فصل: تفسير الآيات (198- 199):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (198- 199):

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ...} الآية: الجُنَاحُ: أعم من الإِثم؛ لأنه فيما يقتضي العقابَ، وفي ما يقتضي الزجْرَ والعتاب.
و{تَبْتَغُواْ}: معناه: تَطْلبوا، أي: لا دَرك في أنْ تتجروا وتطلبوا الربْحَ.
وقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات}: أجمع أهْل العْلمِ على تمامِ حجِّ من وقف بعرفاتٍ بعد الزوال، وأفاض نهاراً قبل الليل إِلا مالك بن أنس، فإِنه قال: لابد أن يأخذ من الليل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة ليلاً، فلا خلافَ بيْن الأمَّة في تمام حَجِّه.
وأفاض القومُ أو الجيشُ، إِذا اندفعوا جملةً، واختلف في تسميتها عرفةَ، والظاهر أنه اسم مرتجلٌ؛ كسائر أسماء البقاع، وعرفةُ هي نَعْمَانُ الأَرَاكِ، والمَشْعَر الحَرَامُ جمعٌ كله، وهو ما بين جبلَيِ المزدَلِفَةِ من حَدِّ مفضى مَأْزِمَي عرفَةَ إِلى بطن مُحَسِّرٍ، قاله ابن عبَّاس وغيره، فهي كلُّها مشعر إِلا بطن مُحَسِّرٍ؛ كما أن عرفة كلُّها موقف إِلا بطن عُرَنَةَ بفتح الراء وضمها، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ، والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَشْعرٌ، أَلاَ وارتفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ»، وذكر هذا عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ في خطبته، وذِكْرُ اللَّه تعالى عند المشعر الحرام ندْبٌ عند أهل العلْم، قال مالك: ومن مَرَّ به، ولم ينزلْ، فعليه دَمٌ.
وقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} تعديد للنعمة، وأمر بشكرها.
* ص *: {كَمَا هَدَاكُمْ}: الكاف للتشبيهِ، وهو في موضع نصْبٍ على النعت لمصدرٍ محذوفٍ، ومَا مصدريةٌ، أي: كهدايتِهِ، فتكون مَا وما بعدها في موضع جَرٍّ، إِذ يَنْسَبِكُ منْها مع الفعل مصْدَرٌ، ويَحتملُ أن تكون للتعليلِ على مذهب الأخفش، وابن بَرْهَانَ، وجوَّز ابن عطيَّة وغيره، أنْ تكون مَا كافَّة للكاف عن العَمَل، والأول أولى؛ لأن فيه إِقرار الكافِ على عملها الجرّ، وقد منع صاحبُ المستوفى أنْ تكون الكافُ مكفوفةً ب مَا؛ واحتج من أثبته بقوله: [الوافر]
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ** كَمَا النِّسْوَانُ وَالرَّجُلُ الْحَلِيمُ

أُريدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ** وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ

انتهى.
ثم ذكّرهم سبحانه بحالِ ضلالهم؛ ليظهر قدر إِنعامه عليهم.
{وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ}، أي: من قبل الهدى.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المخاطب بهذه الآيةِ قريشٌ، ومن وَلَدَتْ، قاله ابن عبَّاس وغيره، وذلك أنهم كانوا لا يخرجُونَ من الحَرَم، ويَقِفُون بجَمْعٍ، ويفيضون منْه، مع معرفته أنَّ عرفة هي موقفُ إِبراهيم، فقِيلَ لهم: أفيضُوا من حيثُ أفاضَ النَّاس، أي: من عرفة، {ثُمَّ} ليست في هذه الآية للترتيبِ، إِنما هي لعطف جملة كلامٍ على جملة هي منها منقطعةٌ.
وقال الضَّحَّاك: المخاطب بالآيةِ جملةُ الأمَّة، والمرادُ بالناسِ إبراهيم، ويحتملُ أن تكون إِفاضةً أخرى، وهي التي من المزدلفة، وعلى هذا عوَّل الطَبريُّ، فتكون {ثُمَّ} على بابها، وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر: {النَّاسِي}، وتأوَّله آدم- عليه السلام-، وأمر عز وجل بالاستغفار؛ لأنها مواطنه، ومظَانُّ القبولِ، ومساقطُ الرحْمَةِ، وفي الحديث أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ، فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ»، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ، خَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ».

