فصل: مسألة يفتري عليه فيريد صاحبه المفترى عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة يفتري عليه فيريد صاحبه المفترى عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه:

ومن كتاب الشجرة تطعم بطنين في السنة:
وسئل عن الرجل يفتري عليه فيريد صاحبه المفترى عليه أن يستحلفه وليست له بينة إلا بادعائه قال: لا أرى أن يستحلف له، من يعلم ما قال؟ قيل له: فإن أتى بشاهد؟ قال: أرى أن يحلف له، قيل له: فإن أبى أن يحلف قال: وهل يستطيع إلا أن يحلف إلا أن أصحابه أخبروني أنه قال يسجن أبدا حتى يحلف، ولم يختلفوا فيه جميعا أنه قال: يسجن حتى يحلف، وهو قولي.
قال محمد بن رشد: قد اختلف إذا لم يكن للمدعي بينة على دعواه على ثلاثة أقوال، أحدها: قوله في هذه الرواية: إنه لا يمين على المدعى عليه، والثاني: قوله في رسم العقول والجبائر من كتاب الجنايات: إن عليه اليمين، والثالث: قول ابن القاسم في أول سماع أصبغ من كتاب الجنايات: إنه لا يمين عليه إلا أن يكون مشهورا بذلك، فإن حلف على رواية أشهب أو على رواية أصبغ إن كان ذلك مشهورا بذلك برئ وإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل ذلك، فإن طال خلي سبيله ولم يؤدب، وقال أصبغ: إنه يؤدب إذا كان معروفا بالأذى وإن كان مبرا في ذلك أي مشهورا به مبرزا فيه خلد في السجن، وكذلك اختلف أيضا إذا كان له شاهد واحد على دعواه على ثلاثة أقوال، أحدها: أن المدعى عليه يحلف وهو قوله في هذه الرواية فإن نكل عن اليمين سجن حتى يحلف ما لم يطل، فإن طال فعلى ما تقدم من قول أصبغ وروايته عن ابن القاسم إذا أوجبت عليه اليمين بالدعوى فنكل عنها، والثاني: إنه إن كان معروفا بالشتم والسفه عزر ولم يستحلف، وإن لم يكن معروفا بذلك استحلف، وهو قول مالك في رسم القضاء لأشهب من سماع أشهب من كتاب الشهادات، إلا أنه ضعف اليمين، والثالث: إنه يحلف مع شاهده ويحد له، روي ذلك عن مطرف وهو شذوذ في المذهب أن يحد في الفرية باليمين مع الشاهد، ويتخرج في المسألة قول رابع: إنه لا يحلف مع شاهده في الفرية ويحلف معه فيما دون الفرية من الشتم الذي يجب فيه الأدب، وكذلك اختلف أيضا في القصاص من الجراح باليمين مع الشاهد على ثلاثة أقوال وقد مضى هذا كله في الرسم المذكور في سماع أشهب من كتاب الشهادات عليه، وبالله التوفيق.

.مسألة قال له الذي تزعم أنه أبوك:

ومن كتاب حلف ليرفعن أمرا:
وسئل مالك عن رجلين من بني سلمة وقعت بينهما مشاتمة فقال أحدهما لصاحبه: أبي خير من أبيك وأمي خير من أمك وما أمشى مقنعا رأسي، فقال له الآخر: هلم أباك الذي تزعم أنه أبوك فهذا من يعرف أبي ويعرف أباك ويعرف أمي ويعرف أمك، قال: قال مالك: هذا أنكر ما تكلم به حين قال الذي تزعم أنه أبوك، ثم قال ما أرى في مثل هذا كله حدا والعفو في مثل هذا أمثل والصفح أفضل، فأما الحد فلا أراه ولا أرى في مثل هذا حدا.
قال محمد بن رشد: إنما قال إن أنكر ما تكلم به قوله الذي تزعم؛ لأن زعم إنما تستعمل في الأشياء المكروهة وفيما يتهم فيه القائل بالكذب، بخلاف قال وذكر، ولما كان لفظ يزعم لا يقتضي تحقيق الكذب عليه فيما زعمه لم ير في ذلك حدا، ورأى التجافي عن العقوبة في مثل ذلك أمثل وأولى من العقوبة فيه؛ لأنه قول خرج منه على سبيل الجواب لتعريضه بالريب في قوله وما أمشي مقنعا رأسي أي: إنك أنت تفعل ذلك، وعبر عن التجافي عن عقوبته بالعفو والصفح تجاوزا واستعارة، إذ ليس تجافي الحاكم عن عقوبة من تلزمه العقوبة عفوا له عن العقوبة ولا صفحا عنها، إذ ليس ذلك إليه، وإنما العفو والصفح للمقول له ذلك القول المؤذى به والله الموفق.

