فصل: تفسير الآيات (109- 110):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (105- 106):

{مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)}
وقوله سبحانه: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب...} الآية: يتناول لفظُ الآيةِ كلَّ خير، والرحمةُ في هذه الآية عامَّة لجميعِ أنواعها، وقال قومٌ: الرحمة القرآن.
وقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ أَوْ نُنسِهَا...} الآية: النَّسْخُ؛ في كلام العرب، على وجهين:
أحدهما: النَّقْل؛ كنقل كتابٍ من آخر، وهذا لا مدْخَل له في هذه الآية، وورد في كتاب اللَّه تعالى في قوله: {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29].
الثاني: الإِزالةُ، وهو الذي في هذه الآية، وهو منقسمٌ في اللغة على ضَرْبَيْنِ:
أحدهما: يثبت الناسخ بعد المنسوخ؛ كقولهم: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ.
والآخر: لا يثبت؛ كقولهم: نَسَخَتِ الرِّيحُ الأَثَرَ.
وورد النسخ في الشَّرْع حسب هذَيْن الضربَيْن وحَدُّ النَّاسِخ عنْد حُذَّاق أهل السنة: الْخِطَابُ الدالُّ على ارتفاع الحُكْمِ الثَّابتِ بالخطابِ المتقدِّمِ على وجْهٍ لولاه لكان ثَابِتاً، مع تراخيه عنه.
* ت *: قال ابن الحاجِبِ: والنَسْخُ؛ لغةً: الإِزالة، وفي الاصطلاح: رفع الحُكْمِ الشرعيِّ؛ بدليلٍ شرعيٍّ متأخِّر. انتهى من مختصره الكبير.
والنسْخُ جائز على اللَّه تعالى عقلاً؛ لأنه لا يلزم عنه محالٌ، ولا تتغيرُ صفة من صفاته تعالى، وليست الأوامر متعلِّقة بالإِرادة، فيلزم من النسْخ أنَّ الإِرادة تغيَّرت، ولا النسخ؛ لطروء علْم، بل اللَّه تعالى يعلم إلى أيِّ وقت ينتهي أمره بالحكم الأول، ويعلم نسخه له بالثاني، والبَدَاءُ لا يجوزُ على اللَّه تعالى؛ لأنه لا يكون إلا لطروءِ علْمٍ أو لتغيُّر إِرادة؛ وذلك محالٌ في جهة اللَّه تعالى، وجعلت اليهود النسْخَ والبَدَاءَ واحداً، فلم يجوِّزوه، فضَلُّوا.
والمنسوخُ؛ عند أئمتنا: الحُكْم الثابتُ نفسُه، لا ما ذهْبت إِلَيْه المعتزلةُ من أنه مثل الحُكْم الثَّابت فيما يستقبلُ، والذي قادهم إلى ذلك مذهَبُهم في أنَّ الأوامر مرادةٌ، وأن الحُسْن صفةٌ نفسيَّةٌ للحَسَنِ، ومراد اللَّه تعالى حَسَنٌ، وقد قامت الأدلَّة على أنَّ الأوامر لا ترتبطُ بالإِرادة، وعلى أن الحُسْن والقُبْح في الأحكام، إِنما هو من جهة الشرع، لا بصفة نفسيَّة، والتخصيصُ من العموم يوهم أنه نسْخ، وليس به؛ لأن المخصَّص لم يتناولْه العمومُ قطُّ، ولو تناوله العموم، لكان نسخاً، والنسخ لا يجوز في الأخبار، وإِنما هو مختصٌّ بالأوامر والنواهي، ورد بعض المعترضين الأمر خبراً؛ بأن قال: أليس معناه وَاجِبٌ عَلَيْكُمْ أنْ تَفْعَلُوا كذا، فهذا خبر، والجوابُ أن يقال: إِن في ضمن المعنَى: إِلاَّ أنْ أنْسَخَهُ عنْكُم، وأرفعه، فكما تضمَّن لفظ الأمر ذلك الإِخبار؛ كذلك تضمَّن هذا الاستثناءُ، وصور النسخ تختلفُ، فقد ينسخ الأثقل إِلى الأَخَفِّ، وبالعكس، وقد ينسخ المثلُ بمثلهِ ثِقَلاً وخِفَّةً، وقد ينسخ الشيء لا إِلى بدل، وقد تُنْسَخُ التلاوة دون الحُكْم، وبالعكس، والتلاوة والحكم حكمان، فجائز نَسْخ أحدهما دون الآخر، ونسْخُ القرآن بالقرآن، وينسخ خبر الواحدِ بخبر الواحدِ؛ وهذا كله مُتَّفَقٌ عليه، وحُذَّاق الأئمَّة على أن القرآن ينسخ بالسنة، وذلك موجودٌ في قوله- عليه السلام: «لاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وهو ظاهر مسائل مالكٍ.
