فصل: فصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التلخيص في أصول الفقه



.فصل:

اعْلَم، أَن مَا صَار إِلَيْهِ مُعظم الْفُقَهَاء، وَأطْلقهُ المنتمون إِلَى أصُول الْفِقْه أَن الْأَمر بالشَّيْء يَقْتَضِي جَوَازه وَقد أنكر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ذَلِك على مَا أَطْلقُوهُ، وَقَالَ الْأَمر إِذا اقْتضى إِيجَاب الشَّيْء فَمَا الْمَعْنى بِالْجَوَازِ بعد ثُبُوت الْإِيجَاب فَإِن فسرتم الْجَوَاز بِنَفس الْوُجُوب فَهُوَ الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يؤول الْكَلَام إِلَى تناقش فِي الْعبارَة، فَإنَّا لَا نستحسن تَسْمِيَة الْوُجُوب جَوَازًا وَلَا تَسْمِيَة الْوَاجِب جَائِزا وَإِن أَنْتُم عنيتم بِالْجَوَازِ شَيْئا آخر سوى الْوُجُوب فَهُوَ محَال فَإِن أَحْكَام الشَّرْع مضبوطة منحصرة فِي أَقسَام مِنْهَا الْوُجُوب، وَمِنْهَا الْحَظْر، وَمِنْهَا النّدب، وَمِنْهَا الْكَرَاهِيَة وَمِنْهَا الْإِبَاحَة، فَهَذِهِ أَحْكَام الْأفعال لَا متزيد عَلَيْهَا، فالجواز الَّذِي ذكرتموه إِذا لم تصرفوه إِلَى الْوُجُوب واستحال صرفه إِلَى الْحَظْر تحقق الْوُجُوب وَكَذَلِكَ لم تصرفوه إِلَى النّدب فَلَا يتبقى إِلَّا الصّرْف إِلَى الْإِبَاحَة، ويؤول محصول القَوْل إِلَى أَن الْوُجُوب مُبَاح وَذَلِكَ من أمحل الْمحَال فَإِن الْمُبَاح مَا جَازَ تَركه وَالْوَاجِب مَا لَا يجوز تَركه فكأنكم تَقولُونَ مَا لَا يجوز تَركه يجوز تَركه.
فَإِن قَالُوا: أردنَا بِالْجَوَازِ أَن الْمُقدم عَلَيْهِ لَا يسْتَوْجب بالإقدام دَمًا، قُلْنَا فَهَذَا نفي وَلَيْسَ بِحكم، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْمُقدم على الْفِعْل قبل وُرُود الشرايع لَا يسْتَحق الذَّم مَعَ مصيرنا إِلَى نفي الْأَحْكَام قبل وُرُود الشرايع.
فَإِن قيل: إِذا ثَبت الْوُجُوب بِأَمْر ثمَّ نسخ الْوُجُوب فَهَل يبْقى الْجَوَاز؟.
قُلْنَا: لما. فَإِن الْأَمر إِذا اقْتضى وجوبا ثمَّ نسخ لم يبْق من مُقْتَضَاهُ شَيْء وَالَّذِي يُوضح الْحق فِي ذَلِك أَن نقُول لَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْأَمر الْمُقْتَضى للْإِيجَاب إِذا ثَبت ثمَّ نسخ الْإِيجَاب بَقِي الْجَوَاز ثمَّ لزم أَن يُقَال يبْقى النّدب بعد أَن تقاصر وصف الْوُجُوب، وَهَذَا أولى من الْجَوَاز، فَإِن حَقِيقَة الِاقْتِضَاء يتَقَدَّر فِي النّدب تقدرها فِي الْوَاجِب وَإِنَّمَا يتَمَيَّز الْوَاجِب على النّدب بِاسْتِحْقَاق اللوم على تَركه وَإِلَّا فالإقتضاء مُتَحَقق فيهمَا، فَهَلا قُلْتُمْ: إِن الْوُجُوب إِذا نسخ بَقِي الِاقْتِضَاء مُجَردا عَن اسْتِحْقَاق اللوم عِنْد تَقْدِير التّرْك والاقتضاء الْمُجَرّد هُوَ النّدب، فالندب إِذا أولى بِالْبَقَاءِ من الْجَوَاز لَيْسَ فِيهِ اقْتِضَاء.
فَإِن قيل: فاحسبوا أَن مَا ذكرتموه يعكس على خصمكم مُرَاده فَمَا انفصالكم عَن سُؤال النّدب فَإِنَّهُ محيل جدا، فَهَلا قُلْتُمْ أَن نسخ الْوُجُوب يرجع إِلَى مُجَرّد رفع اللوم فَيبقى الِاقْتِضَاء والإيجاب زايد على الِاقْتِضَاء وَلَكنَّا نقُول الِاقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام إِيجَاب، والاقتضاء الَّذِي لَا يجْزم وَلَا يحتم ندب وَدُعَاء على معرض التحريض. وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك اتفاقنا على انصراف الِاقْتِضَاء على النّدب والإيجاب، فَلَو سَاغَ الْمصير إِلَى أَن الْإِيجَاب اقْتِضَاء وَوصف يزِيد عَلَيْهِ، سَاغَ الْمصير إِلَى أَن النّدب اقْتِضَاء مَعَ التفسيح فِي التّرْك والاقتضاء لَا يُنبئ عَنهُ، فيؤدى ذَلِك إِلَى إِخْرَاج الِاقْتِضَاء الْمُطلق عَن حيّز النّدب والإيجاب مَعًا وَهَذَا محَال، وَالَّذِي يكْشف الغطاء أَن نقُول: أَن الْأَمر الْقَائِم بِالنَّفسِ يَقْتَضِي معنى لَا محَالة، وَقد ذكرنَا فِي حد الْأَمر أَنه اقْتِضَاء الطَّاعَة فَلَو كَانَ الِاقْتِضَاء بِمُجَرَّدِهِ لَا يكون ندبا وَقد ثَبت أَن الْأَمر لَا يَقْتَضِي كَون الْمَأْمُور بِهِ مرَادا للْآمِر فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام فيفضي ذَلِك إِلَى إبْطَال مُوجب الْأَمر وَمُقْتَضَاهُ، فَخرج من ذَلِك أَن الإيحاب اقْتِضَاء على وَجه الْإِلْزَام، وَالنَّدْب اقْتِضَاء على وَجه التحريض، وَهَذَا مَا لَا يُحِيط بِهِ علما إِلَّا فطن.
وَمن عَجِيب الْمذَاهب مَا صَار إِلَيْهِ بعض الْفُقَهَاء المنتمين إِلَى الْأُصُول فَقَالَ الْأَمر الْمُوجب يَقْتَضِي جَوَازًا وَادّعى فِي ذَلِك إِجْمَاعًا ثمَّ قَالَ: لَو نسخ الْوُجُوب لم يبْق الْجَوَاز مَعَ مصيره إِلَى أَن الْأَمر يَقْتَضِي الْوُجُوب وَالْجَوَاز أَولا، ثمَّ تشبث بِكَلَام رَكِيك بزدريه أعين ذَوي التَّحْقِيق وَذَلِكَ أَنه قَالَ الْجَوَاز تَابع للْوُجُوب وَالْوُجُوب متبوع فَإِذا نسخ الْمَتْبُوع زَالَ التَّابِع وَنقل هَذَا الْمَذْهَب يُغْنِيك عَن الِاشْتِغَال بإفساده فَتدبر واستغن بِاللَّه يُغْنِيك.

