فصل: فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

فَإِن قيل: إِذا كَانَ السُّجُود لله مَأْمُورا بِهِ، وَالسُّجُود لغيره مَنْهِيّ عَنهُ فَهَل تطلقون القَوْل بِأَن الشَّيْء الْوَاحِد مَأْمُور بِهِ على وَجه، مَنْهِيّ عَنهُ على وَجه؟.
قيل: اخْتلف الْعلمَاء فِي ذَلِك فَذهب الْجُمْهُور من الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز ذَلِك وبينوه بِالسُّجُود أَمر بإحداثه فَلَو قَدرنَا النَّهْي عَنهُ لَكَانَ نهيا عَن إحداثه، وحدوث السُّجُود لَا يخْتَلف بِأَن يكون الْمَقْصُود بِهِ عبَادَة لله تَعَالَى أَو عبَادَة الصَّنَم فيستحيل أَن يكون الشَّيْء مَأْمُورا بِهِ وَهُوَ بِعَيْنِه مَنْهِيّ عَنهُ، فيؤول النَّهْي إِلَى قصد عبَادَة غير الله دون نفس السُّجُود، وَهَذَا بَاطِل فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن السُّجُود لغير الله تَعَالَى محرم، وَلَو قَالَ قَائِل: السُّجُود مُبَاح وَالْقَصْد محرم، كَانَ خرقا للْإِجْمَاع.
فَإِن قيل: فَمَا الَّذِي ترتضونه من ذَلِك؟.
قُلْنَا: السُّجُود الَّذِي يَقع مَأْمُورا بِهِ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ، فَإِن السُّجُود الْوَاقِع عبَادَة لله لَا يتَصَوَّر أَن يَقع عبَادَة لغيره بعد مَا وَقع عبَادَة لَهُ وَالسُّجُود الْمنْهِي عَنهُ لَا يكون مَأْمُورا بِهِ، فَإِن الَّذِي وَقع على قصد عبَادَة الْغَيْر لَا يَقع عبَادَة لله فهما إِذا غيران يتَعَلَّق الْأَمر بِأَحَدِهِمَا وَالنَّهْي بِالثَّانِي وَهَذَا الْمَذْهَب مُطَابق لما عَلَيْهِ الْأمة وموافق للتحقيق.
فَإِن قيل: فالسجودان مثلان، وَمن حكم المثلين أَن لَا يثبت لأَحَدهمَا وصف، إِلَّا وَيجوز ثُبُوته لمماثله.
قيل: الْأَحْكَام الآئلة إِلَى الْأَنْفس والذوات تَسَاوِي فِيهَا المماثلات، وَالْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة لَا ترجع على أصُول أهل الْحق إِلَى الذوات والأنفس وَلكنهَا ترجع إِلَى نفس الْأَمر على مَا عَقدنَا فِيهِ بَابا، فَنحْن نجوز تَحْرِيم الشَّيْء وَإِيجَاب مثله وتحسين الشَّيْء وتقبيح مثله، وَإِنَّمَا يصعب موقع السُّؤَال على الْمُعْتَزلَة لما صرفُوا الْأَحْكَام إِلَى الذوات.

.فصل:

فَإِن قيل: نرى الْفُقَهَاء يطلقون فِيمَا يتفاوضون بِهِ لفظ الآكد فِي السنتين فَيَقُولُونَ: هما مؤكدتان، وإحداهما آكِد من الْأُخْرَى فَهَل تطلقون مثل ذَلِك فِي الواجبين حَتَّى تَقولُوا أَحدهمَا أوجب من الآخر؟.
قيل: هَذَا مِمَّا نطلقه وَلَا نتحاشى مِنْهُ.
فَإِن قَالُوا: فَمَا معنى قَوْلكُم أَحدهمَا أوجب؟.
قيل: الْوُجُوب رَاجع إِلَى وعد اللوم على التّرْك وَالثنَاء على الِامْتِثَال فَكل مَا كَانَ اللوم الْمَوْعُود على تَركه أَكثر كَانَ أوجب، فَنَقُول: على هَذِه الْقَضِيَّة: الْإِيمَان بِاللَّه أوجب من الطَّهَارَة، وَالْمعْنَى بِهِ أَن الْمَوْعُود على تَركه من اللوم والإقدام عَلَيْهِ من الثَّوَاب وَحسن الثَّنَاء أَكثر وَهَذَا هُوَ المعني بِذكر الآكد فِي السنتين، وَلَا يَسْتَقِيم ذَلِك على مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة فَإِنَّهُم يصرفون الْوُجُوب إِلَى صفة الذَّات، فَلَا يسْتَمر لَهُم مَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قيل: فَقولُوا على طرد ذَلِك فِي الصدقين كَانَ أَحدهمَا أصدق من الثَّانِي وَفِي الْكَذِب مثل ذَلِك.
قُلْنَا: هَذَا مِمَّا لَا يَقُولُونَ فَإِن كَون الْخَبَر صدقا يرجع إِلَى ذَاته فَإِذا تعلق خبران بمخبران على مَا هما عَلَيْهِ تَحْقِيقا فيستحيل أَن يكون أَحدهمَا أصدق من الآخر وَأما الْوُجُوب فَلَا يرجع إِلَى ذَات الْوَاجِب، وَإِنَّمَا يرجع إِلَى الْمَوْعُود عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يتَفَاوَت.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ يحسن فِي الْإِطْلَاق أَن يُقَال فلَان أصدق من فلَان؟.
قُلْنَا: قد يُطلق ذَلِك وَلَكِن المُرَاد بِهِ أَن مَا يبدر مِنْهُ من الصدْق أَكثر مِمَّا يبدر من صَاحبه وَقد يُطلق لفظ الأصدق بَين اثْنَيْنِ، وَالْمرَاد بِهِ نعت أَحدهمَا بِالصّدقِ ونعت الثَّانِي بِالْكَذِبِ، كَمَا يُقَال: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصدق من مُسَيْلمَة وَالْمَالِك أَحَق من الظَّالِم إِلَى غير ذَلِك، فَأَما أَن تصور صدقان صادرين من صَادِقين وَأَحَدهمَا أصدق فِي صلَاته من صَاحبه فَلَا معنى لَهُ فَاعْلَم إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

.باب النواهي:

اعْلَم - وفقك الله - أَن أَكثر مَا ذَكرْنَاهُ فِي أَحْكَام الْأَوَامِر يتَحَقَّق فِي النواهي على ضد الْأَوَامِر فَإِذا قُلْنَا حَقِيقَة الْأَمر اقْتِضَاء الطَّاعَة بِفعل الْمَأْمُور بِهِ فحقيقة النَّهْي اقْتِضَاء الطَّاعَة بترك الْمنْهِي عَنهُ وَالنَّهْي معنى فِي النَّفس لَا يرجع إِلَى الْعبارَات كالأمر، وكل مَا قدمْنَاهُ فِي الْأَوَامِر يعود فِي النواهي، ويفرد فِي النواهي مَا تتخصص بِهِ من الْأَوَامِر.

