فصل: تفسير الآيات (219- 220):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (213- 214):

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}
وقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة...} الآية: قال ابن عبَّاس: {الناس}: القُرُونُ التي كانَتْ بين آدم ونوح، وهي عَشَرةٌ كانوا على الحَقِّ؛ حتى اختلفوا، فبعث اللَّه تعالى نوحاً فمن بعده، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة}، أي: كفاراً يريد في مدَّة نوحٍ؛ حين بعثه اللَّه.
وقال أُبَيُّ بن كعب، وابنُ زَيْد: المرادُ ب {الناس} بنو آدم حين أخرجهم اللَّه نسماً من ظهر آدم، أي: كانوا على الفطْرة، وقيل غير هذا، وكل من قدَّر الناسَ في الآية مؤمنين، قدَّر في الكلام {فاختلفوا}، وكلُّ من قدَّرهم كفاراً، قدَّر: كانت بعثة النبيِّين إِلَيْهم.
والأُمَّة: الجماعة على المَقْصد، ويسمَّى الواحدُ أُمَّةٍ، إِذا كان منفرداً بمَقْصِد، و{مُبَشِّرِينَ}: معناه بالثواب على الطاعةِ، و{مُنذِرِينَ}: بالعقابِ، و{الكتاب}: اسم الجنَسِ، والمعنى: جميع الكتب، و{لِيَحْكُمَ}: مسند إِلى الكتاب؛ في قول الجمهور، والذين أوتوه أرباب العلْم به، وخصوا بالذكْر تنبيهاً منه سبحانه على عظيمِ الشُّنْعة، والقُبْح، و{البينات}: الدَّلالات، والحججُ، والبغي: التعدِّي بالباطل، وهدى: معناه أرشد، والمرادُ ب {الذين ءَامَنُواْ} من آمن بمحمَّد صلى الله عليه وسلم فقالتْ طائفةٌ: معنى الآية أن الأمم كَذَّب بعضهم كتابَ بعض، فَهَدَى اللَّه أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم للتصديقِ بجمِيعِهَا، وقالتْ طائفة: إِن اللَّه سبحانه هَدَى المؤمنين للحَقِّ فيما اختلف فيه أهلُ الكتاب من قولهم: إِنَّ إِبراهيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرَانِيًّا، قال زيْدُ بن أسلم: وكاختلافهم في يوم الجُمُعَة؛ فإِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «هذا اليومُ الَّذي اختلفوا فيه، فهَدَانا اللَّه له، فلليهود غَدٌ، وللنصارى بَعْدَ غد، وفي صيامهمْ، وجميع ما اختلفوا فيه». قال الفَرَّاء: وفي الكلام قلْبٌ، واختاره الطبريُّ، قال: وتقديرُهُ: فهدَى اللَّه الذين آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا، فيه ودعاه إِلى هذا التقديرِ خوْفُ أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحَقِّ، فهدى اللَّه المؤمنين لبَعْضِ ما اختلفوا فيه، وعَسَاه غير الحق في نَفْسه؛ نحا إِلى هذا الطبريُّ في حكايته عن الفَرَّاء.
قال * ع *: وادعاء القَلْب على كتابِ اللَّه دُونَ ضرورة تَدْفَعُ إِلى ذلك عَجْزٌ، وسُوء نَظَرٍ. وذلك أنَّ الكلام يتخرَّج على وجهه ورَصْفه؛ لأن قوله: {فهدى} يقتضي أنهم أصابوا الحَقَّ، وتم المعنى في قوله: {فِيهِ}، وتبيَّن بقوله: {مِنَ الحق} جنسُ ما وقع الخلاف فيه، و{بِإِذْنِهِ} قال الزجَّاج: معناه بعِلْمِهِ.
* ع *: والإِذن هو العلم، والتمكين، فإِن اقترن بذلك أمرٌ، صار أقوى من الإِذن بمزية.
وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم...} الآية: أكثر المفسرين أنها نزلَتْ في قصَّة الأحزاب حين حصروا المدينة، وقالَتْ فرقةٌ: نزلَتْ تسليةً للمهاجرين، حين أصيبَتْ أموالهم بعْدَهم، وفيما نَالَهم من أذاية الكَافرينَ لهم.
و{خَلَوْاْ}: معناه: انقرضوا، أي: صاروا في خَلاَءٍ من الأرض، و{البأساء} في المال، و{الضرآء} في البدن، و{مَّثَلُ}: معناه شبه، والزَّلْزَلَة: شِدَّة التحريك، تكون في الأشْخَاص والأحوال.
وقرأ نافع: {يَقُولُ} بالرفع، وقرأ الباقون بالنَّصْب، وحتى: غايةٌ مجرَّدة تنصبُ الفعل بتقدير إلى أَنْ وعلى قراءة نافعٍ، كأنها اقترن بها تسبيبٌ، فهي حرفُ ابتداءٍ ترفَعُ الفعلَ.
وأكثر المتأوِّلين على أن الكلام إِلى آخر الآية من قول الرَّسُول والمؤمنين، ويكون ذلك من قول الرسُولِ على طلب استعجال النَّصْر، لا على شَكٍّ ولا ارتياب، والرسولُ اسم الجنْسِ، وقالتْ طائفةٌ: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: حتى يقول الذين آمنوا: متى نَصْرُ اللَّهِ، فيقولَ الرسولُ: ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ، فقدم الرسولَ في الرتبة؛ لمكانته، ثم قدم قول المؤمنين؛ لأنه المتقدِّم في الزمان.
قال * ع *: وهذا تحكُّم، وحمل الكلام على وجهه غيرُ متعذِّر، ويحتملُ أن يكون: {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} إِخباراً من اللَّه تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكْرِ القَوْل.