.القَوْل إِن الْكفَّار هَل يخاطبون بِفُرُوع الشَّرَائِع؟

اعْلَم، وفقك الله أَن مَا صَار إِلَيْهِ سلف الْأمة وَخَلفهَا من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء أَن الْكفَّار مخاطبون مأمورون بِمَعْرِِفَة الله عز اسْمه وتصديق رسله وَالْإِيمَان بجملة قَوَاعِد العقائد وَذَهَبت شرذمة من نوابتة المبتدعين إِلَى أَن الْعلم بِاللَّه عز اسْمه وبالعقائد يَقع اضطرارا وَمَا يَقع اضطرارا لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ وَذهب بعض أهل الْأَهْوَاء إِلَى أَن المعارف كسبية وَلَكِن لَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهَا وَإِنَّمَا صَارُوا إِلَى ذَلِك بشبه تستقصى فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل، وَزعم الجاحظ أَن الْعلم يَقع من طباع نامية لم يتقدمه نظر واستدلال ثمَّ قد يتم النّظر فَلَا يعقب الْعلم لانْقِطَاع نَمَاء الطباع، وَالْكَلَام على هَؤُلَاءِ الْفرق لَا يَلِيق بِهَذَا الْفَنّ.
فَإِذا عرفت كَونهم مخاطبين بِأَصْل الْإِيمَان فقد اخْتلف الْعلمَاء بعد ذَلِك فِي أَنهم مخاطبون بالعبادات نَحْو الْحَج وَالزَّكَاة وَالصَّلَاة وَهل يتَعَلَّق التَّكْلِيف بهم فِي اجْتِنَاب الْمَحْظُورَات والكف عَن الْمُحرمَات فَذهب بَعضهم إِلَى أَنهم غير مخاطبين بِشَيْء مِنْهُ وَإِنَّمَا يتَعَلَّق الْخطاب بهم فِي أصل الدّين وَذهب آخَرُونَ إِلَى أَنهم مخاطبون بالمفترضات وتجنب الْمَحْظُورَات، معاقبون على المخالفات فِي أَحْكَام الشَّرَائِع.
وَاعْلَم قبل الْخَوْض فِي أَدِلَّة المسألة أَن الَّذين صَارُوا إِلَى أَنهم مخاطبون لَا يدعونَ ثُبُوت ذَلِك عقلا ووجوبا وحتما، بل يجوزون فِي حكم الْعقل خُرُوجهمْ عَن التَّكْلِيف فِي أَحْكَام الشَّرَائِع كَيفَ وَقد خرج أنَاس من المخاطبين الْمُسلمين عَن قَضِيَّة جمل من الْأَحْكَام فِي الْحَلَال وَالْحرَام، كالحائض الْخَارِجَة عَن الْتِزَام الصَّلَاة وَأَدَاء الصَّوْم وَنَحْوهَا وَلَكِن هَؤُلَاءِ يَزْعمُونَ أَن تكليفهم سَائِغ عقلا وَتَركه مجوز عقلا بيد أَن فِي الْأَدِلَّة السمعية مَا يَقْتَضِي تَعْلِيق التَّكْلِيف بهم فتتبعناها. وَالَّذِي صَارُوا إِلَى أَنهم غير مخاطبين انقسموا فَمنهمْ من يحِيل تكليفهم، وَمِنْهُم من يُجِيز تكليفهم عقلا وَمنع اتِّصَال الْأَدِلَّة السمعية بهم.
وَالَّذِي نرتضيه تعلق التَّكْلِيف بهم وَمن أوضح مَا نستدل بِهِ قَوْله تَعَالَى: {مَا سلككم فِي سقر} الْآيَة. وَوجه الدَّلِيل مِنْهَا أَنهم عوقبوا بمضمون الْآيَة على ترك الصَّلَاة وَالصَّدقَات كَمَا عوقبوا على الْإِشْرَاك وَترك المعارف.
فَإِن قيل: لَا حجَّة فِي الْآيَة لكم فَإِن الرب تَعَالَى أخبر عَن مقَال أهل النَّار وَلَا احتجاج فِي أَقْوَالهم.
قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه قرب مِنْكُم من جحد مَا اتّفق عَلَيْهِ أهل التَّأْوِيل فَإِنَّهُم أطبقوا على أَن الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَرَادَ بالإخبار عَن أَحْوَالهم وَذكر أَقْوَالهم الزّجر والردع عَن الْإِشْرَاك وَترك الصَّلَوَات وَالصَّدقَات وَالتَّرْغِيب فِي الْإِقْدَام على امْتِثَال المأمورات وتحذير المخاطبين عَن اجْتِنَاب مَا يوقعهم فِي المعاقبات الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة وَلَيْسَ الْمَقْصد مِنْهَا نقل قَوْلهم لَا تَحْقِيق فِيهِ وَهَذَا مَا لَا يجحده إِلَّا معاند، ثمَّ إِنَّه سُبْحَانَهُ قرن بَين الإشرك وَترك الصَّلَاة فَلَو حمل سِيَاق الْخطاب على مَا رمتموه وَقيل: إِنَّهُم لَا يعاقبون على ترك الصَّلَاة ويعاقبون على الْإِشْرَاك، انطوى قَوْلهم على صدق وَخلف فَكَانَ يجب أَن يبين الرب عز اسْمه وَجه الرَّد عَلَيْهِم وتوبيخهم وتقريعهم على مَا بدر مِنْهُم من الْمقَال والمحال.
فَإِن قيل: فَبِمَ تنكرون على من يزْعم أَنهم أَرَادوا بقَوْلهمْ: {لم نك من الْمُصَلِّين} أَي لم نك من الْمُصَلِّين المصدقين بِوُجُوب الصَّلَاة وَمَا أَرَادوا نفس الصَّلَاة وَهَذَا كَمَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: «نهيت من قتل الْمُصَلِّين» وَمَا أَرَادَ بذلك الخائضين فِي الصَّلَاة حَتَّى يتخصص النَّهْي عَن الْقَتْل بِحَالَة التَّلَبُّس بِالصَّلَاةِ قيل لَهُم: هَذَا الَّذِي ذكرتموه إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وتسبب إِلَى حمل اللَّفْظ على التَّجَوُّز وَلَيْسَ لكم ذَلِك إِلَّا بعد إِقَامَة دلَالَة دَالَّة ثمَّ إِن كَانَ هَذَا كلامكم فِي قَوْله من الْمُصَلِّين فَلَا يسْتَمر ذَلِك فِي قَوْله: {وَلم نك نطعم الْمِسْكِين} وَإِن تعسفوا بِالْحملِ على التَّصْدِيق بِالْإِطْعَامِ كَانُوا متعالين مُحْتَاجين إِلَى إِقَامَة الدَّلِيل.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين لَا يدعونَ مَعَ الله إِلَهًا آخر}.
إِلَى قَوْله: {وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما يُضَاعف لَهُ الْعَذَاب}.
وَوجه الدَّلِيل أَن الرب تَعَالَى فرق بَين الشّرك وَالْقَتْل وَالزِّنَا ثمَّ قَالَ:{وَمن يفعل ذَلِك يلق أثاما}.
فنعت جملَة الْخلال جمعا فَإِنَّهَا تورط فِي المأثم. وَلِلْقَوْمِ أسئلة يهون دَفعهَا.
وَمِمَّا عولوا عَلَيْهِ فِي توجه الْخطاب على الْكفَّار قَوْله تَعَالَى: {وويل للْمُشْرِكين الَّذين لَا يُؤْتونَ الزَّكَاة}.
فَإِن قَالُوا إِنَّمَا ذكر الِامْتِنَاع عَن إيتَاء الزَّكَاة نعتا لَا يتعاقبوا عَلَيْهِ قيل لَهُم: هَذَا إِزَالَة مِنْكُم للظَّاهِر وَالدَّال على كَونه معاقبين على الشّرك فِي قَضِيَّة الْآيَة حَال على مثله فِي منع الزَّكَاة.
فَإِن قيل: ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي أَن لَا يُعَاقب الْمُشرك إِلَّا عِنْد امْتِنَاعه عَن أَدَاء الزَّكَاة.
قيل لَهُم: هَذِه لتسبب مِنْكُم إِلَى حمل الْآيَة على خلاف الْإِجْمَاع مَعَ إِمْكَان حملهَا على الْوِفَاق، والمقصد من الْآيَة ذكر مَا يستوجبون الْعقَاب عَلَيْهِ نسقا، من غير اشْتِرَاط جمع، وَهُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ}.
فَهَذَا توعد على وصفين أَحدهمَا المشاقة وَالثَّانِي مُخَالفَة الْأمة. لم تدل الْآيَة على توقف التوعد على اجْتِمَاع الوصفين.
وَمِمَّا تمسك بِهِ الْأصحاب قَوْله تَعَالَى: {لم يكن الَّذين كفرُوا من أهل الْكتاب}.
إِلَى قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة ويؤتوا الزَّكَاة}.
فَإِن قيل: فمالكم لَا تستدلون بالظواهر المحتملة فِي مسئلة قَطْعِيَّة؟.