.القَوْل فِي النَّهْي عَن شيئيين أَو أَشْيَاء على وَجه التَّخْيِير:

قد قدمنَا صِحَة وُرُود الْأَمر بِشَيْء من أَشْيَاء على التَّخْيِير، وَذكرنَا شَرَائِط ذَلِك فِي بَاب مُفْرد فَكَمَا يجوز وُرُود الْأَمر على التَّخْيِير فَكَذَلِك يجوز وُرُود النَّهْي على التَّخْيِير فِي شَيْء من أَشْيَاء.
وَأنكر مُعظم الْمُعْتَزلَة ذَلِك وَقَالُوا يَسْتَحِيل وُرُوده على التَّخْيِير ثمَّ اخْتلفُوا فِيمَا بَينهم فَمنهمْ من يمْنَع ذَلِك فِي مُقْتَضى اللُّغَة وَاللَّفْظ، وَمِنْهُم من يمنعهُ من غير جِهَة اللُّغَات.
فَأَما الَّذِي منعُوهُ لفظا فقد تمسكوا فِي ذَلِك بِأَلْفَاظ واستشهدوا بهَا. مِنْهَا: قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تُطِع مِنْهُم آثِما أَو كفورا} قَالُوا مَعْنَاهُ وَلَا تُطِع آثِما وكفورا وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ الْقَائِل: لَا تُطِع زيدا أَو عمرا فَلَا يفهم من مُطلق ذَلِك النَّهْي عَن الطَّاعَة فِي حق أَحدهمَا، وَلَكِن الْمَفْهُوم النَّهْي عَن طاعتهما جَمِيعًا.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِنَّمَا يستيحل ذَلِك من قَضِيَّة الْعقل فَإِن النَّهْي إِذا تعلق بالشَّيْء اقْتضى قبحه فَإِذا تعلق بِأحد الشَّيْئَيْنِ لَا بِعَيْنِه حَتَّى يقدر الْقبْح فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا على حياده وإيراده، فيتصف إِذا كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يَتَّصِف بِهِ الثَّانِي وَإِن لزم تقبيح أَحدهمَا لزم تقبيحهما.
فَنَقُول لَهُم: لَا يَسْتَحِيل وُرُود النَّهْي على التَّخْيِير فِي المعرض الَّذِي يجوز وُرُود الْأَمر على التَّخْيِير وكل من يجوز ذَلِك فِي الْأَمر يجوزه فِي النَّهْي، وَأما الَّذين أنكروه لفظا فساقط لَا طائل وَرَاءه، فَإنَّا لم نخالفهم فِي لفظ بِعَيْنِه نفرض الْكَلَام فِيهِ وَإِنَّمَا خالفناهم فِي تصور وُرُود النَّهْي على معرض التَّخْيِير فلئن استبعدوا ذَلِك فِي الْأَلْفَاظ الَّتِي اسْتشْهدُوا بهَا نتصور عَلَيْهِم من الصراح مَا لَا يَجدونَ إِلَى جَحده سَبِيلا، ونقول: لَو قَالَ الْمُكَلف للمخاطب حرمت عَلَيْك أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ فَكف عَن أَيهمَا شِئْت، فَهَذَا مُصَرح بِهِ فِي إنباء التَّخْيِير فَمَا قَوْلكُم فِيهِ؟
وَأما استرواحكم إِلَى ظَاهر الْكتاب فَلَا يَسْتَقِيم وَذَلِكَ أننا لَا ننكر وُرُود بعض الْأَلْفَاظ تجوزا وتوسطا وحرف «أَو» يَقْتَضِي التَّخْيِير وَقد يرد، وَالْمرَاد بِهِ الْعَطف دون التَّخْيِير، وَلِهَذَا نَظَائِر فِي الْأَوَامِر على مَذْهَب الْمُفَسّرين مِنْهَا آيَة القطاع وَغَيرهَا.
وَأما من أنكر ذَلِك عقلا مستروحا إِلَى أَنه إِذا أقبح أَحدهمَا قبح الثَّانِي، فَيُقَال: لَو سلم لكم أَن الْقَبِيح يقبح بِصفة ترجع إِلَى نَفسه، وَقد أوضحنا إبْطَال ذَلِك فِي غير مَوضِع، وَبينا أَن الْقَبِيح وَالْحسن يرجعان إِلَى الْأَمر وَالنَّهْي، دون صِفَات الذوات، وَقد يحسن الشَّيْء ويقبح مثله.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن من مكث فِي دَار غَيره بِغَيْر إِذْنه فَهُوَ قَبِيح مِنْهُ وَلَو مكث فِيهَا بِإِذْنِهِ فَهُوَ غير قَبِيح، والمكث فِي الْحَالين لَا يخْتَلف فِي نَفسه وذاته وصدور الْإِذْن من الْمَالِك لَا يتَضَمَّن لغير صفة الْمكْث، والكون فِي الدَّار فِي وجوده، فَتبين بذلك أَن الْقبْح وَالْحسن يرجعان إِلَى أَمر صَاحب الشَّرِيعَة دون ذَوَات الْأَشْيَاء.

.فصل:

إِذا ورد النَّهْي مُتَعَلقا بِأحد المتضادين على التَّخْيِير سَاغَ لَك كَمَا يسوغ بِأَحَدِهِمَا وَذَلِكَ مثل أَن يَقُول: لَا تقم أَو لَا تقعد وَمَعْنَاهُ لَا تجمع بَينهمَا على التَّعَاقُب، وَامْتنع إِمَّا عَن هَذَا وَإِمَّا عَن ذَلِك.
فَإِن قيل: هَل يتَصَوَّر وُرُود النَّهْي مُتَعَلقا بجملة المتضادات الَّتِي لَا يَخْلُو الْمُخَاطب عَنْهَا مثل أَن يَقُول: لَا تنطق وَلَا تسكت وَلَا تتحرك وَلَا تسكن؟.
قُلْنَا: إِن أجزنا تَكْلِيف الْمحَال أجزنا ذَلِك وَإِن منعنَا ذَلِك منعنَا هَذِه وجوابنا على منع تَكْلِيف الْمحَال أَن نقُول: فَإنَّا وَإِن جَوَّزنَا ذَلِك عقلا فلسنا نقُول إِن الشَّرْع ورد بِهِ، وَإِنَّمَا كلامنا فِي وَقت كَمَال الدّين وَعدم توقع وُرُود شرح مُجَرّد.
فَإِن قيل: فَإِذا أجبتم على ذَلِك فَمَا قَوْلكُم فِيمَن دخل دَار غَيره مغتصبا مُتَعَدِّيا أَلَيْسَ هُوَ مَمْنُوع من الْكَوْن فِي الدَّار وَإِن أخرج؟ فَمَا دَامَ فِي الدَّار فَهُوَ كَائِن فِيهَا والكون فِيهَا محرم.
وَكَذَلِكَ من تخطى زرع غَيره فاقتحمه فَلَا يجوز الْبَقَاء فِيهِ وَلَا يجوز التَّسَبُّب إِلَى إِتْلَافه وَكَانَ لَا يَتَأَتَّى خُرُوجه إِلَّا بِقطع الزَّرْع وَإِتْلَاف طَائِفَة مِنْهُ.
وَكَذَلِكَ إِذا ألم الرجل بِامْرَأَة زَانيا فإدخاله فرجه فِي فرجهَا وَإِذا أخرج وَآل إِلَى إتْمَام الِانْفِصَال هُوَ مستديم لصورة الزِّنَا فقد ثَبت فِي هَذِه الصُّورَة تَحْرِيم المتضادات جملَة من اسْتِحَالَة التعري عَنْهَا.
وَاعْلَم - وفقك الله - أَن هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء، فحكي عَن أبي الشمر من الْأُصُولِيِّينَ أَن كل ذَلِك محرم عَلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي ورط نَفسه فِيهِ، وَإِن لم يجز وُرُود التَّكْلِيف بذلك ابْتِدَاء من غير تَفْرِيط يصدر مِنْهُ فَإِذا فرط انسدت عَلَيْهِ المسالك فَلَا مخلص لَهُ من المآثم وَذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن من تخطى زرع غَيره فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهُ، مَنْهِيّ عَن إفساده، وَكَذَلِكَ من تمكن من صدر إِنْسَان ظَالِما وَلَو قَامَ مِنْهُ تضرر لقِيَامه وَلَو استدام قعوده تضرر بقعوده فَهُوَ مَأْمُور بمزايلته مَنْهِيّ عَن الْإِضْرَار بِهِ.
وَأما الَّذِي نختاره أَنه إِذا دخل أَرضًا مَغْصُوبَة فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهَا وَلَيْسَ بمنهي عَنهُ، والأكوان الَّتِي تصدر مِنْهُ فِي خُرُوجه من حركاته وسكناته لَيْسَ يعيصي بهَا وَهَكَذَا القَوْل فِي كف الزَّانِي عَن الزِّنَا، وَأما الْمُخَالفين على صدر غَيره فَعَلَيهِ مزايلته، وَلَا يَعْصِي بمزايلته على أرْفق الْوُجُوه بِشَرْط أَن يبْذل فِيهِ كنه المجهود فَيرد عَلَيْهِ أبي الشمر وَغَيره حَتَّى إِذا بَطل مَا عدا اختيارنا ثَبت مَا اخترناه فَيُقَال لأبي الشمر هَذَا الَّذِي صرت إِلَيْهِ إفصاح مِنْك بتكليف الْمحَال وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان إِذا كَانَ لَا يعرى عَن الأكوان المتضادة فَلَا يتَصَوَّر النَّهْي عَن جَمِيعهَا من غير أَن يتَصَوَّر الْخُلُو عَنْهَا، وَلَا فرق بَين تَجْوِيز ذَلِك وَبَين تَجْوِيز وُرُود الْأَمر بِالْجمعِ بَين الْقيام وَالْقعُود.
وَأما الَّذِي استروح إِلَيْهِ من أَنه تسبب إِلَى ذَلِك فَبَاطِل من القَوْل، فَإِن تَكْلِيف الْمحَال على الأَصْل الَّذِي نَصره محَال، وَمَا كَانَ مستحيلا لم يتَصَوَّر ثُبُوته فرض الْمَرْء فِيهِ أَو لم يفرط، سِيمَا على مَذَاهِب الْمُعْتَزلَة، وَهَذَا الرجل من أتباعهم تَكْلِيف فَإِن الْمحَال قَبِيح لعَينه وَمَا قبح لعَينه لم يحسن لسَبَب فعل يصدر عَن الْغَيْر.
وَأما من قَالَ: إِنَّه مَأْمُور بِالْخرُوجِ مَنْهِيّ عَن الْإِتْلَاف فَهَذَا تنَاقض من القَوْل، فَإِن الْخُرُوج إِذا كَانَ لَا يتَصَوَّر إِلَّا مَعَ إِتْلَاف وإضرار فكأنهم يَقُولُونَ: هُوَ مَأْمُور بِخُرُوج لَا إِضْرَار مَعَه وَلَا يتَصَوَّر خُرُوج لَا إِضْرَار مَعَه، وكل ذَلِك يسبب إِلَى تَجْوِيز تَكْلِيف الْمحَال.
ثمَّ نقُول لهَؤُلَاء: أَرَأَيْتُم لَو لم يكن فِي خُرُوجه ضَرَر، وَلَكِن كَونه فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة ظلم، وَخُرُوجه إِلَى إتْمَام انْفِصَاله كَون فِيهَا، كَمَا أَن مكثه كَون فِيهَا، فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟
ثمَّ الَّذِي نعول عَلَيْهِ أَن نقُول من دخل دَار غَيره فَهُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مِنْهَا بِاتِّفَاق الْأمة، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى جَحده وَلَو لم يكن مَأْمُورا بذلك يصور أَن يدعى إِلَى الْخُرُوج ثمَّ كَانَ مَأْمُورا بِهِ لَا يتَصَوَّر أَن يكون مَنْهِيّا فَمن حَيْثُ ثَبت كَونه مَأْمُورا اسْتَحَالَ كَونه مَنْهِيّا.
فَإِن قيل: كَيفَ يتَحَقَّق أَن يكون مَأْمُورا بالتلف فِي ملك غَيره؟
قُلْنَا: كل تلف قصد بِهِ الْخُرُوج عَن ملك الْغَيْر فَهُوَ مَأْمُور بِهِ وَإِنَّمَا النَّهْي يتَعَلَّق بتصرفه فِي ملك الْغَيْر لَا على قصد التنصل وَالْخُرُوج والكف عَمَّا حرم عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي رجل حواليه طَائِفَة من الأجناد لَو وطئهم ليخرج من مَكَانَهُ لانتسب إِلَى وَاحِد وَلَو صَبر على مَكَانَهُ مَاتَ جوعا وعطشا، فَمَا قَوْلكُم فِي هَذِه الصُّورَة؟
قُلْنَا: أما الَّذِي تطلبه أَيهَا السَّائِل فَلَا نجيبك إِلَيْهِ فَإنَّا لَا نقُول يحرم عَلَيْهِ الْمقَام وَالْخُرُوج جَمِيعًا، فَإِن هَذَا محَال، وَلَكنَّا نفرض المسألة على أَرْبَاب الْفِقْه فَإِن قَالُوا يجب عَلَيْهِ الْخُرُوج إيثارا لروح نَفسه احتنا بِهِ، وَإِن قَالُوا يجب عَلَيْهِ الْمكْث، وَإِن خَافَ على روحه كَمَا يجب على الْمُكْره على الْقَتْل الْكَفّ عَن الْقَتْل، وَإِن خَافَ على روحه فنجيب لَهُ، وَإِن قَالُوا: يتَخَيَّر لتقابل الْأَصْلَيْنِ تبعنا قَوْلهم، فَأَما الْجمع بَين المتضادات فَلَا سَبِيل إِلَيْهِ فَإِن رجعُوا وَقَالُوا فِي مسئلة الزَّرْع وَغَيرهَا هُوَ مَأْمُور بِالْخرُوجِ مَنْهِيّ عَن الأضرار فقد فرط الْجَواب عَنهُ مَعَ أَنا نزيده إيضاحا فَنَقُول: ألم تعلمُوا من أصلنَا أَن التكسير ولحوق الآلام مِمَّا لَا يدْخل تَحت مَقْدُور الْمُحدثين، وَلَا يتَعَلَّق بهَا نهي، وَلَا أَمر وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْأَمر وَالنَّهْي بالأفعال إِلَيْهِ أجْرى الله الْعَاد تخلق الْكسر والالام عقبيهما، فَبَطل مَا قَالُوهُ من كَونه مَنْهِيّا عَن الإيلام، وَتبين أَن التَّكْلِيف على أصُول أهل الْحق لَا يتَعَلَّق بذلك أصلا.

.فصل:

إِذا ورد الْأَمر بالشَّيْء على الْإِيجَاب، وَقُلْنَا: إِن الْمُكَلف يَعْصِي بِتَرْكِهِ فتتعلق الْمعْصِيَة بِفعل ترك الْمَأْمُور، وَقَالَ أَبُو هَاشم: تتَعَلَّق الْمعْصِيَة بِأَن لَا يفعل الْمَأْمُور، حَتَّى قَالَ: لَو خلا عَن الْمَأْمُور وَعَن كل ترك لَهُ فَيسْتَحق الذَّم على أَن لم يفعل وَلما باح بِهَذَا الأَصْل خَالفه إخوانه من الْمُعْتَزلَة وَقَالُوا: مَا زلت تنكر على الجبرية إِثْبَات الثَّوَاب، وَالْعِقَاب مَا لَيْسَ بِخلق لَهُم، وَلَيْسَ بِفعل لَهُم على التَّحْقِيق، ثمَّ صرت إِلَى ثُبُوت الذَّم من غير إقدام على فعل، وسمي بِهَذِهِ المسألة أَبُو هَاشم الذِّمِّيّ وَهَذَا يهدم قَوَاعِده فِي التَّعْدِيل والتجوير واستقصاء ذَلِك فِي الديانَات.

