لا يجوز شهادة من جاز مع الإمام بالتخلف على من أنكره؛ لأنه يجر بشهادته إلى نفسه ما يجب لهم من سهم المشهود عليهم، إلا أن يكون الذي يجب لهم من ذلك يسيرا، فيجري ذلك على الاختلاف في جواز شهادة العدل إذا شهد لغيره شهادة يجر بها إلى نفسه ما لا يُتهم على مثله لنزارته، فقد أجازها مالك في سماع أشهب من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما شهادة الإمام فقال ابن القاسم في هذه الرواية: إنها لا تُقبل على المتخلفين إلا ببينة؛ لأنه كأحد الحائزين في الجر إلى نفسه بشهادته، ولسحنون في كتاب ابنه أن قول الإمام مقبول على من تخلف إذا كان عدلا من غير طريق الشهادة، وقوله بعيد؛ لأنه إن حكم هو عليهم بألا حق لهم في الغنيمة كان حاكما بعلمه جارًّا بذلك لنفسه، وإن رفع الأمر إلى غيره من الحكام، فشهد عنده بعلمه استوى هو وغيره في الشهادة، ووجب أن تبطل بما تبطل به شهادة من سواه، ووجهه أنه أجاز قوله في ذلك على قياس مذهبه في أن للقاضي أن يقضي بعلمه فيما أقر به عنده الخصم في مجلس قضائه.

.مسألة حصرَهم العدو فخرج نفر منهم فقاتلوا العدو فأصابوا خيلا وأسلابا:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن أهل حصن من المسلمين حصرَهم العدو، فخرج نفر من أهل الحصن فقاتلوا العدو الذين حصروهم، فأظفرهم الله بقتل رجال منهم، فأصابوا خيلهم وأسلابهم، وأسروا بعضهم، أيقسم ما أصابوا بينهم وبين جميع أهل الحصن، أو يكون لمن خرج متعرضا للقتال أو لمن قاتل دون لمن خرج ممن لم يقاتل؟ فقال: بل يقسم بين جميع من خرج قاتل أو لم يقاتل، وبين جميع أهل الحصن بعد إخراج الخمس. قلت: أيقسم لخيل من لم يخرج وخيل من خرج راجلا وخلى فرسه في الحصن؟ قال: نعم، إذا كانوا بموضع رباط، وضعوا فيه رصدة للعدو ولذلك سكنوا، ولو كانوا على غير ذلك لم يكن لهم شيء.
قال محمد بن أحمد: وهذا كما قال؛ لأن الحكم في الغنيمة أن تقسم بعد إخراج الخمس بين جميع الغانمين الرجال الأحرار البالغين، من قاتل منهم ومن لم يقاتل؛ لكون من لم يقاتل منهم ردءا لمن قاتل وعونا لهم على الغنيمة؛ لأن نفوسهم تقوى بوقوفهم، وتزيد في جرأتهم على العدو، والعدو يرهبهم، فربما كانوا هم السبب لانهزامهم. فكذلك الذين في الحصن بهم قويت نفوس من خرج لكونهم ردءا لهم، ولعل العدو إنما انهزموا بسببهم. وهذا يبين ما ذهب إليه في المسألة التي قبل هذه، وستأتي هذه المسألة بعد هذا الرسم كاملة أكمل من هذه، وبالله التوفيق.

.مسألة ناس من العدو أعطاهم الإمام عهدا أيوفى لهم بالعهد:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ناس من العدو كانوا خرجوا إلى رجل كان في الثغر من أهل الخلاف للإمام، وكان يلي مدينة من الثغر قد غلب عليها، فأعطاهم عهدا فأمنوا بذلك عنده؛ إذ كان فيما أحدث من الخلاف والاستعانة بالعدو على من أراده من المسلمين، فقلت: أيوفى لهم بالعهد الذي كان أعطاهم، أم يستحلون؛ لأنهم خرجوا إليه وقبلوا عهده، وقد علموا خلافه للإمام؟ فقال: لا تحل دماؤهم ولا ذراريهم ولا أموالهم لأحد؛ لأن عهده عهد، وهو رجل من المسلمين يعقد لهم أمانا على جميع المسلمين، ولكن يقال لهم: إن عهده لا يمضيه الوالي فارجعوا إلى مكانكم، فإذا ردوا إلى أرضهم عادوا إلى حالهم الأول، فكانوا من أهل الحرب ما هم، فقلت: فإن اختاروا الإقامة على الجزية أترى للإمام أن يقرهم؟ قال: نعم، لا أحب له ردهم إذا رضوا بالجزية.
قال محمد بن أحمد: قوله: إنهم يحرمون على المسلمين بالعهد إن أعطاهم المخالف على الإمام صحيح؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يجير على المسلم أدناهم» وذلك ما لم يغيروا بعد معاهدته إياهم على المسلمين أمرا بينه وبينهم وأمسكوا، فإن أغاروا على المسلمين لمخالفة الإمام انتقض العهد الذي أعطاهم، ووجب أن يقاتلوا ويستحلوا، قاله أصبغ في نوازله بعد هذا، وهو مفسر لقول ابن القاسم هذا.