.مسألة إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته:

وسئل مالك عن تفسير حديث علي بن أبي طالب إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته أي البكر والثيب جميعا إذا أتى بأربعة شهداء خلي سبيله، قال: لا أدري ما هذا لم أسمع فيه شيئا إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له، قال ابن القاسم: أرى إذا قام أربعة شهداء في البكر والثيب يشهدون أنهم رأوه يزني بها ترك، وهذا تفسير الحديث.
قال محمد بن رشد: قوله في الحديث فليعط برمته معناه فليسلم بذاته للقود منه بمن قتل منهما، فنص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على أنه يقتل إن لم يأت بأربعة شهداء، وسكت عن الحكم في ذلك إن أتى بهم، فاقتضى دليل قوله بحمله على عمومه ألا يقتل إن أتى بأربعة شهداء على معاينة الزنا كان المقتول منهما بكرا أو ثيبا، وقد اختلف في القول بدليل الخطاب ولذلك توقف مالك في ذلك فقال: لا أدري ما هذا لم أسمع فيه شيئا ثم قال بعد ذلك: إنما أريد بهذا الحديث موضع الشهادة الذي يدعي هذا الأمر للبراءة له، فرأى بدليل الخطاب ألا يقتل إذا أتى بأربعة شهداء ظاهره في البكر والثيب مثل قول ابن القاسم، وقد اختلف في ذلك إذا كان المقتول منهما بكرا على أربعة أقوال، أحدها: أنه لا يقتل ويكون دمه هدرا، وهو قول المغيرة وعبد الرحمن، وظاهر قول ابن القاسم وروايته عن مالك في هذه الرواية، وقاله ابن عبد الحكم إذا علم التشكي منه به قبل ذلك، والثاني: أنه لا يقتل به وتكون الدية فيه على عاقلته، وهو قول ابن القاسم في كتاب ابن المواز وفي المدنية وفي تفسير ابن مزين من رواية أصبغ عنه، والثالث: أنه لا يقتل وتكون الدية عليه في ماله، وهو قول أصبغ من روايته في تفسير ابن مزين، والرابع: أنه يقتل به وهو قول ابن الماجشون، فوجه القول الأول أن من أصابه مثل هذا يدركه من الغضب ما يفقد معه عقله فيكون حكمه في ذلك حكم المجنون الذي لا يعقل، وقد قيل فيه إن جنايته في المال والدم هدر، ويؤيد هذا ما روى حذيفة «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لأبي بكر: أرأيت لو وجدت مع أم رومان رجلا ما كنت صانعا به؟ قال: كنت صانعا به شرا، قال فأنت يا عمر؟ قال: كنت قاتله، قال فأنت يا سهيل بن بيضاء؟ قال: كنت أقول أو قائلا لعن الله الأبعد والبعد ولعن أول الثلاثة أخبر بهذا، فقال عَلَيْهِ السَّلَامُ تأولت القرآن يا ابن بيضاء {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]» الآية وموضع الدليل من الحديث أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ لم ينكر على عمر بن الخطاب قوله كنت قاتله فدل على أنه رآه معذورا فيما أخبر به من أنه كان يقتله، ومن طريق القياس أن هذا قتل عمد لا قصاص فيه ولم يجب فيه دية، ووجه القول الثاني أنه لما عذر بما أدركه من الغضب وحكم له في ذلك بحكم المجنون كانت الدية على عاقلته إذ قد قيل ذلك في المجنون، ووجه قول أصبغ أن الدية في ماله هو أن الشبهة في درء القود عنه لما لم يكن بينة أشبه شبه العمد عند من يقول به، وهذا هو أظهر الأقوال، إذ قد قيل إنه يقتل به، وممن قال ذلك ابن الماجشون، ووجهه أنه قاتل لمن لم يجب عليه بما صنع قتل فوجب أن يقاد منه، والدليل على ذلك من الحديث ما رواه أبو هريرة من حديث مالك في موطئه «أن سعد بن عبادة قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم؛» لأن معنى قوله نعم النهي له عن قتله لما تقدم من قوله على ما روي عنه أنه كان يقول لو وجدته لضربته بالسيف غير مصفح إلا أنه يجب عليه أن يخليه معها حتى يخرج فيأتي بالبينة، بل يجب عليه أن يضربه ويخرجه عن منزله ولا يقتله وإن رآه يزني بها وهو محصن إذ لا يصدق في ذلك، وقال ابن الماجشون: إنه إن قتله وأتى بأربعة شهداء على معاينة الفعل وهو محصن عاقبه الإمام لقتل من وجب عليه القتل دون الإمام، ومن قول ابن الماجشون إنه إن قاتله فقطع يده أو رجله فهو هدر إلا أن يقتله فيقتل به إن لم يأت بأربعة شهداء أو أتى بهم وهو بكر غير محصن، وبالله التوفيق.

