فصل: تفسير الآيات (11- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (11- 12):

{وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)}
وقوله سبحانه: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَاءَهُ بالخير وَكَانَ الإنسان عَجُولاً}: سقطت الواوُ من {يَدْعُ} في خطِّ المصحف.
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلَتْ ذامَّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغَضَبَ والضَّجَر، فأخبر سبحانه أنهم يدْعُون بالشرِّ في ذلك الوقتِ، كما يدعون بالخير في وقت التثبُّت، فلو أجاب اللَّه دعاءهم، أهلكهم، لكَّنه سبحانه يصفَحُ ولا يجيبُ دعاء الضَّجر المستعجل، ثم عَذَرَ سبحانه بعض العُذْرَ في أن الإِنسان له عَجَلة فطرية، {الإنسان} هنا: يراد به الجنْس؛ قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن عباس وسليمان: الإِشارة إِلى آدم لما نفخ الرَّوح في رأسه، عَطَس وأبصر، فلما مشى الرُّوح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك، فلم يقدر، والمعنى؛ على هذا فأنتم ذَوُوا عجَلةٍ موروثةٍ من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية: معاتبة الناس في دعائهم بالشرِّ مكانَ ما يجبُ أنْ يدعوه بالخير.
* ت *: قول هذه الفرقة نقله * ع * غير ملخَّص، فأنا لخَّصته.
وقوله سبحانه: {وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ...} الآية هنا العلامةُ المنْصُوبة للنَّظَر والعِبْرة.
وقوله سبحانه: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اليل} قالتْ فيه فرقة: سببُ تعقيب الفاء أن اللَّه تعالى خَلَق الشمْسَ والقَمَر مضيئَيْنِ، فمحا بعد ذلك القَمَرَ، محاه جبريلُ بجناحه ثلاثَ مرَّات، فمِنْ هنالك كَلَفُهُ، وقالت فرقة: إِن قوله: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اليل} إِنما يريدُ في أصْلِ خلقته، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً}، أي: يُبْصَرُ بها ومعها، ليبتغي الناس الرزَقَ وَفَضْلَ اللَّهِ، وجعَلَ سبحانه القمَرَ مخالفاً لحالِ الشمْسِ؛ ليعلم به العدَدُ من السنينَ والحسابُ للأشهرِ والأيامِ، ومعرفةُ ذلك في الشرْعِ إِنما هو من جهة القمرِ، لا من جهة الشمس، وحكى عياضٌ في المدارك في ترجمة الغازي بن قَيْس قال: روي عن الغازي بن قَيْس؛ أنه كان يقول: ما مِنْ يومٍ يأتي إِلاَّ ويقولُ: أَنَا خَلْقٌ جَدِيد، وعَلَى مَا يُفْعَلُ فيَّ شَهِيد، فَخُذُوا مِنِّي قَبْلَ أنْ أَبِيد، فإِذا أمْسى ذلك اليومُ، خَرَّ للَّهِ ساجِداً، وقال: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلنِي الَيْوَم العَقيم. انتهى. والتفصيل البيان.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)}
وقوله سبحانه: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره} قال ابن عباس: {طائره} ما قُدِّر له وعليه، وخاطب اللَّه العربَ في هذه الآية بما تَعْرِف، وذلك أنه كان مِنْ عادتها التيمُّنُ والتشاؤم بالطَّيْر في كونها سانحةً وبارحةً، وكَثُر ذلك حتَّى فعلته بالظِّباء وحيوانِ الفَلاَ، وسمَّت ذلك كلَّه تَطَيُّراً، وكانتْ تعتقدُ أنَّ تلك الطِّيَرَةَ قاضية بما يلقي الإِنسان من خيرٍ وشرٍّ، فأخبرهم اللَّه تعالى في هذه الآية بأوجز لفظٍ، وأبلغِ إشارةٍ، أن جميع ما يلقى الإنسانُ من خير وشر قد سَبَقَ به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسُّبه في عنقه، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: {وَكُلَّ إنسان ألزمناه طائره فِي عُنُقِهِ}، فعَّبر عن الحظِّ والعمل؛ إِذ هما متلازمانِ، بالطائر؛ قاله مجاهد وقتادة: بحسب معتقد العرب في التطيُّرِ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كتابا يلقاه مَنْشُوراً}: هذا الكتابُ هو عمل الإِنسان وخطيئاته، {اقرأ كتابك} أي: يقال له: اقرأ كتابك، وأسند الطبريُّ عن الحسن، أنه قال: يا بْنَ آدم بُسِطَتْ لك صحيفةُ، ووُكِلَ بك مَلَكَانِ كريمانِ؛ أحدهما عن يمينِكَ يكتُبُ حسناتِكَ، والآخر عن شمالِكَ يحفظُ سيئاتكَ، فأَمْلِلْ ما شئْتَ وأقلِلْ أو أكِثْر حتَّى إِذا مُتَّ طُوِيَتْ صحيفتُكَ فجعلَتْ في عنقك معَكَ في قَبْرك حتى تَخْرُجَ لك يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً {اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيبًا} قد عَدَلَ واللَّه فيكَ، مَنْ جعلك حسيبَ نَفْسك.
قال * ع * فعلى هذه الألفاظِ التي ذكر الحسنُ يكون الطائرُ ما يتحصَّل مع ابْنِ آدم من عمله في قَبْره، فتأمَّل لفظه، وهذا قول ابن عباس، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك: إِنه سيقرأ يومئذ من لم يكُنْ يقرأ.

