فصل: تفسير الآيات (16- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة والنجم:

وهي مكية بإجماع.
وهي أول سورة أعلن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهر بقراءتها في الحرم والمشركون يستمعون وفيها سجد وسجد معه المومنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنة من تراب إلى جبهته وقال يكفيني هذا.
والذي خرجه البخاري في صحيحه عن ابن مسعود فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد من خلفه إلا رجلا رأيته أخذ كفا من تراب فسجد عليه فرأيته بعد ذلك قتل كافرا وهو أمية بن خلف انتهى.
وسبب نزولها أن المشركين قالوا: إن محمدا يتقول القرآن ويختلق أقواله فنزلت السورة في ذلك.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)}
قوله عز وجل: {والنجم إِذَا هوى * مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} الآية، قال الحسن وغيره: النجم المُقْسَمُ به هنا: اسمُ جنس، أراد به النجوم، ثم اختلفوا في معنى {هوى} فقال جمهور المفسرين: هَوَى للغروب، وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبيِّ: هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان: النجم في قسم الآية: الثُّرَيَّا، وسُقُوطُهَا مع الفجر هو هوِيُّها، والعرب لا تقول: النجم مطلقاً إِلاَّ للثُّرَيَّا، والقسم واقع على قوله: {مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى}.
* ص *: {إِذَا هوى} أبو البقاء: العامل في الظرف فِعْلُ الَقَسَمِ المحذوفِ، أي: أقسم بالنجم وَقْتَ هَوِيِّهِ، وجوابُ القَسَمِ: {مَا ضَلَّ}، انتهى، قال الفخر: أكثر المفسرين لم يُفَرِّقُوا بين الغَيِّ والضلال، وبينهما فرق؛ فالغيُّ: في مقابلة الرُّشْدِ، والضلال أَعَمُّ منه، انتهى. {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى}: يريد محمداً صلى الله عليه وسلم أَنَّه لا يتكلم عن هواه، أي: بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطقُ القرآنَ المُنَزَّلَ عن هوى.
* ت *: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.

.تفسير الآيات (4- 10):

{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)}
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يوحى} يراد به القرآن بإجماع.
* ت *: وليس هذا الإِجماع بصحيح، ولفظُ الثعلبيِّ {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ} أي: ما نُطْقُهُ في الدِّينِ إلاَّ بوحي، انتهى، وهو أحسن إِنْ شاء اللَّه، قال الفخر: الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معانٍ: منها الإرسال، والإِلهام، والكتابة، والكلام، والإِشارة، فإنْ قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أنْ يُقَالَ: مصدر، أي: ما القرآن إلاَّ إرْسَالٌ، أي: مُرْسَلٌ، وَإِنْ قلنا: المراد من قوله: {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ} قولُ محمد وكلامُه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه مُلْهَمٌ من اللَّه أو مرسل، انتهى، والضمير في {عَلَّمَهُ} لنبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، والمُعَلِّمُ هو جبريل عليه السلام قاله ابن عباس وغيره، أي: عَلَّم محمداً القرآن، و{ذُو مِرَّةٍ} معناه: ذو قُوَّة؛ قاله قتادة وغيره؛ ومنه قوله عليه السلام: «لاَ تَحِلَّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ، سَوِىّ» وَأصْلُ المِرَّةِ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، وهي فتله وإحكام عمله.
وقوله: {فاستوى} قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى؛ إذ رآه رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمد عليه السلام حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ.
وقوله: {ثُمَّ دَنَا فتدلى} قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، و{دَنَا} أعمُّ من {تدلى} فَبَيَّنَ تعالى بقوله: {فتدلى} هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، و{قَابَ}: معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره: معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد: من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ.
وقوله: {أَوْ أدنى} معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس: أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين.
وقوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} قال ابن عباس: المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: {مَا أوحى} إبهام على جهة التفخيم والتعظيم؛ قال عياض: ولما كان ما كَاشَفَهُ عليه السلام من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى} وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإِيجاز، انتهى.

.تفسير الآيات (11- 15):