قيل لَهُم: اعلموا أَن المسألة لَهَا طرفان أَحدهمَا تَجْوِيز خطابهم عقلا وَالثَّانِي تقدر ذَلِك شرعا.
فَأَما تَجْوِيز خطابهم عقلا فَهُوَ مِمَّا يثبت قطعا وَلَا يثبت إِذا رمنا تَقْدِيره بالظواهر المحتملة وَأما اتِّصَال الْخطاب بالقوم سمعا فَلَا يُقَال فِيهِ الْقطع وَلكنهَا مسئلة اجْتِهَاد وَهِي نَحْو اخْتِلَاف الْعلمَاء فِي إِلْزَام بعض الْأَحْكَام كثيرا من الْأَشْخَاص ونفيها عَنْهُم فَافْهَم ذَلِك.
فَالَّذِي نرتضيه لَك معتصما فِي المسألة أَن نقُول لخصومنا: هَل تسلمون لنا جَوَاز تكليفهم عقلا أم تنكرون ذَلِك؟ فَإِن أَنْتُم أنكرتموه قبل لكم: فَكل مَا جَازَ اكتسابه جَازَ تَعْلِيق التَّكْلِيف بِهِ وَالَّذِي فِيهِ التَّنَازُع مِمَّا يتَصَوَّر من الْكَفَرَة اكتسابه والتوصل والتبلغ إِلَيْهِ فَلَيْسَ فِي تكليفهم اسْتِحَالَة تعقل.
فَإِن قَالُوا: بِمَ تنكرون على من يزْعم أَن الَّذِي يحِيل تكليفهم عدم تصور الْعِبَادَات مِنْهُم مَعَ الشّرك، وَلَو قدر إسْلَامهمْ فيتفق على توجه الْأَحْكَام عَلَيْهِم.
قيل لَهُم: يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تَقولُوا لَا تخاطبوا الدهرية ونفاة الصَّانِع بِتَصْدِيق الرُّسُل وَالْإِيمَان بهم لِاسْتِحَالَة الْإِيمَان بالرسل مَعَ اعْتِقَاد نفي الْمُرْسل وَكَذَلِكَ جملَة العقائد الْمُتَرَتب بَعْضهَا على بعض الَّتِي لَا يتَحَقَّق الْعلم مِنْهَا بِالثَّانِي إِلَّا مُرَتبا على سبق الْعلم بالدرجة الأولى، فَيلْزم من ذَلِك أَن لَا يجب على مُعْتَقد قدم الْعَالم إِلَّا الْعلم بحدوثه فَبَطل مَا قَالُوهُ.
وَالْجَوَاب السديد أَن الْكَافِر يتَصَوَّر مِنْهُ التبلغ إِلَى الْعِبَادَات وَإِن كَانَ لَو قدر بَقَاؤُهُ على كفره، وإصراره على شركه لم تصح مِنْهُ الْعِبَادَات وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن الْأَمر بِالْقيامِ يتَوَجَّه على الْقَاعِد فيتصف بِكَوْنِهِ مَأْمُورا بِالْقيامِ فِي حَال قعوده وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر الْقيام مَعَ تَقْدِير اسْتِصْحَاب الْقعُود فَتبين أَنه لَيْسَ فِي توجه الْخطاب بالعبادات على الْكفَّار اسْتِحَالَة فِي الْعقل وكل اسْتِحَالَة يبدوها تلزمهم مثلهَا فِي المعارف. فَإِذا ثَبت جَوَاز خطابهم فقد وَردت فِي أَلْفَاظ الشَّرِيعَة أَلْفَاظ عَامَّة تنطوي عَلَيْهِم وعَلى غَيرهم فِي قَضِيَّة اللُّغَة فَلَزِمَ تعميمها إِن قُلْنَا بِالْعُمُومِ وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت}.
وَغير ذَلِك، فَمَا الَّذِي يصدنا عَن تَعْمِيم الْخطاب وَهُوَ من مجوزات الْعقل وَلَيْسَ فِي أَدِلَّة السّمع مَا يَقْتَضِي استخراجهم من قَضِيَّة الْعُمُوم.
فَإِن قيل: فَأنْتم معاشر الواقفية إِذا نفيتم صِيغ الْعُمُوم فَأنى يَسْتَقِيم مِنْكُم مَا قلتموه؟ قُلْنَا: إِذا نَفينَا صِيغَة الْعُمُوم جعلنَا اللَّفْظ الْوَارِد فِي صَلَاحه للْكفَّار كصلاحه لغَيرهم وَإِن كُنَّا لَا نقطع بتعميم وَتَخْصِيص ومقصدنا تثبيت التَّسْوِيَة إِمَّا فِي تَعْمِيم وَإِمَّا فِي صَلَاح اللَّفْظ لَهُم ولغيرهم على مثابة وَاحِدَة. وَمِمَّا عول عَلَيْهِ أَئِمَّتنَا أَن قَالُوا أَنْتُم لَا تخلون إِمَّا أَن تَقولُوا أَن النَّهْي عَن الْمُنْكَرَات لَا يتَعَلَّق بالكفرة أَو تَقولُوا يتَعَلَّق النَّهْي بهم فَإِن زعمتم أَن النَّهْي لَا يتَعَلَّق بهم على قِيَاس الْأَمر فيلزمكم من ذَلِك أَشْيَاء مِنْهَا: أَن تَقولُوا إِن الْمُشرك المنعزل المنشغل بِنَفسِهِ إِذا انْقَضى عمره على إصراره فيتنزل فِي اسْتِحْقَاق الْعقَاب منزلَة من جمع إِلَى كفره قتل الْأَنْبِيَاء والأولياء وهتك الحرمات والتسبب إِلَى جملَة الجراير وَهَذَا مِمَّا اتّفق الْمُسلمُونَ على خِلَافه وَفِي إبدائه أعظم الإغراء للكفرة بمقارفة الجرائر والكبائر.
ثمَّ نقُول: لَو كَانَ الْأَمر على مَا قلتموه لزمكم طرد مَا ذكرتموه فِي أهل الذِّمَّة فَإِن الْكفْر مِنْهُم وَفِي أهل الْحَرْب بِمَثَابَة.
ثمَّ لَا خلاف أَنا نُقِيم عَلَيْهِم الْحُدُود إِذا ارتكبوا موجباتها وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْمُرْتَد.
وَإِن قَالُوا إِن النَّهْي يتَعَلَّق بالكفرة فقد سلمُوا المسألة فَإِن النَّهْي فِيمَا صورناه تَكْلِيف فِي الْفُرُوع، فَمَا الْفَصْل بَينه وَبَين الْأَمر. وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الصَّلَاة منهى عَن تَركهَا وَهُوَ من أعظم الْكَبَائِر، فَقَالُوا إِن هَذَا الْقَبِيل من النَّهْي يتَعَلَّق بهم فَيلْزم مِنْهُ الإفصاح بِالْأَمر بِالصَّلَاةِ فيقودهم النَّهْي إِلَى الْوِفَاق فِي الْأَمر.
فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا صححنا توجه النَّهْي لتصور التّرْك مِنْهُم دون الِامْتِثَال بالإقدام على الْعِبَادَة.
قيل لَهُم: فَقولُوا على طرد ذَلِك أَن النَّهْي يتَصَوَّر تعلقه بالمجنون لتصور التّرْك مِنْهُ، ثمَّ مَا ذَكرُوهُ من عدم تصور الِامْتِثَال فقد قدمنَا مَا فِيهِ أكمل الْغنى، مَعَ أَنه يبطل بصور فِي الشَّرِيعَة، مِنْهَا الصَّلَاة فِي حق الْمُحدث فَإِنَّهَا لَا تصح دون رفع الْحَدث مَعَ الاقتدار، وَالْأَمر مُتَوَجّه مَعَ الْحَدث وأمثلة ذَلِك تكْثر فِي الشَّرِيعَة.
فَإِن وجوب الشَّيْء لَا يُنبئ عَن وجوب قَضَائِهِ عِنْد فَوَات وقته إِذْ الْقَضَاء يثبت عندنَا بِأَمْر مُجَدد وكل أصل يعتبرونه فِي تثبيت الْقَضَاء فلسنا نقُول أَنه ثَبت لوُجُوب أَصله بل ثَبت بِأَمْر مبتدئ وَالَّذِي ينْقض ذَلِك عَلَيْهِم طردا وعكسا أَن الْحَائِض لَا يجب عَلَيْهَا أَدَاء الصَّوْم ويلزمها الْقَضَاء، وتفوت الْجُمُعَة ثمَّ لَا تقضي إِلَى غير ذَلِك من مسَائِل الشَّرْع الَّتِي مِنْهَا الْقيام فِي الصَّلَاة فَإِنَّهُ لَو ترك صَلَاة مُتَعَمدا مَعَ اقتداره على الْقيام ثمَّ عجز عَن الْقيام وَقضى مَا فَاتَهُ قَاعِدا بَرِئت ذمَّته وفَاقا وَسقط عَنهُ الْقيام.
فَإِن عَادوا وعولوا على عدم تصور الْعِبَادَة مِنْهُ فقد فرط الْجَواب عَنهُ ثمَّ يلْزمهُم الْمُرْتَد فَإِنَّهُ مُخَاطب عِنْد أَكْثَرهم فَإِن فصلوا بَينه وَبَين الْكَافِر الْأَصْلِيّ بِأَنَّهُ مُلْتَزم للْأَحْكَام تنكص على عَقِبَيْهِ وَهَذَا من أبشع مَا يتَكَلَّم بِهِ من لَا حَظّ لَهُ فِي الْأُصُول، فَإنَّا نقُول لَا حكم لالتزام الْمَرْء وَإِنَّمَا الحكم لإلزام الله، الْتزم الْمُكَلف أَو أَبى. وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْخطاب مُتَوَجّه على الْكفَّار بِتَصْدِيق الرُّسُل وَإِن لم يسْبق مِنْهُم فِي ذَلِك الْتِزَام فَبَطل الْمصير إِلَى هَذَا الْقَبِيل من الْكَلَام.