.القَوْل فِي أَن النهى عَن الشَّيْء هَل يدل على فَسَاده:

اعْلَم - وفقك الله - أَن هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْفُقَهَاء والمتكلمون فَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور من أصحاب الشَّافِعِي وَمَالك، وَأبي حنيفَة، وَأهل الظَّاهِر، وَطَائِفَة من الْمُتَكَلِّمين: أَن النَّهْي عَن الشَّيْء يدل على فَسَاده كَمَا أَن الْأَمر بالشَّيْء يدل على إجزائه.
ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ فَذهب بَعضهم أَن النَّهْي دَال على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ من جِهَة وضع اللِّسَان.
وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَن النَّهْي إِذا ثَبت فَإِنَّمَا يعلم فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ بِمُوجب الشَّرْع دون قَضِيَّة لفظ النَّهْي فِي اللُّغَة، وَذهب الْجُمْهُور من الْمُتَكَلِّمين أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد ثمَّ أجمع هَؤُلَاءِ على أَنه كَمَا لَا يدل على فَسَاد الْمنْهِي عَنهُ لَا يدل على صِحَّته وإجزائه.
وَالْمَقْصُود من هَذَا الْبَاب لَا يَتَّضِح إِلَّا بِأَن نقدم عَلَيْهِ مسئلة اخْتلف فِيهَا الْمُتَأَخّرُونَ.

.مسألة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة:

الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة جَائِزَة على مَذْهَب كل من يُؤثر عَنهُ الْمذَاهب وَأَنَّهُمْ صائرون إِلَى أَن الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة تقع موقع الْإِجْزَاء.
وَذهب الجبائي وَابْنه وَمن تابعهما من أتباعهما إِلَى أَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة بَاطِلَة. غير وَاقعَة موقع الْإِجْزَاء، وَلَا يَحْكِي هَذَا الْمَذْهَب عَن أحد قبلهمَا إِلَّا أَن أَبَا هَاشم لما اسْتدلَّ عَلَيْهِ بِإِجْمَاع من سبق - على مَا سنوضحه فِي أثْنَاء المسألة - قَالَ فِي الرَّد على مدعي الْإِجْمَاع: كَيفَ يَسْتَقِيم الْإِجْمَاع وَقد ذهب أَبُو شمر المرجي إِلَى منع الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة فَلم يقتدر على نِسْبَة هَذَا الْمَذْهَب إِلَى أحد سواهُ.
وَأول مَا يحْتَاج إِلَى ذكره فِي المسألة أَن نبين لَك أَن الخائضين فِيهَا اخْتلفُوا فِي أَنَّهَا من مسَائِل الْقطع، أَو من مسَائِل الِاجْتِهَاد، فَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا من مسَائِل الِاجْتِهَاد، وَالصَّحِيح الَّذِي يعول عَلَيْهِ أَنَّهَا من مسَائِل الْقطع فَإِن الْخُصُوم يعتصمون فِيهَا بِمَا لَو ثَبت اقْتضى الْقطع، وَنحن نعتصم على الْخُصُوم بِإِجْمَاع من سلف على مَا سنوضحه وَهُوَ يُفْضِي إِلَى الْقطع فَالْأولى بِنَا أَن نبدأ بشبه الْقَوْم والتقصي عَنْهَا.
فَإِن قَالُوا: اتفقنا على أَن مَا يكون مَعْصِيّة يَسْتَحِيل أَن يكون طَاعَة وحققوا ذَلِك بِأَن من عصى الله تَعَالَى بِفعل يَسْتَحِيل أَن يكون مُطيعًا لَهُ بِعَين مَا عَصَاهُ بِهِ وَمَعْلُوم أَن قِيَامه فِي صلَاته، وقعوده وتقلبه فِيهَا من ركن إِلَى ركن أكوان تقوم بِهِ فِي دَار مَغْصُوبَة والأكوان الْحَادِثَة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة باغتصابه وتعد مِنْهُ، وَلَو قدر قَاعِدا، أَو قَائِما غير مصل كَانَ عَاصِيا بقعوده فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وشغله قطرا مِنْهَا وقعوده فِي الصَّلَاة هُوَ جنس قعوده فِي غير الصَّلَاة، وَالْقعُود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة محرم.
وأوضحوا ذَلِك فِي جملَة مَا يبدر عَن حركاته وسكناته فِي صلَاته فَإِذا ثَبت أَنَّهَا مُحرمَة فالمحرم كَيفَ يَقع طَاعَة مَأْمُورا بهَا.
وحققوا ذَلِك بِأَن قَالُوا: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الصَّلَاة لَا تصح إِلَّا بنية التَّقَرُّب فِيمَا حرم الله، وَرُبمَا يفرضون هَذَا الْكَلَام فِي نِيَّة الْوُجُوب فِيمَا يتَحَقَّق الْحَظْر فِيهِ فَهَذِهِ شبهتهم وإليها يؤول جملَة كَلَامهم.
وَالْجَوَاب عَنْهَا من أوجه:
وَكلهَا مهدرة بِتَسْلِيم بعض مَا ذَكرُوهُ وَنحن ننبهك على مَوضِع التَّسْلِيم حَتَّى لَا تزل فَأَما مَا ذَكرُوهُ من أَن أكوانه فِي الصَّلَاة مُحرمَة، وَهُوَ مَعْصِيّة فَالْأَمْر على مَا ذَكرُوهُ وجاحد ذَلِك ينْسب إِلَى جحد الْحَقَائِق، وَقد منع ذَلِك بعض الْفُقَهَاء على مَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قيل فَمَا وَجه التَّقَصِّي؟.
قُلْنَا: مَا عولتم عَلَيْهِ فِي المسألة إِمَّا أَن يكون محرما لَا يَقع طَاعَة، وَهُوَ الَّذِي ذكرتموه قبل أَن يتَحَقَّق التَّقَصِّي عَنهُ نبطل عَلَيْكُم بصور لَا محيص لكم عَنْهَا.
مِنْهَا: أَن من وَجب عَلَيْهِ قَضَاء دينه وضاق وَوقت الصَّلَاة موسع عَلَيْهِ فَلَا يجوز لَهُ تَأْخِير قَضَاء الدّين مَعَ الْقُدْرَة عَلَيْهِ، فَلَو تحرم بِالصَّلَاةِ وَالْحَالة هَذِه حكمتم بِصِحَّة الصَّلَاة، وَإِن كَانَ بِنَفس الصَّلَاة تَارِكًا لقَضَاء الدّين، وَكَذَلِكَ لَو وَجب عَلَيْهِ رد وَدِيعَة فِي مثل هَذِه الْحَالة فتلبس بِالصَّلَاةِ صحت مِنْهُ، وَوجه الْإِلْزَام كَمَا قدمْنَاهُ.
فَإِن قَالُوا: إِنَّه لَا يَعْصِي بِنَفس الصَّلَاة وَإِنَّمَا يَعْصِي بِالتَّأْخِيرِ؟.
قيل لَهُم: فَلَا يَعْصِي إِذا بِنَفس الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وَإِنَّمَا يَعْصِي بالكون فِيهَا، فَإِن قَالُوا فَالصَّلَاة كَون فِيهَا، قُلْنَا: فَالصَّلَاة إِذا فِيمَا ألزمنا كم ترك لقَضَاء الدّين ورد الْوَدِيعَة، وَلذَلِك لَو ضَاقَ وَقت الصَّلَاة وَلَو اشْتغل بإنشاء عقد فَاتَتْهُ فَلَا يجوز لَهُ التَّسَبُّب إِلَى ترك تَكْبِيرَة الْإِحْرَام، فَلَو عقد عقدا ترَتّب عَلَيْهِ الصِّحَّة ويؤول الْملك وَإِن كَانَ بِنَفس العقد تَارِكًا لتكبيرة الشُّرُوع فَهَذَا عقد محرم لَا تحكم بفساده.
ثمَّ مَا عولوا عَلَيْهِ فِي دليلهم أَن من شَرط الصَّلَاة نِيَّة التَّقَرُّب بهَا وَلَا يَصح قصد التَّقَرُّب فِي الْمحرم، وعَلى هَذَا الْوَجْه قدرُوا السُّؤَال فِي نِيَّة الْوُجُوب.
فَنَقُول لَهُم: لسنا نسلم على بعض الْمذَاهب نِيَّة التَّقَرُّب بل يَقع الاجتزاء بنية فعل الصَّلَاة مَعَ التَّعْيِين.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّبِي إِذا أَقَامَ الصَّلَاة وَهُوَ مناهز للبلوغ فَلَا يتَصَوَّر فِيهِ الْوُجُوب مِنْهُ على التَّحْقِيق، وَلَو بلغ بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة مَعَ بَقَاء الْوَقْت لَا يُوجب عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة ثَانِيًا، ويجتزئ بِمَا فرط مِنْهُ، وَلَو لم يكن قد صلى لوَجَبَ عَلَيْهِ إِقَامَة الصَّلَاة فَدلَّ أَن نِيَّة الْوُجُوب لَيست بمشروطة على الْإِطْلَاق وَكَذَلِكَ نِيَّة التَّقَرُّب.
أَو نقُول: وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا السُّؤَال مِنْكُم على مَا قدمْنَاهُ من أصلكم فِي اسْتِحَالَة علم الْمُكَلف بِالْوُجُوب مَعَ انطواء الْغَيْب عَنهُ فِي الْمَآل فَكَذَلِك لَا يتَصَوَّر قطع النِّيَّة بالتقرب مَعَ التشكك فِي تصَوره، إِذا التَّقَرُّب وصف لما يتَحَقَّق أَصله فَإِذا كَانَ الأَصْل مشكوكا فِيهِ عنْدكُمْ فالوصف بذلك أولى، فانعكس عَلَيْكُم مَا قَالُوهُ وَبَطل مَا أصلوه بطلانا ظَاهرا.
وَمِمَّا يعول عَلَيْهِ فِي الِانْفِصَال عَمَّا قَالُوهُ أَن نقُول: اسْم الصَّلَاة لَا يتخصص بأكوان الْمُصَلِّي فِي قِيَامه وقعوده وانخفاضه وارتفاعه، وَلَكِن مِمَّا تنطوي عَلَيْهِ الصَّلَاة النِّيَّة وَالْقِرَاءَة والدعوات الْمَفْرُوضَة والمسنونة وصدور هَذِه الْأَشْيَاء من الْكَائِن فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَلَا يكون غصبا وَلَا يتَضَمَّن حيلولة بَين الأَرْض ومالكها وَإِنَّمَا الْمُقْتَضِي إِلَى الْحَيْلُولَة أكوانه وشغله أقطار الدَّار وجحده الْمَالِك من التَّصَرُّف فِي ملكه بتصرفه الَّذِي هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ، وَإِنَّمَا يتَحَقَّق ذَلِك فِي أكوانه دون قِرَاءَته وعقده فنية التَّقَرُّب إِذا تَنْصَرِف إِلَى مَا لَا يتَحَقَّق معنى الاغتصاب فِيهِ.