.تفسير الآيات (200- 202):

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم}... الآية.
قال مجاهد: المناسكُ: الذبائحُ، وهي إِراقة الدِّماء.
* ع *: والمناسكُ عندي العباداتُ في معالمِ الحجِّ، ومواضع النسك فيه.
والمعنى: إِذا فرغتُمْ من حجِّكم الذي هو الوقوفُ بعرفة، فاذكروا اللَّه بمحامده، وأثْنُوا عليه بآلائه عندكم، وكانت عادَةُ العَرَبِ، إِذا قَضَتْ حجَّها، تقفُ عند الجَمْرة تتفاخَرُ بالآباء، وتذكر أيام أسلافها؛ من بَسَالةٍ، وكَرَم، وغير ذلك، فنزلَتِ الآية، أنْ يُلْزِموا أنفسهم ذكر الله تعالى أكثر من التزامهم ذكر آبائهم بأيامِ الجاهلية، هذا قول جمهور المفسِّرين.
وقال ابن عبَّاس، وعطاء: معنى الآيةِ: واذكروا اللَّه؛ كذكر الأطفال آباءهم، وأمهاتهمْ، أي: فاستغيثوا به، والْجئوا إِليه.
قال النوويُّ في حليته: والمرادُ من الذِّكْر حضورُ القَلْب، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر، فيحرص على تحصيله، ويتدبَّر ما يذكر، ويتعقَّل معناه، فالتدبُّر في الذكْر مطلوبٌ؛ كما هو مطلوب في القراءة؛ لاشتراكهما في المعنَى المقصود، ولهذا كان المذهبُ الصحيحُ المختارُ استحبابَ مَدِّ الذاكرِ قوله: «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ»، لما فيه من التدبُّر، وأقوالُ السلفِ، وأئمةِ الخَلَف في هذا مشهورةٌ. انتهى.
قال الشيخُ العارفُ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ الساحليُّ المَالقِيُّ: ومنفعةُ الذكْرِ أبداً إِنما هي تَتْبع معناه بالفكْرِ؛ ليقتبس الذاكِرُ من ذُكْرِهِ أنوار المعرفة، ويحصل على اللُّبِّ المراد، ولا خير في ذِكْرٍ مع قَلْبٍ غافلٍ ساهٍ، ولا مع تضْييعِ شيءٍ من رسوم الشرعِ، وقال في موضعٍ آخر من هذا الكتاب الذي ألَّفه في السُّلوك: ولا مَطْمع للذَّاكر في دَرْكِ حقائقِ الذِّكْرِ إِلا بإِعمال الفكْر فيما تحْت ألفاظ الذكْر من المعانِي، وليدفع خَطَرات نفْسه عن باطنه راجِعاً إِلى مقتضى ذكْره؛ حتى يغلب معنى الذكْر على قلبه، وقد آن له أنْ يدخل في دائرة أهْل المحاضَرَات. انتهى.
وقوله تعالى: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا...} الآية: قال أبو وائلٍ وغيره: كانت عادتهم في الجاهلية الدُّعَاءَ في مصالحِ الدنْيا فقطْ؛ إذ كانوا لا يعرفون الآخرةَ، فَنُهُوا عن ذلك الدعاءِ المخصوصِ بأمر الدنيا، وجاء النهْيُ في صيغة الخبر عنه، والخَلاَقُ: الحظُّ، والنصيبُ.
قال الحسنُ بْنُ أبي الحَسَن: حَسَنَةُ الدنيا: العلْمُ والعبَادة.
* ع *: واللفظ أَعمُّ من هذا، وحَسَنةُ الآخِرة الجنَّة؛ بإِجماع، وعن أنس: قال: كان أكثر دعاءِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» رواه البخاريُّ ومسلم وغيرهما، زاد مسلمٌ: «وكَانَ أَنَسٌ، إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ بِدُعَاءٍ دَعَا بِهَا فِيهِ». انتهى.
{أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} وعْدٌ على كسْب الأعمال الصالحة، والربُّ سبحانه سريعُ الحسابِ؛ لأنه لا يحتاجُ إِلى عقْد، ولا إِعمال فكْر، قيل لعليٍّ- رضي اللَّه عنه-: كيف يحاسِبُ اللَّه الخلائِقَ في يَوْمٍ، فقال: كما يَرْزُقُهُمْ فِي يومٍ، وقيل: الحسابُ هنا: المجازاتُ.
وقيل: معنى الآية: سريعُ مجيءِ يومِ الحسابِ، فيكون المقصدُ بالآية الإِنذارَ بيَوْم القيامة.