.تفسير الآيات (16- 20):

{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19) كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قرأ الجمهور: {أَمَرْنَا}؛ على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: {آمَرْنَا} بمد الهمزة؛ بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: {أَمَّرْنَا} بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري القراءة الأولى معناها: أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس وابنِ جبير، والثانية: معناها: كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى.
* ت *: وعبارة ابن العربي: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، والمترف الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: {قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها}.
وقوله سبحانه: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول}، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، والتدميرُ الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء.
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون...} الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: «وضع رسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم يَدَهُ على رأسه، وقال: سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قَرْناً قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة» قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كملِ مِائَةَ سنةٍ، ثم ماتَ رحمه الله.
والباء في قوله: {بِرَبِّكَ} زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء كَفَى دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]
.................................... ** كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا

وكقول الآخر: [الطويل]
وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ ** كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا

وقوله سبحانه: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ...} الآية: المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه؛ على قراءة النون، أو ما يشاء هذا المريدُ؛ على قراءة الباء، وقوله: {لِمَن نُّرِيدُ} شرط كافٍ على القراءتين، وقال ابن إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه، والمدحورُ المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه.
وقوله سبحانه: {وَمَنْ أَرَادَ الأخرة}، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمُة أعمالِ الخير على حُكْم الشرع، {فأولئك كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} ولا يشكر اللَّه سعياً ولا عملاً إِلا أثابَ عليه، وغَفَر بسببه؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في حديثِ الرجُلِ الذي سَقَى الكَلْبَ العاطِشَ: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ له».
وقوله سبحانه: {كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} يحتملُ أنْ يريد ب العطاء الطاعات لمريد الآخرةِ، والمعاصي لمريد العاجلةِ، وروي هذا التأويل عن ابن عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزقَ الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة، المعنى أنه سبحانه يرزقُ في الدنيا من يريد العاجلَة ومريدَ الآخرة، وإِنما يقع التفاضُلُ والتبايُنُ في الآخرةِ، ويتناسَبُ هذا المعنى مع قوله: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}، أي: ممنوعاً، وقَلَّمَا تصلح هذه العبارةُ لمن يُمَدّ بالمعاصي.

