فصل: تفسير الآيات (167- 169):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (166):

{لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)}
سلاّه الله عن تكذيب الخلق إياه بما ذكره من علم الله بصدقه، ولذلك قال: {وَكَفَى بِاللهِ شَهِيدًا}.

.تفسير الآيات (167- 169):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)}
جعْل صدَّهم المؤمنين من اتباع الحقِّ كفرهم بالله، واللهُ تعالى عظَّم حقوق أوليائه كتعظيم حقِّ نفسه، ثم قال: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا} جعل ظُلْمَهُم سبيلَ كفرهم، فَعَلَّقَ استحقاق العقوبة المؤبَّدة عليها جميعاً. والظلم- وإنْ لم يكن كالكفر في ا ستحقاق وعيد الأبد- فَلِشُؤْمِ الظلم لا يبعد أن يخذلَه اللهُ حتى يُوَافِيَ ربَّه على الكفر.

.تفسير الآية رقم (170):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)}
{يَا أَهْلَ الكِتَابِ}: أخبر أنه سبحانه غني عنهم، فإنْ آمنوا فحظوظ أنفسهم اكتسبوها وإن كفروا فَبَلاَيَاهُم لأنفسهم اجتلبوها. والحقُّ- تعالى- مُنَزَّه الوصف عن (الجهل) لوفاق أحدٍ، والنقص لخلاف أحد.
قوله: {وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ للهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} يعني إن خرجوا عن استعمال العبودية- فعلاً، لم يخرجوا عن حقيقة كونهم عبيده- خلْقاً، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ أَتِى الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 93].

.تفسير الآية رقم (171):

{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)}
غُلُوُّهم في دينهم جَرْيهُم على مقتضى حسبانهم؛ حيث وصفوا- بمشابهة الخلْق- معبودَهم، ثم مناقضتهم؛ حيث قالوا الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، والتمادي في الباطل لا يزيد غير الباطل.

.تفسير الآيات (172- 173):

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)}
قوله جلّ ذكره: {لَّن يَسْتَنكِفَ المَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً فَأَمَّأ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيَوَفِّيهِم أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ}.
كيف يستنكف عن عبوديته وبالعبودية شَرَفُه، وكيف يستكبر عن التذلُّلِ وفي استكباره تَلَفُه، ولهذا الشأن نطق المسيح أول ما نطق بقوله: إني عبد الله، وتجمُّل العبيد في التذلل للسَّادة، هذا معلوم لا تدخله ريبة.
وقوله: {وَلاَ المَلاَئِكَةُ المُقَرَّبُونَ} لا يدل على أنهم أفضل من المسيح، لأنه إنما خاطبهم على حسب عقائدهم، والقوم اعتقدوا تفضيل الملائكة على بني آدم.
قوله جلّ ذكره: {وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}.
العذاب الأليم ألا يصلوا إليه أبداً بعدما عرفوا جلاله، فإذا صارت معارفُهم ضروريةً فإنهم يعرفون أنهم عنه بقوا، فَحَسَراتُهم حينئذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم.

.تفسير الآية رقم (174):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)}
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَكُمْ بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ}.
البرهان ما لاح في سرائرهم من شواهد الحق.
قوله جلّ ذكره: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا}.
وهو خطابه الذي في تأملهم معانيه حصولُ استبصارِهم.

.تفسير الآية رقم (175):

{فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)}
قوله جلّ ذكره: {فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ}.
{فَسَيُدْخِلُهُمْ في رَحْمَةِ}: والسين للاستقبال أي يحفظ عليهم إيمانهم في المآل عند التوفي، كما أكرمهم بالعرفان والإيمان في الحال.
قوله جلّ ذكره: {وَيَهْدِيَهُمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا}.
هذه الهداية هي إكرامهم بأن عرفوا أن هذه الهداية من الله فضل لا لأنهم استوجبوها بطلبهم وجهدهم، ولا بتعبهم وكدِّهم.