.تفسير الآيات (203- 205):

{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
وقوله تعالى: {واذكروا الله فِي أَيَّامٍ معدودات}. أَمَرَ اللَّه سبحانه بذكْره في الاْيام المعدوداتِ، وهي الثلاثة الَّتي بعد يَوْم النحر، ومن جملة الذكْر التكبيرُ في إِثْر الصَّلواتِ.
قال مالك: يكبِّر من صلاة الظُّهْر يوم النَّحْر إِلى صلاة الصُّبْح من آخر أيام التَّشْريق، وبه قال الشافعيُّ، ومشهور مذهبِ مالكٍ، أنه يكبِّر إِثْر كلِّ صلاةٍ ثلاثَ تكْبيراتٍ.
ومن خواصِّ التكبير وبركتِهِ ما رواه ابن السُّنِّيِّ، بسنده، عن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا رَأَيْتُمُ الحَرِيقَ، فَكَبِّرُوا؛ فَإِنَّ التَّكْبِيرَ يُطْفِئُهُ» انتهى من حلية النوويِّ.
وقوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ...} الآية: قال ابنُ عبَّاس وغيره: المعنى: من نَفَر اليوم الثَّاني من الأيام المعدوداتِ، فلا حرج عليه، ومن تأخَّر إِلى الثالث، فلا إِثم عليه، كلُّ ذلك مباحٌ؛ إِذ كان من العربِ مَنْ يذمُّ المتعجِّل وبالعكْس، فنزلَتِ الآية رافعةً للجُنَاحِ قُلْتُ: وأهل مكة في التعجيلِ كغيرهم على الأصحِّ.
ثم أمر سبحانه بالتقوى، وذكَّر بالحَشْر، والوقوفِ بين يَدَيْهِ.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا...} الآية.
قال السُّدِّيُّ: نزلَتْ في الأخْنَسِ بْنِ شريقٍ: أظهر الإِسلام، ثم هَرَب، فمرَّ بقومٍ من المسلمين، فأحرق لهم زرعاً، وقتل حُمُراً.
قال * ع *: ما ثبت قطُّ أن الأخنس أسلم، قُلْتُ: وفي ما قاله: * ع *: نَظَرٌ، ولا يلزم من عدم ثبوتِهِ عِنْده ألاَّ يثبت عنْد غيره، وقد ذكر أحمدُ بن نصرٍ الدَّاووديُّ في تفسيره؛ أنَّ هذه الآية نزلَتْ في الأخْنَس بْنِ شريق. انتهى، وسيأتي للطبريِّ نحوه.
وقال قتادةُ، وجماعة: نزلَتْ هذه الآيةُ في كل مُبْطِن كُفْرٍ، أو نفاقٍ، أو كذبٍ، أو ضرارٍ، وهو يظهر بلسانه خلافَ ذلك، فهي عامَّة، ومعنى: {وَيُشْهِدُ الله}، أي: يقول: اللَّه يعلم أنِّي أقول حقًّا، والأَلَدُّ: الشديدُ الخصومةِ الذي يَلْوِي الحجج في كل جانبٍ، فيشبه انحرافُه المَشْيَ في لَدِيديِ الوَادِي.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصْمُ». و{تولى} و{سعى}: يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكونا فِعْلَ قَلْبٍ، فيجيء تولى بمعنى: ضَلَّ وغَضِبَ وأنف في نَفْسه، فسعى بِحِيَلِهِ وإِدارته الدوائر علَى الإِسلام؛ نحا هذا المنحى في معنى الآية ابْنُ جُرَيْج، وغيره.
والمعنى الثاني: أن يكونا فِعْلَ شخصٍ، فيجيء تَوَلَّى بمعنى: أدبر ونَهَض وسعى، أي: بقدميه، فقطع الطريقَ وأفسدها، نحا هذا المنحَى ابن عبَّاس وغيره.
وقوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل}: قال الطبريُّ: المراد الأخنَسُ في إِحراقه الزرْعَ، وقتلِهِ الحُمُرَ؛
قال * ع *: والظاهر أن الآية عبارةٌ عن مبالغته في الإِفساد.
و{لاَ يُحِبُّ الفساد} معناه: لا يحبُّه من أهل الصَّلاح، أو لا يحبُّه دِيناً، وإِلا فلا يقع إِلاَّ ما يحبُّ اللَّه وقوعه، والفسادُ: واقعٌ، وهذا على ما ذهب إِليه المتكلِّمون من أنَّ الحُبَّ بمعنى الإِرادة.
قال * ع *: والحُبُّ له على الإِرادة مزيَّة إِيثارٍ؛ إِذ الحبُّ من اللَّه تعالى إِنما هو لما حَسُنَ من جميع جهاته.