.القَوْل فِي أَن الْأَمر يتَنَاوَل عِنْد إِطْلَاقه وَانْتِفَاء سمات الْخُصُوص مِنْهُ الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر وَالْعَبْد:

إِذا ورد الْخطاب على مَذْهَب الْقَائِلين بِالْعُمُومِ وَلم يكن فِيهِ مَا يَقْتَضِي اختصاصا بالأحرار وَلم تقم دلَالَة على خُرُوج العَبْد عَن مُقْتَضى اللَّفْظ الْعَام وَهُوَ مَوْضُوع فِي أصل اللُّغَة للتعميم، فالعبيد والأحرار فِيهِ بِمَثَابَة وَاحِدَة، وَإِن قَامَت دلَالَة مقتضية تَخْصِيص الْأَحْرَار خصصوا.
وَذهب بعض الْعلمَاء أَن العبيد لَا يدْخلُونَ تَحت مُطلق الْخطاب فَيُقَال لَهُم: إِذا ورد الْخطاب مَنُوطًا بِالْمُؤْمِنِينَ مثلا وَهُوَ الْأَمر يتَحَقَّق فِي العبيد تحَققه فِي الْأَحْرَار، وَلَيْسَ فِي وضع اقْتِضَاء تَخْصِيص.
وخطاب العبيد مُمكن كَمَا أَن خطاب الْأَحْرَار مُمكن، فَإِذا تساوى العبيد والأحرار فِي إِمْكَان تَوْجِيه الْخطاب عَلَيْهِم عقلا وانطوت اللَّفْظَة الْمُطلقَة عَلَيْهِم لُغَة وَعرفا وَلم تقم دلَالَة مخصصة فَلَا معنى لإخراجهم من مُوجب اللَّفْظ وتخصيصه بالأحرار وَلَيْسَ الصائر إِلَى ذَلِك بِأَسْعَد حَالا مِمَّن يقلب عَلَيْهِ هَذَا الْمَذْهَب.
فَإِن قَالُوا: العبيد مستحقون لملاكهم، وجهات تصرفاتهم منصرفة إِلَى ساداتهم فَكَأَنَّهَا بِحكم الشَّرْع مستثنون عَن تصريف الشَّرْع وتكليفه؟
قيل لَهُم: فَهَل يفزعون فِيمَا يبدون إِلَى غير موارد الشَّرِيعَة فَإذْ كَانَت لفزعكم فاعلموا أننا نعول مهما دلّت دلَالَة شَرْعِيَّة على خُرُوج العَبْد عَن قَضِيَّة التَّكْلِيف لاسْتِحْقَاق مُتَعَلق بِهِ فنخصصه، وَإِنَّمَا الْكَلَام فِيمَا لم يقم فِيهِ دلَالَة تَخْصِيص، فَإِن ادعيتم ثُبُوت الِاسْتِحْقَاق فِي العبيد بِأَصْل الشَّرْع عُمُوما فَهَذَا محَال وفَاقا، ومعظم الْعِبَادَات متوجهة عَلَيْهِم، فَالْأَمْر فيهم على الانقسام إِذا، فَلَيْسَ إِلَّا تتبع الْأَلْفَاظ وإجراؤها على ظواهرها فِي وضع اللُّغَة إِلَى أَن يمْنَع من ذَلِك مَانع، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك صِحَة وُرُود الْخطاب مُخْتَصًّا بالعبيد أَو متناولا لَهُم ولغيرهم على التَّنْصِيص فَلَو صَحَّ مَا ادعوهُ من الِاسْتِحْقَاق على وَجه الِاسْتِغْرَاق لما جَازَ وُرُود الْخطاب خَاصّا إِلَّا أَن يكون نَاسِخا.

.فصل:

فَإِن قيل: الْخطاب الْوَاحِد هَل يَشْمَل الذُّكُور وَالْإِنَاث؟.
قيل: يتتبع فِي ذَلِك وضع اللُّغَة فَإِن وَردت لَفْظَة وضعت لتخصيص بِالرِّجَالِ خصصت بهم، وَإِن وضعت مُشْتَركَة حملناها على الِاشْتِرَاك وَذَلِكَ نَحْو قَول كل نفس «وكل شخص» فَهَذَا مِمَّا يعم الرِّجَال وَالنِّسَاء.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُؤمنِينَ وَالْمُسْلِمين وَنَحْوهمَا هَل يتَنَاوَل النِّسَاء؟.
قيل: هَذَا مِمَّا اخْتلف فِيهِ الْعلمَاء فَصَارَ بَعضهم إِلَى أَن الْجمع الْمَوْضُوع للذّكر ينطوي على الْإِنَاث أَيْضا. وَالَّذِي ارْتَضَاهُ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ ومعظم أَرْبَاب الْأُصُول أَن مثل هَذَا اللَّفْظ إِذا ورد مُطلقًا مُخَصص بِالرِّجَالِ فِي مورده إِلَّا ان تقوم دلَالَة تَقْتَضِي الِاشْتِرَاك وَالَّذِي يُحَقّق ذَلِك أَن الْعَرَب فصلت فِي منزلَة الوحدان بَين الذّكر وَالْأُنْثَى وَكَذَلِكَ فِي منزلَة التَّثْنِيَة فَقَالَت مُسلم ومسلمان ومسلمة ومسلمتان ثمَّ خصصوا جمعهن بِصِيغَة فَقَالُوا مسلمات وَكَذَلِكَ خصصوا جمع الذُّكُور فَقَالُوا: مُسلمين، والجميع إِنَّمَا هُوَ جمع الْآحَاد فَإِذا اتَّضَح التباين فِي صِيغ الْآحَاد اتَّضَح فِيهَا بجمعها وَاسْتدلَّ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بقوله تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي حرض الْمُؤمنِينَ على الْقِتَال} فَصَارَ إِلَى ان الْمَقْصد بِالْآيَةِ الرِّجَال دون النِّسَاء، وأوضح مَا قَالَه مَا روى عَن أم سَلمَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: «مَا بَال الرِّجَال يسمون فِي الْقُرْآن دون النِّسَاء فَنزل قَوْله تَعَالَى: {إِن الْمُسلمين وَالْمُسلمَات وَالْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات} إِلَى آخر الْآيَة».
فَإِن قيل: أَلَيْسَ من أهل اللُّغَة أَن من أَرَادَ أَن يعبر عَن الذّكر وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِمَا يعبر عَنهُ عَن مَحْض الذُّكُور تَغْلِيبًا للذكور فِي حكم الْخطاب على الْإِنَاث.
قيل لَهُم: صَحَّ مَا قلتموه على أهل اللُّغَة وَلَيْسَ لكم فِيهِ فرج، وَذَلِكَ أَنه مَا نقل عَنْهُم أَن مُطلق جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث، وَلَكِن قَالُوا: إِذا أَرَادَ الْمعبر أَن يعبر عَن الذُّكُور وَالْإِنَاث عبر عَنْهُم بِجمع الذُّكُور وَفِي نفس مَا نقلتموه رد عَلَيْكُم فَإِنَّهُم قَالُوا يغلب نعت الذُّكُور على نعت الْإِنَاث، فَلَو كَانَ ينطوي عَلَيْهِم انطواءه عَلَيْهِ ن لم يكن لذكر التغليب للرِّجَال عَلَيْهِنَّ معنى فَكَانَ محصول مَا نقل عَنْهُم يؤول إِلَى أَنه إِذا ثَبت... عَن الْجَمِيع غلب نعت الذُّكُور وَلَا يَصح أَن ينْقل عَنْهُم أَن مُطلق اللَّفْظ فِي جمع الذُّكُور يُنبئ عَن الْإِنَاث على الْوَجْه الَّذِي يُنبئ عَن الذُّكُور وَمن أحَاط علما بِطرف من اللُّغَة استيقن مَا قُلْنَاهُ.