* ت *: ويعني بالسنةِ الناسخة للقرآن الخَبَرَ المتواترَ القطعيَّ، وقد أشار إلى أن هذا الحديث مُتَوَاتِرٌ، ذكره عند تفسير قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} [البقرة: 180]، واختلف القُرَّاء في قراءة قوله تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {نَنْسَأْهَا}؛ بنون مفتوحةٍ، وأخرى ساكنة، وسين مفتوحة، وألف بعدها مهموزةٍ، وهذا بمعنى التأخير، وأما قراءة نافعٍ والجمهورِ: {نُنْسِهَا}؛ من النسيان، وقرأَتْ ذلك فرقةٌ إِلاَّ أنها همزت بعد السين، فهذه بمعنى التأخير والنِّسْيَان في كلام العربِ يجيء في الأغلب ضدَّ الذكر، وقد يجيء بمعنى التَّرْك، فالمعاني الثلاثة مقولَةٌ في هذه القراءات، فما كان منها يترتَّب في لفظةَ النسيان الذي هو ضدُّ الذكْر، فمعنى الآية به: ما ننسَخْ من آيةٍ أو نقدِّر نسيانَكَ لَهَا، فإنَّا نأتي بخيرٍ منها لكُمْ أو مثلها في المنفعة، وما كان على معنى الترك، أو على معنى التأخيرِ، فيترتَّب فيه معانٍ، انظرها، إِنْ شئْتَ فإِنِّي آثرت الاختصار.
* ع *: والصحيح أن نسيان النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِمَا أراد اللَّه أن يَنْسَاهُ، ولم يرد أن يثبته قرآناً- جائزٌ، فأما النِّسْيَان الذي هو آفة في البشر، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم معصومٌ منْه قبل التبليغ، وبعد التبليغ، ما لم يحفظْه أحد من أصْحابه، وأما بعد أن يحفظ، فجائز علَيْه ما يجوز على البَشَر؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قد بَلَّغَ، وأدَّى الأمانة؛ ومنه الحديثُ حِينَ أَسْقَطَ آيَةً، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلاَةِ قَالَ: «أَفِي القَوْمِ أُبَيٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَلِمَ لَمْ تُذَكِّرْنِي؟ قَالَ: حَسِبْتُ أَنَّهَا رُفِعَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنِّي نُسِّيتُهَا». وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ}: معناه: التقرير، ومعنى الآية أن اللَّه تعالى ينسخ ما شاء، ويثبت ما شاء، ويفعل في أحكامه ما شاء، هو قدير على ذلك، وعلى كلِّ شيء، وهذا لإِنْكَارِ اليَهُودِ النَّسْخَ، وقوله: {على كُلِّ شَيْءٍ} عمومٌ، معناه الخصوصُ، إِذ لا تدخل فيه الصفاتُ القديمةُ؛ بدليل العقل، ولا المحالاتُ؛ لأنها ليستْ بأشياء، والشيء في كلام العرب: الموجودُ، و{قَدِيرٌ}: اسم فاعل على المبالغةِ، قال القُشَيْرِيُّ: وإِن من علم أن مولاه قديرٌ على ما يريد، قَطَعَ رجاءه عن الأغيار؛ كما قال تعالى عن إِبراهيم- عليه السلام-: {رَبَّنَا إِنَّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِى بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] قال أهل الإِشارة: معناه: سهلت طريقهم إِليك، وقطَعْت رجاءهم عن سواك، ثم قال: {لِيُقِيمُواْ الصلاة} [إبراهيم: 37] أي: شغلتهم بخدمتك، وأنت أولى بهم، {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37]، أي: إِذا احتاجوا شيئاً، فذلل عبادك لهم، وأوصل بكرمك رعايتهم إليهم؛ فإِنك على ذلك قديرٌ، وإِن من لزم بابه أوصل إليه محابَّه، وكفاه أسبابه، وذلل لهُ كلَّ صعب، وأورده كلَّ سهل عذبٍ من غير قطعِ شُقَّة، ولا تحمل مشقة انتهى من التحبير.