.تفسير الآيات (206- 210):

{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله...} الآية: هذه صفة الكَافِرِ والمنافقِ الذاهِبِ بنَفْسِهِ زَهْواً، ويحذر المؤمن أن يوقعه الحَرَجُ في نحو هذا، وقد قال بعْضُ العلماءِ: كفى بالمرء إِثماً أنّ يقول له أخُوهُ: اتق اللَّهَ، فيقول له: عَلَيْكَ نَفْسَكَ، مِثْلُكَ يُوصِينِي. قُلْتُ: قال أحمد بن نَصْرٍ الداووديُّ: عن ابن مسعودٍ: من أكبر الذنبِ أنْ يقال للرجُلِ: اتق اللَّه، فيقولَ: علَيْكَ نَفْسَكَ، أَنْتَ تَأْمُرُنِي. انتهى.
و{العزة} هنا: المنعة، وشدَّة النفْس، أي: اعتز في نفسه، فأوقعته تلك العزةُ في الإِثم، ويحتمل المعنى: أخذته العزَّةُ مع الإِثم.
و{حَسْبُهُ}، أي: كافيه، و{المهاد}: ما مهد الرجلُ لنفسه؛ كأنه الفراشُ.
وقوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ...} الآية: تتناول كلَّ مجاهدٍ في سبيل اللَّهِ، أو مستشهدٍ في ذاته، أو مغيِّر منْكَرٍ، وقيل: هذه الآية في شهداء غزوة الرَّجِيعِ عاصمِ بْنِ ثَابِتٍ، وخُبَيْب، وأصحابِهِمَا، وقال عكرمةُ وغيره: هي في طائفةٍ من المهاجرينَ، وذكروا حديثَ صُهَيْبٍ.
و{يَشْرِي}: معناه يبيعُ؛ ومنه {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20]، وحكى قوم؛ أنه يقالُ: شرى؛ بمعنى اشترى، ويحتاجُ إِلى هذا من تأوَّل الآية في صُهَيْبٍ؛ لأنه اشترى نفْسَه بمالِهِ.
وقوله تعالى: {والله رَءُوفٌ بالعباد} ترجيةٌ تقتضي الحضَّ على امتثال ما وقع به المدْحُ في الآية؛ كما أن قوله سبحانه: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} تخويفٌ يقتضي التحذيرَ ممَّا وقع به الذمُّ في الآية، ثم أمر تعالى المؤمنين بالدخولِ في السِّلْم، وهو الإِسلام، والمُسَالمة، وقال ابن عبَّاس: نزلَتْ في أهل الكتابِ، والألف واللام في الشيطانِ للجنْسِ.
و{عَدُوٌّ}: يقع للواحدِ، والاثنينِ، والجمعِ، وقوله تعالى: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات...} الآية: أصل الزلل في القدم، ثم يستعمل في الاِعتقاداتِ، والآراءِ، وغَيْرِ ذلك، والمعنى: ضللتم، و{البينات} محمَّد صلى الله عليه وسلم وآياته، ومعجزاته، إِذا كان الخطابُ أوَّلاً لجماعةِ المؤمنين، وإِذا كان الخطابُ لأهل الكتاب، فالبيناتُ ما ورد في شرائعهم من الإِعلام بمحمَّد صلى الله عليه وسلم، والتعريفِ به.
و{عَزِيزٌ}: صفة مقتضيةٌ أنَّه قادرٌ عليكم لا تعجزونَهُ، ولا تمتنعون منه، و{حَكِيمٌ}، أي: مُحْكِمٌ فيما يعاقبكم به لِزَلَلِكُمْ.
وقوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ}، أيْ: ينتظرون، والمراد هؤلاء الذين يزلُّون، والظُّلَلُ: جمع ظُلَّة، وهي ما أظَلَّ من فوق، والمعنى: يأتيهم حكم اللَّه، وأمره، ونهيه، وعقابه إِياهم.
وذهب ابن جُرَيْج وغيره؛ إِلى أن هذا التوعُّد هو مما يقع في الدنيا، وقال قومٌ: بل هو توعُّد بيوم القيامة، وقال قوم: إِلا أن يأتيهم اللَّه وعيد بيومِ القيامةِ.
وأما {الملائكة}، فالوعيد بإِتيانهم عنْدَ المَوْت؛ والغمامُ: أرقُّ السحابِ، وأصفاه وأحسنه، وهو الذي ظُلِّلَ به بنو إِسرائيل.
وقال النَّقَّاش: هو ضَبَابٌ أبيض، وقُضِيَ الأمرُ: معناه وقع الجزاء، وعُذِّبَ أهل العصيان، وقرأ معاذ بن جَبَلٍ: وقضاء الأمر.
وإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ: هي راجعةٌ إِليه سبحانه قَبْل وبَعْد، وإِنما نبه بذكْر ذلك في يَوْم القيامة على زوالِ ما كان منْها إِلى الملوك في الدنيا.

