فصل: تفسير الآيات (1- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (10- 13):

{يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)}
{يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر} أي: أين الفرار {كَلاَّ لاَ وَزَرَ} أي: لا ملجأ، و{المستقر} موضع الاستقرار.
وقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} أي: يعلم بكل ما فعل، ويجده مُحَصَّلاً، وقال ابن عباس وابن مسعود: بما قَدَّم في حياته، وما أَخَّرَ من سُنة بعد مماته.

.تفسير الآيات (14- 19):

{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)}
وقوله تعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} قال ابن عباس وغيره: أي: للإنسان على نفسه من نفسه بصيرةُ رقباءَ يشهدون عليه، وهم جوارحه وَحَفَظَتُه، ويحتمل أنْ يكون المعنى: بل الإنسان على نفسه شاهد؛ ودليله قوله تعالى: {كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14] قال الثعلبيُّ: قال أَبَانُ بْنُ تَعْلَبٍ: البصيرةُ والبَيِّنَةُ والشاهد بمعنى واحد انتهى، ونحوه للهرويِّ؛ قال * ع *: والمعنى على هذا التأويل الثاني: أَنَّ في الإنسان وفي عقله وفطرته حُجَّةً وشاهداً مُبْصِراً على نفسه.
{وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ} أي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله، فهو يعلمها، قال الجمهور: والمعاذير هنا جمع مَعْذِرَةٌ، وقال الضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: هي الستور بلغة اليمن؛ يقولون للستر: المعذار.
وقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} الآية، قال كثير من المفسرين، وهو في صحيح البخاريِّ عن ابن عباس قال: «كان النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ؛ مُخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُوحَى إلَيْهِ»، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجْمَعُهُ لَهُ في صَدْرِهِ.
وقوله: {وَقُرْءَانَهُ} يحتمل أنْ يريد وقراءته، أي: تقرأه أنت يا محمد.
وقوله: {فَإِذَا قرأناه} أي: قرأه المَلَكُ الرسول عَنَّا {فاتبع قُرْءَانَهُ}، قال البخاريُّ: قال ابن عباس: {فاتبع}، أي: اعمل به، وقال البخاريُّ أيضاً قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ} أي: تأليف بعضه إلى بعض {فَإِذَا قرأناه فاتبع قُرْءَانَهُ} أي: ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عَمَّا نهاك عنه انتهى.
وقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} قال قتادة وجماعة: معناه: أنْ نُبَيِّنَهُ لك، وقال البخاريُّ: أنْ نبينه على لسانك.

.تفسير الآيات (20- 25):

{كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}
وقوله تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة} أي: الدنيا وشهواتِها؛ قال الغزاليُّ في الإحياء: اعلم أَنَّ رأس الخطايا المهلكة هو حُبُّ الدنيا، ورأسَ أسبابِ النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور، وقال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّهُ لا وصولَ إلى سعادة لقاء اللَّه سبحانه في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأُنْسِ به في الدنيا، ولا تحصلُ المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفةُ إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأُنْسُ إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلاَّ بانقلاع حُبِّ الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلاَّ بترك لَذَّاتِ الدنيا وشهواتها، ولا يمكن تركُ المشتهيات إلاَّ بقمع الشهوات، ولا تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمعُ بنار الخوف المُحْرِقَة لِلشهوات، انتهى.
وقرأ ابن كثير وغيره: {يُحِبُّونَ} و{يَذَرُونَ} بالياء على ذكر الغائب، ولما ذكر سبحانه الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها فقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ} أي: ناعمة، والنُّضْرَةُ: النعمة وجمال البشرة؛ قال الحسن: وحُقَّ لها أن تُنَضَّر وهي تنظر إلى خالقها.

وقوله تعالى: {إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} حمل جميع أهل السُّنَّةِ هذه الآية على أَنَّها متضمنة رؤية المؤمنين للَّه عز وجل بلا تكييف ولا تحديد كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك هو سبحانه مَرْئِيٌّ لا يشبه المَرْئِيَّاتِ في شيء؛ فإِنَّه ليس كمثله شيء لا إله إلاَّ هو، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة، وما في ذلك من صحيح الأحاديث، والباسرة: العابسة المغمومة النفوس، والبسور: أشد العُبُوسِ، وإنَّما ذكر تعالى الوجوه؛ لأَنَّهُ فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غَمٍّ، والمراد أصحاب الوجوه، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فَقَارِ الظهر؛ وقال أبو عبيدة: هي من فَقَرْتُ البعير إذا وسمت أنفه بالنار.