.تفسير الآية رقم (176):

{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)}
قطع الخصومة بينهم في قسمة الميراث فيما أظهر لهم من النصِّ على الحكم، فإن المال محبَّبٌ إلى الإنسان، وجُبِلَت النفوس على الشحِّ؛ فلو لم ينص على مقادير الاستحقاق (لقابلة الأشباه) في الاجتهاد، فكان يؤدي ذلك إلى التجاذب والتواثب؛ فَحَسَمَ تلك الجملة بما نصَّ على المقادير في الميراث قطعاً للخصام. ولتوريثه للنسوان- وإن لم يوجد منهن الذبُّ عن العشيرة- دلالة على النظر لضعفهن. وفي تفضيل الذكور عليهن لِمَا عليهم مِنْ حَمْلِ المؤن وكذا السعي في تحصيل المال، والقيام عليهن.

.سورة المائدة:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)}
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1].
{يا} حرف نداء، و{أي} اسم منادى، {ها} تنبيه و{الَّذِينَ آمَنُوا} صلة المنادى. ناداهم قبل أن بداهم، وسمَّاهم قبل أن يراهم، وأَهَّلهم في آزالهِ لِمَا أوصلهم إليه في آباده.
شَرَّفهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وكلَّفهم بقوله: {أوفوا} ولمَا عَلِمَ أن التكليف يوجب المشقة قَدَّم التشريف بالثناءِ على التكليف الموجِب للعناءِ.
ويقال الإيمانُ صنفان: أحدهما يشير إلى عين الجود، والثاني إلى بذل المجهود. فَبَذْلُ المجهودِ خِدْمَتُك، وعين الجود قِسْمَتُه؛ فبخدمتك عناءُ الأشباح، وبقسمته ضياءُ الأرواح.
وحقيقة الإيمان تحقق القلب بما أخبر من الغيب.
ويقال: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}: يا مَنْ دخلوا في إيماني، ما وصلتم إلا أَماني إلا بسابق إحساني. ويقال يا مَنْ فتحتُ بصيرتَهم لشهود حقي حتى لا يكونوا كمن أعرضتُ عنهم مِنْ خَلْقِي.
قوله جلّ ذكره: {أَوْفُوا بِالعُقُودِ}.
كُلُّ مُكلَّفٍ مُطَالَبٌ بالوفاء بعقده، والعقد، ما ألزمك بسابق إيجابه، ثم وفَّقكَ- بعدما أظهرك عند خطابه- بجوابه، فانبرم العقد بحصول الخطاب، والقبول بالجواب.
ويدخل في ذلك- بل يلتحق به- ما عَقَدَ القلبُ معه سِرًّا بِسِرٍّ؛ من خلوصٍ له أضمره، أو شيء تبيَّنه، أو معنًى كوشف به أو طولب به فقَبِله.
ويقال الوفاء بالعهد بصفاء القصد، ولا يكون ذلك إلا بالتبرِّي من المُنَّة، والتحقق بتولي الحق- سبحانه- بلطائف المِنَّة.
قوله جلّ ذكره: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
تحليل بعض الحيوانات وإباحتها من غير جُرْم سَبَق منها، وتحريم بعضها والمنع من ذبحها من غير طاعة حصلت منها- دليلٌ على ألاَّ عِلَّةَ لصنعه.
وحرَّم الصيد على المُحْرِم خصوصاً لأن المُحْرِمَ متجرِّدٌ عن نصيب نفسه بقصده إليه، فالأليق بصفاته كُفُّ الأذى عن كل حيوان.
قوله جلّ ذكره: {إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}.
لا حَجْرَ عليه في أفعاله، فيخصُّ من يشاء بالنُّعْمى، ويفرد من يشاء بالبلوى؛ فهو يُمْضِي الأمور في آباده على حسب ما أراد وأخبر وقضى في آزاله.