.مسألة كان بينه وبين قريب له شر وجدته أخت أبيه فقال له إن نسبك مني بعيد:

ومن كتاب سلف في المتاع والحيوان:
وسئل عن رجل كان بينه وبين قريب له شر وجدته أخت أبيه فقال له إن نسبك مني بعيد هل ترى في هذا شيئا؟ قال مالك: ما أرى في هذا شيئا.
قال محمد بن رشد: وهذا بين على ما قاله لأنه حفيد عمته فإن كان زوجها من قوم آخرين فلا نسب بينه وبينهم أصلا وإن كان من قومه فنسبه منه بعيد كما قال.

.مسألة يقول الذي يقول إني فعلت كذا وكذا فهو ابن الزانية:

وقال مالك في رجل يقول له إنك فعلت كذا وكذا فيقول: الذي يقول إني فعلت كذا وكذا فهو ابن الزانية، فيقول الرجل أنا قلته قال: إن قامت له بينة أنه قاله أخذ منه الحد وإلا فلا حد عليه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله لأنه لما قال له إنك فعلت كذا وكذا كان الظاهر من قوله أنه يقول ذلك فصار بقوله الذي يقول إني فعلت كذا وكذا بمنزلة أن لو قال له: إن كنت قلت كذا وكذا فأنت ابن الزانية، فوجب أن يحد إن أثبت أنه قاله، معناه إن قامت أمه بحدها لأنها هي المقذوفة وليس له أن يقوم بحدها إذا كانت حية إلا أن توكله على ذلك.

.مسألة يشج الرجل منقلة ما لا قود فيها أيعاقب مع الغرم:

ومن كتاب مساجد القبائل:
وسئل عن الرجل يشج الرجل منقلة ما لا قود فيها أيعاقب مع الغرم؟ فقال: نعم، فقيل له كيف ترى عقوبته أيجرد أهلها أم يجلدون بثيابهم؟ قال: بل يجردون، قيل لمالك فالنساء؟ قال: يقعدن، وقد أخذت امرأة جعلت تحت ثيابها قطيفا فنزعت عنها، قيل يا أبا عبد الله نزعت؟ قال: نعم، وأرى أن تنزع إذا كان مثل ذلك، قيل له: أفيجلد الرجل قياما أم قعودا؟ قال: ما أدركت أحدا يضرب إلا قاعدا، وأنكر المد في الحبال، قال مالك: وقد كان يتخذ للنساء قفاف يدخلن فيها فأعجبني ذلك وأرى أن يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: قوله إنه يعاقب في الجرح الذي يقتص منه مع الغرم صحيح لا اختلاف فيه، وإنما يختلف: هل يعاقب مع القصاص فيما يقتص منه فيه حسبما مضى القول فيه في رسم سلعة سماها من سماع ابن القاسم من كتاب الجنايات، وما ذكره من أن الرجل يضرب قاعدا ويجرد ولا يمد، ومن أن المرأة لا تجرد إلا أنه ينزع عنها ما يقيها الضرب ومن استحسانه لضرب النساء في قفاف يدخلن فيها وهو نص ما في المدونة في ذلك كله ولا إشكال ولا اختلاف في شيء منه، وبالله التوفيق.