.تفسير الآيات (26- 30):

{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)}
وقوله تعالى: {كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ...} زجر وتذكير أيضاً بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت الذي لا مَحِيدَ عنه، و{بَلَغَتِ} يريد: النفس و{التراقى} جمع تَرْقُوَةٍ، وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد تَرْقُوَتَانِ، لكن جُمِعَ من حيثُ أَنَّ النفس المرادةَ اسمُ جنس، والتراقي هي موارية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحَشْرَجَةِ ونزع الموت يَسَّرَهُ اللَّه علينا بِمَنِّهِ، وجعله لنا راحةً من كل شَرٍّ واخْتُلِفَ في معنى قوله تعالى: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} فقال ابن عباس وجماعة: معناه: مَنْ يُرْقِي، ويَطُبُّ، ويَشْفِي، ونحو هذا مِمَّا يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضاً، وسليمانُ التَّيْمِيُّ، ومقاتل: هذا القول للملائكة، والمعنى: مَنْ يرقى بروحه، أي: يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب.
{وَظَنَّ أَنَّهُ الفراق} أي: أيقن، وهذا يقين فيما لم يَقَعْ بعد؛ ولذلك اسْتُعْمِلَتْ فيه لَفْظَةُ الظن.
وقوله تعالى: {والتفت الساق بالساق} قال ابن المُسَيِّبِ، والحسن: هي حقيقة، والمراد: ساقا المَيِّتِ عند تكفينه، أي: لَفَّهُمَا الكَفَنُ، وقيل: هو التفافهما من شدة المرض، وقيل غير هذا.

.تفسير الآيات (31- 33):

{فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)}
وقوله تعالى: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} الآية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنَّما نزلت في أبي جهل؛ قال * ع *: ثم كادت هذه الآية أَنْ تُصَرِّحَ به في قوله: {يتمطى} فإنَّها كانت مشيته، وقوله: {فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى} تقديره فلم: يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ ف لا في الآية: نفي لا عاطفة.
* ص *: {فَلاَ صَدَّقَ} فيه دليل على أَنَّ لا تدخل على الماضي فتنفيه؛ كقوله الراجز: من الرجز.
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمَّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا

انتهى.
و{صَدَّقَ} معناه: برسالة اللَّه ودينه، وذهب قوم إلى أَنَّه من الصَّدَقَةِ، والأول أصوب و{يتمطى} معناه: يمشي المَطيطاء، وهي مشية بتبختر، وهي مؤخوذة من المَطا وهو الظهر؛ لأَنَّهُ يتثنى فيها، زاد * ص *: وقيل: أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيه ومَدِّ مَنْكِبَيْهِ، انتهى.

.تفسير الآيات (34- 40):

{أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}
وقوله: {أولى لَكَ}: وعيد.
{فأولى} وعيد ثانٍ، وكرَّر ذلك؛ تأكيداً، ومعنى {أولى لَكَ} الازدجار والانتهار، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً؛ ومنه فأولى لهم طاعة، ويُرْوَى أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَبَّبَ أَبَا جَهْلٍ يَوْماً في البَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ {أولى لَكَ فأولى}» فنزل القرآن على نحوها؛ وفي شعر الخنساء: [المتقارب]
هَمَمْتُ بِنَفْسِيَ كُلَّ الْهُمُومِ ** فأولى لِنَفْسِيَ أولى لَهَا

وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ}: توبيخ و{سُدًى}: معناه: مُهْمَلاً لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ثم قَرَّر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تُؤُمِّلَتْ لَم يُنْكِرْ معها جوازَ البعث من القبور عاقلٌ، والعَلَقَةُ القطعة من الدم.
{فَخَلَقَ فسوى} أي: فخلق اللَّه منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة، فسواه شخصاً مستقلاً، و{الزوجين}: النوعين، ثم وقف تعالى توقيفَ توبيخ بقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بقادر على أَن يُحْيِىَ الموتى} «رُوِيَ: أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بَلَى»، ورُوِيَ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، بلى» انظر سنن أبي داود.