.تفسير الآية رقم (2):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}
قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}.
الشعائر معالم الدِّين، وتعظيم ذلك وإجلاله خلاصة الدين، ولا يكون ذلك إلا بالاستسلام عند هجوم التقدير، والتزام الأمر بجميل الاعتناق، وإخلال الشعائر (يكون) بالإخلال بالأوامر.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ الشَّهْرَ الحَرَامَ وَلاَ الهَدْىَ وَلاَ القَلاَئِدَ}.
تعظيم المكان الذي عظَّمه الله، وإكرامُ الزمان الذي أكرمه الله. وتشريف الإعلام على ما أمر به الله- هو المطلوب من العبيد أمراً، والمحبوب منه حالاً.
قوله جلّ ذكره: {وَلاَ آمِّينَ البَيْتَ الحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}.
وبالحريِّ لمن يقصد البيت ألا يخالف ربَّ البيت.
والابتغاء للفضل والرضوان بتوقِّي موجبات السخط، ومجانبة العصيان.
قوله جلّ ذكره: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا}.
وإذا خرجتم عن أمر حقوقنا فارجعوا إلى استجلاب حظوظكم، فأمّا ما دمتم تحت قهر بطشنا فلا نصيب لكم منكم، وإنكم لنا.
قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ} أي لا يحملكم بغضُ قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام على ألا تجاوزوا حدَّ الإذن في الانتقام، أي كوّنوا قائمين بنا، متجردين عن كل نصيب وحَظٍّ لكم.
قوله جلّ ذكره: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى}.
البِرُّ فِعْلُ ما أُمِرْتَ به، والتقوى تَرْكُ ما زُجِرتَ عنه.
ويقال البِرُّ إيثار حقه- سبحانه، والتقوى تركُ حظِّك.
ويقال البِرُّ موافقة الشرع، والتقوى مخالفةُ النَّفْس.
ويقال المعاونة على البِرِّ بحُسْنِ النصيحة وجميل الإشارة للمؤمنين، والمعاونة على التقوى بالقبض على أيدي الخطائين بما يقتضيه الحال من جميل الوعظ وبليغ الزجر، وتمام المنع على ما يقتضيه شرط العلم.
والمعاونة على الإثم والعدوان بأن تعمل شيئاً مما يقتدى بك لا يرضاه الدِّين، فيكون قولُك الذي تفعله ويقتدى بك (فيه) سُنَّةً تظهرها و(عليك) نبُوُّ وِزْرِها. وكذلك المعاونة على البر والتقوى أي الاتصاف بجميل الخِصال على الوجه الذي يُقْتدَى بكل فيه.
قوله جلّ ذكره: {وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ}.
العقوبة ما تعقب الجُرْم بما يسوء صاحبه. وأشد العقوبة حجاب المُعَاقَبِ عن شهود المُعَاقِب؛ فإنَّ تَجرُّعَ كاساتِ البلاء بشهود المُبْلِي أحلى من العسل والشهد.

.تفسير الآية رقم (3):

