فصل: فصل: القَوْل فِي تَقْدِيم قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَو الشَّيْخَيْنِ، على غَيرهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل: الْأمة إِذا لم تفصل بَين مَسْأَلَتَيْنِ، فَهَل لمن بعدهمْ أَن يفصل بَينهمَا؟:

إِذا ظهر فِي الْأمة مَسْأَلَتَانِ: وَاخْتلف قَول الْأمة فيهمَا، فَذهب بعض الْأمة إِلَى الْحل فيهمَا مثلا، وَذهب آخَرُونَ إِلَى التَّحْرِيم فيهمَا فَلَو أَرَادَ بعض الْعلمَاء فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ أَن يَأْخُذ بالتحليل، وَفِي الْأُخْرَى بِالتَّحْرِيمِ، فَهَل ذَلِك لَهُ؟ فَلَا يَخْلُو من أَمريْن:
إِمَّا أَن يجمع الْأمة على أَنه لَا فرق بَين الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَلَا يسوغ الْفَصْل بَينهمَا. فإمَّا التَّحْلِيل فِيهَا، وَإِمَّا التَّحْرِيم.
وَأما التَّحْلِيل فِي إِحْدَاهمَا وَالتَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى، فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ، لما عَلَيْهِ الْأمة من الإطباق فِي الِاتِّفَاق.
وَذهب بعض النَّاس إِلَى أَنه يجوز التَّفْرِقَة بَينهمَا، وَإِن أَجمعت الْأمة على منعهَا. فَإِن الْإِجْمَاع على منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ بِإِجْمَاع على حكم من الْأَحْكَام، فَلَا معول عَلَيْهِ.
وَهَذَا غلط و مراغمة لما عَلَيْهِ الْأمة صَرِيحًا. وَلَو سَاغَ ذَلِك فِي شَيْء، لساغ فِي كل شَيْء. وَمَا ذَكرُوهُ من أَن منع التَّفْرِقَة، لَيْسَ من الْأَحْكَام، فَهُوَ بَاطِل. فَإِنَّهُ حكم لَا خَفَاء بِهِ، لأَنهم إِذا أَجمعُوا على منع الْفَصْل، فقد أَجمعُوا على منع التَّحْلِيل فِي إِحْدَاهمَا مَعَ التَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى. وَهَذَا تعرض لحكم نفيا وإثباتاً. فَهَذَا إِذا نقل عَنْهُم منع التَّفْرِقَة.
وَأما إِذا لم ينْقل ذَلِك عَنْهُم، فَالصَّحِيح: أَنه يجوز لبَعض الْعلمَاء الْأَخْذ بالتحليل فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَالتَّحْرِيم فِي الْأُخْرَى.
وَذَلِكَ أَنه إِذا أَخذ بِالْحلِّ فِي إِحْدَاهمَا، فقد قَالَ بالتحليل فِيهَا قَائِلُونَ، وَكَذَلِكَ إِذا أَخذ بِالتَّحْرِيمِ فِي الثَّانِيَة، وَلم ينْقل عَن الْأمة منع الْفَصْل، وَلَا تعلق لإحدى الْمَسْأَلَتَيْنِ بِالْأُخْرَى، بِوَجْه من الْوُجُوه.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى منع الْفَصْل بَين الشقتَيْنِ، إِذا لم يتَّفق لأحد من السَّابِقين الْفَصْل بَينهمَا، وَفِيمَا أومأنا إِلَيْهِ مَا يُوضح فَسَاد ذَلِك.

.فصل: لَا يتَصَوَّر انْعِقَاد الْإِجْمَاع بِخِلَاف الْخَبَر الثَّابِت:

فَإِن قَالَ قَائِل: لَو أَن وَاحِدًا فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَمعه يَقُول قولا فِي حكمه، وَلم يسمع ذَلِك القَوْل غَيره، وَكَانَ نصا لَا يقبل التَّأْوِيل، وَلم يكن السَّامع من حزب الْمُجْتَهدين وَلَا من طوائف الْعلمَاء، ثمَّ اتّفقت تِلْكَ الْحَادِثَة بعد أَن اسْتَأْثر الله بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فأجمع عُلَمَاء الْأمة على خلاف مَضْمُون الْخَبَر الَّذِي سَمعه الْوَاحِد، وَلم ينْقل ذَلِك الْوَاحِد مَا سَمعه، أَو لم يكن من أهل النَّقْل، بل كَانَ مطعوناً، فَهُوَ فِي نَفسه، بِمَاذَا يَأْخُذ؟ فَإِن أَخذ بِمُوجب الْخَبَر الَّذِي سَمعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَا وَجه الْجَواب فِي ذَلِك؟
قُلْنَا: إِن كَانَ ذَلِك الْخَبَر ثَابتا فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَلم يكن مَنْسُوخا مرتفعاً، فَيجب وقُوف أهل الْإِجْمَاع عَلَيْهِ بِوَجْه من الْوُجُوه، حَتَّى لَو لم يسمعهُ إِلَّا وَاحِد، لوَجَبَ فِي الحكم الَّذِي ذَكرْنَاهُ، أَن يُبرئهُ الله تَعَالَى عَمَّا يقْدَح فِي رِوَايَته، وَيعرف دواعيه إِلَيْهَا، لينقل مَا سَمعه، ولسنا نثبت ذَلِك عقلا، وَلَكِن لما ثَبت عندنَا بِدلَالَة السّمع اسْتِحَالَة إِجْمَاع الْأمة على الْخَطَأ، وَكَانَ من أعظم الْخَطَأ مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر يجب اتِّبَاعه، فَلَا يجوز أَن يشذ عَن أهل الْإِجْمَاع، وَإِن شَذَّ عَنْهُم، فَذَلِك لِأَنَّهُ مَنْسُوخ. فَخرج من مَضْمُون مَا قُلْنَاهُ.
لِأَنَّهُ إِن تصور انْعِقَاد إِجْمَاعهم، وَلم ينْقل الْخَبَر إِلَيْهِم، فَيجب لُزُوم إِجْمَاعهم، لعلمنا أَنهم لَا يجمعُونَ إِلَّا على حق. وَلَو لم يكن الْخَبَر نسخ لعثروا عَلَيْهِ وَعمِلُوا بِهِ. إِذْ الْعِصْمَة تجب لكافتهم.
فَاعْلَم هَذِه الْجُمْلَة، واحسم بَاب السُّؤَال عَن نَفسك. فَإِنَّهُ مِمَّا زل فِيهِ كثير من النَّاس.
فَإِن قَالَ قَائِل: فقود مَا ذكرتموه عَلَيْكُم عصمَة الْوَاحِد عَن الْكَفّ عَن النَّقْل، إِذا كَانَ الْخَبَر فِي مَعْلُوم الله تَعَالَى ثَابت الحكم؟
قُلْنَا: هَذَا قَوْلنَا، وَلَا نتحاشى مِنْهُ، وَلَيْسَ وجوب الْعِصْمَة للْوَاحِد فِي حكم الْمَعْقُول بِأَكْثَرَ من وجوب الْعِصْمَة للْجَمِيع، فأحط بذلك علما، وَلَا تجبن عَمَّا يرد عَلَيْك.

.القَوْل فِي مَذْهَب الصَّحَابِيّ: إِذا انْتَشَر، أَو لم ينتشر:

اعْلَم، وفقك الله، أَن الصَّحَابِيّ إِذا قَالَ قولا، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن ينتشر قَوْله فِي الصَّحَابَة، أَو لَا ينتشر. فَإِن لم ينتشر، فَلَا ريب أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع.
وَلَكِن قد اخْتلف الْعلمَاء فِي أَنه هَل هُوَ حجَّة؟ وَالْمُخْتَار عندنَا: أَنه لَيْسَ بِحجَّة وَهَذِه الْمَسْأَلَة تذكر فِي أَحْكَام التَّقْلِيد، فِي آخر الْكتاب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَأما إِذا قَالَ وَاحِد من الصَّحَابَة قولا، وانتشر فِي سَائِر الصَّحَابَة، وَلم يظهروا عَلَيْهِ نكيراً بل سكتوا عَنهُ، وَلم يتكلموا بوفاق وَلَا خلاف، فَهَل يكون ذَلِك إِجْمَاعًا؟
فَاخْتلف الأصوليون فِيهِ، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن ذَلِك إِجْمَاع مَقْطُوع بِهِ. وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع.
