فصل: تفسير الآية رقم (148):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التيسير في التفسير أو التفسير الكبير المشهور بـ «تفسير القشيري»



.تفسير الآية رقم (148):

{لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)}
قول المظلوم في ظالمه- على وجه الإذن له- ليس بسوءٍ في الحقيقة، لكنه يصح وقوع لفظة السوء عليه كقوله تعالى: {وَجَزَاؤاْ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] والجزاء ليس بسيئة.
ويقال مَنْ عَلِمَ أن مولاه يسمع استحيا من النطق بكثيرٍ مما تدعو نفسه إليه.
ويقال الجهر بالسوء هو ما تسمعه نفسك منك فيما تُحدِّثُ في نفسك من مساءة الخلق؛ فإن الخواص يحاسبون على ما يتحدثون في أنفسهم بما (يعد) لا يُطالَب به كثيرٌ من العوام فيما يَسمعُ منهم الناس.
قوله: {إلاَّ مَن ظُلِمَ}: قيل ولا من ظُلِمَ. وقيل معناه ولكن مَنْ ظُلِمَ فله أنْ يذكرَ ظالمَه بالسوء.
ويقال من لم يُؤثِرْ مدحَ الحقِّ على القَدْحِ في الخَلْق فهو المغبون في الحال.
ويقال من طَالَعَ الخلْقَ بعين الإضافة إلى الحق بأنهم عبيد الله لم يبسط فيهم لسان اللوم؛ يقول الرجل لصاحبه: أنا أحْتَمِل من (....) خدمتك لك ما لا أحتمله من ولدي، فإذا كان مثل هذا معهوداً بين الخلق فالعبد بمراعاة هذا الأدب- بينه وبين مولاه- أوْلى.
ويقال لا يحب الله الجهر بالسوء من القول من العوام، ولا يحب ذلك بخطوره من الخواص.
ويقال الجهر بالسوء من القول من العوام أن يقول في صفة الله ما لم يَرِدْ به الإذن والتوفيق.
والجهر بالسوء من القول في صفة الخَلْق أن تقول ما ورد الشرع بالمنع منه، وتقول في صفة الحق ما لا يتصف به فإنك تكون فيه كاذباً، وفي صفة الخلق عن الخواص ما اتصفوا به من النقصان- وإن كنت فيه صادقاً.
قوله: {وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا}: سميعاً لأقوالكم، عليماً بعيوبكم، يعني لا تقولوا للأغيار ما تعلمون أنكم بمثابتهم.
ويقال سميعاً لأقوالكم عليماً ببراءةِ ساحةِ مَنْ تَقَوَّلْتُم عليه، فيكون فيه تهديد للقائل- لبرئ الساحة- بما يتقوَّلُ عليه.
ويقال سميعاً: أيها الظالم، عليمًا: أيها المظلوم؛ تهديدٌ لهؤلاء وتبشيرٌ لهؤلاء.

.تفسير الآية رقم (149):

{إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)}
{إِن تُبْدُوا خَيْرًا} تخلقاً بآداب الشريعة، وتخفوه تحققاً بأحكام الحقيقة.
{أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ} أخذاً من الله ما ندبكم إليه من محاسن الخُلُق.
{فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا} لعيوبكم {قَدِيرًا} على تحصيل محبوبكم وتحقيق مطلوبكم.
ويقال إن تبدوا خيراً لتكونوا للناس قدوة فيما تُسِنُّون وما تعينون غيركم على ما يُهَدْون به من سلوك سُنَّتكم، وإن تخفوه اكفاءً بعلمه، وصيانة لنفوسكم عن آفات التصنَّع، وثقةً بأن من تعملون له يرى ذلك ويعلمه منكم، وإن تعفوا عن سوءٍ أي تتركوا ما تدعوكم إليه نفوسكم فالله يجازيكم بعفوه على ما تفعلون، وهو قادر على أن يبتليكم بما ابتلى به الظالم، فيكون تحذيراً لهم من أن يغفلوا عن شهود المنَّة، وتنبيهاً على أن يستعيذوا أن يُسلَبوا العصمة، وأنْ يُخْذَلُوا حتى يقعوا في الفتنة والمحنة.
ويقال إنْ تبدوا خيراً فتحسنوا إلى الناس، أو تخفوه بأن تدعوا لهم في السرِّ، أو تعفوا عن سوءٍ إنْ ظُلِمْتم.
ويقال من أحسن إليك فأبْدِ معه خيراً جهراً، ومن كفاك شرَّه فأخلِصْ بالولاء والدعاء له سِرَّاً، ومن أساء إليك فاعفُ عنه كرمًا وفضلاً؛ تجِدْ من الله عفوَه عنك عما ارتكبت، فإن ذنوبَك أكثرُ، وهو قادرٌ على أنْ يُعطيَك من الفضل والإنعام ما لا تصل إليه بالانتصاف من خصمك، وما تجده بالانتقام.