فَإِن قيل: فالمصلي يَنْوِي بِصَلَاتِهِ جملَة التَّقَرُّب فَإِذا تحقق التَّقَرُّب فِي الْبَعْض دون الْبَعْض استحالت النِّيَّة.
قُلْنَا: هَذَا يبطل عَلَيْكُم بِمَا لَا محيص عَنهُ، وَهُوَ أَن الْمُصَلِّي إِذا نوى التَّقَرُّب بجملة صلَاته أَولا ثمَّ اتّفقت فِي أثناءها غفلات عَن الصَّلَاة وَهُوَ مَأْمُور فِيهَا جَار على ترتيبها الْمَشْرُوع لَهَا فَالصَّلَاة صَحِيحَة وفَاقا وَإِن كَانَ البادر فِي غَفلَة يَسْتَحِيل أَن يَقع تقربا فَخرج من ذَلِك أَن الْمَقْصد نِيَّة التَّقَرُّب على الْجُمْلَة دون تقسيطها على التفاصيل.
فَإِن قَالُوا: إِذا سبق الْأَمر من الله تَعَالَى بِالصَّلَاةِ فَلَا يتَصَوَّر الْخُرُوج عَن قَضِيَّة الْأَمر إِلَّا بالإقدام على مَا هُوَ مَأْمُور بِهِ، ويستحيل الْخُرُوج عَن قَضِيَّة الْأَمر من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ من غير نَاسخ وطروء نَاسخ مَانع، فَإِذا تمهد هَذَا الأَصْل بنوا عَلَيْهِ مرامهم وَقَالُوا: قيام الْمُصَلِّي وقعوده مأموران وهما فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة منهيان محرمان وَمَا كَانَ محرما يَسْتَحِيل أَن يكون مَأْمُورا فَلم يقدم إِذا على مَأْمُور بِهِ فَكيف خرج عَن الْقيام الْمَأْمُور بِهِ وَهَذَا نِهَايَة مَا يلْزمه.
فَقَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ: إِذا قُلْنَا إِن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مجزئة فلسنا نعني بذلك أَنَّهَا تقع مأمورة بهَا، وَلَكِن الْمَعْنى بذلك أَنَّهَا مَعَ كَونهَا مُحرمَة تسْقط الْمَأْمُور بِهِ عِنْد إِقَامَتهَا فَلم قُلْتُمْ أَن الْمَأْمُور بِهِ لَا يسْقط إِلَّا عِنْد الْإِقْدَام على مَأْمُور بِهِ، وَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الْمَأْمُور بِهِ يسْقط من غير نسخ وَلَا طروء عذر، فَإِن هَذَا مِمَّا تنازعنا فِيهِ فَلم يزِيدُوا على صُورَة الْخلاف. فَإِنَّكُم علمْتُم من أصُول خصمكم أَن الْفَرْض يسْقط بِالصَّلَاةِ فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة وعلمتم تسليمهم لكم كَون الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَنْهِيّا عَنْهَا، فَإِذا قُلْتُمْ لَا يتَصَوَّر سُقُوط الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِمَا هُوَ مَأْمُور بِهِ فقد دللتم على صُورَة الْخلاف بِنَفس ذكر الْخلاف ألم تعلمُوا أَنا نجوز أَن يسْقط الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْفَرْض عِنْد صُدُور مَعْصِيّة من الْمُكَلف وَيجْعَل صدورها آيَة لسُقُوط الْوُجُوب وَمِثَال ذَلِك مَا قدمْنَاهُ من الْمسَائِل الْمُتَّفق عَلَيْهَا من نَحْو الصَّلَاة فِي وَقت وجوب الرَّد؟
وَمن هَذَا الْقَبِيل أَيْضا أَن الرجل إِذا اضطرته المخمصة وَكَانَ عِنْده من ملكه مَا يسد بِهِ رمقه فَيجب عَلَيْهِ الْأكل، فَلَو أكل من ملك غَيره فقد أقدم على نفس الْمعْصِيَة، وَسقط عَنهُ الْفَرْض فِي وجوب الْأكل. فَإِن عَادوا فِي استبعاد سُقُوط الْوَاجِب بالمحرم عدنا لَهُم وَبينا اقتصارهم على مُجَرّد الدَّعْوَى.
فَإِن قَالُوا: فَالْأَصْل بَقَاء الْأَمر على اقْتِضَاء الِامْتِثَال وَلَا يسْقط امتثاله وجوبا من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ وَمن غير دلَالَة قَائِمَة على سُقُوط الْوُجُوب عِنْد ثُبُوت مَا هُوَ محرم.
قُلْنَا: الْآن إِن نطقتم بِالْحَقِّ فَإنَّا نقُول: إِذا ورد الْأَمر مقتضيا للْإِيجَاب فَلَا يَتَقَرَّر سُقُوط الْوُجُوب من غير إقدام على الْمَأْمُور بِهِ إِلَّا بِدلَالَة تقوم دَالَّة على سُقُوط الْوُجُوب من غير إقدام، فَمَا الدَّلِيل على السُّقُوط؟
قُلْنَا: قد تبين عجزكم عَن إِقَامَة الدّلَالَة واتضح جَوَاز ذَلِك ثمَّ نوضح مَا بِهِ اعتصامنا من الدَّلِيل فِي المسألة إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ثمَّ اعْلَم أَن مُعظم الْفُقَهَاء حادوا عَن سنَن التَّحْقِيق فِي التَّقَصِّي عَن شبه الْقَوْم فسلك كل فريق مِنْهُم طَرِيقا، وَنحن ننبئك عَن طرقهم وَنَذْكُر وَجه الدخل فِيهَا إِن شَاءَ الله، فمما عول فِيهِ بعض الْفُقَهَاء فِي التَّقَصِّي عَمَّا قدمْنَاهُ أَن قَالَ: الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة طَاعَة مَأْمُور بهَا مفترضة لَا يُوصف بِأَنَّهَا مُحرمَة فَإِنَّمَا الْمحرم الْغَصْب، وَالْغَصْب غير الصَّلَاة، فَقيل لَهُ: فالقعود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة على حكم التَّعَدِّي غصب وقعود الْمُصَلِّي فِيهَا قعُود على حكم الْغَصْب، فَلم يَجدوا عَن ذَلِك محيصا غير أَن قَالُوا: الدَّلِيل على انْفِصَال الْغَصْب عَن الصَّلَاة، وَالصَّلَاة عَن الْغَصْب أَنه قد يفصل الْكَوْن فِي الدَّار مغتصبا وَإِن لم يكن مُصَليا فِيهَا. وَمن حق مثل هَذَا الْكَلَام أَن لَا نتشاغل بنقله لوضوح فَسَاده بيد أَنا لما رَأينَا الْفُقَهَاء يشغفون بذلك لم نجد بدا من ذكره، فَيُقَال لهَذَا الْقَائِل: وَإِن صَحَّ أَن يكون كَائِنا غير مصل فَلَا يَصح أَن يكون مُصَليا فِي الدَّار إِلَّا وَهُوَ كَائِن فِيهَا وَهَذَا بِمَثَابَة من قَالَ الْقعُود فِي الدَّار لَيْسَ بِكَوْن فِيهَا فَإِنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بقعود، وَلَو قَالَ قَائِل: الْحَرَكَة لَيست بِكَوْن فَإِنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بحركة وَهُوَ السّكُون والسواد لَيْسَ بِكَوْن فِيهَا لِأَنَّهُ قد يتَصَوَّر كَون لَيْسَ بسواد وَالصَّلَاة لَيست بِطَاعَة لتصوره طَاعَة لَيست بِصَلَاة.
وَاعْلَم أَن من زعم أَن قعُود الْمُصَلِّي فِي صلَاته لَيست بِكَوْن فِي الدَّار فقد جحد الضَّرُورَة وَقد بَينا بِاتِّفَاق الْأمة أَن الْقعُود فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة محرم.
وَمِمَّا اعْتصمَ بِهِ بعض الْفُقَهَاء أَن قَالَ: الاغتصاب يتَعَلَّق بِعَين الدَّار وذاتها وأنفس أبعاضها وأجزائها، وَالصَّلَاة من فعل الْمُصَلِّي ومقدوراته وَهِي لَا تتصف بِكَوْنِهَا مُحرمَة، وَهَذَا أوضح فَسَادًا من كل مَا قدمْنَاهُ، وَذَلِكَ أَنا نقُول: إِذا صرفتم الاغتصاب إِلَى أَعْيَان الدَّار، وزعمتم أَن الصَّلَاة من مقدوراته وَالْغَصْب لَا يتَعَلَّق بِمَا يخرج من قبيل مقدوراته فَأول مَا فِيهِ أَن نقُول: هَل تسلمون أَن الْغَصْب محرم مَنْهِيّ عَن معاقبته عَلَيْهِ فَإِن لم يسلمُوا انتسبوا إِلَى جحد الْإِجْمَاع وَإِن سلمُوا قيل لَهُم: فَكيف يُعَاقب الْمَرْء على مَا يدْخل تَحت مقدوره، وَلَا يجوز دُخُوله تَحْتَهُ فتتعلق جملَة أَحْكَام التَّكْلِيف بِأفعال الْمُكَلّفين، ومصير هَؤُلَاءِ إِلَى أَن الصَّلَاة من أفعال الْغَاصِب ومقدوراته لَا ينجيهم فَإِن الْغَصْب من مقدوراته وَلَو لم يكن مَنْهِيّا لما تعلق حكم التَّكْلِيف بِهِ فِي التَّحْرِيم.