.تفسير الآيات (107- 108):

{أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)}
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السموات والأرض...} الآيةَ: المُلْك السلطانُ، ونفوذُ الأمرِ، والإِرادةِ، وجَمْع الضمير في {لَكُمْ} دالٌ على أن المراد بخطاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم خطابُ أمته.
وقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُواْ رَسُولَكُمْ...} الآيةَ: قال أبو العالية: إِن هذه الآية نزلَتْ حين قال بعض الصحابة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْتَ ذُنُوبَنَا جَرَتْ مجرى ذُنُوبِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي تَعْجِيلِ العُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: قَدْ أَعْطَاكُمُ اللَّهُ خَيْراً مِمَّا أعطى بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وتَلاَ: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَحِيماً} [النساء: 110]، وقال ابنُ عَبَّاس: سَبَبُهَا أنَّ رافعَ بْنَ حُرَيْمِلَةَ اليهوديَّ سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم تفجيرَ عُيونٍ، وغير ذلك، وقيل غير هذا، وما سئل موسى- عليه السلام- هو أَنْ يرى اللَّه جهرةً.
وكنى عن الإِعراض عن الإِيمان والإِقبال على الكفر بالتبدُّل، و{ضَلَّ}: أخطأ الطريق، والسواء مِنْ كل شيءٍ الوسَطُ، والمعظَمُ؛ ومنه: {فِي سَوَآءِ الجحيم} وقال حَسَّانُ بنُ ثابتٍ في رثاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم [الكامل]:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِه ** بَعْدَ المُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ

والسبيلُ: عبارة عن الشريعة التي أنزلها اللَّه تعالى لعباده.

.تفسير الآيات (109- 110):

{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)}
وقوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إيمانكم كُفَّارًا...} الآيةَ: قال ابنُ عَبَّاس: المراد ابنا أَخْطَبَ؛ حُيَيٌّ وأَبُو يَاسِرً، أي: وأتباعهما، واختلف في سبب هذه الآيةِ، فقيل: إن حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ، وعَمَّار بْنَ يَاسِرٍ أتيا بَيْتَ المِدْرَاس، فأراد اليهودُ صرْفَهما عن دينهما، فثبتا عليه، ونزلت الآية، وقيل: إن هذه الآية تابعةٌ في المعنى لما تقدَّم من نَهْيِ اللَّه عزَّ وجلَّ عن متابعة أقوال اليهود في: {راعنا} [البقرة: 104] وغيره، وأنهم لا يودُّون أن ينزل على المؤمنين خيْرٌ، ويودُّون أن يردوهم كفاراً من بعد ما تبيَّن لهم الحق، وهو نبوءة محمَّد صلى الله عليه وسلم.
* ت *: وقد جاءَتْ أحاديث صحيحةٌ في النهيِ عن الحسدِ، فمنْها حديثُ مالكٍ في الموطَّإ عن أنسٍ؛ أن رسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: «لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَاد اللَّهِ إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهُجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ» وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن الزُّبَيْر، قال: قال رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ: الحَسَدُ وَالبَغْضَاءُ، حَالِقَتَا الدِّينِ، لاَ حَالِقَتَا الشَّعْرِ» انتهى من التمهيد.