.تفسير الآيات (150- 151):

{إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)}
أخبر عنهم أنهم أضافوا إلى قبيح كفرهم ما عُدَّ من ذميم فعلهم، ثم بَيَّنَ أنه ضاعف من عذابهم ما كان جزاء جرمهم، لِتَعْلَمَ أنه لأهل الفساد بالمرصاد.

.تفسير الآية رقم (152):

{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)}
لما أمنوا بجميع الرسل، وصَدَقُوا في جميع ما أُمِروا به استوجبوا القبول وحسن الجزاء. وتقاصر الإيمان عن بعض الأعيان كتقاصره عن بعض الأزمان، فكما أنه لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع (....) إلى آخر ما له- كذلك لا يقبل إيمان من لم يستغرق إيمانه جميع من أُمِرَ بالإيمان به؛ إذ جعل ذلك شرط تحقيقه وكماله. فالإشارة في هذا أن من لم يخرج عن عهدة الإلزام بالكلية فليس له من حقيقة الوصل شظية، قال صلى الله عليه وسلم: «الحجُّ عرفة» فمن قطع المسافة- وإن كان من فج عميق- ثم بقي عن عرفات بأدنى بقية لم يُدْرِك الحج.
وقال صلى الله عليه وسلم: «المكاتَبُ عَبْدٌ ما بقي عليه درهم».

.تفسير الآية رقم (153):

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)}
اشتملت الآية على جنسين من قبيح ما فعلوه: أحدهما سؤالهم الرؤية والثاني عبادة العجل بعدما ظهرت لهم الآيات الباهرة.
فأمّا سؤالهم الرؤية فَذُمُّوا عليه لأنهم اقترحوا عليه ذلك بعد ما قطع عذرهم بإقامة المعجزات، ثم طلبوا الرؤية لا على وجه التعليم، أو على موجب التصديق به، أو على ما تحملهم عليه شدة الاشتياق، وكل ذلك سوء أدب.
الإشارة فيه أيضاً أنْ مَنْ يكتفي بأن يكون العجلُ معبودَه- متى- يسلم له أن يكون الحقُّ مشهودَه؟
ويقال القومُ لم يباشِرْ العرفانُ أسرارَهم فلذلك عكفوا بعقولهم على ما يليق بهم من محدودٍ جوَّزوا أنْ يكون معبودَهم.
قوله جلّ ذكره: {وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا}.
حجةً ظاهرةً، بل تفرداً صَانَه من التمثيل والتعطيل.
والسلطان المبين التحصيل والتنزيه المانع من التعطيل والتشبيه.
ويقال السلطان المبين القوة بسماع الخطاب من غير واسطة.
ويقال السلطان المبين لهذه الأمة غداً، وهو بقاؤهم في حال لقائهم- قال صلى الله عليه وسلم: «لا تضامون في رؤيته»- في خبر الرؤية.

.تفسير الآية رقم (154):

{وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)}
ما زادهم في الظاهر آيةً إلا زادوا في قلوبهم جحداً ونُكْراً، فلم تنفعهم زيادة نصيب الإعلام؛ لمَّا لم تنفتح لشهودها بصائرُ قلوبهم، قال تعالى: {وَمَا تُغْنِى الآيَاتُ وَالنَّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101].

.تفسير الآية رقم (155):

{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)}
معناه لارتكابهم هذه المناهي، ولاتصافهم بهذه المخازي، أحللناهم منازل الهوان، وأنزلنا بهم من العقوبة فنون الألوان.
ويقال لَحِقَهُمْ شؤم المخالفات حالة بعد حالة، لأن من عقوبات المعاصي الخذلان لغيرها من ارتكاب المناهي؛ فَبِنَقْضِهم الميثاق، ثم لم يتوبوا، جرَّهم إلى كفرهم بالآيات، ثم لشؤم كفرهم خذِلُوا حتى قتلوا أنبياءهم- عليهم السلام- بغير حقٍ، ثم لشؤم ذلك تجاسروا حتى ادَّعوا شدةَ التفَهُّم، وقالوا: قلوبنا أوعية العلوم، فَرَدَّ الله عليهم وقال: {بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فحَجَبَهُمْ عن محلِّ العرفان، فعمهوا في ضلالتهم.

.تفسير الآيات (156- 158):

{وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)}
مجاوزةُ الحدِّ ضلالٌ، كما أن النقصانَ والتقاصرَ عن الحقِّ ضلالٌ، فقومٌ تَقَوَّلُوا على مريم ورموها بالزنا، وآخرون جاوزوا الحدَّ في تعظيمها فقالوا: ابنُها ابنُ الله، وكلا الطائفتين وقعوا في الضلال.
ويقال مريم- رضي الله عنها- كانت وليَّةَ الله، فَشَقِيَ بها فرقتان: أهل الإفراط وأهل التفريط. وكذلك كان أولياؤه- سبحانه- فمُنْكِرُهَم يَشْقَى بِتَرْكِ احترامهم، والذين يعتقدون فيهم ما لا يستوجبونه يَشْقَوْن بالزيادة في إعظامهم، وعلى هذه الجملة دَرَجَ الأكثرون من الأكابر.
قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا المَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَل رَّفَعَهُ اللهُ}.
قوله تعالى: {وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} {عَزِيزًا حَكِيمًا} قيل أوقع الله شَبَهَهُ على الساعي به فقُتِلَ وصُلِبَ مكانه، وقد قيل: مَنْ حفر بئراً لأخيه وقع فيها.
وقيل إن عيسى عليه السلام قال: مَنْ رَضِيَ بأن يُلْقَى عليه شَبَهِي فيُقتَل دوني فله الجنة، فرضي به بعضُ أصحابه، فيقال لمَّا صبر على مقاساة التلف لم يعدِم من الله الخلف، قال الله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30].
ويقال لمَّا صَحَّتْ صحبةُ الرجل مع عيسى- عليه السلام- بِنَفْسِهِ صَحِبَه بروحه، فلمَّا رُفِعَ عيسى- عليه السلام- إلى محل الزلفة، رفع روح هذا الذي فداه بنفسه إلى محل القربة.

.تفسير الآية رقم (159):

{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)}
لما حكم بأن لا أمَان لهم في وقت اليأس لم ينفعهم الإيمان في تلك الحالة، فعُلِمَ أنَّ العِبْرَةَ بأمان الحقِّ لا بإيمان العبد.

.تفسير الآيات (160- 161):

{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)}
يقال ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المُبَاحَات.
فَمَنْ ركب محظوراً بظاهره حُرِم ما كان يجده من الأحوال المباحة، والألطاف الحاصلة في سرائره.

.تفسير الآية رقم (162):

{لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)}
الراسخ في العلم هو ألا يكون في الدليل مُقَلِّداً، كما لا يكون في الحكم مقلداً، بل يضع النظر موضعه إلى أن ينتهي إلى حد لا يكون للشكِّ في عقله مساغ.
ويقال الراسخ في العلم من يرتقي عن حد تأمل البرهان ويصل إلى حقائق البيان.
ويقال الراسخ في العلم أن يكون بعلمه عامِلاً حتى يفيد عِلمَ ما خفي على غيره، ففي الخبر: «من عمل بما علمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم».
وخَصَّ {وَالمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ} في الإعراب فَنَصَب اللفظ بإضمار أعني على المدح لِمَا للصلاة من التخصيص من بين العبادات لأنها تالية الإيمان في أكثر المواضع في القرآن، ولأن الله- سبحانه- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم (بها) ليلةَ المعراج بغير واسطة جبريل عليه السلام وغير هذا من الوجوه.
قوله تعالى: {أَجْرًا عَظِيمًا}: الأجر العظيم هو الذي يزيد على قدر الاستحقاق بالعمل.

.تفسير الآية رقم (163):

{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)}
إفراد النبي صلى الله عليه وسلم من الأنبياء بالإيمان لإفرادهم بالتخصيص والفضيلة؛ فأفرد نوحاً على ما استحقه من المقام وأفرد رسولنا عليه السلام على ما استحقه هو، فاشتركا في الإفراد لكنهما تباينا في الفضيلة على حسن المقام، فتفرَّد واحد من بين أشكاله بغير فضائل، وتفرَّد آخر من بين أضرابه بألف فضيلة.

.تفسير الآية رقم (164):

{وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)}
سُنَّةُ الله في أوليائه سترُ قومٍ، وشَهْرُ قومٍ، وبذلك جَرَتْ سُنَّتُه أيضاً في الأنبياء- عليهم السلام- أظهر أسماء قومٍ وأجمل تفصيل آخرين. والإيمان واجب بجميع الأنبياء جملة وتفصيلاً، كما أنّ الاحترام واجب لجميع الأولياء جملة وتفصيلاً، وكذلك أحوال العباد ستر عليهم بعضاً وأظهر لهم بعضها، فما أظهرها لهم- طالبهم بالإخلاص فيها، وما سترها عليهم- فلأنه غار على قلوبهم من ملاحظة أحوالهم تأهيلاً لهم للاختصاص بحقائق أفردهم بمعانيها.
{وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}: إخبار عن تخصيصه إياه باستماع كلامه بلا واسطة.

.تفسير الآية رقم (165):

{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)}
قوله جلّ ذكره: {رُّسُلاً مُّبَشْرِينَ وَمُنذِرِينَ}.
وقَفَ الخلْقَ عند مقاديرهم؛ وبيَّن أنه أرسل إليهم الرسل فتفردوا عليهم إلى اجتباء ثوابهم، واجتناب ما فيه استحقاق عذابهم، وأنه ليس للخلْق سبيل إلى راحة يطلبونها ولا إلى آفة يجتنبونها إما في الحال أو في المآل.
قوله جلّ ذكره: {لِئِلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.
أنَّى يكون لمن له إلى الله حاجة على الله حُجَّة؟! ولكنَّ الله خاطبهم على حسب عقولهم.