.تفسير الآيات (21- 22):

{انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآَخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)}
وقوله: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} الآية تُدلُّ دلالةً ما على أن العطاء في التي قبلها الرْزُق، وباقي الآية معناه أوضَحُ من أن يبيَّن.
وقوله سبحانه: {لاَّ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} هذه الآية خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم والمراد لجميعِ الخلقِ، قاله الطبري وغيره، ولا مريةَ في ذمِّ مَنْ نحت عوداً أو حجراً، وأشركه في عبادة ربه.
قال * ص *: {فَتَقْعُدَ}، أي: فتصير؛ بهذا فسره الفراء وغيرهُ ا ه.
والخذلان؛ في هذا بإِسلام اللَّه لعبده، ألا يتكفَّل له بنصرٍ، والمخذولُ الذي أسلمه ناصروه، والخَاذِل من الظباء التي تتركُ ولدها.

.تفسير الآيات (23- 28):

{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28)}
وقوله سبحانه: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه...} الآية: {قَضَى}، في هذه الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم؛ وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقَضَى ربك أمره، فالمقضِيُّ هنا هو الأمْرُ، وفي مصحفِ ابن مسعود: {وَوَصَّى رَبُّكَ}، وهي قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في {تَعْبُدُواْ} لجميع الخلق؛ وعلى هذا التأويل مضى السلفُ والجمهور، ويحتمل أنْ يكون {قَضَى} على مشهورها في الكلامِ، ويكون الضمير في {تَعْبُدُواْ} للمؤمنين من الناس إِلى يوم القيامة.
وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} معنى اللفظة أنها اسمُ فعل؛ كأن الذي يريد أن يقول: أَضْجَرُ أو أتقذَّرُ أو أكْرَه، ونحوَ هذا، يعبِّر إيجازاً بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعْل المذكورِ، وإذا كان النهْيُ عن التأفيفِ فما فوقه من باب أحَرى، وهذا هو مفهومُ الخِطَابِ الذي المسكُوتُ عنه حُكْمُهُ حكْمُ المذكور.
قال * ص *: وقرأ الجمهور {الذل} بضم الذال، وهو ضد العِزِّ، وقرأ ابن عباس وغيره بكسرها، وهو الانقيادُ ضدُّ الصعوبة انتهى، وباقي الآية بيِّن.
قال ابن الحاجب في منتهى الوُصول، وهو المختصَرُ الكَبِير: المفهومُ ما دَلَّ عليه اللفظُ في غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهومُ مخالفة، فالأول: أنْ يكون حُكْمُ المفهومِ موافقاً للمنطوق في الحُكْم، ويسمَّى فَحْوَى الخطابِ، ولَحْنَ الخِطَابِ، كتحريم الضَّرْبِ من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} وكالجَزَاء بما فَوْقَ المِثْقالِ من قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 8]، وكتأديةِ ما دُونَ القْنطار من قوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى: {بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحُكم في المسكوتِ أولى، وإِنما يكون ذلك إِذا عُرِفَ المقصودُ من الحُكْم، وأنه أشدُّ مناسبةً في المسكوت؛ كهذه الأمثلة، ومفهومُ المخالفة: أنْ يكونَ المَسْكُوتُ عنه مخالفاً للمنطوقِ به في الحُكْم ويسمَّى دليلَ الخطاب وهو أقسامٌ: مفهومُ الصفة؛ مثل: في الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ، ومفهومُ الشرط، مثل: {وَإِن كُنَّ أولات حَمْلٍ} [الطلاق: 6] ومفهوم الغاية، مثل: {حتى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ومفهوم إنَّما مثل: إنما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ ومفهومُ الاستثناء مِثل: لا إله إلا الله ومفهوم العددِ الخاصِّ، مثلَ: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، ومفهومُ حَصَرْ المبتدإِ مثل: العِالمُ زَيْد، وشرطُ مفهومِ المخالفة عْند قائله ألاَّ يظهر أن المسكوتَ عنه أولى ولا مساوياً؛ كمفهومِ الموافَقَةِ، ولا خرج مَخْرَجَ الأعمِّ الأغلب، مثل: {وَرَبَائِبُكُمُ الاتي فِي حُجُورِكُم} [النساء: 23] فأما مفهومُ الصفةِ، فقال به الشافعيُّ، ونفاه الغَزَّاليُّ وغيره. انتهى.