.تفسير الآيات (215- 216):

{يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ...} الآية: السَّائِلُون: هم المؤمنون، والمعنى: يسألونك، ما هي الوجوهُ التي ينفقون فيها؟ و{ما} يصحُّ أنْ تكونَ في موضع رفعٍ على الابتداء، وذَا: خبرها بمعنى الَّذِي و{يُنْفِقُونَ}: صلةٌ، وفِيهِ عائدٌ على ذَا تقديرُه: ينفقونَهُ، ويصحُّ أن تكون {مَاذَا} اسما واحداً مركَّباً في موضع نصب.
قال قومٌ: هذه الآية في الزكاة المفروضةِ، وعلى هذا نسخَ منها الوالِدَانِ، وقال السُّدِّيُّ: نزلَتْ قبل فرض الزكاة، ثم نسختها آية الزكاة المفروضَة، وقال ابن جُرَيْجٍ وغيره: هي ندْبٌ، والزكاة غيْرُ هذا الإِنفاق، وعلى هذا لا نَسْخَ فيها.
و{مَا تَفْعَلُواْ} جزم بالشرط، والجوابُ في الفاءِ، وظاهر الآية الخبرُ، وهي تتضمَّن الوعْدَ بالمجازاتِ، و{كُتِبَ}: معناه فُرِضَ واستمر الإِجماع على أن الجهاد على أمة محمَّد صلى الله عليه وسلم فرض كفاية.
وقوله تعالى: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا...} الآية: قال قومٌ: عسى مِنَ اللَّهِ واجِبَةٌ، والمعنى: عسى أن تكرهوا ما في الجهادِ من المشقَّة، وهو خيرٌ لكم في أنكم تَغْلِبُونَ وتَظْهرون، وتَغْنَمُون، وتؤجَرُون، ومن مات، مَاتَ شهيداً، وعسى أن تُحِبُّوا الدَّعَةَ، وترك القتَالِ، وهو شرٌّ لكم في أنَّكم تُغْلَبُونَ، وتذلُّون، ويذْهَب أمركم.
قال: * ص *: قوله: {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا} عسى هنا للترجِّي، ومجيئها له كثيرٌ في كلام العرب، قالوا: وكل عسى في القُرآن للتحقيق، يعْنُون به الوقوعَ إِلاَّ قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] انتهى.
وفي قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ...} الآية- قوة أمر.