.تفسير سورة الإنسان:

قيل: مكية.
وقيل: مدنية.
وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية، وهي قوله تعالى: {ولا تطع منهم آثما أو كفورا}، والباقي ومدني.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 5):

{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)}
قوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان...} الآية، {هَلُ} في كلام العرب قد تجيء بمعنى {قَدْ}؛ حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير، وبابُها المشهورُ الاستفهام المَحْضُ، والتقرير أحياناً؛ قال ابن عباس: {هل} بمعنى قد، والإنسان يراد به آدم، وقال أكثر المتأولين: {هل} تقرير، الإنسان: اسم جنس، أي: إذا تَأَمَّلَ كُلُّ إنسان نفسه علم بِأَنَّه قد مَرَّ حِينٌ من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، وهذا هو القوي أَنَّ الإنسان اسم جنس، وأَنَّ الآية جُعِلَتْ عبرةً لكل أحد من الناس؛ لِيُعْلَمَ أَنَّ الخالق له قادر على إِعادته.
* ص *: {لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} في موضع حال من {الإنسان} أو في موضع صفة ل {حِينٌ} والعائد عليه محذوف، أي: لم يكن فيه، انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان...} الآية، الإنسان هنا: اسم جنس بلا خلافٍ، وأمشاج معناه: أخلاط؛ قيل: هو {أَمْشَاجٍ} ماءِ الرجل بماءِ المرأة، ونَقَلَ الفخرُ أَنَّ الأمشاج لفظٌ مفرد، وليس يُجْمَعُ، بدليل أَنَّه وقع صفةً للمفرد، وهو قوله: {نُّطْفَةٍ}، انتهى.
{نَّبْتَلِيهِ} أي: نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا، وهو حال من الضمير في {خَلَقْنَا} كأَنَّه قال: مختبرين له بذلك.
وقوله تعالى: {فجعلناه سَمِيعاً بَصِيراً} عَطْفُ جملة نِعَم على جملة نِعَمٍ، وقيل: المعنى: فلنبتليه جعلناه سميعاً بصيراً و{هديناه}: يحتمل: أنْ يكون بمعنى أرشدناه، ويحتمل: أنْ يكون بمعنى أريناه، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وعبارة الثَّعْلَبِيِّ: {هديناه السبيل} بَيَّنَا له وَعَرَّفْنَاهُ طريقَ الهدى والضلال، والخير والشر؛ كقوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] انتهى.
وقوله تعالى: {إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} حالان، وقسمتهما {إِمَّا}، و{الأبرار}: جمع بَارٍّ؛ قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذَّرَّ، ولا يرضون الشرَّ، قال قتادة: نعم قوم يمزجُ لهم بالكافور، ويُخْتَمُ لهم بالمسك، قال الفرَّاء: يقال إِنَّ في الجنة عيناً تسمى كافوراً.

.تفسير الآيات (6- 8):

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)}
وقوله تعالى: {عَيْناً} قيل: هو بدل من قوله: {كافورا} وقيل: هو مفعول بقوله: {يَشْرَبُونَ} أي: ماءُ هذه العين من كأس عَطِرَةٍ كالكافور، وقيل: نصب {عَيْناً} على المدح أو بإضمار أعني.
قوله تعالى: {يَشْرَبُ بِهَا} بمنزلة يشربها، فالباء زائدة؛ قال الثعلبيُّ: قال الواسطي: لَمَّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة، انتهى.
قال * ص *: وقيل: الباء في {بِهَا} للإلصاق والاختلاط، أي: يشرب بها عباد اللَّه الخمرَ؛ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعسل، انتهى.
وقوله تعالى: {يُفَجِّرُونَهَا} معناه: يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا من منازلهم وقصورهم، فهي تجري عند كُلِّ أحد منهم، ورُدَّ بهذا الأثر، وقيل: عين في دار النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تفجر إلى دُورِ الأنبياء والمؤمنين؛ قال * ع *: وهذا قول حسن، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال: {يُوفُونَ بالنذر ويخافون يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} أي: ممتدًّا مُتَّصِلاً شائعاً.
وقوله تعالى: {على حُبِّهِ} يحتمل أنْ يعودَ الضمير على الطعام، وهو قول ابن عباس، ويحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تعالى؛ قاله أبو سليمان الدَّارانيُّ.
وقوله: {وَأَسِيراً} قال الحسن: ما كان أسراهم إلاَّ مشركين؛ لأَنَّ في كل ذي كبد رطبة أجراً.
* ت *: وفي العتبيةِ سُئِلَ مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك، فقال: بل مشرك، وكان ببدر أسارى، فأنزلت فيهم هذه الآية؛ فقال ابن رشد: والأظهر حمل الآية على كل أسير، مسلماً كان أو كافراً، انتهى يعني: وإنْ كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامَّةٌ في كُلِّ أسير إلى يوم القيامة، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «{مِسْكِيناً} [قال:] فَقِيراً {وَيَتِيماً} قال: لا أَبَ لَهُ {وَأَسِيراً} قال: المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ»، وأسند القُشَيْرِيُّ في رسالته عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه قال: قال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ، وَمِفْتَاحُ الجَنَّةِ حُبُّ المَسَاكِينِ، والفُقَرَاءُ الصُّبَّرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» انتهى.
وروى الترمذيُّ عن أنس أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مِسْكِيناً، وأَمِتْنِي مِسْكِيناً، واحشرني في زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، يَا عَائِشَةُ، لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ، أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، انتهى.