.مسألة وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه:

وحدثني مالك عن يحيى بن سعيد أن امرأة خرجت إلى بعض الحرار فلما نزلت مزقرة عرض رجل من أصحاب الحمر فنزل إليها ثم أرادها عن نفسها وكشف ثيابها عنها فامتنعت منه فرمته بحجر فشجته ثم.... فذهب فأتت مروان بن الحكم، وكانت فيه شدة في الحدود، فذكرت ذلك له، فسألها عن اسمه فلم تعرفه، فقال لها أتعرفينه إذا رأيته؟ قالت: نعم، فأدخلت بيتا ثم قال ايتوني بالمكاريين الذين يكرون الحمر، وقال: لا يبقى أحد أكريتموه إلا جئتموني به، فأتوه بهم، فجعل يدخل عليها رجلا رجلا، فتقول: ليس هو هذا حتى دخل به عليها مشجوجا، فقالت: هو ذا، فأمر به مروان فحبس فأتاه أبوه فكلمه، فقال مروان:
جانيك يجني عليك وقد ** يعدي الصحاح مبارك الجرب

فلرب مأخوذ بذنب عشيرة ** ونجا المقارف صاحب الذنب

فقال أبوه: ليس كذلك قال الله، إنما قال الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فقال مروان: لاها الله، إذا لا يخرج منه حتى ينقدها ألف درهم لما كشف منها، قال أبوه هي علي، فأمر به مروان فأخرج.
قلت لمالك: أترى هذا من القضاء الذي يؤخذ به؟ فقال: ليس هذا عندي من القضاء، ولكنه على غلظة من مروان في الحدود، ولقد كان مروان يؤتى بالرجل قد قبل المرأة فينزع ثنيته، فلم ير مالك مع التهمة البينة أن يؤخذ بها ولكن يطال سجن المتهم رجاء أن توجد عليه بينة.
قال محمد بن رشد: تضمينه هذه الحكاية عن مروان بن الحكم من أنه قضى للمرأة بدعواها على الكري الذي ادعت أنه أرادها عن نفسها وكشف عنها ثيابها بألف درهم بما ادعت عليه من كشفه إياها مع الشبهة التي ألحقت التهمة به وحققت المظنة عليه لا يأخذ به مالك ولا يرى القضاء به، إذ لا يرى العقوبات في الأموال؛ لأن العقوبات في الأموال أمر قد كان في أول الإسلام، من ذلك «ما روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في مانع الزكاة: إنا آخذوها منه وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا» «وما روي عنه في حريسة الجبل: أن فيها غرامة مثيلها وجلدات نكال» «وما روي عنه من أن سلب من أخذ وهو يصيد في الحرم لمن أخذه» كان ذلك كله في أول الإسلام وحكم به عمر بن الخطاب ثم انعقد الإجماع بأن ذلك لا يجب، وعادت العقوبات على الجرائم في الأبدان، وقد أنكر ذلك على مروان بن عبد الحكم، فقال على سبيل إنكار ذلك عليه: إنه قد كان يؤتى بالرجل يقبل المرأة فينتزع ثنيته، وهذه نهاية في الإنكار، والعقوبات على الجرائم عند مالك على قدر اجتهاد الوالي وعظم جرح الجاني وأن يجاوز الحد، وقد أمر مالك صاحب الشرط في الذي وجد مع صبي في سطح وقد جرده وضمه إلى صدره وغلق على نفسه معه فلم يشكوا في المكروه بعينه أن يضربه ضربا مبرحا ويسجنه سجنا طويلا حتى تظهر توبته وتتبين، فسجنه صاحب الشرط أياما قبل أن يضربه فكان أبوه يختلف إلى مالك ويتردد عليه ويقول اتق الله فما خلقت النار باطلا، فيقول مالك: أجل وإن الذي ألفي عليه ابنك لمن الباطل، ثم ضربه صاحب الشرط أربعمائة سوط فانتفخ فمات، فما أكبر ذلك مالك ولا بالى به، فقيل له يا أبا عبد الله إن مثل هذا من الأدب والعقوبة لكثير، فقال هذا بما أجرم، وما رأيت أنه أمسه من العقوبة إلا بما اجترم، وقال مطرف بن عبد الله في المبسوطة: الأدب إلى الحاكم موكل إلى نظره يؤدب في ذلك باجتهاده، وإن أتى الأدب على النفس وإخراج الروح، وله في الواضحة أن أقصى ما يبلغ في الأدب في المعروف بالجرم ثلاثمائة فما دون ذلك، وروي عن أصبغ أن أقصى الأدب في جرم الفاسد البين الفساد مائتان، وروي عنه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام وإن أتى على النفس، وقد روي عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ من رواية ابن عباس أنه قال: «من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين» وذهب إلى هذا محمد بن سلمة فقال: قد انتهى غضب الله في الزانية والزاني إلى مائة جلدة فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: 2] فلم يجعل عليهما أكثر من ذلك، فلا يتجاوز في العقوبة ثمانون سوطا، وقد روى عبد الله بن مسلمة بن قعنب عن مالك أنه لا يتجاوز فيها خمسة وسبعين، وأنه كان يقول: الأدب عندي دون الحد، والمشهور عنه المعلوم من مذهبه أن ذلك إلى اجتهاد الإمام، وهو مذهب ابن القاسم، وقال أبو حنيفة: لا يبلغ بالضرب أكثر من ثلاثة أسواط في الأدب، ولا يزاد على الثلاثة إلا في حد، وروي ذلك عن الليث بن سعد، وقال أبو يوسف: لا يبلغ في الأدب ثمانين، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة: لا يبلغ فيه مائة، ومن أهل العلم من رأى أنه لا يضرب في الأدب أكثر من عشرة أسواط على ما روى أبو بردة «عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أن الأدب لا يكون فوق عشرة أسواط» وروي مثله عن أشهب قال لا يزيد السلطان في الأدب على عشرة أسواط ولا المكتب على ثلاثة فإن زاد على ثلاثة اقتص منه، وبالله التوفيق.