.تفسير الآيات (217- 218):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
وقوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام...} الآية نزلَتْ في قصَّة عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، وذلك أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبد اللَّه بن جَحْشٍ الأسَدِيُّ مَقْدَمَهُ من بَدْر الأولى، فلقوا عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، ومعه عثمانُ بنُ عبد اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأخوه نَوْفَلٌ المخزوميَّان، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ في آخر يومٍ من رَجَبٍ على ما قاله ابْنُ إِسْحَاق، وقالوا: إِن تركْنَاهم اليَوْمَ، دخَلُوا الحَرَم، فأزمعوا قتالَهُم، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ عمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ، فقتله، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللَّهِ، والحَكَمَ، وفَرَّ نوفَلٌ، فأعجزهم، واستسهل المسْلمون هذا في الشَّهْر الحرام؛ خوف فوتهم، فقالَتْ قريشٌ: محمَّد قد استحلَّ الأشهر الحُرُم، وعَيَّروا بذلك، وتوقَّف النبيُّ صلى الله عليه وسلم وقَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ» فنزلَتْ هذه الآية، و{قِتَالٍ} بدلُ اشتمالٍ عند سيبوَيْه.
وقال الفَرَّاء: هو مخفوضٌ بتقدير عَنْ وقرئ بِهِ، والشهْرُ في الآيةِ اسمُ الجنسِ، وكانتِ العربُ قد جعل اللَّه لها الشهْرَ الحرامَ قِوَاماً تعتدلُ عنده، فكانت لا تسفكُ دماً، ولا تغيِّر في الأشهر الحرم، وهي ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحَرَّم ورَجَبٌ، وروى جابر بن عبد اللَّه، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِيهَا إِلاَّ أَنْ يغزى، فذلكَ قولُهُ تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ}: مبتدأٌ مقطوعٌ ممَّا قبله، والخبرُ {أَكْبَرُ}، ومعنى الآيةِ؛ على قول الجمهورِ: إِنكم يَا كُفَّار قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُون علَيْنا القتالَ في الشَّهْرِ الحَرَام، وما تفْعَلُون أنْتُمْ من الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ لِمَنْ أراد الإِسلام، وكُفْرِكم بِاللَّه، وإِخراجِكُم أهْلَ المسْجد عنْه؛ كما فعلتم برَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابِهِ، أَكْبَرُ جُرْماً عند اللَّه.
قال الزُّهْرِيُّ ومجاهدٌ وغيرهما: قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخٌ.
* ص *: وسبيل اللَّه: دينُهُ، و{المسجد}: قراءة الجمهور بالخَفْض، قال المبرِّد، وتبعه ابن عطية وغيره: هو معطوفٌ على {سَبِيلِ الله}؛ وردَّ بأنه حينئذٍ يكون متعلِّقاً ب {صَدّ}، أي: وصَدّ عن سبيل اللَّهِ، وعن المسجدِ الحرامِ، فيلزم الفَصْلُ بين المصدر، وهو {صَدّ} وبين معموله، وهو {المسجد} بأجنبيٍّ، وهو: {وكُفْرٌ بِهِ}، ولا يجوز.
وقيل: معطوفٌ على ضمير {بِهِ}، أي: وكُفْرٌ بِهِ، وَبِالْمَسُجِدِ؛ ورُدَّ بأن فيه عطفاً على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض؛ ولا يجوز عند جمهور البَصْرِيِّين، وأجازه الكوفيُّون، ويونُسُ، وأبو الحَسَنِ والشَّلَوْبِينُ، والمختار جوازه؛ لكثرته سماعاً؛ ومنه قراءة حمزة: {تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيدٌ يُخْرِجُ الكلام عن فصاحته. انتهى.
وقوله تعالى: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل}: المعنى عند جمهور المفسِّرين: والفتنةُ التي كُنْتُمْ تفتنون المُسْلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشدُّ اجتراما من قَتْلكم في الشَّهْر الحرام، وقيل: المعنى والفِتْنَة أشَدُّ من أن لو قتلوا ذلك المَفْتُون.
وقوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} هو ابتداءُ خبرٍ من اللَّه تعالى، وتحذيرٌ منه للمؤمنين.
وقوله تعالى: {وَمَن يَرْتَدِدْ}، أي: يرجع عن الإِسلام إِلى الكفر؛ عياذاً باللَّه، قالَتْ طائفةٌ من العلماء: يُستَتَابُ المرتدُّ ثلاثةَ أيامٍ، فإِن تاب، وإِلا قتل، وبه قال مالك، وأحمد، وأصحابُ الرَّأيِ، والشَّافعيُّ في أحد قولَيْه، وفي قولٍ له: يُقْتَلُ دون استتابةٍ، وحبط العمل، إِذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتدِّ عند مالكٍ والشافعيِّ: في بيْتِ مال المسلمين.
وقوله تعالى: {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله...} الآية: قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: لما عَنَّفَ المسلمون عبْدَ اللَّه بن جَحْشٍ وأصحابه، شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم اللَّه عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقيةٌ في كلِّ من فعل ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ.
وهَاجَرَ الرجُلُ، إِذا انتقل نقلة إِقامة من موضعٍ إِلى موضعٍ، وقصد ترك الأول إِيثاراً للثاني، وهي مُفَاعَلَةٌ من هَجَرَ، وجَاهَدَ مفاعلة من جهد، إِذا استخْرَج الجُهْد، و{يَرْجُونَ}: معناه يَطْمَعُون ويستقْربُون، والرجاء تنعُّم، والرجاء أبداً معه خوفٌ ولا بدَّ، كما أن الخوف معه رجاء.
* ت *: والرجاءُ ما قارنه عمَلٌ، وإِلا فهو أمنيَّة.