{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)}
قوله جلّ ذكره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الخِنزِيرِ}.
وأكل الميتة أن تتناول من عِرْضِ أخيك على وجه الغيبة، وليس ذلك مما فيه رخصةٌ بحالٍ لا بالاضطرارِ ولا بالاختيارِ، وغير هذا من المَيْتَةِ مباحٌ في حالِ الضرورة.
ويقال كما أَنَّ في الحيوان ما يكون المزكى منه مباحاً والميتة منه حراماً فكذلك من ذبح نفسه بسكاكين المجاهدات وطَهَّرَ نفسه- مُبَاحٌ قربه، حلال صحبته. ومَنْ ماتت نفسه في ظلمة غفلته حتى لا إحساسَ له بالأمور الدينية فخبيثةٌ نفسه، محظورٌ قُربُه، حرام معاشرته، غيرُ مباركةٍ صحبتِه.
وإنَّ السلف سموا الدنيا خنزيرةً، ورأوا أَنَّ ما يُلْهِي قربُهُ، ويُنْسِي المعبودَ ركونُه، ويحمل على العصيان جنوحُه- فهو مُحرَّمٌ على القلوب؛ ففي طريقة القوم حبُّ الدنيا حرامٌ على القلوب، وإن كان إمساكُ بعضها حلالاً على الأبدان والنفوس.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ}.
كما أنَّ المذبوح على غير اسمه ليس بطيِّبٍ فَمَنْ بَذَلَ رُوحَه فيه وَجَدَ رُوْحه منه، ومن تهارشته كلاب الدنيا، وقلته مخالب الأطماع، وأَسَرَتْهُ مطالبُ الأغراض والأعراض- فحرامٌ ماله على أهل الحقائق في مذهب التعزز، فللشريعَةِ الظرف والتقدير.
وأما المنخنقة فالإشارة منه إلى الذي ارتبك في حِبال المنى والرغائب، وأخذه خناقُ الطمع، وخنقته سلاسل (الحِرْص) فحرامٌ على السالكين سلوك خطتهم، ومحظور على المريدين متابعة مذهبهم.
وأمَّا الموقوذة فالإشارة منها إلى نفوس جُبِلَت على طلب الخسائس حتى استملكتها كلها فهي التي ذهبت بلا عوض حصل منها، وأمثال ذلك حرامٌ على أهل هذه القصة.
والإشارة من التردية إلى من هلك في أودية التفرقة، وعمي عن استبصار رشد الحقيقة؛ فهو يهيم في مفاوز الظنون، وينهك في متاهات المنى.
والإشارة من النطيحة إلى من صَارَعَ الأمثال، وقارع الأشكال، وناطح كلاب الدنيا فحطموه بكلب حرصهم، وهزموه بزيادة تكلبهم، وكذلك الإشارة من:
قوله جلّ ذكره: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ}.
وأكيلة السبع ما ولغت فيه كلاب الدنيا، فإن الدنيا جيفة، وأَكَلَةُ الجيفِ الكلابُ ويستثنى منه المزكى وهو ما تقرر من متاع الدنيا لله؛ لأن زادَ المؤمِنِ من الدنيا: ما كان لله فهو محمود، وما كان للنَّفْس فهو مذموم.
قوله جلّ ذكره: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ}.
فهو ما أُرْصِدَ لغير الله، ومقصودُ كلِّ حريص- بموجب شرعه- معبودُه من حيث هواه قال الله تعالى: {أَفَرَءَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] يعني اتخذ هواه إلهه.
{وَأَن تَسَتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ}، الإشارة منه إلى كل معاملة ومُصَاحبةٍ بُنِيَتْ على استجلاب الحظوظ الدنيوية- لا على وجه الإذن- إذ القمار ذلك معناه. وقَلَّتْ المعاملات المجرَّدَة عن هذه الصفة فيما نحن فيه من الوقت.
قوله جلّ ذكره: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}.
أي إيثار هذه الأشياء انسلاخ عن الدين.
قوله جلّ ذكره: {اليَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشُونِ}.
أي بعدما أزَحتُم عن قلوبكم آثار الحسبان، وتحققتم بأن المتفرد بالإبداع نحن فلا تلاحظوا سواي، ولا يُظَلِّلَنْ قلوبكم إشفاقٌ من غيري.