.مسألة العسل يخلط باللبن:

ومن كتاب البز:
وسئل ابن القاسم عن العسل يخلط باللبن فقال: لا بأس به.
قال محمد بن رشد: هذا كما قال، وهو مما لا اختلاف فيه؛ لأن النهي إنما جاء في الخليطين من الأشربة التي يصنعها الناس من الأطعمة كالتمر والزبيب والعسل والبر وما أشبه ذلك، وأما اللبن فليس بشراب من صنع آدمي، فلا كراهة في خلطه بالعسل ولا شراب من الأشربة، والأصل في هذا أنه إذا كان الشيئان يصلح أن ينبذ كل واحد منهما فلا يجوز أن يجمعا في الانتباذ ولا أن يخلط شرابهما إذا انتبذ كل واحد منهما على حدة، وإذا كان الشيئان لا يصلح أن ينبذ أحدهما أو كلاهما فلا بأس بخلط شرابيهما، وإنما نهي عن خلط الشرابين إذا اختلف أصولهما ومن جمع الشيئين المختلفين في الإنباذ من باب حماية الذرائع؛ لأن الشدة والإسكار يسرع إليهما بذلك، فمن خلطهما وشربهما في الفور لم يكن عليه في ذلك حرج، وقيل إن النهي في ذلك عبادة لا لعلة، فعلى هذا القول لا يجوز ذلك وإن شربهما بالفور، وأما شراب الورد وشراب السكنجبين وما أشبه ذلك من الأشربة السكرية أو العسلية فالجمع بينهما جائز باتفاق؛ لأن أصلهما جميعا واحد ولا يجوز خلط شراب سكري وعسلي لاختلاف أصلهما، وبالله التوفيق.

.مسألة شهدا على رجل أنه شرب خمرا فحلف بطلاق امرأته ما شرب خمرا:

وسئل مالك عن رجلين شهدا على رجل أنه شرب خمرا فحلف بطلاق امرأته ما شرب خمرا، أترى أن يطلق عليه امرأته؟ قال أرى أن يضرب الحد، ولم نر عليه طلاقا، وقد قال: إن هذه وجوه يكون لها تفسير، من الناس من يقول: إنما الخمر من العنب، قيل له أفتقول ذلك؟ قال: وكل خمر فهو خمر إذا أسكر، قيل له: أفتوجب عليه الطلاق؟ قال: لا ولكن أوجب عليه الحد.
قال محمد بن رشد: إنما نواه لأن كل ما أسكر فهو خمر عنده، خلاف ما يذهب إليه أهل العراق في أن الخمر إنما يقع على ما أسكر من العنب، وبعضهم يقول إنه يقع على ما أسكر من العنب والتمر والزبيب النقيع، فلما شهدا عليه أنه شرب خمرا ولم يقولا مم هي الخمر التي شرب كانا بمنزلة أن لو شهدا عليه أنه شرب سكرا، فنواه في أنه لم يشرب الخمر التي هي الخمر عند أهل العراق ولو شهدا عليه أنه شرب خمر العنب فحلف أنه لم يشرب خمرا لطلقت عليه زوجته باتفاق، وقد قيل إنه لا ينوي مع قيام البينة وإنما ينوي إذا جاء مستفتيا، وقيل إنه لا ينوي وإن جاء مستفتيا، وإلى هذا ذهب ابن المواز، وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في رسم سلف من سماع عيسى من كتاب النذور.