وَللشَّافِعِيّ رَضِي الله عَنهُ مَا يدل على المذهبين، وَآخر أَقْوَاله اسْتَقر على أَنه لَيْسَ بِإِجْمَاع. فَإِنَّهُ قَالَ: لَا ينْسب إِلَى سَاكِت قَول. وَهُوَ يَعْنِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
ثمَّ الَّذين قَالُوا: إِنَّه إِجْمَاع، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن:
فَمنهمْ من لم يشْتَرط فِي تحقق الْإِجْمَاع انْقِرَاض الْعَصْر، كَمَا لَا يشْتَرط إِذا صرح الكافة بقول، وَمِنْهُم من قَالَ: يشْتَرط فِي هَذَا الضَّرْب انْقِرَاض الْعَصْر، وَلَيْسَ كَمَا لَو بدر مِنْهُم قَول مُتَّفق عَلَيْهِ. فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر فِيهِ.
وَإِلَى هَذَا مَال الجبائي وَابْنه، وكأنهما صَارا إِلَى تَجْوِيز نطقهم بِخِلَاف مَا يَقُول. فَإِذا انقرضوا، زَالَ هَذَا الْمَعْنى.
وَالَّذين قَالُوا: إِن ذَلِك لَيْسَ بِإِجْمَاع، افْتَرَقُوا فرْقَتَيْن:
فَمنهمْ من قَالَ: إِذا لم يكن إِجْمَاعًا، فَلَيْسَ بِحجَّة أَيْضا.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن قَول الصَّحَابِيّ إِذا انْتَشَر، وَلم يظْهر من أحد خلاف، فَهُوَ حجَّة يعتصم بهَا، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا.
وَالَّذِي نرتضيه فِي ذَلِك إِنَّه لَيْسَ بِإِجْمَاع إِذْ انقسم سكُوت الساكتين إِلَى وُجُوه، فَجَاز أَن يكون السُّكُوت رضى مِنْهُم بالْقَوْل الْمُنْتَشِر فيهم، وَجَاز غير ذَلِك . فتقابلت الِاحْتِمَالَات ولم يكن الْأَخْذ ببعضهما أولى.
وَهَا نَحن نقرر وُجُوه الِاحْتِمَال، وَقد ذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ جملَة مِنْهَا، وَنحن نقتصر على مَا يَقع الِاسْتِقْلَال من جُمْلَتهَا فَنَقُول: لَعَلَّهُم سكتوا، مصيراً مِنْهُم إِلَى تصويب كل مُجْتَهد، وذهابا مِنْهُم إِلَى أَن مَا قَالَه، حق فِي حَقه. فَإِذا اعتقدوا ذَلِك، لم يلْزمهُم الْإِنْكَار عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ ذَلِك رُبمَا لَا يتَحَقَّق فِي حُقُوقهم. وَهَذَا كَمَا أَن عُلَمَاء الْأمة فِي حَال اختيارهم، لَو رَأَوْا مُضْطَرّا يَأْكُل الْميتَة، فَسَكَتُوا على فعله، كَانَ ذَلِك غير دَال على تَجْوِيز أكل الْمَيِّت فِي حق الكافة، مَعَ ثُبُوت الِاخْتِيَار وَانْتِفَاء الِاضْطِرَار، فَهَذَا وَجه.
وَإِن نوزعنا فِي تصويب الْمُجْتَهدين، فسنقرره بأوضح الْوُجُوه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنا إِن قدرناهم غير قائلين بتصويب الْمُجْتَهدين إِجْمَاعًا، لَكَانَ فيهم من لَا يَقُول بذلك، فَيحْتَمل ذَلِك أَنهم مهما سكتوا. فَإِنَّمَا سكتوا لعلمهم بِأَن الْمُصِيب لَا يتَعَيَّن، فجوزوا أَن يكون ذَلِك الْقَائِل، هُوَ الْمُصِيب، وَإِن اعتقدوا أَن الْمُصِيب وَاحِد. فَلَمَّا لم يتَعَيَّن لَهُم ذَلِك، وَلم يُمكنهُم الْإِنْكَار، سكتوا وصمتوا.
وَالْوَجْه الآخر فِي الِاحْتِمَال: أَن يبدر القَوْل من وَاحِد، قد قطع اجْتِهَاده فِيهِ على غَلَبَة الظَّن، فَلَمَّا بَلغهُمْ ترددوا فِيهِ - وَكَانُوا فِي مهلة الناظرين - ثمَّ ذهلوا عَن الْمَسْأَلَة وذهلت عَنْهُم، وَلَا يستبعد عقلا وَلَا سمعا.
أما منع استبعاده عقلا: فَوَاضِح.
وَأما استبعاده سمعا: فَذَلِك أَنا لَا نوجب أَن تكون كل الْمسَائِل مجتمعاً عَلَيْهَا، بل يجوز أَن يثبت بَعْضهَا مُجْتَهدا فِيهَا، وَبَعضهَا مَقْطُوعًا بهَا، فَلهَذَا الْوَجْه جَازَ أَن يسكتوا مترددين عَن جَوَاب الْمَسْأَلَة، ثمَّ يذهلوا عَنْهَا.
وَمن وُجُوه الِاحْتِمَال، أَن نقُول: إِذا كَانَت الْمَسْأَلَة مُجْتَهدا فِيهَا، فَلَا يجب على الْعلمَاء إِظْهَار إِنْكَار على من قَالَ فِيهَا بقول، لم يراغم فِيهَا حجَّة مَقْطُوعًا بهَا. فَلَا يتحتم على بَقِيَّة الْعلمَاء صد الْقَائِل عَن قَوْله، فحملهم على سكوتهم علمهمْ. بِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِم إِظْهَار الْإِنْكَار، وَلَا يكون سكوتهم عَلَيْهِ للرضا بِهِ وَالِاعْتِرَاف. فَأنى يتَحَقَّق مَعَ هَذِه الْوُجُوه حمل سكوتهم على التصويب قطعا؟
وَلَا تتمّ هَذِه الدّلَالَة، إِلَّا بِالْجَوَابِ عَن سُؤال: - وَهُوَ عُمْدَة الْمُخَالفين - وَذَلِكَ أَنهم قَالُوا: لَا يجوز فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينتشر قَول فِي قوم تقوم بهم الْحجَّة، وهم لَا يوافقونه، وَلَا تحملهم رَغْبَة وَلَا رهبة على السُّكُوت عَنهُ، ثمَّ لَا يظْهر فِيهِ خلاف - إِن اعتقدوه!
فكفهم عَن إِظْهَار الْخلاف فِي مُسْتَقر الْعَادة واطرادها، دَلِيل على أَنهم لم يعتقدوا الْخلاف.
قُلْنَا: فقد ذكرنَا وُجُوهًا تحملهم على السُّكُوت، من تصويب الْمُجْتَهدين، والتردد فِي مهلة الناظرين، وَالْعلم بِعَدَمِ وجوب الْإِنْكَار، وَإِنَّمَا يستبعد إطباق الْأمة على سكت أَو قَول من غير سَبَب يحملهم عَلَيْهِ.
ثمَّ نقُول لَهُم: مَا ذكرتموه، ينعكس عَلَيْكُم. فَإنَّا نقُول: يبعد فِي مُسْتَقر الْعَادة أَن ينتشر فِي أهل الْإِجْمَاع قَول، وهم يَعْتَقِدُونَ صِحَّته، وَلَا يبدر مِنْهُم فِي ذَلِك نطق بالوفاق، مَعَ اعْتِقَادهم بذلك، وارتفاع الْمَوَانِع عَن إِظْهَاره .