.فصل:

إِذا ورد خطاب يتَنَاوَل فِي وضع اللُّغَة الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَغَيره من الْأمة اقْتضى ظَاهر الْخطاب التَّعَلُّق بِهِ عَلَيْهِ السَّلَام فهم إِن لم تفهم دلَالَة مخصصة للْأمة بِحكم الْخطاب وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا عباد} و{يَا أَيهَا النَّاس} و{يَا أولي الْأَلْبَاب} إِلَى غَيرهَا. وَذهب بعض من خبْرَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يدْخل تَحت مُطلق هَذَا الْخطاب وَالَّذِي قدمْنَاهُ فِي الْفُصُول السَّابِقَة تحقق الْمَقْصد هَا هُنَا وَذَلِكَ أَن اللَّفْظَة عَامَّة فِي وضع اللُّغَة وَتعلق الْخطاب بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُمكن وَلم تقم دلَالَة مَانِعَة من إِجْرَاء اللَّفْظ على ظَاهره.
فَإِن قَالُوا: قد ثَبت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَصَائِص فَلَا يدرج حكمه فِي قَضِيَّة الْأَلْفَاظ الْعَامَّة.
قُلْنَا: مَا ثَبت اخْتِصَاصه فِيهِ خصص بِهِ، ثمَّ اخْتِصَاصه بِهِ لَا يُوجب عُمُوم اخْتِصَاصه فيا عجبا مِمَّن يخصص اللَّفْظَة الْعَامَّة من غير دَلِيل ويعمم الحكم الْخَاص وَهَذَا لَو تأملته قلب الْحَقَائِق.
ثمَّ نقُول قد ثبتَتْ جملَة من الخصائص لآحاد الْمُكَلّفين نَحْو الْمُسَافِرين وَالْحيض وأرباب المعاذير وَغَيرهم ثمَّ اختصاصهم بِبَعْض الْأَحْكَام لَا يخرجهم عَن عُمُوم الْأَلْفَاظ.
وَمِمَّا يتَّصل بذلك أَن اللَّفْظ إِن وَردت مخصصة بالرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خصصت بِهِ مَا لم تقم دلَالَة على أَن غَيره يضاهيه فِيهِ، وَذَلِكَ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيهَا المزمل} و {يَا أَيهَا المدثر} وَكَقَوْلِه: {إِن أَرَادَ النَّبِي أَن يستنكحها خَالِصَة لَك} الْآيَة. إِلَّا أَنه ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْخطاب وَإِن اخْتصَّ بِهِ فِي الصِّيغَة فسائر الْأمة مَعَه فِيهِ شرع، وَالَّذِي يثبت بِهِ تَحْقِيق الْعُمُوم فِي الْفَصْل الَّذِي قبل ذَلِك يُحَقّق الْخُصُوص فِي هَذَا الْفَصْل.
فَإِن قيل: نعلم مُسَاوَاة الْأمة للرسول عَلَيْهِ السَّلَام فِي مُعظم الشَّرْع فَيحمل عَلَيْهِ كل خطاب يرد.
قيل لَهُم: إِن ادعيتم أَن ذَلِك ثَابت فَهَذَا مَا لَا محيص عَنهُ بِحَال وَإِن زعمتم أَن الشَّرْع يَقْتَضِي التَّعْمِيم فِي جملَة الْأَحْكَام فَهَذَا ادِّعَاء... لشرع يَنْقَسِم فَمِنْهُ مايتخصص وَمِنْه مَا يعم فَلَا سَبِيل إِلَى تَخْصِيص كُله لَا... والبت فِي تَعْمِيم كُله لعُمُوم بعضه فَلَا مُعْتَبر فِي ذَلِك بالمعظم والأقل، ثمَّ لَو سَاغَ تَعْمِيم اللفظ الْخَاص لَو رَود بعض الْأَحْكَام على الْعُمُوم سَاغَ تَخْصِيص اللَّفْظ العَام لوُرُود بعض الأحكام على الخاص فَإِذا تقَابل الْقَوْلَانِ تساقطا وَلزِمَ اتِّبَاع الصِّيَغ وإجراؤها على ظواهرها فِي الْعُمُوم مَا لم تقم دلَالَة تخصها فِي إِزَالَة ظَاهرهَا.

.القَوْل فِي أَن الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن ضِدّه وَوجه الْخلاف فِيهِ:

اعْلَم، وفقك الله أَن أَرْبَاب الْأُصُول اخْتلفُوا فِي ذَلِك فَصَارَ ذاهبون إِلَى قدم الْكَلَام الَّذِي اتّصف بِهِ الرب تَعَالَى إِلَى أَنه وصف وَاحِد يَسْتَحِيل عَلَيْهِ التجدد والتغاير وَهُوَ خبر عَن كل مخبر، أَمر بِكُل مَأْمُور بِهِ نهي عَن كل مَنْهِيّ عَنهُ، وَاخْتلفُوا فِي أوامرنا الَّتِي تتصف بهَا فَمن زعم أَن حَقِيقَة الْكَلَام يرجع إِلَى مَا فِي النَّفس على مَا قَررنَا زعم أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّنْصِيص والتخصيص لَا على التَّخْيِير مَنْهِيّ عَن جَمِيع أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
وَمن زعم أَن الْكَلَام ينْطَلق على الْعبارَات والحروف المنتظمة الَّتِي هِيَ الْأَصْوَات لم يُطلق القَوْل بِأَن الْأَمر نهي، فَإِن الْأَمر عِنْده قَول الْقَائِل افْعَل، وَالنَّهْي قَول الْقَائِل لَا تفعل، وَلَكِن قَالَ الْأَمر بالشَّيْء على الْجَزْم وَنفي التَّخْيِير يتَضَمَّن النَّهْي من طَرِيق الْمَعْنى وَلَيْسَ هُوَ عين النَّهْي، وَرُبمَا يطلقون القَوْل بِأَن الْأَمر يُنبئ من طَرِيق الْمَعْنى.
وَإِنَّمَا قيدنَا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير، لِأَن الْأَمر المنطوي على التَّخْيِير قد يتَعَلَّق بالشَّيْء وضده وَيكون الْوَاجِب أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه، فَلَا سَبِيل لَك إِلَى أَن تَقول فِيمَا هَذَا وَضعه أَنه نهى عَن ضِدّه إِذا خير الْمَأْمُور بَينه وَبَين ضِدّه فقيدنا الْكَلَام بِانْتِفَاء التَّخْيِير لذَلِك.
وَرُبمَا يعبر القَاضِي رَضِي الله عَنهُ عَن ذَلِك فَيَقُول: الْأَمر بالشَّيْء نهى عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وَبدل الْقَائِم مقَامه إِن كَانَ ذَا بدل فَيخرج بذلك الْأَمر الْمُشْتَمل على التَّخْيِير.
وَذَهَبت الْمُعْتَزلَة بأسرها إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء لَيْسَ بنهي عَن ضِدّه لَا من حَيْثُ الْحَقِيقَة وَلَا من حَيْثُ الْمَعْنى. فَأول مَا نفاتحهم بِهِ أَن نقُول أَلَيْسَ الْأَمر عنْدكُمْ هُوَ اللَّفْظ الْمَخْصُوص، فَإِذا قَالُوا نعم قيل لَهُم: فَهَل يتَصَوَّر أَن يكون أمرا بالشَّيْء على سَبِيل الْجَزْم غيرناه...
عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ فَإِذا قَالُوا لَا يتَصَوَّر ذَلِك وَلَا بُد مِنْهُ.
قيل لَهُم: فبماذا... فَإِن صرفتم ذَلِك إِلَى نفس مَا يلفظه وَهُوَ قَوْله افْعَل فقد جعلتموه نهيا... النَّفس فَلَا يَسْتَقِيم على أصلكم فَإِنَّكُم... آخر وَلم يبدر مِنْهُ فِيمَا قا... بناه عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
قيل لَهُم: فَهَذَا خرق مَا عَلَيْهِ الكافة مَعَ أَنا لَا نلجئكم إِلَى مَا لَا قبل لكم بِهِ وَهُوَ أَن تَقول إِذا ورد الْأَمر على الْجَزْم بِشَيْء وَهُوَ مُقَيّد بالفور وانتفى عَنهُ سمة التَّخْيِير وَثَبت الِامْتِثَال على التنصيص، فتحريم ضد الِامْتِثَال لَا شكّ فِيهِ، إِذْ لَو لم يحرم فَمَا معنى وجوب الِامْتِثَال؟ فَإِن قَالُوا لَا يجوز عَلَيْهِ فَإنَّا نتحقق مَعَ... نجزم أضداد الِامْتِثَال، قيل لَهُم فبماذا؟... فَإِن قَالَ عَنْهُم... مَذَاهِب الْقَوْم فَإِنَّهُم كَمَا استبعدوا كَون الْأَمر نهيا استبعدوا كَون الْإِرَادَة كَرَاهِيَة لأضداد المُرَاد فبطلت الطّرق وَضَاقَتْ عَلَيْهِم المسالك.
وَمِمَّا يسْتَدلّ بِهِ أَن نثبت على الْخُصُوم قدم الْكَلَام للرب تَعَالَى ثمَّ نرتب عَلَيْهِ اتحاده فيترتب على ذَلِك كَون الْمَوْجُود الْوَاحِد أمرا نهيا لَا محَالة وَهَذَا يستقصي فِي الديانَات إِن شَاءَ الله عز وَجل.
وَمَا عول عَلَيْهِ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ أَن قَالَ قد ثَبت أَن الْمَوْصُوف بِكَوْنِهِ آمرا بالشَّيْء منعوت بِكَوْنِهِ ناهيا عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ إِذا كَانَ الْأَمر على التَّضْيِيق، وَالْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ ناهيا يُوجب الْخُرُوج عَن الاتصاف بِكَوْنِهِ أمرا، وَلم تقم دلَالَة عقلية على تغار مَعْنيين، وَلم يقتض التغاير علم ضَرُورِيّ، فَلَا طَرِيق إِلَّا أَن نصرف هذَيْن الوصفين إِلَى مُقْتَضى وَاحِد، ويتضح ذَلِك بالمثال، فَنَقُول إِذا قرب جَوْهَر من جَوْهَر وَبعد من غَيره فنعلم أَن عين قربه مِمَّا قرب مِنْهُ بعد مِمَّا بعد عَنهُ فَإِذا تحرّك الْجَوْهَر من مَكَان إِلَى مَكَان فَنَفْس خُرُوجه من الْمَكَان الأول دُخُول فِي الثَّانِي وَإِنَّمَا عرفنَا ذَلِك الأَصْل الَّذِي مهدناه وَهُوَ أَنه لم يعقل دُخُوله فِي غير اتصافه بِالْخرُوجِ وَلم يعقل قربه مِمَّا قرب مِنْهُ إِلَّا مَعَ بعده مِمَّا بعد مِنْهُ، وَلم تدل دلَالَة على تثبيت مَعْنيين فَلَا وَجه إِلَّا أَن يصرفا إِلَى مُوجب وَاحِد، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي كَون الْآمِر آمرا ناهيا وبهذه الطَّرِيقَة تَبينا الْعِلَل وجوزناها لاقْتِضَاء معلولاتها فَإنَّا لما نَظرنَا إِلَى الْقُدْرَة ووجدناها لَا تثبت إِلَّا بِأَن تَقْتَضِي وصف الْمحل وَالْجُمْلَة الَّتِي الْمحل مِنْهَا معنى لكَونهَا قَادِرًا وَلم نجد كَونه قَادِرًا إِلَّا مَعَ الْقُدْرَة وَلم تثبت دلَالَة فِي انضمام معنى إِلَى الْقُدْرَة عرفنَا أَن الْقُدْرَة تَقْتَضِي معلولها بِنَفسِهَا وَهَذِه الطَّرِيقَة مستمرة فِي مُعظم أصُول الديانَات، وَهُوَ من أقوى مَا يتشبث بِهِ، وَلَا يصفوا لَك إِلَّا بعد أَن نذْكر شبههم ونتفصى عَنْهَا ليتبين لَك أَنه لم تقم دلَالَة دَالَّة على التغاير، ونردف هَذِه الدّلَالَة بِأَن نقُول: فَإِن أيا ذَا أثبتم لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي مَعْنيين فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونَا مثلين أَو خلافين أَو ضدين وَلَا... كَانَا مثلين فَمن حكم المثلين أَن يَتَّصِف أَحدهمَا بِمَا يَتَّصِف بِهِ الثَّانِي نَحْو أَدِلَّة الْخَاص فَوَجَبَ أَن يَقع الِاسْتِقْلَال بِأَحَدِهِمَا وَإِن كَانَا ضدين اسْتَحَالَ اجْتِمَاعهمَا... اسْتِحَالَة الاتصاف بهما جَمِيعًا وَقد ثَبت وجوب اتصاف كل أَمر جازم بِكَوْنِهِ نهيا فِي حَال كَونه أمرا وَإِن كَانَا خلافين غير متضادين وَجب أَن يتَصَوَّر ثُبُوت أَحدهمَا وَانْتِفَاء الثَّانِي كالحركة والسواد والسكون وَالْعلم وَغَيرهمَا من المختلفات وشأن كل مُخْتَلفين لَا يتضادان، وَلَا يتَعَلَّق أَحدهمَا بِالثَّانِي تعلق الشَّرْط بالمشروط وَالْعلَّة بالمعلول والإدراك بالمدرك أَن يجوز ثُبُوت أَحدهمَا مَعَ جَوَاز ثُبُوت ضد الآخر فَيلْزمهُ من ذَلِك أَن يجوز ثُبُوت الْأَمر مَعَ ثُبُوت ضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ وضد النَّهْي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ هُوَ الْأَمر بهَا فَيلْزم من ذَلِك جَوَاز ثُبُوت الْأَمر بالشَّيْء جزما مَعَ ثُبُوت الْأَمر بأضداد الْمَأْمُور بِهِ على التحتم أَيْضا فَإِذا بطلت هَذِه الْأَقْسَام لم يبْق إِلَّا الْمصير إِلَى أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ.
شُبْهَة الْمُخَالفين: فَإِن قَالُوا: الْأَمر لَفْظَة مَعْلُومَة فِي اللُّغَة وَهِي تخَالف لَفْظَة النَّهْي فَمن جعل الْأَمر نهيا فقد وصف الشَّيْء بِوَصْف خِلَافه وَينزل منزلَة من قَالَ الْعلم حَرَكَة وَالْحَرَكَة علم.
قيل لَهُم: بنيتم ذَلِك على فَاسد أصلكم حَيْثُ قُلْتُمْ: إِن الْأَمر يرجع إِلَى الْأَلْفَاظ فَهَذَا مَا ننكره أَشد الْإِنْكَار ثمَّ نقُول فَلَو ساعدناكم على مَا قلتموه فَبِمَ تنكرون على من يَقُول إِن لفظ الْأَمر لَيْسَ تَسْمِيَة هُوَ عين لفظ النَّهْي وَلَكِن يتَضَمَّن معنى النَّهْي وَهَذَا كَمَا قَالَ إِن النَّهْي عَن التأفيف فِي قَوْله عز اسْمه: {فَلَا تقل لَهما أُفٍّ} الْآيَة مُخَالف للفظ النَّهْي عَن الضَّرْب وَلَكِن مُتَضَمّن لَهُ وَإِن لم يكن عينه، إِلَى غير ذَلِك من فحوى الْخطاب. فَإِن ساعدونا على ذَلِك فقد ارْتَفع الْخلاف مَعَ فِئَة من الْفُقَهَاء وهم الَّذين سموا الصِّيَغ أوَامِر ونواهي.
فَإِن قَالُوا: لَو كَانَ الْأَمر نهيا جَازَ أَن يكون الْقُدْرَة على الشَّيْء عَجزا عَن أضداده وَالْعلم بالشَّيْء جهلا بضده إِلَى غير ذَلِك من أَمْثَاله.
قيل لَهُم هَذَا اجتزاء مِنْكُم لمقابلة اللَّفْظ بِاللَّفْظِ واقتصار مِنْكُم على مُجَرّد دَعْوَى، فَلم قُلْتُمْ: إِنَّه لما لم يكن الْعلم جهلا وَالْقُدْرَة عَجزا لَا يكون الْأَمر نهيا، ثمَّ بِمَ تنكرون على من يَقُول يلزمكم على قَود ذَلِك أَن تجْعَلُوا الْحَرَكَة عَن الْمَكَان سكونا فِي الْمَكَان الثَّانِي وَلَا يكون الْقرب مَعَ الشَّيْء بعدا عَن غَيره لما ذكرتموه فِي الْقُدْرَة وَالْعجز وَالْعلم وَالْجهل فَتبين أَن تتبع الإطلاقات لَا سَبِيل إِلَيْهِ.
ثمَّ نقُول لما لم نجد اتصاف كل قَادر على شَيْء بِكَوْنِهِ عَاجِزا عَن ضِدّه لم يلْزم أَن يكون الْقُدْرَة عَجزا، وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْعلم وَلما ألزم القَوْل فِي الْعلم وَلما لزم أَن يكون آمُر كل امْر جازم ناهيا فَتبين الْفَصْل بَينهمَا.
فَإِن قيل: فَإِذا جعلتم الْأَمر نهيا فقد علقتم وَصفا حَادِثا بمتعلقين وَالْوَصْف الْحَادِث لَا يتَعَلَّق بمتعلقين.
قيل لَهُ: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن الْوَصْف الْحَادِث قد يتَعَلَّق بمتعلقين فَإنَّا رُبمَا نقُول إِن الْعلم مُتَعَلق بالمعلوم.
قيل لَهُم: لَيْسَ الْأَمر على مَا ذكرتموه فَإِن تعلق بِنَفسِهِ وَالْقُدْرَة عنْدكُمْ تتَعَلَّق بالشي وضده. فَإِن قَالُوا: فَإِذا زعمتم أَن الْأَمر بالشَّيْء نهي عَن أضداد الْمَأْمُور بِهِ لزمكم أَن تَقولُوا النَّهْي عَن الشَّيْء أَمر بأضداد المنهى عَنهُ حَتَّى يلْزم من ذَلِك الْأَمر بالمتضادات جَمِيعهَا.
قيل لَهُم: النَّهْي عَن الشَّيْء الَّذِي لَهُ ضد وَاحِد يتَضَمَّن الْأَمر بالمتضاد الَّذِي لَهُ أضداد فيتضمن الْأَمر بِأحد أضداده وَمَا قلتموه من وجوب التَّسْوِيَة بَينهمَا ادِّعَاء مُجَرّد وإلزام بِمُجَرَّد لفظ وَوجه التَّحْقِيق فِي ذَلِك أَن الْأَمر بالشَّيْء على التَّضْيِيق لما تضمن تَحْرِيم كل الأضداد كَانَ نهيا عَن كلهَا، وَالنَّهْي عَن الشَّيْء لَا يتَضَمَّن إِيجَاب كل الأضداد فَلَا يكون أمرا بكلها فتتبع الْأَلْفَاظ أولى من مُقَابلَة الْأَلْفَاظ فَافْهَم.