.مسألة يخلط الشيئان للخل:

ومن كتاب أوله سلعة سماها:
وسئل عن العصير يجعل فيه الشعير وغير ذلك مما يخلل به التماس أن يكون خلا فيخلل، أترى به بأسا؟ قال: لا بأس بذلك.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن النهي إنما هو في خلط الشرابين للشرب إذا اختلفت أصولهما، وفي انتباذ الشيئين المختلفين للشرب، وكذلك خلط ما ينبذ مع الشراب الذي قد نبذ من شيء آخر ليشرب، وأما الخل فليس من ذلك في شيء؛ لأنه ليس بشراب، وإنما هو إدام؛ فجائز أن يخلط الخلان وإن اختلفت أصولهما وأن يخلط الشيئان للخل وأن يخلط مع العصير الذي يراد للخل ما شاء من الأشربة والأطعمة، هذا هو المشهور من قول مالك، وفي ذلك اختلاف حسبما يأتي ذكره في رسم الحدود من سماع أشهب وفي رسم الأشربة والحدود منه أيضا، وبالله التوفيق.

.مسألة يقذف الرجل الغريب فيقول له يا ابن زانية:

وسئل عن الرجل يقذف الرجل الغريب فيقول له يا ابن زانية وهو غريب لا تعرف أمه... عليه فيقول السلطان هذا غريب لا تعرف أمه فيستشير في ذلك في أن يقيم عليه الحد أم لا؟ قال مالك أرى أن يضرب الحد إذا كان رجلا مسلما، وقد يقدم الرجل البلد فيقيم فيها سنتين من أهل خراسان وغير ذلك فيقذفه الرجل فيقال له أقم البينة أن أمك حرة أو مسلمة، قال ما أرى ذلك عليه، ولكن أرى أن يضرب من قذفه، والظالم هو الذي يحمل عليه فأرى أن يحد قاذفه.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن أم الحر المسلم محمولة على الحرية والإسلام حتى يعلم خلاف ذلك، كما أنه محمول على الحرية حتى يعلم أنه عبد لو قذفه رجل لوجب على قاذفه الحد إلا أن يثبت أنه عبد، وإنما يحد إذا قال له: يا ابن الزانية، إذا كانت أمه قد ماتت أو حاضرة فوكلته، وأما إن كانت غائبة قريبة الغيبة فلا يحد لها إلا بعد الإعذار إليها.

.مسألة قال لرجل يا ابن أمي فقال له الرجل ابن أمك الشيطان:

ومن كتاب باع غلاما:
وسئل مالك عن رجل قال لرجل: يا ابن أمي، فقال له الرجل: ابن أمك الشيطان، فقال: ليس في هذا فرية، وهذا من كلام أهل السفه، قيل له: أفترى فيه أدبا؟ قال: إنه لخفيف وهو إذا.
قال محمد بن رشد: هذا بين أنه خفيف على ما قال؛ لأن ذلك من قول القائل محال فلا يلحق المقول له بذلك نقص ولا عيب، وبالله التوفيق.