فَهَذَا أبعد فِي الْعَادَات مِمَّا ذَكرُوهُ، وَهَذَا مَا لَا جَوَاب عَنهُ، فَهَذَا وَجه الرَّد على هَؤُلَاءِ.
وَأما من يشْتَرط انْقِرَاض الْعَصْر، فَهُوَ وَاضح الْفساد.
فَإنَّا نقُول: إِن لم يدل سكُوت الْعلمَاء على قَول، خمسين سنة فَصَاعِدا _ وَالْقَوْل منتشر فيهم - على الرِّضَا بِهِ وتصديق قَائِله وَتَقْرِيره على مذْهبه، فبأن يموتوا عَلَيْهِ، لَا يدل سكوتهم عَلَيْهِ أَيْضا، وكل مَا قدمْنَاهُ من الْأَدِلَّة على أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا أثر فِي الْإِجْمَاع، فَيَعُود فِي هَذِه الْمَسْأَلَة. وَإِن سلمُوا لنا، أَن انْقِرَاض الْعَصْر لَا يشْتَرط فِيمَا أطبقوا عَلَيْهِ قولا، فَلَا حجَّة فِيهِ مَعَ ذَلِك فصلا أصلا.
وَأما من قَالَ: إِن القَوْل الْمُنْتَشِر حجَّة، وَإِن لم يكن إِجْمَاعًا.
فَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: إِن عنيت بذلك أَن قَول الْوَاحِد من الصَّحَابَة حجَّة، فسنبطل ذَلِك فِي كتاب التَّقْلِيد، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَإِن انتحيت فِي مذهبك نَحْو مَذْهَب المجمعين، وَجعلت قَوْله حجَّة، لاعتقاد لَهُ أَن سكُوت المجمعين تَقْرِير مِنْهُم وتصويب، فقد أوضحنا إبْطَال ذَلِك القَوْل.
على أَنا نقُول: إِن اعتقدت ذَلِك، فَيجب عَلَيْك الْقطع بِكَوْنِهِ إِجْمَاعًا، إِذْ لَا فصل بَين أَن يدل على الِاتِّفَاق سكُوت، أَو يدل عَلَيْهِ نطق.
وَمِمَّا تمسك بِهِ الْقَائِلُونَ بِأَن السُّكُوت إِجْمَاع، أَن قَالُوا: الْعِصْمَة وَاجِبَة لكافة الْأمة، كَمَا أَنَّهَا وَاجِبَة للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمن تجب لَهُ الْعِصْمَة فسكوته تَقْرِير، كالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَاعْلَم أَن هَذَا اقْتِصَار على طرد لَا يرتضى فِي مسَائِل الْقطع.
فَأول مَا نطالبهم بِهِ، أَن نقُول: لم قُلْتُمْ أَن تَقْرِير رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ شرعا لوُجُوب عصمته؟ وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن تَقْرِيره كَانَ شرعا لدلَالَة أُخْرَى، سوى وجوب عصمته؟
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن وجوب الْعِصْمَة يَخُصُّهُ، وَلَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره.
ثمَّ يُقَال: إِن سكته على فعل غَيره شرع، لعصمته فِي نَفسه.
فَإِن قَالُوا: يثبت وجوب عصمته عَن السُّكُوت على الْبَاطِل.
قُلْنَا: الْأَمر على مَا قلتموه، وَكَذَلِكَ فِي الْأمة، وَلَكِن من أَيْن وضوح الْبطلَان واستيقانه، أَو ثُبُوت الصِّحَّة وَالْقطع بهَا.
وَالَّذِي يحسم الْبَاب فِي ذَلِك، أَن نقُول: لَا يجوز مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتَقْرِيره بَقَاء الريب وَالِاجْتِهَاد، وَلَا خلاف أَنه يسوغ فِي الْأمة ترديد القَوْل، والتمسك بطرق الِاجْتِهَاد فَمن هَذَا الْوَجْه افترق الْأَمْرَانِ افتراقاً وَاضحا.
وَذكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فِي خلل الْكَلَام أسئلة تلِيق بتصويب الْمُجْتَهدين وأحال، ثمَّ استقصاها، على مَا سَيَأْتِي، وَنحن رَأينَا تَأْخِيرهَا. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.

.القَوْل فِي جَوَاز انْعِقَاد إِجْمَاع الْأمة من جِهَة الْقيَاس والرأي وَوجه الْخلاف فِيهِ:

الْكَلَام فِي هَذَا الْبَاب يخْتَص بالقائلين بِالْقِيَاسِ. فَإِن المنكرين لَهُ قاطعون بِبُطْلَان الْقيَاس - فِي اعْتِقَادهم- فَإِذا قطعُوا بذلك، أحالوا إِجْمَاع الْأمة على بَاطِل.
وَأما الْقَائِلُونَ بِالْقِيَاسِ: افْتَرَقُوا فرقا.
فَصَارَ ابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَى أَنه لَا يتَصَوَّر إِجْمَاع الْأمة على قِيَاس، وَلَو قدر خرق الْعَادة، واجتمعوا عَلَيْهِ، كَانَ حجَّة قَاطِعَة.
وَصَارَ آخَرُونَ إِلَى أَن الِاجْتِمَاع على قِيَاس وَاحِد مُتَصَوّر، وَلَكِن مهما اتّفق ذَلِك، لم يقتض الْإِجْمَاع قَاطِعَة.
وَالصَّحِيح: تصور الْإِجْمَاع على حكم وَاحِد صادر من قِيَاس، ثمَّ إِذا تصور ذَلِك الْإِجْمَاع فَهُوَ حجَّة قَاطِعَة.
وَالدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع - على خلاف مَا قَالَه ابْن جرير الطَّبَرِيّ - أَنا نرى طوائف من الْعلمَاء، مُجْمِعِينَ على عِلّة وَاحِدَة، مَعَ خُرُوجهمْ عَن الْحصْر، وَلَو قدرُوا عدد الْإِجْمَاع عِنْد فقد من سواهُم وعداهم، لم يبعد ذَلِك فيهم، وَذَلِكَ نَحْو أصحاب الشَّافِعِي، حَيْثُ أَجمعُوا على أَن الطّعْم عِلّة فِي الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة، وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ. وَالَّذِي يجوز الْإِجْمَاع على الحكم الْوَاحِد، لَا يدْرك لَوْلَا الْإِجْمَاع، بِدلَالَة من أَدِلَّة الْقطع، يجوز الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد.
وَمن الدَّلِيل على تصور الْإِجْمَاع، أَنا نجد من الْكَفَرَة أَقْوَامًا، يزِيد عَددهمْ على أَضْعَاف عدد الْمُسلمين، وهم مَعَ ذَلِك متفقون على رد الْإِسْلَام شُبْهَة، اعتقدوها بَاطِلَة قطعا، فلئن سَاغَ الِاجْتِمَاع على شُبْهَة وَاحِدَة من أَقوام هَذِه عدتهمْ، فَلَا يبعد ذَلِك فِي الْمُسلمين أَيْضا. فَهَذَا وَجه الرَّد على منع تصور الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد.
وَالدَّلِيل على أَن الْإِجْمَاع إِذا تصور، كَانَ حجَّة قَاطِعَة: وَهُوَ مَا تمسكنا بِهِ فِي إِثْبَات أصل الْإِجْمَاع، مَعَ ضروب من الْأَدِلَّة، وَمن يقْدَح فِي شَيْء مِنْهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، لزمَه الْقدح فِي سائرها فِي أصل الْإِجْمَاع.
وَمن الدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قد ثَبت بالأدلة القاطعة، كَون الْقيَاس الشَّرْعِيّ حجَّة من حجج الله تَعَالَى. كَمَا ثَبت ذَلِك فِي نُصُوص الْكتاب وَالسّنة المتواترة. فَكَمَا تقوم حجَّة الْإِجْمَاع عَن النُّصُوص، لكَونهَا أَدِلَّة على الْأَحْكَام، فَيجب نَحْو ذَلِك فِي الْقيَاس، وَالْجَامِع بَينهمَا فِي طَرِيق السبر والتقسيم كَون كل وَاحِد دَلِيلا.