.القَوْل فِي معنى فَوَات الْفِعْل الْمُؤَقت وإعادته، وَكَون الْقَضَاء فرضا ثَانِيًا:

اعْلَم أَن الْفَوات إِنَّمَا يتَحَقَّق فِي الْفِعْل الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور مَحْدُود، فَإِن قيل لَك مَا الْفَوات؟.
قلت: هُوَ اسْم لمضي الْوَقْت الْمَحْدُود للْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ. والفائت هُوَ الْفِعْل الْمَأْمُور بِهِ إِذا انْقَضى وقته ولم يتَقَدَّر أَدَاؤُهُ.
فَأَما مَا لم يعلق بِوَقْت مَحْدُود فَلَا يُطلق اسْم الْفَوات فِيهِ، وَمَا وَجب على الْفَوْر وَلم يتَعَلَّق الأمرعلى ذكر وَقت وَلَكِن تقرر بالقرائن وجوب الابتدار إِلَى الِامْتِثَال فِي أول وَقت الْإِمْكَان فَإِذا أخرالمكلف مقصرا فَيتَحَقَّق اسْم الْفَوات هَكَذَا قَالَ القَاضِي رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ إِذا ثَبت الْفَوْر استحقاقا فَمن ضَرُورَته وجوب إِيقَاع الْفِعْل فِي أول زمن من الْإِمْكَان فَهُوَ إِذا مَأْمُور بإيقاعه فِيهِ.
وَهَذَا الَّذِي ذكره مُسْتَمر على مَنْهَج الْأُصُول وَإِن كَانَ مُخَالف إطلاقات الْفُقَهَاء فَإِنَّهُم إِذا قَالُوا يجب تَعْجِيل أَدَاء الزَّكَاة عِنْد الْإِمْكَان فَإِذا مضى من الْوَقْت مَا لَو ابتدر فِيهِ لأَدَاء الزَّكَاة أمكنه فَلَا يَقُول الْفُقَهَاء إِن أَدَاء الزَّكَاة قد فَاتَهُ فَإِذا قدم عَلَيْهِ فِي الْوَقْت الثَّانِي لَا يسمونه قَاضِيا وَذَلِكَ يرجع إِلَى الْعبارَات.
وَالتَّحْقِيق مَا قَالَه القَاضِي رَضِي الله عَنهُ ويتبين لَك ذَلِك بِشَيْء وَهُوَ أَنه إِذا ثَبت ان الْأَمر لَا يَقْتَضِي التّكْرَار بمطلقه وَلَا الْفَوْر ثمَّ اقْترن بِهِ مَا يَقْتَضِي الْفِعْل فِي أول زمن الْإِمْكَان فَلَو انْقَضى أول الزَّمن فَلَا يثبت الْوُجُوب فِي الزَّمَان الثَّانِي إِلَّا بِأَمْر مُجَدد كَمَا لَا يثبت وجوب الْقَضَاء فِي كل مَا اتَّفقُوا على تَسْمِيَته قَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد على مَا سنذكر إِن شَاءَ الله عز وَجل.
فَإِن قيل: قد ذكرْتُمْ الْفَوات والفائت فَمَا الْقَضَاء؟
قُلْنَا: هُوَ فعل مَا فَاتَ وقته الْمَحْدُود لَهُ وَإِنَّمَا يتَحَقَّق الْقَضَاء إِذا انْقَضى وَقت الْأَدَاء على من كَانَ مُلْتَزما لَهُ فِيهِ وَرُبمَا يُطلق الْفُقَهَاء اسْم الْقَضَاء تجوزا فِي حق من لم يكن من أهل الِالْتِزَام فِي وَقت الْأَدَاء، وَذَلِكَ نَحْو قَوْلهم: على الْحَائِض قَضَاء الصّيام، وَإِن عرفنَا قطعا أَن أداءه لم يجب عَلَيْهَا فِي زمن محيضها وَلَكنهُمْ أطْلقُوا ذَلِك توسعا وَغلب ذَلِك على الْأَلْسِنَة.
فَإِن قيل: فَمَا الْإِعَادَة؟
قيل: هِيَ فعل مثل مَا بَطل وَفَسَد من الْمَأْمُور بِهِ مَعَ انْتِفَاء الْفساد عَنهُ فَيخرج من ذَلِك أَن من فَاتَتْهُ صَلَاة، حسن مِنْهُ أَن يَقُول: عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَا يحسن أَن نقُول عَلَيْهِ إِعَادَتهَا فَإِن الْإِعَادَة مَبْنِيَّة على الْعود إِلَى الشَّيْء فَإِذا لم يتَحَقَّق التَّلَبُّس بِهِ لم يحسن فِيهَا إِطْلَاق الْإِعَادَة، وَلَكِن لَو تلبس بِالصَّلَاةِ ثمَّ أفسدها حسن إِطْلَاق الْإِعَادَة هَا هُنَا، فَهَذَا مَا يحسن إِطْلَاقه، وَقد نرى الْفُقَهَاء يتسامحون فِي ذَلِك فَيَقُولُونَ الْإِعَادَة، ويعنون بهَا الْقَضَاء، ومقصدنا التَّنْبِيه على الْحَقَائِق ثمَّ لَا حرج عَلَيْك لَو توسعت.