.تفسير الآيات (9- 19):

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}
وقولَه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ...} الآية، قال مجاهد، وابن جبير: ما تكلموا به، ولكنه علمه اللَّه من قلوبهم، فأثنى عليهم؛ ليرغب في ذلك راغب، وَوَصْفُ اليوم بِعَبُوسٍ تَجُوُّزٌ، والقَمْطَرِيرُ: هو في معنى العبوس والإرْبِدَاد؛ تقول: اقمطر الرَّجُلُ: إذا جمع ما بين عَيْنَيْهِ. غضباً، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيلَ ما بين عينيه كالقَطِرَانِ، وَعَبَّرَ ابن عباس عن القمطرير بالطويل، وعَبَّرَ عنه غيره بالشديد؛ وذلك كله قريب في المعنى، والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون إلاَّ مع فرح النفس وقرة العين.
وقوله: {بِمَا صَبَرُواْ} عامٌّ في الصبر عنِ الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، وفي هذا يدخل كُلُّ ما خصص المفسرون من صوم، وفقر، ونحوه.
وقوله سبحانه: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً...} الآية، عبارةٌ عن اعتدال هوائها وذَهَابِ ضَرَرِيِ الحَرِّ والقَرِّ، والزَّمْهَرِير: أَشَدُّ البرد، والقطوف: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه، والقوارير: الزجاج.
وقوله تعالى: {مِّن فِضَّةٍ} يقتضي أَنَّها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن؛ لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جَوْهَرِهِ، وكذلك فضة الجنةِ شفَّافة، قال القرطبيُّ في تذكرته: وذلك أَنَّ لكل قومٍ من تراب أرضهم قَوَارِيرَ، وأَنَّ ترابَ الجنة فضة، فهي قوارير من فضة؛ قاله ابن عباس، انتهى.
وقوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً} أي: على قَدْرِ رِيِّهِمْ؛ قاله مجاهد، أو على قدر الأَكُفِّ قاله الربيع، وضمير {قَدَّرُوهَا} يعود إمَّا على الملائكة، أو على الطائفين، أو على المنعمين.
وقوله سبحانه: {عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً} {عيناً} بدل من كأس أو من عين على القول الثاني، و{سَلْسَبِيلاً} قيل: هو اسم بمعنى السَّلِسُ المنقاد الجرية، وقال مجاهد: حديدة الجرية، وقال آخرون: {سَلْسَبِيلاً} صفة لقوله: {عَيْناً} و{تسمى} بمعنى تُوْصَفُ وتشهر، وكونه مصروفاً مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسماً.
وقوله تعالى: {حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً} قال الإمام الفخر: وفي كيفية التشبيه وجوه.
أحدها: أَنَّهُم شُبِّهُوا في حسنهم، وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة باللؤلؤ المنثورِ، ولو كانوا صفًّا لَشُبِّهُوا باللؤلؤ المنظوم؛ أَلاَ ترى أَنَّهُ تعالى قال: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان} فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
الثاني: أَنَّ هذا من التشبيه العجيب؛ لأَنَّ اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسنَ في المنظر؛ لوقوع شعاع بعضه على بعض.
الثالث: أَنَّهم شُبِّهُوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه؛ لأَنَّه أحسن وأجمل، انتهى.