والعَفْوُ: تركُ العُقُوبةِ، والصفْح: الإِعراض عن المُذْنِبِ؛ كأنَّه يولي صفحة العُنُق، قال ابنُ عَبَّاس: هذه الآية منسوخةٌ بقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [التوبة: 29] الآيةَ إلى قوله: {صاغرون}.
وقيل: بقوله: {اقتلوا المشركين} [التوبة: 5]، وقال قوم: ليس هذا حدَّ المنسوخِ؛ لأن هذا في نفْس الأمر كان التوقيفَ على مدَّته.
* ت *: وينبغي للمؤمن أَن يتأدَّب بآداب هذه الآية، وفي الحديث عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَال: «أَلاَ أَدُلُّكُمْ على مَا يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ الدَّرَجَاتِ»؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «تَحْلُمُ على مَنْ جَهِلَ عَلَيْكَ، وَتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَتُعْطِي مَنْ حَرَمَكَ، وَتَصِلُ مَنْ قَطَعَكَ» خرَّجه النسائيُّ. انتهى من الكوكب الدرِّيِّ لأبي العبَّاس أحمد بن سعيد التُّجِيبِيِّ.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}: مقتضاه في هذا الموضِعِ: وَعْدٌ للمؤمنين.
وقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ...} الآية: قال الطبريُّ: إِنما أمر اللَّه المؤمنين هنا بالصَّلاة والزَّكاة ليحطَّ ما تقدَّم من ميلهم إِلى قول اليهودِ: {راعنا} [البقرة: 104]؛ لأنَّ ذلك نَهْيٌ عن نوعه، وقوله: {تَجِدُوهُ}، أي: تجدوا ثوابه، وروى ابن المبارك في رَقَائِقِهِ بسنده قال: «جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ إلى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَالِي لاَ أُحِبُّ المَوْتَ؟ فَقَالَ: هَلْ لَكَ مَالٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: فَقَدِّمْ مَالَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ فَإِنَّ المَرْءَ مَعَ مَالِهِ، إِنْ قَدَّمَهُ، أَحَبَّ أَنْ يَلْحَقَهُ، وَإِنْ خَلَفَهُ، أَحَبَّ التَّخَلُّفَ». انتهى.
وقوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خبرٌ في اللفظِ، معناه الوعْدُ والوعيدُ.

.تفسير الآيات (111- 115):

{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}
وقوله تعالى: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى}، معناه: قال اليهودُ: لن يدخل الجَنَّة إلاَّ مَنْ كان هُوداً، وقال النصارى: لن يدخل الجنة إِلا من كان نصارى، فجمع قولهم. ودلَّ تفريقُ نوعَيْهم على تفريقِ قولَيْهم، وهذا هو الإِيجازُ واللفُّ.
و{هُودًا}: جمعُ هَائِدٍ، ومعناه: التائبُ الراجعُ، وكذَّبهم اللَّه تعالى، وجعل قولهم أمنيَّةً، وأمر نبيَّه- عليه السلام- بدعائهم إِلى إِظهار البُرْهان، وهو الدليلُ الذي يوقع اليقينَ، وقولهم: {لَنْ} نفي حسُنت بعده بلى؛ إذ هي ردٌّ بالإيجاب في جواب النفي، حرْفٌ مرتَجَلٌ لذلك، و{أَسْلَمَ}: معناه: استسلم، وخضَع، ودان، وخص الوجْهَ بالذكْر؛ لكونه أشرف الأعضاء، وفيه يظهر أثر العِزِّ والذُّلِّ، {وَهُوَ مُحْسِنٌ}: جملة في موضعِ الحالِ.
وقوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود...} الآية: معناه: أنه ادعى كلُّ فريقٍ أنه أحقُّ برحمةِ اللَّه من الآخر، وسبب الآية أن نصارى نجران اجتمعوا مع يهود المدينةِ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فتسابُّوا، وكَفَرَ اليهودُ بعيسى وبملَّته، وبالإِنجيلِ، وكَفَر النصارى بموسى وبالتَّوراة.