.مسألة رجل من الموالي قال لرجل عربي أنا أقرب برسول الله عليه السلام منك:

وسئل مالك عن رجل من الموالي قال لرجل عربي، أنا خير منك أصلا وفصلا وأقرب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، قال مالك: ما أرى من أمر بين، قيل له: أفترى عليه حدا حين قال: أنا أقرب برسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ منك؟ قال: ما أرى من أمر بين والعفو في ذلك أفضل.
قال محمد بن رشد: الأصل النسب، والفصل الحسب، فقوله أنا خير منك أصلا وفصلا بمنزلة قوله أنا خير منك نسبا وحسبا أو أنا أكرم نسبا وحسبا، والحسب قد يراد به النسب، وقد يراد به الدين، بدليل قول عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كرم المؤمن تقواه ودينه حسبه. الحديث، فإذا أفرد الرجل الحسب عن النسب فقال لصاحبه في سبه إياه: أنا خير منك أو أفضل منك أو أكرم منك حسبا، حمل قوله على النسب، وإذا جمعه معه فقال له: أنا خير منك وأفضل منك وأكرم منك حسبا ونسبا، حمل الحسب على الدين، فيتحصل في قول الرجل للرجل: أنا خير أو أفضل منك أو أكرم منك حسبا ونسبا أو أصلا ثلاثة أقوال، أحدها: قول مالك في هذه الرواية وغيرها إنه لا حد عليه؛ لأن ذلك لا يرجع عنده إلا إلى تفضيل العجم على العرب، إن كان القائل من العجم والمقول له من العرب لا إلى نفي المقول له عن نسبه لأن قول المولى للعربي: أنا خير منك بمنزلة قوله: العجم خير من العرب، هذا الذي ذهب إليه مالك، والثاني: إنه إن قال له: أنا أكرم منك أو أفضل منك أو خير منك نسبا، فعليه الحد إن كان قاله عربي لقرشي أو مولى لعربي أو لقرشي، وإن لم يقل نسبا وقال حسبا فعليه الأدب ولا حد عليه، وهو مذهب ابن أبي حازم والثالث: إنه إن قال له: أنا أكرم منك أو أفضل منك أو خير منك نسبا، فعليه الحد وإن لم يقل نسبا وقال حسبا فعليه الحد إلا أن يقول إنما أردت الدين فيحلف على ذلك ويسقط عنه الحد إذا كان يشبه أن يكون كذلك، وإن كان لا يشبه أن يكون كذلك لظهور سفه لم يصدق في ذلك، ووجب عليه الحد، وهو مذهب مطرف وابن الماجشون وأصبغ فيما حكى ابن حبيب عنهم من أنه إذا قال عربي لعربي مثله أو فوقه أو لقرشي: أنا خير منك، فلا حد عليه، وكذلك إذا قاله مولى لمولى، وإذا قاله مولى لعربي حد للنفي، كأنه قال: لست من العرب حيث فضل عليه المولى، إلا أن يقول: إنما أردت أني خير منك عند الله، فيحلف بالله ما أراد إلا ذلك، ثم لا حد عليه إن كان قائل ذلك مثله يشبه أن يكون كذلك، وإن كان سفيها مثله لا يشبه أن يكون كما قال، لم يقبل قوله، وحمل عليه أنه أراد تنحيته عن نسبه، قالا: ولو قاله ابنا عم من العرب أو من قريش أحدهما لصاحبه كان فيه الحد؛ لأنه لا مذهب له هاهنا إلا النفي إلا أن يقول: أردت أني خير منه دينا ومثله يشبه أن يكون كذلك فيحلف وينجو من الحد، فقول مطرف وابن الماجشون وأصبغ مثل قول ابن أبي حازم في قوله: أنا أكرم منك نسبا، وخلاف له في قوله: أنا أكرم منك حسبا، وقوله في الرواية: والعفو في ذلك أفضل معناه ودرأته الحد في ذلك أولى وأحسن إذ ليس العفو على الحد إلى الإمام، وإنما ذلك لصاحب المقذوف، ولو قال الرجل لصاحبه في مشاتمة: ما لك أصل ولا فصل لم يجب عليه الحد على مذهب مالك، خلاف قول أصبغ وخلاف ما حكى ابن حبيب عن ابن الماجشون من أنه إن قاله لعربي حد، إلا أن يعذر بجهالة، فيحلف ما أراد قطع نسبه ويؤدب، وإن نكل عن اليمين حد، وإن قاله لمولى فلا حد عليه.