شُبْهَة الْمُخَالفين فِي منع كَون الْقيَاس مُسْتَند الْإِجْمَاع
فمما اسْتدلَّ بِهِ ابْن جرير الطَّبَرِيّ، أَن قَالَ: الْقيَاس مِمَّا لَا يسْتَدرك قطعا، فيبعد فِي اطراد الْعَادَات، أَن يجمع أهل الْإِجْمَاع على ضرب وَاحِد من الاستنباط، - مَعَ أَنه لَا يقطع بِهِ - وَمَعَ تفَاوت الخواطر والأفهام فِي بطئها وذكائها.
فَيُقَال: مَا ذكرته، يبطل عَلَيْك باجتماع مثل أصحاب الشَّافِعِي - رَحمَه الله - على الْعلَّة الْوَاحِدَة، وَكَذَلِكَ يبطل بالاجتماع على الشُّبْهَة الْوَاحِدَة. فَإِنَّمَا فَرضنَا الْكَلَام فِي الشُّبْهَة، حَتَّى لَا يُمكنهُ الْفَصْل بَين الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة وَالْقِيَاس. بِكَوْن الدّلَالَة الْعَقْلِيَّة مَقْطُوعًا بهَا فَبَطل مَا قَالَه.
على أَنا لسنا نتصور الْإِجْمَاع من كَافَّة الْعلمَاء فِي جَمِيع الْأَعْصَار فِي لَحْظَة وَاحِدَة، بل إِنَّمَا نتصور ذَلِك فِي مهلة ونظرة وانتشار من الْأَخْبَار. والتصوير مَعَ ذَلِك لَا يبعد.
وَمِمَّا اسْتدلَّ بِهِ أَيْضا، أَن قَالَ: الْعَصْر لَا يَخْلُو عَن طَائِفَة من الْعلمَاء يُنكرُونَ الْقيَاس. فَكيف يتَصَوَّر من كافتهم الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد؟
قُلْنَا: سنبين فِي كتاب أَحْكَام المقايس، أَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي عصرهم كَانُوا مُجْمِعِينَ على الْأَخْذ بِالْقِيَاسِ، وَإِنَّمَا حدث رد الْقيَاس فِي الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة. فَهَذَا وَجه بَين فِي التفصي.
على أَنا نقُول: إِذا كَانَ الْكَلَام فِي التَّصَوُّر، فيتصور من رادى الْقيَاس الرُّجُوع الى مَنْهَج الْحق فِي القَوْل بِالْقِيَاسِ، حَتَّى إِذا تصور ذَلِك، تصور بعد الْإِجْمَاع على قِيَاس وَاحِد، إِذْ هَذِه الْمَسْأَلَة - وَهِي إِثْبَات الْقيَاس حجَّة - من الْمسَائِل القطعية، فيسوغ ارْتِفَاع الْخلاف فِيهَا، كَمَا يسوغ ارْتِفَاع الْخلاف فِي جملَة مَا يقطع بِهِ فِي أصُول العقائد.
فَأَما من قَالَ: يتَصَوَّر الْإِجْمَاع على الْقيَاس الْوَاحِد، وَمنع كَونه حجَّة، فَكَذَا اسْتدلَّ بطرق:
مِنْهَا: أَن القائسين فِي الشَّرِيعَة مجمعون على أَن كل قِيَاس مستنبط لَا يقطع بِهِ. فَكيف يتَصَوَّر كَون الْإِجْمَاع حجَّة قَاطِعَة، مَعَ اتِّفَاق القائسين على أَن الأقيسة لَا تُؤدِّي إِلَى الْعلم وَالْقطع!؟
قُلْنَا: هَذَا الَّذِي ذكرتموه، تلبيس مِنْكُم. وَذَلِكَ أَنا لَا نقطع بِمُقْتَضى الْقيَاس الْوَاحِد، إِذا لم يجْتَمع عَلَيْهِ أهل الْإِجْمَاع، وَأما إِذا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ وَقَطعُوا بِكَوْنِهِ حجَّة، فَلَا نسلم مَعَ ذَلِك التَّرَدُّد فِيهِ.
على أَنا نقُول: الْقيَاس يُفْضِي إِلَى وجوب الْعَمَل. وَإِن كَانَ لَا يفضى إِلَى الْعلم. وَنحن أثبتنا تصور الْإِجْمَاع على وجوب الْعَمَل قطعا. وَهَذَا وَاضح فِي رد مَا قَالُوهُ.
وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ أَن قَالُوا: مهما أَجمعُوا على حكم صادر عَن قِيَاس، فقد سوغوا الِاجْتِهَاد فِيهِ، وَجعلُوا للاعتبار مجالاً فَلَو أَوجَبْنَا الِاقْتِصَار على مَنْهَج وَاحِد فِي الْقيَاس، مَعَ إِجْمَاعهم على أَن للاعتبار وَالنَّظَر فِيهِ مجالاً، كَانَ ذَلِك خلاف مُقْتَضى الْإِجْمَاع.
فَنَقُول: أَرَأَيْتُم لَو أَجمعُوا على قِيَاس وَاحِد، وَزَعَمُوا أَنه الدَّلِيل دون مَا عداهُ، فَكيف يتَحَقَّق مَعَ هَذَا التَّصْوِير، تسويفهم بجملة طرق الِاجْتِهَاد؟ وَقد جَوَّزنَا عَلَيْهِم - كَمَا ترَوْنَ - الْقطع بِنَفْي مَا عدا قِيَاس وَاحِد.
على أَنا نقُول: إِذا أَجمعُوا على حكم وَاحِد، وَقَطعُوا بِهِ على قِيَاس، فَلَا يخلون إِمَّا أَن يجمعوا مَعَ ذَلِك، على منع مَا عدا ذَلِك الْقيَاس الْوَاحِد، فَلَا يسوغ التَّمَسُّك بِغَيْرِهِ، وَإِن تمسكوا بِقِيَاس وَاحِد وَحكم وَاحِد فَلَا يسوغ إِثْبَات حكم زَائِد على ذَلِك الحكم، وَلَكِن إِن تمسك متمسك بطرِيق آخر من طرق الْقيَاس، يُؤَدِّي إِلَى غير ذَلِك الحكم الَّذِي أَجمعُوا عَلَيْهِ، فَلَا حرج عَلَيْهِ حِينَئِذٍ.
فَهَذَا وَجه تَفْصِيل الْمذَاهب. فقد أوضح الرَّد على مَا قَالُوهُ.
وَمِمَّا استدلوا بِهِ أَيْضا، أَن قَالُوا: من حكم مَا أَجمعُوا عَلَيْهِ جَوَاز الاستنباط وَالْقِيَاس عَلَيْهِ.
فَلَو جَوَّزنَا الْإِجْمَاع على قِيَاس، لامتنع الْقيَاس على مورد الْإِجْمَاع، فَإِن مَا ثَبت قِيَاسا لَا يُقَاس على مَا ثَبت نصا.
قُلْنَا: هَذَا الْآن تعرض مِنْكُم لتفصيل الْقيَاس. والخوض فِيهِ يصدنا عَن الْمَقْصد، وَنحن نجوز الاسنباطات مِمَّا ثَبت قِيَاسا، كَمَا نجوز ذَلِك فِيمَا ثَبت نصا.

.الرَّد على الظَّاهِرِيَّة فِي تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة:

قد حكينا فِيمَا قدمْنَاهُ عَن أصحاب الظَّاهِر تَخْصِيص حجية الْإِجْمَاع بالصحابة، مَعَ مصيرهم إِلَى نفي الْقيَاس، وَقَوْلهمْ إِن الْإِجْمَاع لَا يتَصَوَّر انْعِقَاده، إِلَّا عَن نَص يقطع بِهِ.
وَقد وَجه عَلَيْهِم أصحابنَا مَا تخبطوا فِيهِ.