.تفسير الآيات (211- 212):

{سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
وقوله سبحانه: {سَلْ بَنِي إسراءيل...} الآية: معنى الآية: توبيخُهم على عنادهم بعد الآياتِ البيِّناتِ، والمراد بالآيةِ: كم جاءَهُمْ في أمر محمَّد صلى الله عليه وسلم من آية مُعرِّفةٍ به دالَّةٍ عليه، و{نِعْمَةَ الله}: لفْظٌ عامٌّ لجميع إِنعامه؛ ولكنْ يقوِّي من حال النبيِّ صلى الله عليه وسلم معهم؛ أنَّ المشار إِليه هنا هو محمَّد صلى الله عليه وسلم فالمعنى: ومن يبدِّلْ من بني إِسرائيل صفةَ نعمة اللَّه، ثم جاء اللفظ منسحباً على كلِّ مبدِّل نعمةً للَّه، ويدخل في اللفظ كفَّار قريشٍ، والتوراةُ أيضاً نعمةٌ على بني إِسرائيل، فبدَّلوها بالتحريفِ لها، وجَحْدِ أمرِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب}: خبرٌ يتضمنُ الوعيد.
وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا...} الآية: الإِشارة إِلى كفار قريشٍ؛ لأنهم كانوا يعظمون حالهم في الدنيا، ويغتبطون بها، ويسخرون من أتْبَاعِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ كبلالٍ، وصُهَيْبٍ، وابنِ مَسْعودٍ، وغيرهم، فذكر اللَّه قبيحَ فعلهم، ونبه على خَفْض منزلتهم بقوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}، ومعنى الفوقيَّة هنا في الدرجَةِ والقَدْر؛ ويحتمل أن يريد أنَّ نعيم المتَّقِينَ في الآخرة فوْقَ نعيمِ هؤلاءِ الآن. قُلْتُ: وحكى الداووديُّ عن قتادة: فوقهم يوم القيامة. قال: فَوْقَهُم في الجَنَّة. انتهى.
ومهما ذكرتُ الداووديَّ في هذا المختصر، فإِنما أريد أحمد بن نَصْرٍ الفقيهَ المَالِكِيَّ، ومن تفسيره أنا أنقل. انتهى.
فإِن تشوَّفَتْ نفسُك أيها الأخُ إِلى هذه الفوقيَّة، ونَيْلِ هذه الدرجة العَليَّة، فارفض دنياك الدنيَّة، وازهَدْ فيها بالكليَّة؛ لتسلَمَ من كل آفة وبليَّة، واقتد في ذلك بخَيْر البريَّهْ. قال عِيَاضٌ في شِفَاهُ: فانظُرْ- رحمك اللَّه- سِيرَةَ نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وخُلُقَه في المال، تجده قد أوتي خزائنَ الأرْض ومفاتيح البلاد، وأُحلّت له الغنائم، ولم تحلَّ لنبي قبله، وفتح عليه في حياته صلى الله عليه وسلم بلاد الحجاز واليمن؛ وجميع جزيرة العرب، وما دانى ذلك من الشام والعراق، وجُبِيَتْ إِلَيْه الأخماس، وصدقاتها ما لا يجبى للملوك إِلاَّ بعضه، وهادَتْه جماعةٌ من الملوك، فما استأثر بشيء من ذلك، ولا أمْسَكَ دِرْهَماً منْه، بل صرفه مصارفه، وأغنى به غيره، وقوى به المسلمين، ومات صلى الله عليه وسلم، ودِرْعُهُ مرهُونَةٌ في نفقةِ عيَالِهِ، واقتصر من نفقته ومَلْبَسِهِ على ما تدْعُوه ضرُورتُهُ إِليه، وزهد فيما سواه، فكان- عليه السلام- يلبس مَا وَجَدَ، فيلْبَسُ في الغالِبِ الشَّمْلَة، والكساءَ الخَشِنَ، والبُرْدَ الغليظَ. انتهى.