.مسألة رجل من العرب ورجل من قريش فادعى كلاهما أنه أفضل من الآخر:

ومن كتاب صلى نهارا:
وسئل عن رجل من العرب ورجل من قريش كانا في دعوة في قسمهم وهم حلفاء، فذهب العربي يتقدم القريشي وكلاهما قد صحب أبوه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال القريشي للعربي: لا تتقدمني أنا خير منك وأقرب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، فقال له العربي: بل أنا خير منك وأقرب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منك، فسئل مالك عنه: هل ترى في مثل هذا حدا؟ فقال: ما أرى من حد يثبت، والعفو في مثل هذا أفضل.
قال محمد بن رشد: درء الحد في هذه المسألة بين على ما قاله، إذ لم يزد على قوله أنا خير منك، فلا أعرف في ذلك نص خلاف، ولو قال: أنا خير منك نسبا لوجب عليه الحد عند ابن أبي حازم، وقد مضى في المسألة التي قبل هذه من الكلام ما فيه بيان هذه، وبالله تعالى التوفيق.

.مسألة جلد الحد رجلا قال لرجل إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد:

ومن كتاب طلق:
قال وحدثني أن مروان بن الحكم جلد الحد رجلا قال لرجل: إن أمك لتحب الظلم فجلده الحد، قال ابن القاسم، قال مالك: ليس عليه العمل.
قال محمد بن رشد: إنما لم ير مالك عليه العمل إذ ليس عنده بتعريض بين، لاحتمال أن يريد أنها تحب الظلم لئلا يبدو قبح صوتها أو سماجة هيئتها أو ما أشبه ذلك من المعاني التي لا يراد بها الزنا، وبالله التوفيق.

.مسألة رائحة الخمرتوجد بالرجل هل يحد:

ومن كتاب اغتسل على غير نية:
وسئل مالك عن الرائحة توجد بالرجل، قال: إن شهد عليه ذوا عدل أنه شرب مسكرا حد، وإن لم يستيقن وكان من أهل السفه نكل، وإن كان رضا في حاله لم أر عليه نكالا ولا حدا.
قال محمد بن رشد: قوله: إن شهد عليه ذوا عدل أنه شرب مسكرا حد، معناه إذا كانت الشهادة عليه بذلك دون أن يأمر السلطان باستكناهه لأن الواحد يجزي في الاستكناه إذا أمر الإمام بذلك، ولا اختلاف في مذهب مالك، وجل أهل العلم في أن المسكر من جميع الأشربة خمر يجب الحد على من شربها سكر أو لم يسكر لقول النبي عليه السلام «ما أسكر كثيره فقليله حرام» وإنما يخالف في ذلك أهل العراق فيرون شرب ما دون السكر من الأنبذة المسكرة حالا، ولا يحرمون اليسير والكثير إلا من خمر العنب أو العنب والتمر على قول بعضهم، وهو من المذاهب المرغوب عنها البينة خطؤها.

.مسألة يقول للرجل يا ابن البربرية وأمه عربية:

ومن كتاب سعد:
قال مالك في الرجل يقول للرجل يا ابن البربرية وأمه عربية: إنه يضرب الحد؛ لأنه نفى أمه من أبيها، فإن قال: ليست أمك فلانة، فلا أرى عليه حدا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قاله؛ لأن من قال لعربي: يا بربري، وهو يعرف أنه عربي فعليه الحد؛ لأنه قد نفاه عن نسبه، فقوله: إنه يضرب الحد إذا قال له: يا ابن البربرية، وأمه عربية، معناه إذا كان يعرف أن أمه عربية، وإنما وجب الحد في قول الرجل للرجل: ليس أبوك فلانا، ولم يجب في قوله: ليست أمك فلانة لأن نسب الرجل يثبت من أبيه بالحكم وغلبة الظن دون المشاهدة واليقين، ويثبت من أمه بالمشاهدة واليقين، فإذا قال له: لست لأمك لم يغره بذلك ولا كانت عليه فيه غضاضة لأنه يعلم كذبه فيما قاله، وإذا قال له لست لأبيك فقد غره بذلك إذ لا يعلم كذبه قطعا فيما رماه به، وقذف أمه بالزنا، فيجب عليه حدان، حد له لقطع نسبه من أبيه، وحد لأمه لتزنيته إياها، ويختلف هل يجب عليه حد لأبيه أم لا، فلا يجب عليه على مذهب أشهب ويجب عليه على مذهب ابن القاسم في المدونة في إيجاب الحد على من قال لعبده: لست لأبيك وأبوه مسلم وأمه كافرة، قال: لأنه حمل أباه على غير أمه، وهو بعيد، وقول أشهب أصح، وبالله التوفيق.