.مسألة ذميون هربوا إلى أرض العدو فأسرهم المسلمون فخمسوا وقسموا:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة هربوا إلى أرض العدو ليلا، فأدركتهم خيل المسلمين، وقد دخلوا أرض الحرب فخمسوا وقسموا، ثم ادعوا إنما كان هروبهم خوفا من البيع والظلم، وكانوا مجاورين لقوم من العرب أهل استطالة وظلم وقهر لمن جاورهم من أهل الجزية ومن مثلهم هرب وخيف، غير أنه لا يعرف ما ادعوا مما خافوا، وهل أريد بهم سوء أم لا؟ فقال: إن عرف التصديق في ناحية ما شكوا مما خافوا؛ لسوء الذين خافوا وقدرتهم على من أرادوا ظلمه أخرجهم كرها، أو يكونوا في يده لجورهم واستحلالهم للتعدي على من جاورهم، فلا أرى أن يباعوا ولا يستحلفوا، وليصدقوا للذي عرف من ظلم الذين خافوا على أنفسهم، وليردوا إلى جزيتهم إن كان الذي أتى بهم إليه يقوى على دفع الظلم عنهم، والوفاء بالعهد لهم، وإن لم يأمن عليهم ظلم الذين هربوا خوفا منهم، أو ظلم غيرهم من أشباههم، فليخل سبيلهم ليسيروا حيث أحبوا إلى أرض عدو وغيرها، قال أصبغ: وإن أشكل أمرهم فكذلك أيضا لا يستحلوا حتى يتبين أنهم نقضوا العهد على غير شيء من تحت إمام عدل.
قال محمد بن أحمد: قول أصبغ تفسير لمذهب ابن القاسم؛ لأن الذمة قد انعقدت لهم، فلا تنقض إلا بيقين، والمسألة كلها صحيحة على مذهب مالك وأصحابه حاشى أشهب، في أن أهل الذمة إذا خرجوا ومنعوا الجزية، ونقضوا العهد من غير ظلم يركبون به أنهم يصيرون حربا وعدوا، ويجوز سبيهم واسترقاقهم، وقد مضى القول على هذأ في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا وجه لإعادته.