فَقَالُوا: إِذا قُلْتُمْ إِن الْإِجْمَاع لَا ينْعَقد فِي الْأَحْكَام عَن اجْتِهَاد وَقِيَاس، وإِنَّمَا ينْعَقد عَن نَص مَقْطُوع بِهِ، فسبيله إِذا سَبِيل النَّقْل الْمُتَوَاتر، وَمَا كَانَ سَبيله النَّقْل، فيستوي فِيهِ أهل الْأَعْصَار أجمع.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن أهل عصرنا لَو قدر مِنْهُم الِاجْتِمَاع على خبر عَن مُشَاهدَة، اقْتضى ذَلِك الْعلم قطعا، وَهَذَا مِمَّا يدْرك ضَرُورَة، وجاحده ينْسب إِلَى جحد البديهة. كَيفَ! وَقد قدمنَا فِي كتاب الْأَخْبَار المتواترة وإفضاءها إِلَى الْقطع لَا يخْتَص بِالْمُسْلِمين، بل يتَصَوَّر ذَلِك بالكفار، تصَوره بالأبرار من الْمُسلمين.
فَلَو صَحَّ مَا قلتموه من حصر الْإِجْمَاع فِي النَّص الْمَقْطُوع بِهِ، اسْتَحَالَ مَعَ ذَلِك تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِالْمُسْلِمين فِي الْعَصْر الأول.
وَهَذَا لعمري صَعب موقعه عَلَيْهِم، وَلَا مخلص لَهُم عَنهُ إِلَّا شَيْء وَاحِد - أَوْمَأ إِلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ أَنه قَالَ: إِنَّمَا يظْهر الْفضل بَين الْعَصْر الأول، وَمَا بعده فِي شَيْء وَاحِد. وَهُوَ أَن أهل الْعَصْر الأول، لَو رجعُوا إِلَى عدد يقصر عَن أقل عدد التَّوَاتُر، نَحْو الْأَرْبَعَة فَمَا دونه، ثمَّ أَجمعُوا مَعَ ذَلِك على حكم على نَص لزم الْقطع بِمَا اتَّفقُوا عَلَيْهِ، وَإِن لم يَكُونُوا عدد التَّوَاتُر مصيراً إِلَى حجَّة الْإِجْمَاع.
وَلَو تصور ذَلِك فِي سَائِر الْأَعْصَار الْمُتَأَخِّرَة، لم تقم الْحجَّة.
وَهَذَا الَّذِي ذكره القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، انْفِصَال - لَو قَالَ بِهِ أصحاب الظَّاهِر، وَهُوَ الْمَنْقُول عَنْهُم، أَن سَائِر الْأَعْصَار لَا تكون حجَّة سَوَاء كَانُوا بالغين عدد التَّوَاتُر، أَو منحطين فِي الْعدَد عَن هَذِه الرتب، فَمَعَ ذَلِك يتَّجه عَلَيْهِم السُّؤَال.
وَإِن قَالُوا بِمَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، فيتضح انفصالهم، وَيجب بعد ذَلِك التعويل على مَا قدمْنَاهُ، فِي وُجُوه الرَّد عَلَيْهِم، فِي بَاب سبق.

.باب القَوْل فِي إِجْمَاع أهل الْمَدِينَة، وَوجه الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ المحصلون من أَرْبَاب الْأُصُول: أَن أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي علماءها - إِذا أَجمعُوا على حكم، لم يساعدهم عَلَيْهِ عُلَمَاء سَائِر الْأَمْصَار، فَلَا تقوم الْحجَّة باتفاقهم، وَإِنَّمَا تقوم الْحجَّة بِاتِّفَاق عُلَمَاء الْمُسلمين قاطبة، حَيْثُ مَا كَانُوا من بِلَاد الله.
وَذهب بعض المنتمين إِلَى الْأُصُول، إِلَى أَن الْإِجْمَاع الْمَفْرُوض اتِّبَاعه وَهُوَ إِجْمَاع أهل الْحَرَمَيْنِ، و البصرتين، عنوا بالحرمين - مَكَّة وَالْمَدينَة وبالبصرتين - الْبَصْرَة والكوفة.
وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك لاعتقادهم تَخْصِيص الْإِجْمَاع بالصحابة، وَلَقَد كَانَ موطن الصَّحَابَة هَذِه الْبِلَاد، وَمَا خرج مِنْهَا إِلَّا الشذوذ مِنْهُم.
ويحكى عَن مَالك رَضِي الله عَنهُ، أَنه قَالَ: مهما اتّفق أهل الْمَدِينَة - يَعْنِي علماءها - على حكم، فَهُوَ مَقْطُوع بِهِ.
وَقد ذكر أصحاب مَالك لذَلِك طرقاً من التَّأْوِيل، سنذكرها فِي أثْنَاء الْحجَّاج، ونبين فَسَادهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَالصَّحِيح من الْمذَاهب: اعْتِبَار إِجْمَاع كَافَّة الْعلمَاء فِي كل عصر، من غير تَخْصِيص بِأَهْل بلد، وَفِي مَا قدمْنَاهُ من الدَّلِيل على أَن مُخَالفَة الْوَاحِد من الْعلمَاء يمْنَع انْعِقَاد الْإِجْمَاع، أوضح الدَّلِيل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَجُمْلَة مَا قَالَه من الْأَدِلَّة على أصل الْإِجْمَاع، تَنْفِي التَّخْصِيص بِأَهْل بلد، وتوجب تعلق الْحجَّة بالأمة قاطبة، فَلَو سَاغَ إِزَالَة ظواهرها، أَو تخصيصها بِبَعْض عُلَمَاء الْأَمْصَار، سَاغَ لبَعض النَّاس تخصيصها بِالْعشرَةِ المسمين فِي الْجنَّة من الصَّحَابَة، أَو سَاغَ تخصيصها بِأَهْل الرضْوَان، أَو بِأَهْل بدر، أَو غَيرهم من الَّذين تخصصوا بضروب من الْفَضَائِل.
وَمن الدَّلِيل على بطلَان ذَلِك، أَن نقُول: نَحن نعلم أَن مَالِكًا رَضِي الله عَنهُ، لم يعن بِأَهْل الْمَدِينَة الَّذين ولدُوا فِيهَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي الْعلمَاء الَّذين اجْتَمعُوا فِيهَا.
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ: أَن مُعظم الْمُهَاجِرين، مَا كَانَ مولدهم بِالْمَدِينَةِ، مَعَ كَونهم من أهل الْإِجْمَاع فَإِذا ثَبت أَنه لم يعْتَبر المولد، وَإِنَّمَا اعْتبر اجْتِمَاعهم مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَدِينَة، وتلقيهم الْأَحْكَام مِنْهُ، فَنَقُول على ذَلِك: فَإِذا اسْتَأْثر الله برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَدِينَة، ثمَّ تفرق النَّاس عَن الْمَدِينَة بعد استوائهم فِي التلقي عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي شَيْء الَّذِي يُوجب خُرُوج الخارجين عَن أهل الْإِجْمَاع؟
أَو نقُول: الَّذين تلقوهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- وَهُوَ بِمَكَّة، أَو فِي بعض أَسْفَاره وغزواته مَا تلقوهُ، وَلم تتفق لَهُم الرّجْعَة إِلَى الْمَدِينَة فقد يُسَاوِي القاطنين بهَا فِي الْأَخْذ من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَعَ ذَلِك أخرجه مَالك رَضِي الله عَنهُ عَن الِاعْتِدَاد بِهِ!
وَمِمَّا يُوضح مَا قُلْنَاهُ، أَيْضا أَن نقُول: قَود هَذَا الأَصْل يَقْتَضِي، أَن عليا وَابْن مَسْعُود وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَغَيرهم من جملَة الصَّحَابَة لما فارقوا الْمَدِينَة، لَو قَالُوا قولا، وَقَالَ القاطنون بِالْمَدِينَةِ قولا: فَلَا يكترث بقول الخارجين من الْمَدِينَة - لَو اتّفقت لَهُم دَعْوَى وعنت لَهُم مَسْأَلَة - عِنْد خلافهم حِينَئِذٍ، وَهَذَا بعد عَظِيم.