* ع *: وفي هذا من فعلهم كفر كل طائفة بكتابها؛ لأن الإِنجيلَ يتضمَّن صدْقَ موسى، وتقرير التَّوْراة، والتوراةَ تتضمَّن التبشيرَ بعيسى، وكلاهما يتضمَّن صدْقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فعنفهم اللَّه تعالى على كذبهم، وفي كتبهم خلافُ ما قالوا.
وفي قوله تعالى: {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} تنبيهٌ لأمة محمَّد صلى الله عليه وسلم على ملازمة القُرْآن، والوقوف عند حدوده، والكتَابُ الذي يتلونه، قيل: هو التوراةُ والإِنجيل، فالألف واللام للْجِنْسِ، وقيل: التوراةِ؛ لأن النصارى تمتثلُها.
وقوله تعالى: {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} يعني: كفار العَرَبِ؛ لأنهم لا كتابَ لهم، {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة...} الآية، أي: فيثيب من كان على شيءٍ، ويعاقب من كان على غَيْر شيء، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله...} الآيةَ، أي: لا أحد أظلم من هؤلاء، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: المراد النصارَى الذين كانِوا يؤذون من يصلِّي ببَيْت المَقْدِسِ، وقال ابن زَيْد: المراد كُفَّار قُرَيْش حين صدُّوا رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن المسجِدِ الحرامِ، وهذه الآية تتناوَلُ كلَّ من منع من مسجد إِلى يوم القيامة.
وقوله سبحانه: {أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ...} الايةَ: فمن جعل الآية في النصارى، روى أنَّه مَرَّ زمَنٌ بعْد ذلك لا يدخل نصرانيٌّ بيْتَ المَقْدِس إِلا أوجع ضرباً، قاله قتادةُ والسُّدِّيُّ، ومن جعلها في قريش، قال: كذلك نودي بأمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَلاَّ يَحُجَّ مُشْرِكٌ، وَأَلاَّ يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيَانٌ؛ و{أَيْنَمَا} شرط، و{تُوَلُّواْ} جزمٌ به، و{ثَمَّ}: جوابه، و{وَجْهُ الله}: معناه: الذي وجَّهنا إِلَيْه كما تقولُ: سافَرْتُ في وجه كذا، أي: في جهة كذا، ويتجه في بعض المواضِعِ من القرآن كهذه الآية أن يراد بالوجْهِ الجِهَةُ الَّتي فيها رضَاهُ، وعلَيْها ثوابُه؛ كما تقول تصدَّقت لوجْهِ اللَّهِ، ويتَّجه في هذه الآية خاصَّة أن يراد بالوجه الجهةُ الَّتي وجهنا إليها في القبلة، واختلف في سبب نزولِ هذه الآيةِ، فقال ابنُ عُمَرَ: نزلَتْ هذه الآية في صلاة النافلةِ في السفَرِ، حيث توجَّهت بالإِنسان دابَّته، وقال النَّخَعِيُّ: الآية عامَّة، أينما تولوا في متصرَّفاتكم ومساعِيكُمْ، فثَمَّ وجْه اللَّه، أي: موضع رضاه وثوابه، وجهة رحمته الَّتي يوصِّل إِليها بالطاعة، وقال عبد اللَّه بن عامِرِ بنِ ربيعَةَ: نَزَلَتْ فيمن اجتهد في القبلة، فأخطأ، ووَرَدَ في ذلكَ حديثٌ رواه عامرُ بْنُ رَبِيعَةَ، قال: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فتحرى قَوْمٌ الْقِبْلَةَ، وأَعْلَمُوا عَلاَمَاتً، فَلَمَّا أَصْبَحُوا، رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ أَخْطَئُوهَا، فَعَرَّفُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ، فَنَزلَت هَذِهِ الآية».
وقيلَ: نزلت الآية حين صُدَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم عن البَيْتِ.
و{واسع}: معناه مُتَّسِعُ الرحمة، {عَلِيمٌ} أين يضعها، وقيل: {واسع}: معناه هنا أنه يوسِّع على عباده في الحُكْم دينُهُ يُسْرٌ، {عَلِيمٌ} بالنيَّات التي هي ملاكُ العمل.