ويقال إذا كانت البصائرُ متحققة بأن النَّفع والضر، والخير والشر لا تحصل شطية منها إلا بقدرة الحق- سبحانه، فمن المحال أن تنطوي- من مخلوق- على رَغَبٍ أو رَهَبٍ.
قوله جلّ ذكره: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
إكمالُه الدين- وقد أضافه إلى نفسه- صَوْنُه العقيدة عن النقصان؛ وهو أنه لما أزعج قلوب المتعرفين لطلب توحيده أَمَّلها بأنوار تأييده وتسديده، حتى وضعوا النظر مَوْضِعَه من غير تقصيرٍ، وحتى وصلوا إلى كمال العرفان من غير قصور.
ويقال إكمالُ الدِّين تحقيقُ القَبُولِ في المآلِ، كما أن ابتداءَ الدِّين توفيقُ الحصول في الحال: فلولا توفيقه لم يكن للدين حصول، ولولا تحقيقه لم يكن للدين قبول.
ويقال إكمال الدين أنه لم يبق شيء يعلمه الحق- سبحانه- من أوصافه وقد علَّمك.
ويقال إكمال الدين أن ما تقصر عنه عقلك من تعيين صفاته- على التفصيل- أكرمك بأن عرَّفك ذلك من جهة الإخبار.
وإنما أراد بذكر {اليَوْمَ} وقتَ نزول الآية. وتقييد الوقت في الخطاب بقوله: {اليَوْمَ} لا يعود إلى عين إكمال الدِّين، ولكن إلى تعريفنا ذلك الوقت.
والدِّين موهوبٌ ومطلوبٌ؛ فالمطلوب ما أمكن تحصيله، والموهوبُ ما سبق منه حصوله.
قوله جلّ ذكره: {وََأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى}.
النعمة- على الحقيقة- ما لا يقطعك عن المنعم بل يوصلك إليه والنعمة المذكورة هاهنا نعمة الدِّين، وإتمامها وفاء المآل، واقتران الغفران وحصوله. فإكمال الدين تحقيق المعرفة، وإتمام النعمة تحصيل المغفرة. وهذا خطاب لجماعة المسلمين، ولا شك في مغفرة جميع المؤمنين، وإنما الشك يعتري في الآحاد والأفراد هل يبقى على الإيمان؟
قوله جلّ ذكره: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا}.
وذلك لما قَسَمَ للخَلْق أديانَهم؛ فخصّ قوماً باليهودية، وقوماً بالنصرانية، إلى غير ذلك من النِّحَلِ والمِلَلِ، وافرد المسلمين بالتوحيد والغفران.
وقدَّمَ قومٌ الإكمالَ على الإتمام، فقالوا: الإتمام يقبل الزيادة، فلذلك وَصَفَ به النعمة لقبول النِّعم للزيادة، ولا رتبةَ بعد الكمال فلذلك وصف به الدين.
ويقال لا فرق بين الدِّين والنعمة المذكورة هاهنا، وإنما ذُكِرَ بلفظين على جهة التأكيد، ثم أضافه إلى نفسه فقال: {نِعْمَتِى} وإلى العبد فقال: {دِينِكُمْ}. فَوَجْهُ إضافته إلى العبد من حيث الاكتساب، ووجه إضافته إلى نفسه من حيث الخَلْق. فالدين من الله عطاء، ومن العبد عناء، وحقيقة الإسلام الإخلاص والانقياد والخضوع لجريان الحكم بلا نزاعٍ في السِّرِّ.
قوله جلّ ذكره: {فَمَنِ اضْطُرَّ في مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
الإشارة من هذه الآية أنه لو وقع لسالكٍ فترة، أو لمريدٍ في السلوك وقفة، ثم تنبَّه لعظيم وقاعة فبادر إلى جميع الرَّجْعَةِ باستشعار التحسّر على ما جرى تَدارَكَتْه الرحمةُ، ونظر الله- سبحانه- إليه بقبول الرجعة.
والإشارة من قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} أي غير معرِّج على الفترة، ولا مستديم لعُقْدةِ الإصرار، ويحتمل أن يكون معناه من نزل عن مطالبات الحقائق إلى رُخَصِ العلم لضعفٍ وَجَدَه في الحال فربما تجري معه مُساهلةٌ إذا لم يفسخ عَقْدَ الإرادة.