فَلَمَّا وضح لكل نَاظر، بطلَان تَخْصِيص الْإِجْمَاع بِأَهْل الْمَدِينَة، احتال منتحل مَذْهَب مَالك فِي تَأْوِيل مذْهبه، وَحمله على طرق، وَلَا يكَاد يَسْتَقِيم شَيْء مِنْهَا.
مِنْهَا: أَنهم قَالُوا: إِنَّمَا أَرَادَ مَالك رَضِي الله عَنهُ اتِّفَاق أهل الْمَدِينَة على مَا شاهدوه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونقلوه تواترا، نَحْو نقلهم مَوضِع الْمِنْبَر والقبر وَغَيرهمَا. فتقوم الْحجَّة بهم.
وَهَذَا الَّذِي ذَكرُوهُ، قَبِيح جدا. فَإِنَّهُ صَحَّ من مَالك تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة، تَعْظِيمًا لقدرهم وتمييزاً لَهُم عَن سَائِر الْبِلَاد، وَإِذا حمل مذْهبه على نقل التَّوَاتُر، فَفِيهِ إبْطَال هَذَا الأَصْل، فَإِن الْكفَّار إِذا بلغُوا عدد التَّوَاتُر، ونقلوا عَن بلدهم خَبرا متواتراً، أفْضى ذَلِك إِلَى الْقطع وَالْعلم الضَّرُورِيّ. وَكَذَلِكَ القَوْل فِي أهل كل بلد، فَلَا معنى للتخصيص إِذا.
وَذهب قوم من أصحاب مَالك رَضِي الله عَنهُ، إِلَى حمل مَا قَالَه على محمل آخر، فَقَالُوا: إِنَّمَا خصص أهل الْمَدِينَة فِيمَا يتَعَلَّق بالناسخ والمنسوخ، فَإِنَّهُ يعْتَبر فِيهِ بالتقدم والتأخر، وَالْمَدينَة بَلْدَة وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَهْلهَا شاهدوا مَا تَأَخّر من أفعاله وأقواله، وَمَا تقدم مِنْهَا، وَكَانُوا بذلك أعرف النَّاس بالناسخ والمنسوخ. و لزمَه لأَجله الْمصير إِلَى مَا قَالُوهُ.
وَهَذَا أَيْضا ظَاهر الْفساد، وَذَلِكَ أَنا نقُول لَهُم: هَل تَقولُونَ إِن من شَرط النَّاسِخ أَن يَقع شَائِعا، حَتَّى لَا ينْقل إِلَّا تواتراً؟ أم تجوزون أَن يَقع على الْوَجْهَيْنِ، متواتراً تَارَة وآحاداً أُخْرَى؟ فَإِن أوجبتم وُقُوعه شَائِعا، فقد أحلتم فِيمَا قُلْتُمْ. إِذْ لَو سَاغَ ذَلِك فِيمَا ينْسَخ بِهِ، لساغ فِيمَا يتَضَمَّن إِثْبَات حكم ابْتِدَاء.
فَدلَّ على أَن النَّاسِخ يَنْقَسِم فِي مورده، فَمِنْهُ الْمُتَوَاتر، وَمِنْه الْمَنْقُول آحاداً. فَإنَّا نجد النَّاسِخ منقسماً، وَلم ينْقل كُله نقل الصَّلَوَات وَمَا عَداهَا، مِمَّا نقل استفاضة، فَإِذا ثَبت ذَلِك، فَلم لَا يجوز علم عَليّ وَطَلْحَة وَغَيرهمَا من الَّذين خَرجُوا من الْمَدِينَة، بضروب من النَّاسِخ والمنسوخ، واستقلوا بِهِ دون غَيرهم، ونقلوه لأهل الْبِلَاد الَّتِي قطنوها، على أَن الَّذين تبددوا فِي الْبِلَاد من الصَّحَابَة كَانُوا زائدين على أقل عدد التَّوَاتُر. فَبَطل من هَذَا الْوَجْه تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة. وَالَّذِي يُحَقّق الْمَقْصد: أَن من النَّاسِخ مَا ثَبت بِمَكَّة، مُدَّة إِقَامَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا، وَمِنْه مَا ثَبت فِي بعض أَسْفَاره، فَبَطل من كل وَجه تَخْصِيص أهل الْمَدِينَة.
فَإِن قَالَ قَائِل: من منتحلي مَذْهَب مَالك: إِنَّمَا قَالَ رَضِي الله عَنهُ مَا قَالَ لعلمه بِأَن أهل الْمَدِينَة كَانُوا كل الْعلمَاء فِي الصَّدْر الأول وَإِنَّمَا قَالَ مَا قَالَه فِي الصَّدْر الأول، دون مَا عداهُ من الْأَعْصَار المتعاقبة.
فَنَقُول: مَالك رَضِي الله عَنهُ أعرف بِالْآيَاتِ ومواقع الْأَخْبَار، من أَن يَقُول ذَلِك، فَإِنَّهُ إِن قَالَه وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين أظهر الصَّحَابَة، فَلَا معنى للْإِجْمَاع مَعَ بَقَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَلما اسْتَأْثر الله بِرَسُولِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، تبدد أصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الأقطار، لإِظْهَار الدعْوَة وإبداء كلمة الْإِسْلَام، وَكَانَ قد خرج طوائف مِنْهُم فِي زمَان رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرسالات وَالْقِيَام على الْأَعْمَال وجباية الْأَمْوَال، فَمَا كَانَت الْمَدِينَة - مذ كَانَت - جَامِعَة لكل الصَّحَابَة.
فَإِن قَالَ من أصحاب مَالك قَائِل: إِنَّمَا عَنى مَالك رَضِي الله عَنهُ بِمَا قَالَ: تَرْجِيح قَول أهل الْمَدِينَة على قَول غَيرهم، لقربهم من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومشاهدتهم مُرَاد الْوَحْي، فَكَانُوا أولى بِالْحِفْظِ وَالرِّعَايَة من غَيرهم.
وَهَذَا أَيْضا سَاقِط من أوجه.
مِنْهَا: أَن الْكَلَام إِذا آل إِلَى التَّرْجِيح، خرج عَن الْقطع، وَإِنَّمَا عَنى مَالك بقوله الْقطع بقول أهل الْمَدِينَة، حَتَّى كَانَ يتْرك الْأَخْبَار الصَّحِيحَة لقَولهم وَالتَّرْجِيح والتلويح لَا يَقْتَضِي ذَلِك.
ثمَّ نقُول: لَو سَاغَ تَقْدِيم قَول أهل الْمَدِينَة، لساغ تَقْدِيم أقاويل الْعشْرَة المسمين بِالْجنَّةِ، ولساغ تَقْدِيم أَقْوَال الْخُلَفَاء الرَّاشِدين، وَتَقْدِيم مَذْهَب من لَهُ هجرتان، ولساغ تَقْدِيم قَول الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار على مُسْلِمِي الْفَتْح. وكل ذَلِك بَاطِل بالحقائق بَيْننَا وَبَين مَالك، وَمَا ذَكرْنَاهُ أولى بالترجيح مِمَّا ذكره، على أَن التَّرْجِيح إِنَّمَا يسْتَعْمل بَين الدَّلِيلَيْنِ، فثبتوا أَن قَول أهل الْمَدِينَة حجَّة! لترجحوه على غَيره.
وَمن أصحاب مَالك مِمَّن أفْصح بمذهبه، وَجعل قَول أهل الْمَدِينَة حجَّة قَاطِعَة، وَاسْتدلَّ لذَلِك بجمل من الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي الْمَدِينَة وَأَهْلهَا.
مِنْهَا: مَا روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة، كَمَا تأرز الْحَيَّة إِلَى جحرها».
و «إِن الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها، كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد».
و سَمَّاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طابة.
وَقَالَ: «مَا بَين قَبْرِي ومنبري رَوْضَة من رياض الْجنَّة».
ثمَّ قَالَ: «لَا يكيد أهل الْمَدِينَة أحد إِلَّا انماع، كَمَا ينماع الْملح فِي المَاء».