وفسَّر الجمهوُرُ الأوَّابين بالرَّجَّاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عُرْفُها أهْلَ الصلاح.
* ت *: قال عَبْدُ الحقِّ الأشَبِيليُّ: وأعَلَمْ أنَّ الميت كالحيِّ فيما يُعْطَاه ويُهْدى إِليه، بل الميت أكثر وأكثر؛ لأن الحي قد يستقلُّ ما يُهْدَى إِليه، ويستحقرُ ما يُتْحَفُ به، والميت لا يستحقر شيئاً من ذلك، ولو كان مقدارَ جناحِ بعوضةٍ، أو وزْنَ مثقالِ ذرةٍ، لأنه يعلم قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيَّعه، وقد قال عليه السلام: «إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عَمَلُهُ إِلاَّ مِنْ ثَلاِتٍ: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فهذا دعاءُ الولدِ يصلُ إِلى والده، وينتفعُ به، وكذلك أمره عليه السلام بالسَّلاَمِ على أهْلِ القُبُورِ والدعاءِ لهمْ ما ذاك إِلا لكونِ ذلك الدعاءِ لهُمْ والسلام عليهمْ، يصلُ إليهم ويأتيهم، والله أعلم، وروي عنه عليه السلام؛ أنه قال: «لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا» والأخبارُ في هذا الباب كثيرةٌ انتهى من العاقبة.
* ت *: وروى مالك في الموطإ عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيَّب، أنه قال: كان يقال: إِن الرجُلَ ليُرْفَعُ بدعاءِ ولده من بعده وأشارَ بيَدِهِ نحو السماء. قال أبو عمرو: وقد رُوِّينَاه بإسناده جيِّدٍ، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ العَبْدَ الدَّرَجَةَ، فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّى لي هَذِهِ الدَّرَجَةُ؟ فَيقالُ: باسْتِغْفَارَ وَلَدِكَ لَكَ» انتهى من التمهيد، وروِّينا في سنن أبي داود؛ «أنَّ رجُلاً مِنْ بني سَلَمَةَ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ، أَبُّرُهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما وإِنْفَاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصَلَةُ الرَّحِمِ التي لاَ تُوَصَلُ إِلاَّ بِهمَا، وإِكْرَامُ صَدِيِقِهَما» انتهى.
وقوله سبحانه: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل...} الآية: قال الجمهورُ: الآية وصيةٌ للنَّاس كلِّهم بصلة قرابتهم، خوطِبَ بذلك النبيُّ صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة، والحَقُّ، في هذه الآية، ما يتعيَّن له؛ مِنْ صلة الرحم، وسدِّ الخُلْة، والمواساةِ عند الحاجة بالمالِ والمعونةِ بكلِّ وجْه؛ قال بنحو هذا الحسنُ وابن عباس وعكرمة وغيرهم، والتبذير إِنفاق المال في فسادٍ أو في سرفٍ في مباحٍ.
وقوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ}، أي: عمَّن تقدَّم ذكره من المساكين وابن السبيل، {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا}، أي: فيه ترجيةٌ بفضل اللَّه، وتأنيسٌ بالميعاد الحسنِ، ودعاءٌ في توسعة اللَّه وعطائه، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقولُ بَعْدَ نزولِ هذه الآية، «إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي: يَرْزُقُنا اللَّهُ وإيَّاكُمْ مِنْ فضله» وال {رَحْمَةٍ} على هذا التأويل: الرزق المنتظر، وهذا قول ابن عباس وغيره، والميسور: من اليسر.