{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)}
وقوله سبحانه: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} المعنى: لم يُكَذِّبْ قلبُ محمد الشيء الذي رأى، بل صَدَّقَهُ وتحقَّقَهُ نظراً؛ قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره: رأى محمد اللَّهَ بفؤاده، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «جَعَلَ اللَّهُ نُورَ بَصَرِي في فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِيَ»، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يُكَذِّبْ ذلك قلبُه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روِي عنه: إنَّ محمداً رأى رَبَّه بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأنكرت ذلك عَائِشَةُ، وقالت: أنا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عَنْ هذه الآياتِ فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ فِيهَا كُلِّها» قال * ع *: وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قاطعٌ بكُلِّ تأويل في اللفظ؛ لأَنَّ قول غيرها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ من ألفاظ القرآن.
وقوله سبحانه: {أفتمارونه على مَا يرى} قرأ حمزة والكسائيُّ {أَفَتَمْرُونَهُ} بفتح التاء دون ألف، أي: أفتجحدونه.
* ت *: قال الثعلبيُّ: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنَّهم لا يمارونه، وإنَّما جحدوه، واخْتُلِفَ في الضمير في قوله: {وَلَقَدْ رَءَاهُ} حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور: هو عائد على جبريل، و{نَزْلَةً} معناه: مَرَّة أخرى، فجمهور العلماء أَنَّ المَرْئِيَّ هو جبريل عليه السلام في المرتين، مَرَّةً في الأرض بحراءَ، ومرَّةً عند سِدْرَةِ المُنْتَهَى ليلةَ الإسراء، ورآه على صورته التي خُلِقَ عليها، وسِدْرَةُ المُنْتَهَى هي: شجرة نَبْقٍ في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى؛ لأَنَّها إليها ينتهي عِلْمُ كُلِّ عالم، ولا يعلم ما وراءها صَعَداً إلاَّ اللَّهُ عز وجل، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّها إليها ينتهي مَنْ مات على سُنَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم قال * ع *: وهم المؤمنون حقًّا من كل جيل.
وقوله سبحانه: {عِندَهَا جَنَّةُ المأوى} قال الجمهور: أراد سبحانه أَنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السدرة، ويُشَرِّفَهُ بِأَنَّ جنة المأوى عندها، قال الحسن: هي الجنة التي وُعِدَ بها المؤمنون.

.تفسير الآيات (16- 25):

{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى (25)}
وقوله سبحانه: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية؛ لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ». وقوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر} قال ابن عباس: معناه: ما جال هكذا ولا هكذا.
وقوله: {وَمَا طغى} معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه.
وقوله: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبِّهِ الكبرى} قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود: رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سَدَّ الأفق.
* ت *: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه؛ دليلهُ قوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ ءاياتنا}، [الإسراء: 1] الآية، قال عِيَاضٌ: وقوله تعالى: {لَقَدْ رأى مِنْ ءايات رَبِّهِ الكبرى} انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام اللَّه بتزكية جملته عليه السلام وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه؛ فقلبه بقوله تعالى: {مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى} [النجم: 11]، ولسانَهُ عليه السلام بقوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3]، وبصرَهُ بقوله تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} اه.
ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: {أَفَرَءَيْتُمُ اللات والعزى...} الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} ثم قال تعالى على جهة الإنكار: {تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} أي: عوجاء؛ قاله مجاهد، وقيل: جائرة قاله ابن عباس، وقال سفيان: معناه: منقوصة، وقال ابن زيد: معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف؛ قال أبو حيان: و{الثالثة الأخرى} صفتان لمناة؛ للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين؛ لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح.
* ت *: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ؛ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى.
ثم قال تعالى: {إِنْ هي إِلاَّ أَسْمَاءٌ} يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، {وَمَا تَهْوَى الأنفس} وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل؛ لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: {أَمْ للإنسان} اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم أَيُّهَا الكَفَرَةُ مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا {فَلِلَّهِ الأخرة والأولى} أي: له كل أمرهما: مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ في كتاب عيوب النفس: ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.

.تفسير الآيات (26- 32):

{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)}
وقوله سبحانه: {وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ...} الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، {وَكَمْ} للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر {لاَ تُغْنِى} والغِنَى جَلْبُ النفع ودَفْعُ الضُّرِّ بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة} يعني: كُفَّارَ العرب.
وقوله: {وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئاً} أي: في المُعْتَقَدَاتِ، والمواضع التي يريد الإنسانُ أَنْ يُجَرِّرَ ما يَعْقِلُ ويعتقد؛ فَإنَّهَا مواضع حقائق، لا تنفعُ الظنونُ فيها، وَأَمَّا في الأحكام وظواهرها فيجتزئ فيها بالمظنونات.
ثم سَلَّى سبحانه نَبِيَّه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكَفَرَةِ.
وقوله: {عَن ذِكْرِنَا} قال الثعلبيُّ: يعني القرآن.
وقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، والحُسْنَى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقلُ الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحريرُ القول في الكبائر أَنَّها كُلُّ معصيةٍ يوجد فيها حَدٌّ في الدنيا أو تَوَعُّدٌ عليها بِالنَّارِ في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا.
وقوله: {إِلاَّ اللمم} هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى {اللمم} فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم: اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها؛ لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان، وقال ابن عباس: معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن أَنَّهُ قال: في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال * ع *: وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى؛ إذِ الغالب في المؤمنين مواقعةُ المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلى الله عليه وسلم: [الرجز]
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا ** وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا

وقوله سبحانه: {إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين.
وقوله سبحانه: {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ} ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ.
* ت *: قال صاحِبُ الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ: أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها؛ لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة، وشهوة الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ عَدَمُ الرضا منك عنها؛ قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس: أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب؛ وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا؛ كما قيل: [الطويل]
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ** وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تُبْدِي المَسَاوِيَا

انتهى.