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن الدَّجَّال لَا يدْخل الْمَدِينَة، فَإِن على كل فج مِنْهَا ملكا موكلاً».
وَقَالَ: «الْمَدِينَة محفوفة بِالْمَلَائِكَةِ»، إِلَى غير ذَلِك.
وَلَا معتصم فِي شَيْء مِنْهَا، فَإِنَّهَا آحَاد، وَلَا تكَاد تبلغ مبلغ الاستفاضة.
على أَنه لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا، فَأَما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «إِن الْإِسْلَام ليأرز إِلَى الْمَدِينَة» فَإِنَّهُ قَالَ ذَلِك فِي زَمَانه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا كَانَ المنقلبون الَّذين يفدون عَلَيْهَا من الجوانب، وُفُود الطير على وَكرها.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك: أَنا نقطع بِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يرد بذلك كل زمَان أَو أَحْوَال، فالمدينة بعده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرت بهَا أزمنة شغرت عَن الْعلمَاء فِيهَا، وَلم يقطنها إِلَّا أهل الْبدع.
وَمَا عدا ذَلِك من الْأَخْبَار، لَا حجَّة فِي شَيْء مِنْهَا، وَلَو تتبعتها، هان عَلَيْك مدركها.

.فصل: القَوْل فِي تَقْدِيم قَول الْخُلَفَاء الرَّاشِدين أَو الشَّيْخَيْنِ، على غَيرهم:

ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى تَقْدِيم أقاويل الْخُلَفَاء الرَّاشِدين على غَيرهم.
وَذهب بَعضهم إِلَى تَخْصِيص أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنهُ بذلك.
وَاعْلَم أَن ذَلِك يبتني على أصل، سنقرره فِي بَاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهُوَ أَن قَول آحَاد الصَّحَابَة - من كَانُوا لَيْسَ بِحجَّة فَإِن نَفينَا كَونه حجَّة، انْتَفَى التَّرْجِيح أَيْضا.
وَإِن رام هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه: أَن قَول هَؤُلَاءِ لَا يَقع إِلَّا إِجْمَاعًا، وَلَا يسوغ خلافهم، فقد خرق - بِمَا قَالَه إِجْمَاع الصَّحَابَة، فَإنَّا نعلم أَن أَبَا بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا كَانَا يخالفان فِي كثير من الْأَحْكَام، وَهَذَا مِمَّا نعرفه نقلا متواتراً، وَكَانَا رَضِي الله عَنْهُمَا لَا ينكران تخالفاً، بل كثيرا مَا رجعا عَن مَذْهَبهمَا فَبَطل ادِّعَاء الْإِجْمَاع بِمُجَرَّد مذاهبهم، وسنشرح القَوْل فِي كتاب التَّقْلِيد إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرُبمَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا انْتَشَر من قَول الْخَلِيفَة وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَهُوَ إِجْمَاع، وَمَا انْتَشَر من قَول غَيره فَلَيْسَ بِإِجْمَاع.
وَمِنْهُم من قلب فَقَالَ: مَا انْتَشَر من قَول غَيره من غير نَكِير، فَهُوَ إِجْمَاع وَمَا انْتَشَر من قَول الْخَلِيفَة، وَلم يظْهر عَلَيْهِ نَكِير، فَلَيْسَ بِإِجْمَاع، فَإِنَّهُ رُبمَا يهاب فَلَا يُخَالف.
وَهَذَا كَمَا روى أَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ أظهر مذْهبه فِي الْعَوْل فِي الْفَرَائِض، فَقَالَ لَهُ بعض الصَّحَابَة: مَا بالك! لم تبد ذَلِك فِي زمَان عمر؟ فَقَالَ: كَانَ رجلا مهيباً، فهبته.
وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن مَا صدر مصدر الْقَضَاء وانتشر، فَهُوَ اجماع وَمَا صدر مصدر الْفَتْوَى، فَلَيْسَ كَذَلِك.
وَصَارَ بَعضهم إِلَى قلب ذَلِك. فصير الْفَتْوَى المنتشرة إِجْمَاعًا، وَمَا صدر مصدر الْقَضَاء، لَيْسَ بِإِجْمَاع.
وكل هَذِه الْمذَاهب بَاطِلَة عندنَا، وَمَا قدمْنَاهُ عِنْد القَوْل بِأَن القَوْل الْمُنْتَشِر مَعَ سكُوت الْعلمَاء عَنهُ، لَيْسَ بِإِجْمَاع. يرد على هَؤُلَاءِ.
وَرُبمَا يسْتَدلّ بعض هَذِه الطوائف، بأخبار فِي أبي بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا، نَحْو قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «اقتدوا باللذين من بعدِي، أبي بكر وَعمر».
وَالْكَلَام على مثل هَذَا الْخَبَر يستقصى فِي التَّقْلِيد.
على أَنا نقابلهم الْآن بأخبار تعَارض مَا تمسكوا:
مِنْهَا: مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «إِن أصحابي كَالنُّجُومِ، بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ) وَهَذَا يَنْفِي التَّخْصِيص الَّذِي ادعوهُ.
وَقَالَ فِي معَاذ: "أعرفكُم بالحلال وَالْحرَام معَاذ".
وَقَالَ فِي عَليّ: "أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا".
وَقَالَ لَهُ: "أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى، وَلَكِن لَا نَبِي من بعدِي".
إِلَى غير ذَلِك من الْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي جَمِيع الصَّحَابَة عُمُوما، أَو فِي بَعضهم خُصُوصا.

.باب القَوْل فِي اسْتِصْحَاب الْحَال، وَالْأَخْذ بِالْأَقَلِّ، وَمَا يتَّصل بِهِ:

اعْلَم، وفقك الله، أَن القَوْل فِي ذَلِك يَنْقَسِم: فَرُبمَا يَصح فِي بعض الْأَحْوَال. وَرُبمَا لَا يَصح فِي بَعْضهَا.
وَهَا نَحن نفصل القَوْل الْآن فِيهَا.
فَنَقُول: التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذمم على اسْتِصْحَاب، سَائِغ.
وَوجه القَوْل فِيهِ، مَعَ التَّصْوِير فِي صُورَة منصوصة، أَن نقُول: إِذا سَأَلَ الْوَاحِد من أصحاب الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ، عَن وجوب الضحية، أَو الْوتر، فنفى الْوُجُوب وَلما طُولِبَ بِالدَّلِيلِ، قَالَ: الأَصْل بَرَاءَة الذِّمَّة عَن كل وَاجِب، إِلَى أَن تقوم الدّلَالَة على ثُبُوت الْوَاجِبَات. وَإِلَّا فَحكم الْعقل، انْتِفَاء الْأَحْكَام قبل وُرُود الشَّرَائِع، وَهُوَ مستصحب إِلَى أَن يثبت بالأدلة إشغال الذمم.
وَإِذا قَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة قَامَت على وجوب الْوتر، وَلم تعثروا عَلَيْهَا؟ فَعِنْدَ ذَلِك اخْتلف.
فَذهب بَعضهم إِلَى أَن الْمُجيب، إِذا قَالَ: لَيْسَ عَليّ إِلَّا شدَّة التفحص والبحث على طلب الْأَدِلَّة، وَقد بذلت فِيهَا كنه جهدي، وَلم أكلف إِلَّا ذَلِك، فلئن كَانَ عنْدك دلَالَة، فَعَلَيْك إظهارها.
وَهَذَا كَمَا أَن الْمُجيب، إِذا تمسك بِلَفْظَة عَامَّة، فَقَالَ السَّائِل: فَمَا يُؤمنك أَن دلَالَة من أَدِلَّة الشَّرْع تخصصها، وَقد ذهلت عَنْهَا، فَهَذَا تعد من السَّائِل للحد الْمَحْدُود لَهُ، وَعَلِيهِ إِقَامَة الْمُخَصّص إِذا كَانَ، فَكَذَلِك سَبِيل التَّمَسُّك بِبَرَاءَة الذِّمَّة، وَهَذَا لعمري مِمَّا يُقَوي مَعَ القَوْل بِالْعُمُومِ.