ثمَّ نقُول: الْأَمْلَاك الْمُطلقَة والغصوب الْمَانِعَة مِنْهَا كلهَا آئلة إِلَى الأوحال المقدورة للْمَالِك والمغتصبين فَإِذا أطلق الْملك أُرِيد بِهِ تصرف صَاحب الدَّار وتقلبه فِي عين الدَّار، وَيرجع ذَلِك إِلَى أكوانه، فَأَما أَعْيَان الدَّار وجواهرها وأجسامها فَلَا يملكهَا إِلَّا الله تَعَالَى، وَلَا يتَصَوَّر الْغَصْب فِيهَا، وَالْجُمْلَة الجامعة لما قدمْنَاهُ أَن تثبت الْملك وَالْمَنْع مِنْهُ مِمَّا يتَعَلَّق بِهِ التَّكْلِيف وَلَا يتَصَوَّر التَّكْلِيف فِي شَيْء من قضاياه إِيجَابا وندبا وحظرا وَإِبَاحَة إِلَّا بِمَا هُوَ من قبيل مقدورات العبيد وَهِي أفعالهم فَبَطل مَا قَالُوهُ جملَة وتفصيلا، وَتبين أَن الْغَصْب يرجع إِلَى مَا يَفْعَله الْغَاصِب من الأكوان فِي شغله أَجزَاء الدَّار وَمنعه الْمَالِك من التَّصَرُّف فِي الْموضع الَّذِي شغله.
وَمن الْفُقَهَاء من سلك أُخْرَى وَهِي أَنه قَالَ: تَحْرِيم الْغَصْب مِمَّا لَا يتخصص بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّهُ محرم قبل شُرُوعه فِي الصَّلَاة وَلَيْسَت كالطهارة فَإِنَّهَا شَرط لأجل الصَّلَاة، فَيُقَال: قد قدر عَلَيْكُم ان نفس قعوده وقيامه فِي الصَّلَاة عين الْغَصْب فَكيف يخلص من هَذَا السُّؤَال قَوْلكُم إِن الْغَصْب مَا حرم لأجل الصَّلَاة وَقد وضح أَن بعض أَرْكَانهَا عين الْغَصْب، فاضمحل مَا قَالُوهُ.
ثمَّ يُقَال لَهُم: ستر الْعَوْرَة مِمَّا لم يخْتَص وُجُوبه بِالصَّلَاةِ وَلم تقدر الاختلال بهَا على قصد وَاخْتِيَار حكم بِبُطْلَان الصَّلَاة.
وَمن الْفُقَهَاء من تمسك بطريقة أُخْرَى فَقَالَ إِنَّمَا صحت صلَاته لِأَنَّهُ لَا بُد من مُسْتَقر يقر فِيهِ، إِلَى غير ذَلِك.
فَإِن قيل: يُمكنهُ أَن يقر فِي غير الدَّار الْمَغْصُوبَة؟.
قيل: ويمكنه أَن يُصَلِّي فِي غَيرهمَا فَبَطل جملَة مَا عولوا عَلَيْهِ، وَفِيمَا قدمْنَاهُ من طرق الْجَواب غنية إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَإِن قيل فَمَا دليلكم على وُقُوع الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة مَوضِع الْإِجْزَاء تثبتون ذَلِك عقلا أم سمعا؟.
قُلْنَا: لَا تدل الْعُقُول على أَحْكَام الشَّرَائِع، وَإِنَّمَا الدَّال عَلَيْهَا الْأَدِلَّة السمعية، فَإِن قَالُوا: فَلَيْسَ فِي تَجْوِيز الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة نَص كتاب وَلَا نَص مستفيض عَن الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعلى مَاذَا معولكم؟
قُلْنَا: معولنا على إِجْمَاع الْأمة فِي الْعَصْر الخالية قبل ظُهُور هَذَا الْخلاف من أبي شمر المرجي ونوابته الْمُعْتَزلَة، وَوجه تَحْقِيق ادِّعَاء الْإِجْمَاع أَن نقُول: الصَّلَوَات فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة كَانَت تتفق فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي زمن أصحابه بعد أَن اسْتَأْثر الله تَعَالَى بِهِ. وكما نعلم اطراد سَائِر الْعَادَات الَّتِي لَا تنخرق، فَكَذَلِك نعلم أَن الْعَصْر لَا يَخْلُو عَن تقدر ذَلِك من المعتصمين المشتغلين المتمسكين بضروب الْعدوان، ثمَّ لم يصر أحد من أهل الْحل وَالْعقد إِلَى إِفْسَاد الصَّلَوَات فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَلم يوجبوا قضاءها وَلَا يسوغ من المجمعين الصمت وَالسُّكُوت على خلاف الْحق إِذْ الْعِصْمَة تجب لَهُم كَافَّة كَمَا تجب للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن طَائِفَة من المغتصبين كَانُوا ينيبون ويتوبون ويرجعون عَن طغيانهم وعدوانهم فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَكَانُوا يتلافون مَا فرط مِنْهُم من الظُّلم بالتدارك، وَلم يُؤثر عَن أحد من الْأَئِمَّة فِي الْعَصْر المنقضية أَنه أوجب على منيب إِعَادَة مَا فرط مِنْهُ من الصَّلَوَات وَهَذَا وَاضح لَا خَفَاء بِهِ، وجاحد ذَلِك يُقَابل بجحد كل إِجْمَاع.
فَإِن قَالَ أَبُو هَاشم: أَلَيْسَ ذهب أَبُو شمر إِلَى إِيجَاب الْقَضَاء؟
قُلْنَا: إِنَّمَا استدللنا عَلَيْهِ بانعقاد الْإِجْمَاع قبل الَّذين نسبتموهم فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، ثمَّ هَذَا الرجل الَّذِي سميتموه لم يُوضح كَونه من المتسجمعين للشرائط الْمَذْكُورَة فيعد خِلَافه ويقدح فِي عقد الْإِجْمَاع. فَبَطل مَا قَالُوهُ.
فَإِن قيل: فقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن غير الْمَأْمُور بِهِ لَا يتَأَدَّى بِهِ الْمَأْمُور بِهِ؟
قيل لَهُم: هَذَا تلبيس مِنْكُم فَإنَّا أوضحنا عَلَيْكُم الْإِجْمَاع فِي إِجْزَاء الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة ثمَّ لَو كَانَ لَا يخفى عَلَيْكُم كَونهَا مَعْصِيّة فَكيف خَفِي عَمَّن كَانَ قبلكُمْ فَإِذا ثَبت إِجْمَاعهم على إجزائها مَعَ الْعلم بتحريمها فَأنى يَسْتَقِيم مَعَ ذَلِك ادِّعَاء الْإِجْمَاع على الْجُمْلَة فِي أَن الْمحرم لَا تقع موقع الْمَأْمُور بِهِ، ثمَّ مَا قَوْلكُم فِي الْمُصَلِّي وَفِي وَقت وجوب رد الْوَدِيعَة وَالْغَصْب عَلَيْهِ، هَل تصح صلَاته؟ فَإِن قَالُوا: تصح صلَاته مَعَ كَونهَا تركا للْوَاجِب فقد أبطلوا ادِّعَاء الْإِجْمَاع وَإِن زَعَمُوا أَن الصَّلَاة لَا تصح فِي هَذِه الْحَالة ظهر عنادهم وخرقهم لإِجْمَاع الْأمة، وأفضى ذَلِك بهم إِلَى القَوْل بِأَن كل مديون عَلَيْهِ دين مقتدر على أَدَاء مَا عَلَيْهِ مماطل مُسْرِف بِتَأْخِير لَا تصح لَهُ صَلَاة مَا بَقِي الدّين عَلَيْهِ.
وَهَذَا كشف القناع والتصرخ برفض الْإِجْمَاع.
فَإِذا ثبتَتْ هَذِه المسألة فِي مُقَدّمَة الْبَاب فنخوض بعْدهَا فِي إِيضَاح فَسَاد قَول من قَالَ: إِن النَّهْي يدل على الْفساد.
وَاعْلَم أَن أَكثر الصائرين إِلَى هَذَا الْمَذْهَب من أصحاب الشَّافِعِي، وَمَالك وَأبي حنيفَة وَغَيرهم يوافقون فِي وُقُوع الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة موقع الْإِجْزَاء فَإِذا تمهدت لَك هَذِه الْقَاعِدَة قُلْنَا بعْدهَا: ألستم وافقتمونا على صِحَة الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة؟ وَقد أوضحنا كَون الْقيام وَالْقعُود وَجُمْلَة الأكوان فِيهَا مُحرمَة مَنْهِيّا عَنْهَا، معاقبا عَلَيْهَا، وَبينا أَن جَاحد ذَلِك ينتسب إِلَى جحد الْحَقَائِق فقد ثَبت مَنْهِيّ عَنهُ تَحْقِيقا مَعَ كَونه مجزيا.