.تفسير الآيات (219- 220):

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر...} الآية: السائلُون هم المؤمنُونَ، والخَمْر: مأخوذ من خمر، إِذا ستر؛ ومنه: خِمَارُ المَرْأة، والخَمَرُ: ما واراك من شَجَر وغيره، ومنه قولُ الشاعر: [الوافر]
أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكُ سِيرَا ** فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ

ولما كانت الخمر تستُرُ العَقْل، وتغطِّي عليه، سُمِّيت بذلك، وأجمعت الأمة على تحريمِ خَمْر العِنَبِ، ووجوبِ الحدِّ في القليلِ والكثيرِ منْه، وجمهورُ الأمة على أن ما أسكر كثيرُهُ مِنْ غير خَمْرِ العِنَبِ محرَّم قليلُهُ وكثيرُهُ، والحدُّ في ذلك واجبٌ.
وروي أنَّ هذه الآية أولُ تطرُّق إِلى تحريمِ الخَمْر، ثم بعده: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [النساء: 43] ثم {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ} إلى قوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] ثم قوله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه} [المائدة: 90] فقال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «حُرِّمَتِ الخَمُرْ»، ولم يحفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين، خرَّجه مسلم، وأبو داود، وروي عَنْه صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً، وعمل بذلك هو، ثُمَّ عمر ثم تهافَتَ النَّاس فيها، فشدَّد عليهم الحَدَّ، وجعله كَأخفِّ الحدود ثَمَانِينَ؛ وبه قال مالك.
ويجتنبُ من المضروبِ: الوجْهُ، والفَرْجُ، والقَلْب، والدِّماغ، والخَوَاصر؛ بإِجماع.
قال ابن سِيرِينَ، والحسنُ، وابْنُ عَبَّاس، وابن المُسَيَّب، وغيرهم: كلُّ قمارٍ مَيْسِرٌ؛ مِنْ نَرْدٍ وشِطْرَنْجٍ، ونحوه، حتَّى لِعْب الصِّبْيَان بالجَوْز.
* ت *: وعبارةُ الداووديّ: وعن ابْنِ عُمَر: المَيْسِرُ القِمَار كلُّه، قال ابن عبَّاس: كلُّ ذلك قمارٌ؛ حتى لعِبْ الصِّبْيَان بالجَوْز، والكِعَاب. انتهى.
وقوله تعالى: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ...} الآية: قال ابن عبَّاس، والرَّبيع: الإِثم فيهما بعد التحريم، والمنفعةُ قبله.
وقال مجاهد: المنفعةُ بالخَمْر كسب أثمانها، وقيل: اللَّذَّة بها إِلى غير ذلك من أفراحِها، ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ؛ أنَّ الإِثم أكْبَرُ من النَّفْع، وأعود بالضَّرر في الآخرة، فهذا هو التقدمة للتحريم.
وقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} قال جمهور العلماء: هذه نفقاتُ التطوُّع، والعفُو مأخوذ من عَفَا الشَّيْء، إِذا كَثُر، فالمعنَى: أنفِقُوا ما فَضَل عن حوائجِكُم، ولم تُؤْذُوا فيه أنفُسَكم، فتكونوا عالَةً على النَّاس.
وقوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}: الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر، والإِنفاق، وأخبر تعالى؛ أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته.
قال الداووديّ: وعن ابن عبَّاس: لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ، يعني: في زوال الدنْيا وفنائِها، وإِقبال الآخرة وبقائِها. انتهى.
قال الغَزَّالِيُّ- رحمه اللَّه- تَعَالَى: العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة؛ فإِنها مصيره ومستقرُّه، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ، أو نارٍ، أو غيرهما عبرةٌ؛ فإن نظر إلى سوادٍ، ذكر ظلمة اللَّحْد، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ، وإِن سمع صوتاً هائلاً، تذكَّر نفخة الصُّور، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً، تذكَّر نعيم الجنَّة، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ؛ من ردٍّ أو قبول، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة، استحقر الدنيا إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه، وأعميتْ بصيرته.
انتهى من الإِحياء.
وقوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}: قال ابن عبَّاس، وسعيد بن المسيَّب: سبب الآية أن المسلمين لما نزلَتْ: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الأنعام: 152] و[الإسراء: 34] ونزلت: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] تجنبوا اليتامى وأموالَهم، وعزلوهم عن أنفسهم، فنزلت: {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم...} الآية، وأمر اللَّه سبحانه نبيَّه؛ أن يجيب بأن من قصد الإِصلاح في مال اليتيمِ، فهو خيْرٌ، فرفع تعالى المشقَّة، وأباح الخُلْطة في ذلك إِذا قُصِدَ الإِصلاح، ورفْقُ اليتيم.
وقوله سبحانه: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح}: تحذيرٌ.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ}، أي: لأتعبكم في تجنُّب أمر اليتامَى، والعَنَتُ: المشقَّة، ومنه عَقَبَةٌ عَنُوتٌ؛ ومنه: عَنَتُ العُزْبَةِ، و{عَزِيزٌ}: مقتضاه لا يرد أمره، و{حَكِيمٌ}: أي: مُحْكِمٌ ما ينفذه.