وَالَّذِي اخْتَارَهُ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ: إِذا عنت حَادِثَة لمجتهد، فَلم تقم عِنْده دلَالَة مقتضية وجوبا - بعد طلبه جهده، فَلهُ الْأَخْذ بِنَفْي الْوُجُوب فِي حق. فَإِنَّهُ لم يُكَلف إِلَّا أقْصَى الطّلب الدَّاخِل فِي مقدوره على اسْتِمْرَار الْعَادة، فَإِذا فعل ذَلِك، فَلم يجده كَانَ لَهُ الْأَخْذ بِنَفْي الْوُجُوب.
فَأَما إِذا انتصب مسؤولاً، وَأَرَادَ نصب دلَالَة يناظر عَلَيْهَا، فَلَا يَسْتَقِيم لَهُ التَّمَسُّك بذلك. فَإِن الْمُجْتَهدين إِذا تناظرا وتذكرا طرق الِاجْتِهَاد، فَمَا يَفِي الْمُجيب مِنْهُمَا، أَن يَقُول: لَا دَلِيل على الْوُجُوب، وَهل هُوَ فِي ذَلِك إِلَّا مُدع، فَلَا تسْقط عَنهُ عُهْدَة الطّلب بِالدّلَالَةِ، وَإِن كَانَ يسوغ التعويل على مَا قَالَه فِي حق نَفسه، فَتَأمل ذَلِك. ونزله على هَذِه الرُّتْبَة، فَهِيَ المرضية من الْأَقَاوِيل.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي التَّمَسُّك بِالْعُمُومِ، مَعَ اعْتِقَاد جَوَاز مَا يخصصه؟
قُلْنَا: أما الْعُمُوم فَلَا نقُول بِهِ، وَإِن اقْتَضَت قرينَة حَال تعميمها. وَهُوَ مَا نقطع بِهِ، وَلَا يجوز وُرُود مَا يخصصه إِلَّا على سَبِيل النّسخ.
فَإِن قيل: فَلَو قَالَ السَّائِل، فليبدي النَّاسِخ، إِن كَانَ، فَإِن الْمُكَلّفين متعبدون بالتمسك بالأخبار الصَّحِيحَة، وَلَا يمنعهُم عَنهُ تَجْوِيز النّسخ، وَيُقَوِّي ذَلِك على الأَصْل الَّذِي قدمْنَاهُ، من أَن النّسخ لَا يثبت فِي حق من لم يبلغهُ.
وَمَا يَلِيق بمضمون اسْتِصْحَاب حكم. وتصوير ذَلِك أَن قَائِلا لَو قَالَ: من شرع فِي الصَّلَاة بِتَيَمُّم، وَإِجْمَاع الْعلمَاء على انْعِقَاد صلَاته، فَإِذا تمكن من اسْتِعْمَال المَاء أثْنَاء الصَّلَاة، فَمَا سبق من الْإِجْمَاع فِي صِحَة الصَّلَاة، يستصحب، فَهَل يكون ذَلِك حجَّة، يسوغ التَّمَسُّك بهَا؟.
مَا صَار إِلَيْهِ كَافَّة الْمُحَقِّقين: أَن ذَلِك لَيْسَ بِحجَّة.
وَذهب أصحاب الظَّاهِر إِلَى أَنه حجَّة، ونراهم يشغفون بهَا فِي كثير من الْمسَائِل.
وَالدَّلِيل على بطلَان مَا صَارُوا إِلَيْهِ، أَن نقُول: إِذا انْعَقَد الْإِجْمَاع على انْعِقَاد الصَّلَاة، باستدامتها عِنْد رُؤْيَة المَاء، لَا تخلون فِيهَا، إِمَّا أَن تَقولُوا: هِيَ على الضَّرُورَة الَّتِي أَجمعُوا على الحكم فِيهَا، أَو تَقولُوا: هِيَ غَيرهَا.
فَإِن قُلْتُمْ إِنَّهَا عينهَا، فَهَذَا جحد الضَّرُورَة، فَإنَّا نعلم أَن اسْتِدَامَة
الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء عِنْد انْعِقَاد الصَّلَاة عِنْد عدم المَاء. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك: أَن القَوْل بانعقاد الصَّلَاة مَعَ القَوْل بِعَدَمِ انْعِقَادهَا وَتَقْدِير ذَلِك مَعَ وضوحه تكلّف.
وَإِن هم قَالُوا: إنَّهُمَا حادثتان.
فَيُقَال لَهُم: فموضع الْإِجْمَاع، الْحَادِثَة الأولى فَلم قُلْتُمْ: إِن الْإِجْمَاع إِذا استيقن فِي حَادِثَة، وَجب نقلهَا إِلَى أُخْرَى.
فَإِن قَالُوا: لِأَن الْإِجْمَاع، إِذا انْعَقَد، فَالْأَصْل بَقَاؤُهُ. إِلَّا أَن يقوم دَلِيل على ارتفاعه.
قُلْنَا الْأَمر على مَا ذكرتموه، وَلَكِن لَا سَبِيل إِلَى رفع الْإِجْمَاع عَن مَحل الْإِجْمَاع، فَأَما تَقْدِير إِجْمَاع فِي غير مَحل الْإِجْمَاع، فتحكم لَا خَفَاء بِهِ.
وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك: أَنه لَو كَانَ مَا ذكرتموه، تمسكاً بِإِجْمَاع لما سَاغَ الِاعْتِصَام بأخبار الْآحَاد فِيهِ، وَقد وافقتمونا أَنه لَو صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خبر نَقله الْآحَاد، وَاقْتضى الْخُرُوج من الصَّلَاة عِنْد رُؤْيَة المَاء، فيتمسك بِهِ.
وَإِن كَانَ لَا يسوغ التَّمَسُّك بِخَبَر الْوَاحِد فِي مَوضِع الْإِجْمَاع.
فَإِن قَالُوا: فالحادثة الثَّانِيَة، تعْتَبر بموقع الْإِجْمَاع!
قُلْنَا: فَهَذَا تَصْرِيح مِنْكُم بِقِيَاس، وَلَا نصدكم عَنهُ، بعد أَن توفروا عَلَيْهِ شَرَائِط، من التجويز والطرد وتثبيت معنى الأَصْل، وأنى يَصح ذَلِك مِنْكُم، مَعَ إنكاركم الْقيَاس.
فاجتزئ بِهَذَا الْقدر فِي الرَّد عَلَيْهِم، وَاعْلَم أَنه محتو على كل مَا شَرطه القَاضِي رَحمَه الله تكريراً أَو تَقْديرا.
ثمَّ ذكر رَضِي الله عَنهُ، لَهُم شبها، يَتَّضِح فَسَادهَا، وَالَّذِي يعولون عَلَيْهِ، مَا ذَكرْنَاهُ أسئلة على دليلنا، فمما نَقله القَاضِي رَضِي الله عَنهُ، أَن قَالَ.
فَإِن قَالُوا: إِذا ثَبت عندنَا موت خَليفَة فِي زمَان، فيستصحب ذَلِك فِي جملَة الْأَزْمَان الْمُسْتَقْبلَة، وَإِن نقل إِلَيْنَا الْمَوْت فِي وَقت مَخْصُوص، فِي هذيان طَوِيل. وَلَوْلَا أَن القَاضِي أوردهُ، لَكَانَ الإضراب عَنهُ أولى.
فَنَقُول: إِنَّمَا علمنَا اسْتِمْرَار الْمَوْت، لأننا علمنَا ضَرُورَة فِي اطراد الْعَادَات أَن الْأَمْوَات لَا يحيون إِلَى قيام السَّاعَة، وَلِهَذَا من الْمَعْنى اعتقدنا اسْتِمْرَار الْمَوْت، لَا لما ذكرتموه، من اسْتِصْحَاب الْحَالة الَّتِي سبقت.
وَلَهُم من هَذِه الطرز جمل، لَا تعجز عَن التفصي عَنْهَا، بعد مَا أحطت علما بمقصود الْبَاب.