فَإِن قيل: نَحن وَإِن قُلْنَا: إِن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة جَائِزَة، قُلْنَا مَعَ ذَلِك إِن النَّهْي يدل على الْفساد فَلَا تنَاقض بَين الْأَصْلَيْنِ، فَإنَّا وَإِن جعلنَا الْفساد من مُقْتَضى النَّهْي فَيجوز أَن يحمل النَّهْي على غَيره بِدلَالَة تقوم، وَهَذَا كَمَا أَنا نقُول النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم ثمَّ قد يرد وَيحمل على غير التَّحْرِيم. وَالْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب، ثمَّ قد يرد وَيحمل على غير الْوُجُوب؟
قُلْنَا: هَذَا مَا روح فِيهِ، وَذَلِكَ أَنكُمْ زعمتم أَن النَّهْي يَقْتَضِي الْفساد وَإِذا حمل على غير ظَاهره فقد عدل بِهِ على حَقِيقَته، وَصرف عَن قَضيته وَاسْتعْمل فِيمَا اسْتعْمل فِيهِ مجَازًا وتوسعا، واستعماله من غير اقْتِضَاء الْإِيجَاب كاستعمال صِيغَة الْأَمر فِي اقْتِضَاء الْإِبَاحَة.
ومآل ذَلِك يرجع إِلَى القَوْل بِأَن النَّهْي إِذا لم يحمل على الْفساد كَانَ مجَازًا وَيلْزم من ذَلِك أَن يكون النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة مجَازًا لَا حَقِيقَة، وَهَذَا مَا لَا سَبِيل إِلَى القَوْل بِهِ، وَلَو سَاغَ ذَلِك سَاغَ الْمصير إِلَى أَنَّهَا مُحرمَة مجَازًا لَا حَقِيقَة وَقد أطبق الْمُحَقِّقُونَ على أَن كل مَا كَانَ محرما على الْحَقِيقَة يجب أَن يكون مَنْهِيّا عَنهُ على الْحَقِيقَة.
وَمِمَّا نتسمك بِهِ فِي المسألة أَن نقُول: معاشر الْخُصُوم فصلوا لنا قَوْلكُم فِي الْفساد ومتعلق النَّهْي فَإِن عنيتم بذلك الْمنْهِي بنهي يَقْتَضِي التَّحْرِيم محرم فَهَذَا مِمَّا نساعدكم عَلَيْهِ، ونقول بِهِ، إِمَّا مصيرا إِلَى أَن مُطلق النَّهْي يَقْتَضِي التَّحْرِيم، أَو فرضا للْكَلَام فِي النَّهْي الْمُقَيد بالقرائن الدَّالَّة على التَّحْرِيم، وَإِن عنيتم بِالْفَسَادِ أَن الْمنْهِي عَنهُ غير الْمَأْمُور، فَهَذَا مِمَّا نساعدكم عَلَيْهِ، وَإِن عنيتم بِالْفَسَادِ أَن مثل مَا وَقع مَنْهِيّا تجب إِعَادَته على وَجه كَونه مَنْهِيّا فالنهي لَيْسَ يُنبئ عَن ذَلِك لَا بصريحه، وَلَا بضمنه فَإِن يتَضَمَّن الزّجر عَن الْمنْهِي عَنهُ فَحسب، وَأما أَن يتَضَمَّن إِعَادَة مثله فَلَمَّا.
فَإِن قَالُوا: الْمُقْتَضى لإعادة مثله الْأَمر السَّابِق فَإِن الْأَمر يَقْتَضِي الِامْتِثَال وَالْمحرم لَيْسَ بامتثال.
قُلْنَا: فقد بَطل دعواكم فِي قَوْلكُم نفس الْمنْهِي يَقْتَضِي الْفساد، وَتبين استرواحكم إِلَى الْأَمر السَّابِق دون النَّهْي، ثمَّ قد أشبعنا القَوْل فِي ذَلِك فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، وأوضحنا القَوْل فِيهَا.
فَإِن قَالُوا: الْجَوَاز والإجزاء يُنبئ عَن الْإِبَاحَة وَالْأَمر بِهِ فَإِذا ارْتَفَعت الْإِبَاحَة لم يتَحَقَّق ثُبُوته لم يكن للإجزاء معنى.
قيل لَهُم: فَمَا قَوْلكُم فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة، فَإِن التَّحْرِيم مُتَحَقق فِيهَا مَعَ وُقُوعهَا موقع الْإِجْزَاء ثمَّ كل مَا قدمْنَاهُ فِي تِلْكَ المسألة من المطالبات يعود فِي هَذِه.
فَإِن قَالَ قَائِل: دَعونَا عَن طَرِيق الْجِدَال وبينوا لنا مَا يدل على وُقُوع الْمحرم موقع الْإِجْزَاء عِنْد ارتفاض الْإِبَاحَة وَالْأَمر.
قُلْنَا: لَيْسَ الْمَعْنى بالإجزاء عندنَا إِلَّا سُقُوط الْفَرْض، وَالدَّال على ذَلِك أَن يخبرنا الرب تَعَالَى أَو نتوصل إِلَى إخْبَاره بِدلَالَة قَاطِعَة: إِنِّي أسقطت عَنْكُم الْفَرْض عِنْد إقدامكم على هَذَا الْفِعْل الْمحرم وَجَعَلته آيَة فِي سُقُوط الْفَرْض عَنْكُم فَهَذَا وَاضح لَا استبعاد فِيهِ.
وَقد اسْتدلَّ الصائرون إِلَى أَن النَّهْي يدل على الْفساد بِخَبَر شغبوا بالاستدلال بِهِ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: كل عمل لَيْسَ فِيهِ أمرنَا فَهُوَ رد.
قَالُوا: فَلَا معنى لكَونه ردا إِلَّا أَن يكون بَاطِلا غير مجزئ.
وَاعْلَم أَن هَذَا اعتصام بأخبار الْأَفْرَاد وَالْمطلب فِي المسألة الْقطع مَعَ أَنه لَا معتصم فِيهِ، وَأَن الرَّد يَنْقَسِم إِلَى معَان وَلَيْسَ من مَعَانِيه فِي إِطْلَاق اللُّغَة وجوب إِعَادَة مثله، وَلَكِن من أظهر مَعَانِيه أَنه لَا يَقع طَاعَة وَعبادَة متقبلة مثابا عَلَيْهَا.
وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن من صدرت مِنْهُ الصَّلَوَات مستجمعة للشرائط الْمَشْرُوطَة فِي صِحَّتهَا فَيحسن مِنْهُ أَن يَقُول فِي دعواته: اللَّهُمَّ تقبلهَا وَلَا تردها وَلَيْسَ يَعْنِي بذلك إِبْطَالهَا فِي حكم الشَّرْع على وَجه يجب إِعَادَتهَا فَتبين أَنه لَا معول على ظَاهر الْخَبَر، وَأَقل مَا فِيهِ تردده بَين مَا قَالُوهُ، وَبَين مَا أبديناه، وَلَا يسوغ الِاسْتِدْلَال بالمحتملات فِي مسَائِل الْقطع.
وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي المسألة ادِّعَاء اتِّفَاق سلف الْأمة فَإِنَّهُم قَالُوا: مَا زَالَ الْعلمَاء فِي الْعَصْر الخالية يستدلون على تثبيت الْفساد بظواهر النَّهْي وَهَذَا نَحْو استدلالهم إِلَى إِثْبَات فَسَاد الْعُقُود المنطوية على الرِّبَا بقوله تَعَالَى: {وذروا مَا بَقِي من الرِّبَا}.
واعتصموا أجمع بنهيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنْهَا فِيمَا نقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «لَا تَبِيعُوا الْوَرق بالورق» الحَدِيث، واعتصم من اعْتقد بطلَان نِكَاح الشّغَار بِالنَّهْي عَنهُ وَمَا زَالَت الصَّحَابَة يسْتَدلّ بَعضهم على بعض فِي طلب الْفساد بِالنَّهْي، وَمَا قَالَ أحد مِنْهُم فِي رد اسْتِعْمَال خَصمه أَن النَّهْي لَا يدل على الْفساد، وَهَذَا مِمَّا يعدونه من أقوى عمدهم.
وَالْجَوَاب عَنهُ أَن يُقَال: هَذَا الَّذِي احتملتموه فِي النَّقْل لَا يثبت الْإِجْمَاع بِمثلِهِ فَإِنَّكُم أوصيتم إِلَى آحَاد من الظَّوَاهِر، وزعمتم ان الماضين استدلوا بهَا وَأَنْتُم تنازعون فِي ذَلِك إِن ادعيتم الإطباق والاتفاق، وَإِن ادعيتم التَّسَبُّب إِلَى آحَاد وأفراد فَلَا يثبت مقصدكم، ثمَّ نقُول لَهُم: بِمَ تنكرون على من زعم أَنهم وَإِن استدلوا بالمناهي فَإِنَّمَا استدلوا بإفضائها إِلَى الْفساد لإحاطة علمهمْ بقرائن مقترنة بالألفاظ دَالَّة على اقْتِضَاء الْفساد، فَإِن قَالُوا: لَو كَانَت تِلْكَ قَرَائِن لنقلت.
قُلْنَا: لَا يتَعَيَّن نقل أسْند الْعلم إِلَيْهِ وَهَذَا كَمَا أَن انْعِقَاد الْإِجْمَاع قد يتَّفق فِي الْحَوَادِث وَإِن لم تنقل دلَالَة يسْتَند انْعِقَاد الْإِجْمَاع إِلَيْهَا، وَوجه الْجَواب عَمَّا ذَكرُوهُ كوجه الْجَواب عَن الشّبَه الَّتِي قدمناها من الصائرين إِلَى مُطلق الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب ثمَّ توصلوا فِي ذَلِك إِلَى دَعْوَى مثل هَذَا الْإِجْمَاع، وَقد سبق استقصاء الْجَواب.