.مسألة عبد أبق إلى أرض العدو ثم رجع طوعا ومعه أموال وعبيد:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن عبد لرجل من المسلمين أبق إلى أرض العدو، ثم رجع طوعا ومعه أموال وعبيد، وقد أصاب ذلك في أرض العدو، أترى أن يخمس ما خرج به؟ فقال: ليس ذلك عليه، وليس فيما خرج به العبد الآبق خمس، وهو كله له، ولسيده إن أراد أخذه منه.
قلت: أرأيت إن أنكر العبيد أن يكونوا غالب لهم خارجا بهم على حال العبودية، فقالوا: نحن قوم أحرار حبب إلينا أرض العرب، وذكر لنا عدلهم، وحسن حالهم، فتبعناه مصطحبين بأمن حتى نوصل إليكم، لا سبيل له علينا؟ قال: القول قولهم، وعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد إن كان أعطاهم عهدا، أو يردهم إلى مأمنهم، وإن خرجوا بلا عهد فأمرهم إلى الوالي يرى فيهم رأيه، قال أصبغ مثله قال: ولا يقبل قول العبد إلا أن يعلم أنه أخرجهم كرها، أو يكونوا في يديه يحوزهم، قال: قلت: أرأيت إن كانوا في يد العبد في وثاق حتى تبين أنهم في يديه؟ قال: أراهم عبيدا إذا تبين أنهم في ملكه، وأنه لهم قاهر، وعليهم قادر، قلت: فإن ادعوا أنه إنما أوثقهم في دار الإسلام حين خافوا على أنفسهم؟ فقال: إن استدل على تصديق ما قالوا بسبب ظاهر مثل أن يعينه على وثاقهم غيره، أو يتبين أنه إنما قهرهم بعد خروجهم معه، فالقول قولهم، وإن لم يعرفوا عند خروجهم إلا في ملكه ووثاقه، فهم له عبيد، وإن قالوا: قهرنا في الطريق، ونقض العهد؛ فإنهم لا يصدقون لجماعتهم ووحدته، وقدرتهم على الامتناع منه.
قال محمد بن رشد: قوله: إن ما خرج به العبد الآبق له ولسيده إن أراد أخذه منه، ولا خمس عليه فيه، مثل ما تقدم في رسم إن خرجت، من سماع عيسى، ولا خلاف في ذلك؛ إذ لا يكون الخمس إلا فيما تعمد الخروج لإصابته، فأوجف عليه بالخيل والركاب، وإن كانوا عبيدا وخرجوا معه على أن يكونوا أحرارا، فعلى الإمام أن يفي لهم بعهد العبد، أو يردهم إلى مأمنهم، ولا يجوز قتلهم ولا استرقاقهم؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يجير على المسلمين أدناهم».
وقوله: إنهم إن خرجوا معه بلا عهد، فأمرهم إلى الإمام يرى فيهم رأيه، ظاهره وإن عثر عليهم بفور قدومهم خلاف ما يأتي في هذا الرسم بعد هذا، وخلاف ما مضى في رسم الجواب، من سماع عيسى، وقد مضى هناك تحصيل الخلاف في هذه المسألة، فلا معنى لإعادته، وأما إذا ادعى العبد أنهم خرجوا معه على أن يكونوا له عبيدا، أو أنه سرقهم أو غنمهم، وأنكروا ذلك، وقالوا: خرجنا معه على أن نكون أحرارا، فالقول قولهم إلا أن يكونوا في وثاقه كما قال، ومثل ذلك في سماع سحنون، ولا اختلاف في ذلك؛ لأن العبد مدع عليهم، إلا أن يكونوا في وثاقه، وقد أحكمت السنة أن: البينة على المدعي، واليمين على من أنكر.
وقد اختلف إن كان أسيرا، فأطلقه على أن يأتيه بهم فأتاه بهم، وزعم أنه سرقهم أو غنمهم، وادعوا أنهم خرجوا معه على أن يكونوا أحرارا، هل يكون خروجه على أن يأتي بهم شبهة توجب أن يكون القول قوله أم لا؟ على قولين: أحدهما: ما في سماع أصبغ أراه لأشهب أن القول قول الذي أتى بهم، وخروجه عنهم شبهة توجب أن يكون القول قوله، وقال ابن المواز: القول قولهم، ولم ير ذلك شبهة للعبد، وهو القياس، والأول هو اختيار أحمد بن ميسر، وبالله التوفيق.

.مسألة عبد خرج متلصصا في بعض قرى العدو فأصاب غنائم أتخمس أم لا:

قيل له: فالعبد يخرج متلصصا في بعض قرى العدو، فيصيب غنائم، أتخمس أم لا؟ فقال: تخمس، ويكون فضل ذلك له، فما فرق بين العبد المتلصص والعبد الآبق إذا رأيت أن الخمس فيما أصاب العبد المتلصص، ولا خمس فيما خرج به الآبق؟ فقال: إنما الخمس فيما تعمد الخروج لإصابته، فأوجف عليه بالخيل والركاب، والعبد الآبق ليس للإصابة خرج، ولا للقتال تعرض، فلذلك لم أر فيما خرج به خمسا.
قلت: فإن خرج حر وعبد متلصصين فغنما؟
قال: يخمس ما أصابا، ثم يقسم ما بقي بينهما.
قلت: ولم يقسم ما أصاب العبد والحر بينهما، وأنت لا تجعل للعبد في الغزو من المغانم شيئا؟
قال: لا أرى حال التلصص والغزو واحدا.
قلت: فالذمي يخرج متلصصا مع الحر المسلم فيغنمان؟
قال: أرى أن يقسم بينهما ما أصابا، فيخمس حظ المسلم، ولا خمس في حظ النصراني.
قلت: ولم جعلت ما أصابا بينهما، وأنت لا تقسم للنصراني إذا غزا مع المسلم؟
قال: هذا مثل الأول؛ لأن المسلمين لا يستعينون بالعبيد والنصارى في عساكرهم، وهذا إنما خرج على وجه التلصص وحده، أرأيت لو كان نصرانيا وحده، أكان يؤخذ ما في يديه؟ قال سحنون في العبد المسلم والحر يخرجان جميعا إلى أرض العدو متلصصين مثل ما قال ابن القاسم في الذمي والحر المسلم: يكون ما أصاب العبد والحر بينهما نصفين، فما صار للحر فعليه فيه الخمس، ولا خمس على العبد في سهمه، مثل قول ابن القاسم في الذمي.
قال محمد بن رشد: لأصبغ في نوازله بعد هذا في هذا الكتاب: أنه لا خمس على العبد فيما غنم كالنصراني، مثل قول سحنون، خلاف قول ابن القاسم، ووجه قول ابن القاسم: أن العبد إذا لم يكن في جملة عسكر المسلمين كالحر، في أن له ما غنم وجب أن يكون مثله في أن عليه فيه الخمس كأنه مؤمن، والله تعالى يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ} [الأنفال: 41]، إلى قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنفال: 41]، ووجه قول سحنون وأصبغ: أن الخطاب في الآية إنما هو للأحرار دون العبيد، بدليل إجماعهم أنهم لا حق لهم مع الأحرار في الغنيمة إذا غزوا معهم في عسكرهم، فوجب أن يكونوا كالنصارى في أن لا خمس عليهم فيما غنموه إذا لم يغزوا في جملة عسكر المسلمين؛ لخروجهم من الآية، وإنما لم يكن للعبيد والنصارى في الغنيمة حق مع الأحرار المسلمين إذا غزوا معهم في عسكرهم من أجل أنهم في حيز التبع لهم، فإذا لم يكونوا في حيز التبع لهم كان لهم حق في الغنيمة، وكذلك إذا خرج العبد أو النصراني مع الرجل أو الرجلين أو الثلاثة أو الأربعة كان لكل واحد منهما سهمه من الغنيمة.

.مسألة خيل المسلمين تقاتل العدو قتالا متفاوتا أيتساوون في العطاء:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن العدو يغيرون على ناحية من ثغر المسلمين، فيطلبهم خيل المسلمين، والطلب متفاوت على قدر الطاقة، فأدركهم بعض من طلب، والناس في آثارهم متساربون، فقاتلهم الأولون، فأظفرهم الله فقتلوا وأسروا وأصابوا ما كان معهم، أترى أن يقسموا على من حضر القتال، أم يكون ما أصابوا لجميع من خرج في الطلب، أم لأهل القرى التي خرج هؤلاء منها؟ قال: إن كان خرجوا من مسالح منصوبة للرباط، أهلها مقيمون للذب عن جميع من وراءهم من الإسلام، قسم ما أصابوا بين أهل تلك المسالح الخارج والمقيم من قاتل أو لم يقاتل، أو خرج أو لم يخرج، قال: وكذلك إن كانوا من أهل حصن في رأس الثغر، قال: وإن كانت قرا إنما فيها أهلها الذين يسكنون فيها بعيالهم، وإنما فجأهم أمر فركبوا في طلب الذين أغاروا عليم قسم ما أصابوا بين كل من طلب، أدرك القتال أو لم يدركه، حضره أو غاب عنه إذا تبين أنهم ممن خرج طالبا بالبت واليقين، وليس لمن لم يخرج في الطلب من أهل تلك القرى شيء، والخمس في جميع ذلك واجب.
قال محمد بن أحمد: هذه مسألة صحيحة حسنة، ذكرها ابن سحنون لأبيه فأعجبته، وقد تقدمت في أول هذا الرسم والقول فيها، وإن كانت هذه أكمل بالمعنى بينها جميعا سواء، وبالله التوفيق.

.مسألة قوم من أهل الذمة هربوا إلى العدو طائعين ثم أصيبوا بعد ذلك:

قال يحيى: وسألت ابن القاسم عن قوم من أهل الذمة كانوا في أرض مدينة المسلمين، فلما نزل بهم العدو مع رجل من المسلمين قادهم إليها، هربوا إلى العدو طائعين، ثم أصيبوا بعد ذلك، أيستحلوا أم لا؟ فقال: إن هربوا من ظلم كان يرتكب منهم؛ لم يحل لهم شيء من نسائهم ولا دمائهم ولا أموالهم، وإن هربوا من غير أن يتعدى عليهم، ولم يخافوا ذلك من ناحية أحد معروف بالظلم، فإنهم وإن أصيبوا، وقد لحقوا بأرض العدو، وفارقوا دار الإسلام فقد حلوا، قلت: فإن أصيبوا عند الذي أخرج العدو على أهل الإسلام فماذا ترى في أمرهم إن قالوا: إنما ارتحلنا إلى ناحية من دار الإسلام، ولم نخرج إلى دار العدو، ولا إلى العدو، وإنما خرجنا إلى هذا الرجل، وهو رجل من المسلمين، وإن كان قد أحدث خلافا؟ فقال: لا أرى لأحد أن يستحلهم ما كانوا في دار الإسلام، وإن كان نزوعهم إلى مثل ما وصفته، فإن لهم في ذلك عذرا وشبهة يحرم بها دماؤهم وأموالهم.
قال محمد بن أحمد: إنما لم ير أن يستباحوا حتى يلحقوا بأرض العدو، ويفارقوا دار الإسلام، وإن كانوا قد صاروا مع العدو، من أجل الرجل الذي قاد العدو، فرأى في ذلك شبهة، ولولا ذلك لكان حصولهم مع العدو الذي هربوا إليه كوصولهم إلى العدو، ولا يستباحون إذا خرجوا إلى غير عدو يريدون بلد العدو فأدركوا قبل أن يصلوا إلا أن يقاتلوا ويمتنعوا على ما قال في رسم الجواب، من سماع عيسى، فلا خلاف بين هذه الرواية وما في رسم الجواب من سماع عيسى المذكور، ولا فيما بين ذلك وبين ما في آخر سماع يحيى، وإنما هي زيادات يفسر بعضها بعضا، وبالله التوفيق.

.مسألة ناس من أهل الذمة كانوا من أهل مدينة للمسلمين وكانوا يتجسسون للعدو:

قال يحيى: سألت ابن القاسم عن ناس من أهل الذمة نصارى ويهود، كانوا من أهل مدينة للمسلمين غلب عليها العدو، فأقاموا بها بعدما غلب عليها العدو، فشكا أهل مدينة للمسلمين تليهم أنهم يتجسسون للعدو، ويكونون لهم عيونا، وإذا أغار المسلمون على أهل تلك المدينة فطلبهم العدو طلب معهم أولئك النصارى الذين كانوا أهل ذمة المسلمين، فاستنقذوا ما أدركوا، وقتلوا إن قدروا، فإذا أصاب المسلمون منهم أحدا قالوا: إنا نؤمن بالذي نصنع، ونقهر عليه، فنحن نخاف إن لم أفعل أن نقتل، ولا يعرف ما يدعون من القهرة والتخويف بالقتل على ما يصنعون إلا بقولهم، قلت: أفترى أن يستحل قتلهم إذا ظفر بهم، وقد علم أنهم ركبوا من المسلمين الذي وصفت لك من شكية أهل الحصن الذين جاوروهم؟ فقال: أرى أن يقتل فيهم من علم أنه قتل، وأما من لم يعلم أنه قتل غير أنه يرى في الطلب للمسلمين، واستنقاذ ما غنموا وما أشبه هذا، فلا يستحل قتله، ولكن أرى أن يحبسوا ويطال حبسهم، قلت: أرأيت إن أقاموا مع العدو بعد الأجل الذي أجل إليهم في الرحيل إلى أرض الإسلام، فأغاروا مع من يغير من العدو فسبوا وأضروا بالمسلمين، فزعموا أنهم منعوا من الرحيل، وأمروا بالغارة على المسلمين، ولا يعرف الذي ادعوا إلا بقولهم، أيستحلوا أم لا؟
قال محمد بن رشد: هؤلاء أهل ذمة لم يتبين نقضهم للعهد؛ لكونهم بمكانهم، فهم فيما يفعلون من طلبهم مع العدو واستنقاذهم ما أدركوا، وقتلهم إن قدروا بمنزلة من حارب من أهل الذمة، يحكم عليه بحكم المحارب من المسلمين، إلا أن لهم شبهة فيما يدعون من الإكراه على ذلك، وخوف القتل إن لم يفعلوا، فيسقط عنهم حكم الحرابة، فهذا عندي معنى الرواية، وقوله فيها أرى أن يقتل من علم أنه قتل معناه يقتل قصاصا به، ويكون لأولياء المقتول العفو عنه على حكم النصراني يقتل المسلم على غير حرابة، ورأى أن يطال حبسهم اجتهادا، إذا لم يثبت ما ادعوه من الإكراه، ولو ثبت ذلك لم يجب على من يقتل منهم شيء، وهذا هو الحكم فيهم أيضا إذا فعلوا ذلك بعد الأجل الذي أجل لهم، وادعوا أنهم منعوا من الرحيل، وأكرهوا على الغارة؛ لاحتمال صدقهم فيما يدعون.