.فصل:

ذهب بعض من لَا معرفَة لَهُ بالحقائق إِلَى أَن الصّيام يجب على الْحَائِض فِي زمن الْحيض وَلكنهَا لَا تتمكن مِنْهُ فتقضيه عِنْد ارْتِفَاع الْمَانِع وَهَذَا محَال فَإِن الْأمة أَجمعت على أَن الْوَاجِب هُوَ الصّيام الصَّحِيح ثمَّ اتَّفقُوا على أَنه لَا يَصح من الْحَائِض الصّيام كَيفَ وَقد أَجمعُوا على أَنَّهَا لَو أَمْسَكت عَن المفطرات ناوية صَومهَا عَصَتْ الله، وَكَيف يجب عَلَيْهَا صَوْم صَحِيح وَلَا يتَصَوَّر مِنْهَا التَّوَصُّل إِلَى الصَّوْم الصَّحِيح.
فَإِن قيل الْأَمر بِالصَّلَاةِ مُتَوَجّه على الْمُحدث وَلَا يَصح مِنْهُ مَعَ حُدُوثه وَكَذَلِكَ الْأَمر بالشرائع مُتَوَجّه على الْكفَّار مَعَ اسْتِحَالَة وُقُوعهَا على الصِّحَّة مَعَ بَقَاء الْكفْر، قيل لَهُم: يتَصَوَّر من الْمُحدث التَّسَبُّب إِلَى رفع الْحَدث وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْكَافِر وَلَا يتَصَوَّر ذَلِك فِي الْحيض فافترق الْأَمْرَانِ وتباين البابان.
فَإِن قيل أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا الْقَضَاء؟.
قيل لَهُم: وجوب الْقَضَاء لَا يتلَقَّى عندنَا من وجوب الْأَدَاء فَإنَّا نقُول وَإِن ثَبت وجوب الْأَدَاء ثمَّ فَاتَ لم يجب الْقَضَاء إِلَّا بِأَمْر مُجَدد.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ اسْم الْقَضَاء إِنَّمَا يتَنَاوَل بعد تَحْقِيق فَوَات وَاجِب؟.
قُلْنَا هَذَا تمسك بالعبارات الدائرة فِي بعض الْفُقَهَاء وَلَيْسَت عبارَة شَرْعِيَّة فَيصح التَّمَسُّك بهَا، ثمَّ نقُول اسْم الْقَضَاء يَنْقَسِم فقد ينْطَلق بعد فَوَات وَاجِب وَقد ينْطَلق بعد فَوَات وجوب إِذا كَانَ فِي حق مُكَلّف على الْجُمْلَة، وتجوزنا بقولنَا فِي «حق مُكَلّف» عَن الصَّبِي يبلغ فينتدب لامتثال الْأَوَامِر وجوبا، فَإِن مَا يبدر مِنْهُ لَا يُسمى قَضَاء لِأَن مَا فَاتَ وُجُوبه كَانَ فِي زمَان سُقُوط التَّكْلِيف فَتبين بذلك أَن مَا عولوا عَلَيْهِ رُجُوع إِلَى مَحْض الْعبارَات.
فَإِن قيل: أَلَيْسَ يجب عَلَيْهَا أَن تنوي قَضَاء الصَّوْم فَهَذَا رَاجع إِلَى الحكم دون الْعبارَة.
قُلْنَا: الْمَقْصُود من النيات التَّمْيِيز فِي الْعِبَادَات، فَأمرت أَن تميز بَين الصَّوْم الْموقع فِي غير رَمَضَان وَبَين الصَّوْم الْموقع فِي رَمَضَان، فَلَو تأتى بهَا التميز بِغَيْر لفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء صَحَّ صَومهَا، وَفِي الْفُقَهَاء من لم يَجْعَل للفظ الْقَضَاء وَالْأَدَاء حكما.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمُسَافِر فِي حكم الصّيام؟
قُلْنَا: حكمه فِي الصّيام حكم الْمُكَلف فِي الصَّلَاة فِي أول الْوَقْت فَإِن أَقَامَهَا فِيهِ كَانَ مُؤديا فرضا، وَإِن أَخّرهَا عَازِمًا على فعلهَا فِي الِاسْتِقْبَال جَازَ لَهُ تَأْخِيرهَا فَقَامَ الْعَزْم مقَام مَا ترك فِي أول الْوَقْت فَكَذَلِك القَوْل فِي الْمُسَافِر إِن أَقَامَ الصّيام فِي سَفَره فقد أدّى فرضا، وَإِن أَخّرهُ إِلَى الْإِقَامَة سَاغَ تَأْخِيره، بِشَرْط الْعَزْم على إِقَامَتهَا.
فَإِن قيل: فَمَا قَوْلكُم فِي الْمَرِيض؟
قُلْنَا: إِن كَانَ يتَصَوَّر مِنْهُ الصّيام فَحكمه حكم الْمُسَافِر وَإِن كَانَ لَا يتَصَوَّر مِنْهُ لزوَال عقل أَو غَيره فَلَا يتَعَلَّق التَّكْلِيف بِهِ كَمَا لَا يتَعَلَّق بالحائض وَقد صَار بعض الْأُصُولِيِّينَ إِلَى أَنه إِذا كَانَ فِي مَرضه بِحَيْثُ يجهده الصَّوْم وَإِن تصور مِنْهُ على ضرّ ومقاشاة كلفة فَلَا يجب عَلَيْهِ الصَّوْم، لَا مضيقا وَلَا موسعا، بِخِلَاف الْمُسَافِر وَرُبمَا يمِيل القَاضِي إِلَى ذَلِك فِي بعض كتبه ويفصل بَين الْمَرِيض وَالْمُسَافر فَإِن الْمَرِيض خفف عَنهُ لما يَنَالهُ من الْمَشَقَّة فَلم يصفه بِكَوْنِهِ مُخَاطبا بِالصَّوْمِ وَأما الْمُسَافِر فَلَا مشقة عَلَيْهِ فِي الصّيام، والرخصة فِي حَقه تفسيح فِي التَّأْخِير، وَلَيْسَ تحط الْوُجُوب وَالصَّحِيح غير ذَلِك فَكل من يَصح مِنْهُ الصَّوْم الْمَفْرُوض فَيكون من أهل الْتِزَامه إِمَّا على التَّضْيِيق وَإِمَّا على التَّوَسُّع، وَمَا أَوْمَأ إِلَيْهِ من الْفَصْل لَا يكَاد يَتَّضِح.

.فصل:

ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن الْأَمر إِذا تعلق بِالْفِعْلِ الْمُؤَقت بِوَقْت مَحْصُور فَإِذا انْقَضى ذَلِك الْوَقْت وَلم يتَّفق امْتِثَال الْأَمر فِيهِ فبنفس الْأَمر السَّابِق يعلم وجوب اقْتِضَاء الْفِعْل الْفَائِت بعد انْقِضَاء الْوَقْت وَمَا صَار إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَن نفس الْأَمر بِالْأَدَاءِ فِي الْوَقْت المحصور لَا يتَضَمَّن الْأَمر بِالْقضَاءِ وَإِنَّمَا ثَبت وجوب الْقَضَاء بِأَمْر مُجَدد وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق بِفعل مُخَصص بِوَقْت فقد انطوى عَلَيْهِ دون غَيره فَلَيْسَ فِي الْأَمر تَصْرِيح بإيقاع مثله بعد وقته وَلَيْسَ يتضمنه لَا محَالة، فَإِذا لم يُنبئ عَنهُ صَرِيحًا وَلَا ضمنا لم يستفد مِنْهُ، وَالَّذِي يُوضح ذَلِك أَن الْأَمر إِذا تعلق بِفعل يتخصص بشخص لم يستفد مِنْهُ تَخْصِيصه بشخص آخر، وَكَذَلِكَ إِذا اقْتضى تَخْصِيصه بمَكَان يُمكن لم يستفد مِنْهُ إِيقَاعه فِي غَيره نَحْو الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة فِي وَقت مَخْصُوص إِذا تعذر امتثاله فِي الْمَكَان الْمَخْصُوص بِهِ لم نستفد من الْأَمر إِيقَاع الْوُقُوف فِي غَيره وَلَيْسَ يُنبئ عَنهُ تضمنا لَا محَالة، فَوَجَبَ تَخْصِيصه بمورده.
فَإِن من تمسك من يخالفنا بِوُجُوب الْقَضَاء فِي بعض موارد الشَّرْع.
قيل لَهُ: ثَبت أَن قَضَاء مَا استشهدت بِهِ مُسْتَفَاد من الْأَمر بِأَدَائِهِ.
ثمَّ نقُول إِن لزم قَضَاء عبادات سقط قَضَاء بَعْضهَا كَالْجُمُعَةِ وَرمي الْجمار عِنْد بعض الْعلمَاء والعبادات فِي حق الْكفَّار. وَالصَّلَاة المتروكة فِي أول الْوَقْت إِذا عرض فِي أثْنَاء الْوَقْت حيض أَو جُنُون إِلَى غَيرهَا.